مطبوعة الكترونية عربية مهتمة بموضوع المواطنة وتداول السلطة القانونى وحرية التعبير  فى العالم العربى  .. تصدر من الولايات المتحدة الأمريكية عن المركز الأمريكى للنشر الالكترونى .. والأراء الواردة تعبر عن وجهة نظر أصحابها.
............................................................................................................................................................

 
 

 قصة الفلسفة الغربية: ديكارت، هوبز واسبينوزا
...............................................................

 

ديكارت

 

بقلم: محمد زكريا توفيق
..............................


في عصر النهضة الأوروبية، كان يوجد عدد من الفلاسفة. لكن أول فيلسوف عظيم أقام صرحا فلسفيا متكاملا حديثا، هو الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت (1596-1650م). لم يكن ديكارت بهي الطلعة وسيم الوجه، لكنه كان فطنا شديد الذكاء. يبدوا أن الذكاء ليس له علاقة بحسن الطالع وجمال الوجه.  لقد تبوأ ديكارت، بصفة مبدئية، مكانا مرموقا في بانثيون عمالقة الفكر، لإكتشافه أصول الهندسة التحليلية. وهي هندسة تُعرّف الأشكال الهندسية بالنسبة لأبعادها عن محاور معينة ثابتة. بذلك أوجد ديكارت علاقة وطيدة بين علمي الهندسة والجبر، ساعدت في حل الكثير من المعضلات الرياضية. وجعلت علم التفاضل والتكامل ممكنا. بعد أن أسدى ديكارت أفضاله التي لا تنسى إلى الرياضيات، كان على وشك نشر مؤلفا له في الفيزياء. لكن، عندما نما إلى علمه أن جاليليو جاليلي تم القبض علية منذ 17 سنة مضت، لنشره أفكارا مشابهة لأفكاره في الفلك. قام ديكارت بالجري في الشارع، ناسيا وقار العلماء، حتي يلحق الناشر في الوقت المناسب، ويمنعه من نشر كتابه. كانت جريمة جاليليو أنه بحلق في تليسكوبه، الذي إخترعه حديثا، ليجد أن كوكب المشتري له أربعة أقمار تدور حوله. كوكب الأرض لها قمر واحد جميل الطلعة يدور حولها.

لماذا سببت إكتشافات جاليليو الفلكية مشكلة كبيرة لرجال الكنيسة الكاثوليكية؟ لأن إرث العصور المظلمة كان يقول بمركزية الكرة الأرضية. الأرض تقع في مركز الكون، والسماوات الطباق تغلفها، سماء وراء سماء مثل رأس البصلة، أو أوراق نبات الكرونب.

بدأت الشائعات في ذلك الوقت تقول بأن الشمس هي مركز الكون وليست الأرض. هذا كفر والعياذ بالله. أي عالم أو فيلسوف يدعي هذه الإشاعة، يستحق الشلح من الكنيسة والعقاب الشديد. لذلك أعدم الفيلسوف الإيطالي برونو بالحرق حيا من قبل، وسفهت أفكار كبلر وقبض على جاليليو.

القمر يدور حول الكرة الأرضية، وكذلك الشمس. فمن يجرؤ على القول بأن الأرض ليست هي مركز الكون. لذلك، عندما يأتي جاليليو ويقول أنه شاهد في تليسكوبه أربعة أقمار تدور حول المشتري، هذا يقلب نظرية مركزية الأرض رأسا على عقب. هناك أقمار تدور حول أحد الكواكب، وكان من الواجب أن تدور حول الأرض.

خطأ مركزية الأرض، يمثل أول نسف لكبرياء الإنسان وغروره. وأول معارضة لما تقوله الأديان السماوية الثلاث بأن الكون كله قد خلق من أجل الإنسان.

الإعصار الثاني جاء مع نظرية التطور لدارون، التي تقول بأن الإنسان ما هو إلا حيوان مثل باقي الحيوانات. أما التدمير الثالث لكبرياء الإنسان، جاء على يدي سيجمان فرويد. حينما قال بأن الإنسان ليس فقط حيوان، لكنه أيضا حيوان مريض نفسيا. ما جاء به جاليليو كان شيئا غير محتمل. لهذا أودع غيابات الجب.

كان ديكارت كاثوليكيا معتدلا. وكان يعتقد أن الكنيسة قد أخطأت خطأ كبيرا لمعارضتها لجاليليو. كان من رأي ديكارت، أن الدين والعقيدة، إذا حاولا التصدي ومعارضة موجة التقدم العلمي الكاسحة، بدلا من التواؤم والتوافق معها، فإن التقدم العلمي في هذه الحالة، قد يدمر الدين والعقيدة معا ويمحوهما من الوجود.

لكن لم يرد ديكارت الذهاب إلى السجن لكي يثبت هذه المقولة. كان عليه أن يخفي آرائه بالنسبة للفيزياء والفلك، ويدسها في كتاب للفلسفة يسمى "تأملات ميتافيزيقية في الفلسفة الأولى". الذي قام بإهدائه إلى هيئة التدريس بقسم الثيولوجيا بجامعة باريس.

التأملات السته التي جاءت بالكتاب، كانت تشمل أفكارة الفيزيائية والفلكية. وكان يأمل ديكارت أن يقنع رجال الدين قبل أن يتنبهوا إلى معارضة ما يقوله للكتب المقدسة.

جاء بكتاب ديكارت، في باب "الفلسفة الأولى"، أن عليه هدم كل صروح المعرفة المعروفة، وبناؤها على قواعد صلبة من جديد.

كان ديكارت يبحث عن أساس صلب مؤكد لا يقبل الشك، يمكنا أن نبني عليه صرح المعرفة الجديد. فوجد ضالته في مبدأ الشك نفسه. يجب أن نبدأ بالشك في كل شئ. ما يقوله الدعاه الجدد. وما يقوله زغلول النجار. وما تقوله الكتب المقدسة. وما تدرسه الجامعات للطلبه. وما تقوله كتب التاريخ. وحتى الفلسفة الكلاسيكية وكلام أرسطو والأدب الإغريقي القديم. كل هذه المعارف، ليس لها أساس صلب.

يقول ديكارت: "في الواقع، لقد رأيت رؤيا ليلة 10 نوفمبر 1619م، أخبرتني أن المعرفة الحقة تأتي عن طريق العقل البشري فقط." ويخبرنا أنه كان يجلس بمفرده بجانب المدفأة في ألمانيا عندما كان مجندنا بالجيش، حينما توصل إلى مبدأ الشك.

لإيجاد جذور حقيقية ثابتة للمعرفة، جاء ديكارت بأربع مبادئ، إلتزم بها في بحثه. وهي:
1- لا تقبل أي فكرة إلا إذا كانت واضحة جلية
2- قسم أي مشكلة كبيرة تستعصي على الحل، إلى أجزاء صغيرة إذا لزم الأمر
3- رتب أفكارك من السهل إلى الصعب
4- دائما راجع أفكارك درأ للخطأ

حواسنا لا تصلح أساسا للمعرفة الحقة. لماذا؟ لأن الحواس محدودة القدرة وخادعة في كثير من الأحيان. قضبان السكك الحديدية نراها متلاقية من بعيد. والقمر نراه أكبر حجما في الأفق عنه في كبد السماء. والملعقه نراها مكسورة في كوب الماء. وبعض النجوم قد نراها نقطا مضيئة، بينما في الواقع هي مجرات تحوي كلا منها بلايين النجوم.

كيف أتأكد من أنني جالس هنا بجوار المدفأة؟ إذ ربما أكون في حالة حلم، أو متعاطي جرعة بانجو، أو حبوب هلوسه. كيف أتأكد أنني هنا؟

قد يكون هناك عفريتا أو شيطانا رزلا، مزاجه يلخبط دماغي ويجعلني أري أشياء غير حقيقية وهلوسة.

الشئ الوحيد الذي يمكنني التأكد منه، هو أنني جالس هنا أفكر في إيجاد شئ مؤكد يمكنني الإعتماد عليه. حتي لوكان الأمر لا يعدو أن يكون حلما أو تدخل العفاريت. فلن يغير من حقيقة أنني جالس أفكر في البحث عن حل. إنني إن لم أكن أنا الذي أفكر، والذي يقوم بالتفكير شخص آخر، في هذه الحالة، لن أشعر أو أتأكد من وجودي بأي حال من الأحوال.

لقد وجدتها. أنا أفكر، إذن أنا موجود. وباللاتينية "كوجيتو إرجو صم"، "COGITO ERGO SUM".وهي جملة لا تقل شهرة عن معادلة أينشتين التي تساوي الكتلة بالطاقة (E=mc2). يمكنك إستخدامهما في الحفلات العامة وأعياد الميلاد لجذب إنتباه الفتيات.

لهذا إعتقد ديكارت أن ماهية الوجود وجوهره، هو التفكير أو العقل. وإن العقل مختلف ومستقل عن الجسد. كل الذي توصل إليه ديكارت كشئ مؤكد حتي الآن هو وجود العقل.

لكن العالم الخارجي لا يزال محل شك. لكي يستطيع العقل إدراك العالم الخارجي بدون خداع وتدخل الشياطين والعفاريت، كان عليه أن يثبت وجود الله. لأن وجود الله سوف يكون الضامن لعدم تدخل الشياطين ولخبطة عقولنا في إدراك العالم الخارجي. ما ندركه بعقولنا من العالم الخارجي، في حالة وجود الله، لا بد أن يكون حقيقيا، وإلا كان الثواب والعقاب في الآخرة غير مجدي.

لجأ ديكارت في إثبات وجود الله إلى برهان القديس "أنسيلم" (1033-1109م). ولكي نفهم منطق أنسيلم، دعنا نتصور في أذهاننا أعظم أو أكمل وجود يمكن أن نتخيله. وليكن الله في مفهوم الديانة المسيحية. أي أنه يبلغ الكمال في العلم والقوة والخلود ...الخ.

الآن نسأل أنفسنا، هل هذا الإلهه الذي نتخيله، موجود فقط في عقولنا؟ إذا كان موجودا فقط في عقولنا، فهو لن يكون أكمل أو أعظم شئ يمكن أن نتصوره. لماذا؟ لأن الإله الموجود في العقل والموجود أيضا في الواقع، سوف يكون أعظم من الإله الموجود في العقل فقط. لهذا يمكننا القول أنه لو استطعنا أن نتخيل أعظم شئ أو إله في عقولنا، هذا الإله لابد أن يكون موجودا أيضا في الواقع.

الآن أصبح لدينا عقل حقيقي، وعالم خارجي حقيقي بما فيه أجسامنا. وهما شيئان منفصلان لا شئ واحد. يعملان مع بعضهما في تزامن كامل، كأنهما ساعتان منضبطتان.

هذه "الثنائية"، عقل ومادة، جسد وروح، لازمت ديكارت في كل أفكاره وكتاباته. العقل له خواصه. فهو الذي يولد الأفكار، ويجعلنا نؤكد أو ننفي الأحداث. العقل ليس له لون أو مكان أو شكل أو حجم أو خواص ميكانيكية. بعكس المادة والعالم الخارجي.

أما العالم الخارجي، فله حجم وشكل ومكان وخواص ميكانيكية. كل المخلوقات بما فيها أجسامنا لها خواصها الميكانيكية. مُسيرة بالقدرة الإلهية. الكون كله مثل الساعة التي يقوم الرب بشحن بندولها. من هنا جاء مبدأ "الحتمية". الذي كان له تأثيرا كبيرا على المفكرين والفلاسفة فيما بعد.

كيف يؤثر العقل في الجسد أو العكس، وهما شيئان مختلفان. إن عقولنا تعطي أوامر إلى أجسامنا بالحركة والمشي،...الخ. لكي يحل ديكارت هذه المشكلة، جاء بحل الغدة الصنوبرية الموجودة في المخ. لكن، عندما يتقابل العقل مع الجسد في الغدة الصنوبرية، يكون له مكان، وهذا يعني أنه يصبح مادة. وهذا تعارض.

بطريقة تبدو حتمية، ذهب ديكارت إلى السويد لكي يدرس للملكة "كريستينا" سنة 1649م. وكانت تصر على أخذ دروسها الساعة الخامسة صباحا. كعادة الفلاسفة والمفكرين، لم يكن ديكارت يذهب للنوم إلا في ساعة متأخرة من الليل. لذلك، كان عليه أن يلهث مسرعا في الصباح الباكر من كل يوم بعد نوم ساعات قليلة، للحاق بالملكة في الوقت المحدد. مما تسبب، خلال شهور قليلة، في إصابته بالإلتهاب الرئوي الذي قضى عليه.

علي الجانب الآخر من بحر المانش، كان يوجد الفليسوف البريطاني توماس هوبز (1588-1679م). عجوز شاذ الأطوار مشاغب، له إسهامات في كثير من القضايا الفكرية. إدعي أنه نجح في تربيع الدائرة وتكعيب الكرة. قام بمعادات كل الأحزاب السياسية في بلده، ثم لاذ بالفرار إلى فرنسا.

قام بحل مشكلة "ثنائية" ديكارت وإتصال العقل بالجسد عن طريق الغدة الصنوبرية، بأن قام بإلغاء فكرة الثنائية من جذورها. وقام بإحياء المادية الميكانيكية والنظرية الذرية لديموقريطس، الفليسوف اليوناني القديم.

بالنسبة لهوبز، الشئ الوحيد الموجود، هو أجسام في حالة حركة. يعني لا هناك عقل أو روح أو أي شئ من هذا القبيل. إذا كان ديكارت يقول هناك عقل ومادة، فهوبز يقول لا، توجد مادة فقط.

لم ينكر هوبز وجود الفكر. وإنما اعتبره نوعا من الوهم، أو ظلال ناتجة من نشاط المخ. لذلك، كان يؤمن بالحتمية الناعمة، التي تؤمن بأن الحرية تسير جنبا إلى جنب مع الحتمية المطلقة. مثل الفلاسفة الرواقيين والقديس أوغسطين. يمكننا الحديث عن الحرية، طالما لا يوجد من يقف في طريقها. الماء يجري في النهر بحرية وحتمية في نفس الوقت.

فلسفة هوبز كانت فلسفة متشائمة. كل كائن حي يخضع لقانون البقاء. لذلك، كل تصرفات الإنسان، مدفوعة بمصلحته الشخصية وطلبه للسلطة. الإيثار وحب الناس، ليس فقط أفكارا سيئة، لكنها أيضا مستحيلة. الانانية هي البضاعة الوحيدة الموجودة في المدينة. أنا وبعدي الطوفان. العمل التطوعي لكل إنسان، يأتي بدافع المصلحة الشخصية.

أشهر أعمال هوبز الفلسفيه، ما كتبه عن السياسة. فهو يعتبر الدولة بمثابة وحش غير طبيعي، مثل وحوش الأساطير القديمة "اللوفيتان". تقمع الناس وتحد من حريتهم. لكنه يبرر وجود الدولة، بأنها أفضل من غيابها.

غياب الدولة، يجعلنا نعيش تحت رحمة قانون الغاب. حيث يسيطر الخوف والرعب. ويجد كل منا نفسه عدوا للآخر. القوي يفترس الضعيف. السمك الكبير يبلع السمك الصغير.

توجد القسوة في الطبيعة كأنها قانون من قوانينها. الإنسان أو الحيوان يقتل لكي يأكل. ولا ينجو النبات من القتل. غير أننا لا نسمع صراخه. الفرق بين الإنسان والحيوان، هي أن الإنسان يقتل بطريقة مهذبة. قد نطلب الرأفة في عملية القتل، بأن نفضل أن يكون السكين حادا، حتي لا يتألم الحيوان المسكين.

نوع من الذنابير يقوم بلدغ العنكبوت لإصابته بالشلل. ثم يسحبه إلى عشه بعد أن ينزع أرجله من جسده. ثم يقوم بحقن بويضاته داخل جسد العنكبوت.

يظل العنكبوت هكذا جسدا بدون أرجل. غير قادر على الحركة، لكنه ينبض بالحياة. القلب يدق، والجهاز العصبي سليم. إلى أن تفقس البويضات داخله. ثم تبدأ اليرقات في أكل أحشاء العنكبوت من الداخل ببطء. وتترك الجهاز العصبي للآخر. لأن اليرقات إذا بدأت بأكل القلب والجهاز العصبي، يموت العنكبوت المسكين، ويتعفن باقي جسده ولا يصلح للأكل بعد ذلك.

إنها طريقة بديلة لحفظ اللحوم في الثلاجات. هكذا تقسو الطبيعة على سكانها. وقسوة الحياة توجد في كل مكان. الأمثلة عليه لا تحصى ولا تعد.

لذلك يقول هوبز أن الحياة في ظل قانون الغابة، لا يوجد بها قانون أو أخلاق أو رحمة أو حتي ملكية خاصة. فقط حقوق طبيعية لمواصلة الحياة وحماية النفس بكل السبل المشروعة وغير المشروعة. بما في ذلك العنف والقتل والخداع والكذب والتضليل.

إذا وجد إثنان من الناس على جزيرة معزولة. ليس بها إلا أعدادا محدودة من ثمار جوزة الهند التي تصلح للأكل. فلن يجرؤ أيا منهم على إدارة ظهره للآخر، خوفا من أن يقوم الآخر بتهشيم رأسه بحجر من الخلف.

لكن إذا كانا عاقلين، فقد يجدا أنه من الأوفق عدم الركون إلى العنف، والمشاركة في ثمار جوزة الهند. لكن طبيعة النفس العدوانية عند الإنسان كما يقول هوبز، لا تمنع أحدهما من نقض الإتفاق لكي يفوز بالغنيمة كلها.

الحل عند هوبز يأتي عن طريق إيجاد طرف ثالث. يقوم الطرف الأول والثاني بتسليم كل ما في حوزتهم من أحجار وأسلحة إلى الطرف الثالث. ويتنازلون بمحض إختيارهم عن أسلوب العنف. في المقابل، يقوم الطرف الثالث بالوعد بإستخدام ما لديه من قوة، للتأكد من أن الطرفين الأول والثاني ملتزمان بإتفاقهما السابق.

الطرف الثالث الوسيط في فلسفة هوبز، قد يكون الملك أو سلطة البرلمان. وفي كلا الحالتين، الطرف الثالث هو مصدر السلطات المطلقة.

هذا هو "العقد الإجتماعي" المشهور عند هوبز. وكان هوبز يعلم أنه لا يوجد ما يمنع الملك أو البرلمان، بما لهم من سلطة مطلقة، من إساءة إستخدام هذه السلطة. لكنه كان يعتقد في قرارة نفسه أن السلطة المطلقة حتى وإن كانت ظالمة، هي خير من عدم وجود سلطة بالمرة، والعيش تحت رحمة قانون الغاب. كما يقول مشايخنا الكرام: "إمام ظلوم، خير من فتنة تدوم."

نظرية هوبز السياسية، لم تجد من يؤيدها في بريطانيا. البرلمانيون لم يحبوها لأنها تكرس السلطة في يد فرد أو مؤسسة واحدة (لا توزيع للسلطة). والملك لم يعجب بها، لأنها تنفي عنه حقه الإلهي في الحكم.

نعبر بحر المانش عائدين إلى القارة الأوروبية، فنجد الفيلسوف الهولندي، باروخ اسبينوزا (1634-1677م). من أسرة يهودية برتغالية هاجرت بعد سقوط غرناطة عام 1492م، وصدور مرسوم الملك فرديناند بطرد اليهود منها، وملاحقة محاكم التفتيش.

تلقي تعليمه الإبتدائي في مدرسة عبرية، ثم انتقل إلى المدرسة الإكليركية في بيريرا. وأشرف والده على تعليمه. ألم بالثقافة الغربية والتراث الإغريقي القديم، ودرس الرياضيات والفيزياء ومبادئ الطب.

ثم قام بدراسة كوبرنيق وجاليليو وكبلر وديكارت، مما جعله يبتعد عن اليهودية. وهاجمه رجال الدين وحكموا عليه بالحرمان الديني عام 1656م. ثم نفي في أحد ضواحي أمستردام.

كان يكسب عيشه من صقل العدسات الزجاجية. ألف في هذه الفترة كتابه "رسالة موجزة في الله والإنسان وسعادته"، ثم كتابيه، "رسالة في إصلاح العقل" و "مبادئ فلسفة رينيه ديكارت".

حاول اسبينوزا حل مشكلة ديكارت بخصوص علاقة العقل بالمادة. يعتبر من العقلانيين الذين يؤمنون بأن المصدر الحقيقي للمعرفة، هو العقل وليست الحواس. لذلك يجب أن تبني الفلسفة على البديهيات والإستنتاج بدلا من التجربة والمشاهدة. المعرفة التي تأتي عن طريق الحواس، معرفة مهلهلة لا ترقى إلى اليقين، وإن كانت يقينية، فهي متعارضة لا ترابط بينها.

أعلى درجات المعرفة، هي المعرفة العقلية التي تدرك ماهية الأشياء وعلاتها، إدراكا كليا مثل علم الهندسة. هذا النوع من المعرفة، هو الذي يجب أن يأخذ به في بناء صرح جديد للفلسفة.

كان رأي الفيلسوف البريطاني "بيرتلاند رسل" في اسبينوزا، أنه أنبل الفلاسفة وأقربهم إلى القلب. لأنه، أكثر من أي فليسوف آخر، كان يعيش فلسفته. بالرغم من علمه أن سلوكه هذا سوف يحرمه من عطف الجاليتين اليهودية والكاثوليكية.

تقبل اسبينوزا طرده من المعابد اليهودية والكنائس وباقي أنشطة المجتمع، بدون ضغينة أو حقد على أحد. لم يطلب أبدا شهرة أو ثراء، ولم يتطلع إلى منصب أكاديمي مرموق. وكان يستمتع بالسلام الداخلى بينه وبين نفسه وفقا لما تدعو إليه فلسفته.

كان يؤمن اسبينوزا أن الفلسفة يجب أن تبني على قواعد صلبة عقلانية مثل القواعد التي بني عليها علم الهندسة المستوية المعروفة بهندسة إقليدس. لذلك قام بإخضاع الفلسفة الميتافيزيقية، التي تبحث في الوجود والمادة وخلافه، إلى القواعد التي تبني عليها الهندسة.

مثل الهندسة المستوية، بدأ اسبينوزا بالبديهيات والفروض التي لا تحتاج في إثباتها إلى برهان. ومن البديهيات والفروض، بدأ يشتق نظريات، ومن النظريات، نظريات أخرى. وبعد كل إثبات، كان يزيله بعبارة، "وهو المطلوب إثباته"، كما نفعل نحن في برهنة النظريات الهندسية.

كان ديكارت يرى أن جوهر الأشياء لا يحتاج إلى شئ آخر حتى يوجد بمفرده. الله هو الجوهر الوحيد الموجود، لأن كل شئ آخر يعتمد وجوده على وجود الله. ثم قال بوجود جوهران. العقل والمادة. كلاهما يوجد مستقلا عن الآخر.

هذا الكلام لم يعجب اسبينوزا. فهو يرى أنه لا يوجد إلا جوهر واحد لانهائى هو الله. العالم من حولنا نراه في صور مختلفة. المنازل والمفروشات والناس والحيوانات وهكذا. لكن هذه الصور، ما هي إلا تموجات وتذبذبات في الزمان والمكان، تأتي من الجوهر اللانهائي وهو الله. أي أن الله والكون هما شئ واحد. هذا ما يعرف بوحدة الوجود.

يقول اسبينوزا: إذا كان وجود الله لا نهائي، فالعالم لا يمكن أن يكون منفصلا عنه. وإلا كانت هناك أزمنة وأماكن لا يوجد بها الله. في هذه الحالة، سوف يكون الله محدودا في الوجود والقدرة.

يرى اسبينوزا أيضا، أن العقل والمادة هما شئ واحد. كلاهما صور مختلفة من صور الله. وهو هنا يرفض ثنائية ديكارت في تقسيم الأشياء إلى عقل ومادة، جسد وروح. جوهر الأشياء شئ واحد لا ثاني له.

الله عند اسبينوزا لانهائي، له مالانهاية من الصفات. العقل والمادة يمثلان جزءا صغيرا متناهيا في الصغر بالنسبة لصفات الخالق الكلية.

إيمان اسبينوزا بالله المتمثل في وحدة الوجود، لم يرق لرجال الدين اليهودي أو المسيحي. إله اسبينوزا يختلف عن الإله الخالق المنفصل عن باقي المخلوقات. كما أن اسبينوزا لم يكن يعتقد بوجود الروح الخالده للإنسان. الروح والجسد عند اسبينوزا هما شئ واحد.

موت الجسد، سوف يؤدي إلى موت الروح أيضا. وهذا بعكس ثنائية ديكارت التي تقول أنه عندما يموت الجسد، تبقى الروح للأبد. إلا أن اسبينوزا يعتبر رجل مؤمن بالله. الله الذي يوجد في كل مكان وكل زمان ولا يمكن فصله عن الطبيعة والكون. لأنه هو الطبيعة والكون.

zakariael@att.net

06/11/2014

مصرنا ©

 

.....................................................................................

 


 

 
 



مطبوعة تصدر
 عن المركز الأمريكى
 للنشر الالكترونى

 رئيس التحرير : غريب المنسى

مدير التحرير : مسعد غنيم

 

الأعمدة الثابته

 

 
      صفحة الحوادث    
  من الشرق والغرب 
مختارات المراقب العام

 

موضوعات مهمة  جدا


اعرف بلدك
الصراع الطائفى فى مصر
  نصوص معاهدة السلام  

 

منوعات


رؤساء مصر
من نحن
حقوق النشر
 هيئة التحرير
خريطة الموقع


الصفحة الرئيسية