هجوم رجال السلطة على دكتور البرادعي
...............................................................
| |
عبد المنعم سعيد | |
بقلم : محمد زكريا توفيق
...........................
"قالت شهرزاد: بلغني أيها الملك السعيد، أن السندباد البحري بعد أن غرق المركب وطلع على لوح خشب هو وجماعة من التجار قال: اجتمعنا على بعضنا ولم نزل راكبين على ذلك اللوح ونرفس. فلما كان ثاني يوم ضحوة نهار، ثار علينا ريح وهاج البحر وقوي الموج. فرمانا الماء على جزيرة ونحن مثل الموتى من شدة السهر والتعب والبرد والجوع والخوف والعطش. وقد مشينا في جوانب تلك الجزيرة. لاح لنا عمارة على بعد. فسرنا قاصدين تلك العمارة التي رأيناها من بعد. خرج علينا جماعة عراة ولم يكلمونا. قبضوا علينا وأخذونا عند ملكهم فأمرنا بالجلوس فجلسنا وأحضروا لنا طعاماً لم نعرفه ولا في عمرنا رأينا مثله. فلم تقبله نفسي ولم آكل منه شيئاً دون رفقتي وكان قلة أكلي منه لطفاً من الله تعالى حتى عشت إلى الآن.
فلما أكل أصحابي من ذلك الطعام ذهلت عقولهم وصاروا يأكلون مثل المجانين، فتغيرت أحوالهم وبعد ذلك أحضروا لهم دهن النارجيل فسقوهم منه ودهنوهم به. فلما شرب أصحابي من ذلك الدهن زاغت أعينهم من وجوههم، وصاروا يأكلون من ذلك الطعام بخلاف أكلهم المعتاد. عند ذلك احترت في أمرهم وصرت أتأسف عليهم وقد صار عندي هم عظيم من شدة الخوف على نفسي من هؤلاء العرايا.
تأملتهم فإذا ملك مدينتهم غول، وكل من وصل إلى بلادهم يجيئون به إلى ملكهم. يطعمونه من ذلك الطعام و،يدهنونه بذلك الدهن فيتسع جوفه لأجل أن يأكل كثيراً، ويذهل عقله وتنطمس فكرته، ويصير مثل الإبل. فيزيدون له الأكل والشرب من ذلك الطعام والدهن حتى يسمن ويغلظ، فيذبحونه ويشوونه ويطعمونه لملكهم. ...
صرت في غاية الكرب على نفسي وعلى أصحابي وقد صار أصحابي لا يعلمون ما يفعل بهم. وقد سلموهم إلى شخص فصار يأخذهم كل يوم ويخرج يرعاهم في تلك الجزيرة مثل البهائم. أما أنا فقد صرت من شدة الخوف والجوع ضعيفاً سقيم الجسم، وصار لحمي يابساً على عظمي. فلما رأوني على هذه الحالة تركوني ونسوني ولم يتذكرني منهم أحد، ولا خطرت لهم على بال. إلى أن تحيلت يوماً من الأيام وخرجت من ذلك المكان وهربت من بين أيديهم. ..."
هذه قصة رائعة من قصص ألف ليلة وليلة. تبين لنا المأساة التي عاشها السندباد البحري هو ورفاقه. يدهنون أجسامهم بدهن النارجيل، ويأكلون طعاما يزيغ الأعين ويغير الأحوال ويذهب العقول. فتسمن أجسامهم ويصبحون مثل البهائم. يساقون مثل القطيع إلى ملكهم الغول، لكي يفترسهم واحدا تلو الآخر.
تذكرت هذه القصة وأنا أنظر أحوال بلدي وأرى كتاب السلطة وأقلامها، وهم يدهنون أجساد 80 مليون مصري بدهن النارجيل ويطعمونهم طعاما لا يستساغ، ويسقونهم شرابا من حميم وغساق. حتي تذهب عقولهم وتسمن أبدانهم ويصبحون مثل البهائم لا يفقهون قولا. فيقدمونهم قرابين إلى كبيرهم لكي يفعل بهم ما يريد.
الطعام هنا الذي لا يستساغ ويذهب العقول، هو التعليم السئ، والهوس بكرة القدم، والفن الردئ، والموسيقى الهابطة، والقناوات الفضائية المتردية، والمسلسلات المتخلفة، والصحافة المنحطة التي تعيش علي النفاق والبذاءات. ولا تراعي ضمير أو أخلاق أو منطق. وسوف آخذ موقف أحد الصحف من موضوع ترشيح الدكتور البرادعي لمنصب رئاسة الجمهورية، كمثال على مدى التردي الخلقي الذي وصل إليه كتابنا ومفكرينا.
أولا، الكتابة بصفة عامة والكتابة الصحفية بصفة خاصة، أمانة ورسالة وخلق. ليست فهلوة وتلاعب بالألفاظ والمشاعر والعواطف وقلب الحقائق. التلاعب بالألفاظ والإختباء وراء دهاليز اللغة، هو أسلوب المنافق والعاجز، وحيلة الذي ليس لديه حيلة أو منطق أو رؤية. وقد رأينا في التاريخ القديم، كيف كان السفسطائيون يتلاعبون بالألفاظ واللغة حينما عز عليهم المنطق والفكر الفلسفي الرصين.
عندما نجد رئيس أكبر مؤسسة صحفية في الشرق الأوسط د. عبد المنعم سعيد، يشكك في قدرة وكفاءة الدكتور البرادعي، لشغل منصب رئيس الجمهورية، بسبب بعده عن أرض الوطن مدة 27 عاما ويقول:
" الجدية التي تليق بصاحبنا هنا تبدأ بالمصارحة معه أن سبعة وعشرين عاما من البعد عن مصر تحتاج منه أن يلتقط أنفاسه قليلا بعد تجربة عريضة في منظمة دولية مهما كانت مرموقة, فإن هناك فارقا كبيرا بينها وبين دولة وأمة ومجتمع يلخصها عنوان عريض في التاريخ اسمه مصر."
ثم يعترض د. سعيد على مراقبة الإنتخابات خوفا على شلل السلطة القضائية كلها لمدة طويلة قائلا:
" وهي مسألة تفسر في مصر علي أن يكون هناك قاض لكل صندوق. مثل ذلك لا يوجد في الدول الديمقراطية المتقدمة والنامية التي طالبنا الدكتور البرادعي أن نعمل علي مثالها, وطالما أنه سوف تكون هناك لجنة قومية مستقلة ومحايدة ومشرفة علي كل تفاصيل الانتخابات, فما هي الحاجة لشل السلطة القضائية كلها ولفترة طويلة, وجر القضاء كله إلي ساحة السياسة المفعمة بالأهواء والمصالح."
ثم يتهم الدكتور البرادعي، بفُجر ليس له مثيل وقلب للحقائق، بمحاولة هدم الدستور والمؤسسات القائمة قائلا:
"الجدية مع الدكتور البرادعي أيضا تستدعي دعوته لكي يكون هو الآخر علي استعداد لكي يأخذ مصر أيضا بالجدية التي تستحقها, فما يطلبه منا صاحبنا أن نهدم الدستور والمؤسسات المصرية القائمة, وتفصيل أوضاع جديدة تتيح له الترشيح لمقعد الرئاسة دون مشاركة منه في عملية الإصلاح والتغيير الواجبة والمطلوبة."
ثم يتهم الدكتور البرادعي بأنه مجرد مفتش لا يعرف ما يفعل ولا يؤدي واجبه كما يجب:
"وللحق فإن البرادعي انتقد نفسه, بأنه لم يصرخ بأعلي صوته عام2003, ليقول إنه ليس لدي العراق برامج نووية سرية. وللحق أيضا فإن الاستغراق في دور المفتش كان واحدة من النقاط التي أثارها يوكيا أمانو مدير الوكالة الجديد حين قال أن البرادعي حول الوكالة إلي العمل في مجال منع الانتشار النووي, بأكثر مما عملت في مجال تسهيل الاستخدامات السلمية للطاقة النووية, وهي المهمة الأصلية لها. كما أن الاستغراق في دور المفتش أدي إلي إفلات المواقف أحيانا"
ثم يشكك في قدرة البرادعي وعمرو موسى في إدارة السياسة الخارجية للبلاد ويقول:
" وفي حقل السياسة الخارجية الذي لم يمسه الدكتور البرادعي في رده علي الأصوات التي نادته, هناك اختلاف بين منطق الوكالة ومنطق الدولة, وهذه المشكلة واجهها مرشح' محتمل آخر' هو السيد عمرو موسي, لكن بشكل عكسي, عندما انتقل للعمل من وزارة خارجية الدولة المصرية, إلي أمانة جامعة الدول العربية, عندما ذكره أحد الوزراء العرب حينها بأنه لم يعد وزيرا لمصر, ولن يحتاج الدكتور محمد البرادعي لمن يذكره بأنه لم يعد مديرا للوكالة, إلا أن هذا الميراث سيظل معه"
ثم يعطينا درسا في معني الليبرالية ويتهم البرادعي بالتعالي:
" ومن ليبرالي إلي ليبرالي آخر فإنه لا يجوز في كل المناهج الليبرالية أن يفرض مرشحا شروطه مسبقا علي اللعبة السياسية, ففضلا عن أن ذلك يمثل نوعا من التعالي غير المحمود"
ويشرح لنا معنى السياسة ويؤكد أنها ليست مجرد تفتيش على وطن مكافح:
"لقد اقترب وقت الجد, ولم يعد ممكنا أن تكون السياسة ألفاظا وكلمات أو حوارا مع أصوات تأتي من علي الفضاء الافتراضي, أو حتي من علي سلالم النقابات, كما أنها ليست عملية تفتيش علي وطن يكافح أبناءه من أجل حياة أرقي, ولكنها ممارسة من خلال المؤسسات القائمة حتي يتم الاتفاق علي تغييرها."
باقي المقال دش وحشو وكذب ونفاق وتضليل وإستخدام سلبي في التحليل والمناقشة، بهدف التشكيك في قدرة الرجل وكفاءته لملء هذا المنصب الجليل. فإن لم يكن هذا نفاقا للسلطة، فبماذا نسمية ونحن نعلم أن كل ما جاء بالمقال، عار عن الصحة ومعكوس تماما؟ فمن هو البرادعي هذا الذي يسبب أرقا بالغا لسدنة الحكم، والذي يهاجمه د. عبد المنعم السعيد وغيره من المنافقين؟
الدكتور البرادعي هو مصري الجنسية ولا يحمل غيرها، والفائز بجائزة نوبل للسلام بصفته مدير الوكالة الدولية للطاقة الذرية، مناصفة مع الوكالة. وقد تبرع البرادعي بكامل القيمة المالية لجائزة نوبل للأيتام والمحتاجين
.
ولد محمد البرادعي بالدقي - القاهرة عام 1942 و تخرج من كلية الحقوق جامعة القاهرة 1962م، و اتبع البرادعي في حياته مسارا مثاليا - حيث التحق بالعمل بالخارجية المصرية في عام 1964 في ادارة الهيئات التابعة للوزارة و التي كان يديرها انذاك ( اسماعيل فهمي).
تدرج البرادعي في المناصب سريعا حيث تميز كقانوني و دبلوماسي متعقل. كما نال ثقة مدير ادارة الهيئات بالخارجية - حتي جاءته فرصة الالتحاق بالبعثة المصرية في نيويورك. و هناك جمع بين عمله و استكمال دراسته حتي حصل علي اجازة الدكتوراه في القانون الدولي من الولايات المتحدة الامريكية عام 1974م.
بعدها عاد الي مصر ليعمل كمساعد لوزير الخارجية (اسماعيل فهمي )، وهو مديره السابق ، وقد اتاح عمله الجديد حضور مؤتمرات دولية ومفاوضات وبروتوكولات مهمة حتي عام 1978م. كما عمل البرادعي في المهمات الدائمة لمصر في الامم المتحدة في نيويورك. وعمل استاذ للقانون الدولي في كلية الحقوق بجامعة نيويورك.
في عام 1980م، اصبح البرادعي مسؤلا عن برنامج القانون الدولي لوكالة الطاقة الذرية في منظمة الامم المتحدة. وفي عام 1984م، التحق البرادعي بوكالة الطاقة الذرية.
في بداية عام 1993م، صار البرادعي مديرا عاما مساعدا للعلاقات الخارجية، حتي تم اختياره للمرة الاولي كمدير لوكالة الطاقة الذرية في 27 ستمبر 1997م. بعد حصوله علي 33 صوتا من اجمالي 34 صوتا اي باغلبية كاسحة خلفا للسويدي هانز بليكس المدير السابق للوكالة.
قالت مجلة نيوز النمساوية عن البرادعي في حينها ( انه هو الامل في اصلاح اسلوب الادارة داخل الوكالة الذرية ). وقد تم التجديد للبرادعي لولاية ثانية بعد اربع سنوات في 2001م، وفي 2005م تم التجديد للبرادعي لفترة ثالثة بموافقة كل الاعضاء بما في ذلك الولايات المتحدة رغم اعتراضها في بادئ الامر.
هل مثل هذا الرجل، لا يصلح أن يكون رئيسا لبلادي؟ وإذا كانت مصر سوف تحكم بمؤسسات دستورية كباقي الدول المحترمة، فما الضرر في أن يكون رئيسها رجل مثل البرادعي أو زويل أو يحي الجمل أو غيرهم من الرجال المحترمين؟
هل نحن نبحث عن البطل الملهم الآتي على دبابة، والذي ينتظر الجميع توجيهاته وحكمته التي لا تضاهيها حكمة. أم رجل قانون ذو سمعة طيبة، يحترم الدستور ويقوم بتفعيله. حتي يحصل المصريون على حقوقهم الطبيعية. وبذلك يتحولون من مجرد رعايا وعبيد، إلى مواطنين أحرار يشاركون في حكم ونهضة بلادهم ؟
هل د. عبد المنعم سعيد، سعيد بما آلت إليه أوضاع بلادنا في الثمانية والعشرين سنة الأخيرة، من فشل ذريع في جميع المجالات والتخصصات، لا يضاهيه فشل حتي لو كان مقصودا؟
وهل الزبالة والتلوث والمجاري وحال التعليم والمستشفيات الحكومية والمواصلات والزراعة والصناعة والتجارة والروتين والبطالة والإسكان والسياسة الخارجية، وحالة العمل السياسي والأحزاب، تروقه بشده لكي يحرص كل الحرص هو وأقرانه الصحافيين الذين على شاكلته، على إبقاء هذه الأوضاع على ما هي عليه.
الم يحن الوقت، ونحن نغوص في المستنقع الأكبر حتى الأذنين، لكي تكف البطانة والزبانية عن الكذب والنفاق، ودهن الناس بدهن النارجيل وإطعامهم بما يزيغ الأعين ويغير الأحوال ويذهب العقول، فتسمن أجسامهم ويصبحون مثل البهائم، يساقون مثل القطيع إلى ملكهم المستبد، لكي يفترسهم فرادا وبالجملة؟
zakariael@att.net
06/11/2014