السلطة
...............................................................
بقلم : محمد زكريا توفيق
....................................
قال اللورد البريطانى "أكتون" فى نهاية القرن التاسع عشر: " السلطة مُفسدة, والسلطة المطلقة فساد مطلق. والرجال العظام غالبا ما يكونون رجالا سيئين". ولعله أراد أن يقول: الرجال العظام غالبا مايكونون رجالا مجرمين. ولكن ما فاته أن الرجال السيئين هم الذين يسعون قبل غيرهم إلى السلطة. فالسلطة تفسد الصالح وتجذب الطالح.
تذكرت وأنا أكتب هذا المقال قصة اللؤلؤة للكاتب الأمريكى الكبير جون شتاينبيك, التى كتبها فى عام 1947م. وهى تعبر عن موضوعنا أبلغ تعبير. لذلك سأقوم بتلخيصها بإيجاز.
كان يعيش "كينو" الرجل الفقير و "جوانا" زوجته و "كيوتيتو" إبنه الرضيع فى كوخ على شاطئ البحر. وكان الرجل سعيدا بأسرته الصغيرة, قانعا بعمله من إستخراج اللآلئ, راضيا برزقه طالما يكفيه قوت يومه.
وفى يوم من الأيام والطفل يحبو على الرمال, لدغه عقرب سام. سارعت الأم عند سماع صراخ الطفل وإكتشافها لما حدث, بمص السم من جسد الطفل بفمها. لكنها لم تكتف بما فعلت, وطلبت من كينو زوجها الذهاب للطبيب. لكن الطبيب عند إكتشافهه أن كينو فقير وليس لديه المال اللازم للعلاج, أنكر نفسه وتهرب من أداء واجبه.
عاد كينو مسرعا عاقدا العزم على إستخراج بعض اللآلئ حتى يمكن إنقاذ الطفل. وبعد عدة محاولات للغطس والبحث, وجد لؤلؤة كبيرة لم ير مثيلا لها فى حياته. ظن المسكين كينو أن القدر قد تبسم له, وأن كل مشاكله قد إنتهت, لكن تبين فيما بعد أن هذه هى بداية تعاسته الحقيقية.
إنتشرت الأخبار فى القرية بأن كينو وجد لؤلؤة اللآلئ و التى لا تقدر بثمن لجمالها وندرتها. وحاول تجار اللآلئ خداعه وشرائها بثمن بخس. وعندما علم الطبيب بالخبر, هرول إلى الكوخ للكشف على الطفل. فوجده يتماثل للشفاء, وطمعا فى اللؤلؤة, قام بحقن الطفل بسُم بطئ, حتى يظل مريضا وبذلك يستمر كينو فى حاجة إلي خدمات الطبيب.
ولم ينته الأمر عند هذا الحد. فقد حضرت اللصوص لسرقة اللؤلؤة أو خطفها عنوة. وعندما فشلوا فى الحصول عليها, قاموا بإطلاق النار على كينو مما أدى إلى قتل الطفل وإشعال النار فى الكوخ وإتلاف قاربه. عندئذن جن جنون كينو فقام بقتل اللصوص جميعا. وتنتهى القصة, بذهاب كينو وزوجته إلى الشاطئ, لكى يقوم برمى لؤلؤة اللآلئ بكل قوته, لتستقر فى أعماق المحيط.
لا أدرى لمذا تذكرت هذه القصة العظيمة عند الحديث عن السلطة ومآسيها؟ وتساءلت هل يمكن أن تدمر السلطة حياة الناس, وتشوه نفوسهم مثلما دمرت اللؤلؤة حياة كينو؟ وهل كان شتاينبيك يقصد السلطة, أم شيئا آخر مثل الثروة أو المجد أوالشهرة أو حتى المرأة الجميلة؟ والأمثلة الآتية تبين ما تفعلة السلطة بالإنسان.
أوغسطس قيصر روما فى آخر عهده, كان قد تملكه الشك فيمن حوله وخصوصا زوجته ليفيا. وكان يعتقد أنها سوف تقتله بالسم حينما تحين لها الفرصة. فكان لا يشرب أو يأكل من يديها الطعام قبل أن يتذوقه أحد من الخدم. ولا يأكل ثمار الفاكهة إلا ما يختاره بنفسه ويقطفه من حديقة القصر. فقامت زوجته بوضع السم فى ثمار التين بالحديقة التى كان يأكل منها أوغسطس, ومن ثم نجحت فى قتله. فعلت ذلك لكى يصبح تيبيريس (إبنها من زواج سابق والذى سميت بحيرة طبرية بإسمه), قيصرا لروما. فهل كانت نهاية تيبيريس أفضل من نهاية زوج أمه؟ كلا. فبعد فترة من حكمة, وبينما كان يرقد تيبيريس فى فراش المرض, جاء كاليجولا حفيده بالتبنى ووضع الوسادة على وجهه حتى يخمد أنفاسه ويخلفه فى الحكم. ثم ماذا حدث لكاليجولا؟ مزق الحراس جسده بالسكاكين فى دهاليز القصر, وقاموا بتنصيب كلوديوس المؤرخ والكاتب وأحد أفراد العائلة. فتأتى زوجة كلوديوس أجريبيا لتقوم بوضع السم له فى الطعام لكى يؤول الحكم لإبنها نيرون من زواج سابق.
والخليفة عمر بن الخطاب, قتله أبو لؤلؤة المجوسى وهو يصلى فى المسجد. والخليفة عثمان, قتلته الغوغاء وهو يصلى فى منزله. وسيدنا على بن أبى طالب, قتله ابن ملجم وهو يصلى فى المسجد. والحسن سَمّته زوجه عندما وعدها معاوية بالمال والزواج من إبنه يزيد. والحسين, قتل هو وأهل بيته فى كربلاء فيما يشبه الإغتيال. والمأمون يقتل أخاه الأمين.
وتستمر تراجيديا قنص وإختطاف الحكم فى العالم الإسلامى وتتحول الخلافة إلى ملكيات تورث, يسلمها كل خليفة أو سلطان إلى إبنه من بعده. ويستمر مسلسل القتل والإغتيالات طلبا للسلطة. ولم نجد خلافة رشيدة سوى مدة 40 سنة من 1300 سنة هى عمر الخلافة الإسلامية. والباقى خلافة ليس فيها من العدل أو الرشد شيئا.
عدد الخلفاء والسلاطين الذين ماتوا ميته طبيعية يكاد يعد على الأصابع. أما الباقى فقد إنتهت حياتهم حياة مروعة. فمنهم من قضى نحبه بالسم أو بالسيف أو بالخنق أو بالجوع أوبالتعذيب أو بالدفن أحياءً أو بالإلقاء فى غيابات الجب. ومن الخلفاء من سُمِلْت عيناه وألقى به فى الحُفَر ليموت كما تموت الكلاب الضالة, ومنهم من سُمِلت عيناه وترك يتسول فى شوارع بغداد عاصمة الخلافة. حتى رأينا الأب يقتل إبنه, والإبن يقتل أباه وأخواته وأولاد أخواته. كل ذلك من أجل الحكم والقوة والصولجان, من أجل لؤلؤة اللآلئ, السلطة.
آل عثمان, والذين إنتهى إليهم أمر المسلمين, قد كانت من عادتهم قتل آبائهم وخنق إخوتهم أو حبسهم داخل قصورهم حتى يؤمن شرهم وعدم مشاركتهم فى السلطة. السلطان مراد الثالث, له جارية كانت فى الأصل أميرة من البندقية إسمها صفية, لها مسجد بمدينة القاهرة فى شارع محمد على. أعتقها السلطان وتزوجها وأنجبت له محمد الثالث. عندما مات السلطان وقبل أن توارى جثته الثرى, قامت صفية وإبنها محمد الثالث بخنق أخواته الثمانية عشر واحدا بعد الآخر.
ونجد جلبى بن عثمان, قد قتل أخاه عثمان وأخذ جميع بلاده. ومراد بن عثمان, الذى أمر بقتل إبنه صوجى. وإبن مراد بن عثمان الذى ترك أربعة أولاد, نجدهم قد تقاتلوا حتى لم يبق منهم إلا واحدا ليستبد بالملك. ومراد صاحب برصا, قبض على أخيه أرضن بك وسَمَل عينيه بمسمار محمى وسجنه حتى مات فى السجن. ومحمد الثانى الفاتح (فاتح القسطنطينية), أمر بقتل أخ له رضيع إسمه أحمد. وسليم الأول, الذى غزا مصر سنة 1517م وقام بصلب سلطانها طومان باى على باب زويلة, نجده قد قتل والده بايزيد الثانى بالسم وخنق إخوته وأولادهم. ويستمر مسلسل قتل الآباء وخنق الإخوة والأبناء بين السلاطين العثمانيين إلى أن الغى كمال أتاتورك الخلافة العثمانية عام 1924م.
ونظام السلطنة بالنسبة للمماليك فى مصر لم يخلو من القتل والغدر بأقرب الناس طلبا للسلطة, رغم الأعمال البطولية التى قاموا بها من صد هجمات التتار والصليبيين وبناء المساجد العظيمة والمدارس والمستشفيات وشق الترع, والحفاظ على إستقلال مصر قرابة 300 سنة حتى إنكسارهم على يد سليم الأول وفقد مصر إستقلالها.
فنجد شجرة الدر (شجر الدر) تقتل توران شاه إبن زوجها الملك الصالح أيوب, وتقتل زوجها الثانى عز الدين أيبك التركمانى. فيقوم إبنه على بالتحريض على قتل شجرة الدر بالقباقيب وإلقاء جثتها من خلف أسوار القلعة لكى تلغ فيها الكلاب. ويقوم بيبرس البندقارى بقتل السلطان قطز وهو فى طريق عودته من إنتصاره على التتار ويستولى على السلطة. ويحاول بيبرس قتل أحد الأمراء المماليك بالسم, فيقوم الأمير بإستبدال الكأس المسموم بكأس بيبرس دون أن يلاحظه أحد, فيقتل بيبرس نفسه بالسم وهو لا يدرى.
ويستمر هذا المسلسل المرعب فى الصراع على السلطة وإنتقالها من سلطان إلى سلطان, بنفس الأسلوب وبنفس الطريقة. فإما أن يُقتل السلطان ويتم الإستيلاء على الحكم بطريقة مباشرة. وإما أن يموت السلطان فى فراشه تاركا أولاده الصغار. فيقوم الرجل القوى من الحاشية المحيطة بالسلطان المتوفى بالحكم نيابة عن أحد الأبناء القصر الضعفاء والذين ليست لهم دراية بطرق الحكم ومشاكله. وأول شئ يفعله الوصى الجديد, هو التخلص من رجال الأب بالقتل والتشريد ومصادرة الأموال. وبعد ذلك يضع رجاله وموضع ثقته فى المناصب الحساسة. ثم يقوم بخنق أولاد السلطان المتوفى وكل عائلاتهم أخذا بالأحوط.
وتستمر السلطة ويستمر القتل والخنق والتشريد والمصادرة فى الماضى والحاضر. فموت الملك فاروق والمشير عبد الحكيم عامر وحتى الرئيس جمال عبد الناصر لا يخلو من الشكوك. ثم مأساة مقتل الرئيس السادات. وبالطبع لا يتسع المكان لسرد كل مآسى الصراع على السلطة وكيف تحول الإنسان الوديع إلى كائن بشع بكل المقاييس. ولا أريد أن أسرد ما فعلته السلطة المطلقة بالرعية والناس الغلابة. فهى قصة دامية حزينة باكية, وموضوع شرحه يطول ويحتاج إلى عدة مقالات.
إذا وضعت مجموعة من الفراريج فى حيز ضيق. فإنها تقوم على الفور بالهجوم على بعضها بالنقر ونتف الريش وفقع الأعين وإسالة الدماء فى معركة حامية الوطيس. ويستمر الحال على هذا المنوال حتى يتحدد المركز الإجتماعى المناسب لكل فروج. أو بالبلدى المريح, كل واحد يعرف مقامه. فنجد فى النهاية الفروج المفترى صاحب السلطة المطلقة. قد يكون أقرع أو أعور, لكنه يستطيع نقر كل الفراريج ولا يستطيع أن يقترب منه فروج آخر. يليه الفروج الثانى فى سلم السلطة, وهو الفروج الذى يمكنه نقر باقى الدجاج فيما عدا الفروج الأول. وهكذا إلى أن نصل إلى الفروج المسكين, الذى تقوم كل الدواجن بنقره, دون أن يكون فى مقدوره نقر أحد.
والمثل الشعبى يقول:"ما يقعد على القور الاّ الفرخ الأعور". والعور هنا لا يعنى الضعف والعجز, إنما يرمز للقوة والجبروت ودلالة على خوض الحروب الطاحنة فى سبيل السلطة, مثل موشى ديان.
هذه المعركة ضرورية لإستقرار الأمن الإجتماعى بين الدواجن, متى عرف كل منهم وضعه المناسب بين الرفاق. فالدواجن لا تعرف الديموقراطية, وليس لديها ميثاق إجتماعى وحقوق دواجن شبيه بحقوق الإنسان. لكن الإنسان المتحضر, وجد بديلا لنظام نقر الدواجن هذا, وأطلق عليه إسم الديموقراطية. والديموقراطية وإن كانت لها بعض العيوب, إلا أنها أقل ضررا من قتل الآباء وخنق الأخوات وبقر البطون وسمل العيون.
لكن فى بلادنا, هل يختلف نظام الحكم عندنا كثيرا عن نظام نقر الدواجن؟ وهل نحن إلا ناقر أو منقور. وهل الفرخ المسكين الذى يُضرب من الجميع يختلف كثيرا عن الشعب المسكين الواقف فى طوابير العيش. ومتى نرتقى فى سلم التطور إلى شئ أفضل, ونُحكم بنظام لا يشبه نقر الدواجن؟
السلطة مثل الوحش الضارى. إذا لم تروض تدمر الحاكم والمحكوم على السواء. هذا ما يقوله التاريخ. إننا لا نتعلم من التاريخ ونكرر نفس الخطأ, وننتظر المهدى المنتظر, أو البطل العادل الذى سوف يرحمنا من الظلم الذى نحن فيه, لكى ينصف المظلوم وينشر العدل فى ربوع البلاد. وهذا لن يحدث, على الأقل فى زماننا هذا. لذلك روضت البلاد المتقدمة السلطة وقامت بتفتيتها وتقليم أظافرها. وحرمت أى مسئول من وضع كل السلطات فى يده مهما كان شأنه وإخلاصه. فقامت بفصل السلطات التشريعية والقضائية والتنفيذية. وأكدت سيادة القانون والحريات وحقوق الإنسان. وقامت بتفتيت كل سلطة من الداخل إلى أجزاء. فمثلا السلطة التشريعية, قامت بتفتيتها هى أيضا إلى أكثر من مجلس نيابى. وداخل المجلس النيابى الواحد, أصرت على إختلف وقت إنتخاب الأعضاء, حتى لا يتكتلوا جميعهم بطول المدة ويكونوا سلطة قوية. والسلطة القضائية مفتتة أيضا إلى قاض ومحلفين. وأنشأت محكمة دستورية عليا لا سلطان عليها, حتى لا يُستخدم الدستور والقانون فى إستعباد الناس. ورئاسة الجمهورية حددت بفترة أو فترتين على الأكثر ولمدد محدودة. وهذا كله لتفتيت السلطة وترويضها.
أما نحن, فبعد أن تخلصنا من الحكم الملكى والإستعمار, وبعد ما يزيد على نصف قرن من الزمان, نصل إلى سُلطة مكدسة فى يد فرد واحد, وإلى نظام جمهورى ليس له علاقة بالجمهور, يكاد يتحول إلى تكية أو أبعدية. وديموقراطية لا تنتمى إلى الديموقراطيات بصلة ولا شئ فيها يتم إلا بتوجيهات السيد الرئيس. وأحزاب هى فى الواقع نوادى سياسية, يرأسها كهول يستميتون فى طلب السلطة بكل السبل حتى لو أدى هذا إلى إستخدام الأيدى والأرجل وإطلاق النار داخل الحزب. ورجال دين حاربوا العقل وشغلوا بالتراهات والمهاترات وحفظ الفروج والدعاء لولاة الأمور بالتوفيق وطول العمر.
zakariael@att.net