الدكتور القمني وحرية الرأي
...............................................................
بقلم: محمد زكريا توفيق
...............................
"إذا كان للبشرية كلها رأى واحد، فيما عدا شخص آخر له رأى مخالف، فعذر البشرية فى إخراس هذا الصوت الوحيد، هو نفس عذر هذا الشخص فى إخراس البشرية كلها عندما يتولى سلطة" جون ستيوارت ميل (1806 – 1873م)
لا تزال الحرب قائمة بين العلوم والبحث العلمى وحرية الرأى من جهة، ورجال الدين والفكر الدوجماتى المبنى على فهم خاطئ للدين، أو على إيمان عميق بدون فهم أو عقل. القصص المحزنة لمثل هذا الصراع لا ينتهى عددها. فى الماضى والحاضر، وفى الغرب والشرق. وهى ليست مقصورة على دين واحد أو زمان واحد.
إبن المقفع, الذى كان يجمع بين لغة العرب وصنعة الفرس وحكمة اليونانيين, ومؤلف كتاب كليلة ودمنة, والأدب الصغير, والأدب الكبير. وكتب أخرى كثيرة توضح ما ينبغى أن يكون عليه الحاكم إزاء الرعية, وما يجب أن تكون عليه الرعية إزاء الحاكم. مما أغضب الخليفة المنصور فى صدر العصر العباسى الأول. فإتهم إبن المقفع بالكفر, وقطعت أطرافه وفصلت رأسه, وألقى بباقى جسده فى النار.
والحلاج المتصوف الإسلامى المشهور, إتهمه الخليفة المقتدر بالله بالكفر وحكم عليه بالموت. فضرب بالسياط نحوا من ألف سوط, ثم قطعت يداه ورجلاه, وضربت عنقه, وأحرقت جثته بالنار. ثم ألقى مابقى من تراب جثته فى نهر دجلة.
وشيخ الإستشراق المتصوف السهروردى فى عصر صلاح الدين الأيوبى, تم قتله بنفس الطريقة التى قتل بها الحلاج من قبل.
والإمام إبن حنبل, قام الخليفة المعتصم بسجنه وتعذيبه. والكندى, فيلسوف العرب, جرد من ملابسه وهو فى الستين, وجلد ستون جلدة فى ميدان عام وسط تهليل العامة.
والرازى, ضرب على رأسه بكتبه حتى فقد البصر, وعندما طلب أحد تلاميذه علاجه, رفض وقال لقد نظرت إلى الدنيا حتى مللت.
وإبن رشد, حرقت داره وكتبه وأتهم فى إيمانه. ولم ينج إبن سينا أو إبن خلدون من الإتهام بالكفر.
فى العصر الحديث, قتل الدكتور فرج فودة بسبب آرائه ودفاعه عن أقباط مصر. وكاد نجيب محفوظ, الحاصل على جائزة نوبل فى الآداب, أن يقتل ذبحا بسبب إحدى رواياته. وفرق بين الدكتور أبو زيد وزوجه بسبب أبحاثه. ومنعت كتب طه حسين ونجيب محفوظ من التدريس بالمدارس والمعاهد والجامعات المصرية.
وها نحن نرى الآن الهجوم الشرس الإجرامى على مفكر وباحث موسوعى هو الدكتور سيد القمنى بسبب أحد كتبه "الحزب الهاشمى"، والمطالبة بسحب جائزة الدولة التقديرية فى العلوم الإجتماعية منه بعد أن إستحقها بجدارة هذا العام.
ليس هناك داع للدفاع عن حرية البحث والرأى كوسيلة لمحاربة الطغيان والفساد والجهل والخرافات ومعرفة الحقيقة. وليس هناك حاجة لإقناع السلطة الحاكمة والمؤسسة الدينية لكى تكف عن تحديد ما يجب وما لا يجب أن نقوله أو نفكر فيه. لأنه عندما تشجب أى سلطة حرية الرأى، تكون بذلك قد ارتكبت جريمة، ووضعت نفسها هدفا تصوب إليه غضب وسخط الجماهير.
إذا كان رأى الفرد لا يفيد إلا صاحبه، فمنع هذا الرأى من الظهور، يسبب ضررا شخصيا يصيب صاحب الرأى فقط. لكن رأى الفرد ليس ملكه وحده. إنما هو ملك للجنس البشرى كله. منع هذا الرأى من الظهور، هو إغتصاب حق من حقوق البشرية.
لنا أن نتخيل كم تكون خسارتنا إذا منع الأنبياء والرسل والحكماء والفلاسفة والعلماء من الكلام بحجة أن مايقولونه يختلف عما يقوله الآباء والأجداد. وكيف يكون حالنا اليوم، إذا منع إسكندر فيلمنج مكتشف البنسلين من إعلان إكتشافه، لأنه يختلف عن العقاقير المستخدمة فى ذلك الوقت.
إذا كان الرأى الآخر صوابا، فنكون عندما نحجبه، قد فقدنا الفرصة لتصحيح أخطائنا. وإذا كان الرأى الآخر خطأ، نكون أيضا قد فقدنا الفرصة لتعميق إحساسنا بأننا على صواب. لأن الصواب يتضح ويتلألأ حينما يصطدم بالخطأ.
ليس من حق أى سلطة أن تختار لبقية الناس حتى وإن كانت السلطة الدينية. وليس من حقها أيضا أن تحرم الناس فرصة الحكم على الأمور بأنفسهم. رفض سماع الرأى الآخر بحجة أنه خطأ مؤكد هو إفتراض أن السلطة السياسية و رجال الدين على علم بالصواب المطلق والخطأ المطلق. بينما كل الدلائل تشير إلى أن الصواب المطلق والخطأ المطلق أمور لا يعلمها إلا الله.
هناك فرق كبير بين القول بأن هذا الرأى صحيح، لأنه ينتصر على كل الآراء التى تعارضه، وبين القول بأن هذا الرأى صحيح لأننا نؤمن أنه صحيح، ولن نسمح لرأى آخر يعارضه. إفتراض صحة الآراء بالإعتقاد والتمنى، وعدم السماح للرأى الآخر بالظهور، يعتبر شئ خطير. يجعلنا غير واثقين من أنفسنا، ويضعف قدرتنا فى التمييز بين الصواب والخطأ. ويجعل أقدامنا تقف على أرض غير صلبة. ويجعل أفكارنا تفتقر إلى المنطق والرصانة والمصداقية.
العقل الذى وهبنا الله وميزنا به على الجماد وباقى المخلوقات، له قدرة خارقة على الإستفادة من تجارب الماضى الناجحة والفاشلة. أخطاء الماضى لا تذهب أدراج الرياح. إنما تخزن فى الذاكرة. وتضع عند كل خطأ أوحفرة وقعنا فيها، علامة حتى لا نقع فيها مرة أخرى. وقد يجنبنا الرأى الخطأ عند دراسته، الوقوع فى خطأ أكبر.
الرأى الذى لا يخضع للمناقشة والدراسة، مهما كان قويا، يعتبر تحيزا وتعصبا، ولا يمكن إعتباره صحيحا. لأن الآراء تسكن العقول، ويسكن معها مخلوقان غريبان، هما التعصب والتحيز. وكلما حاولت الآراء الصحيحة الخروج، أصابها التعصب بإعوجاج هنا، وأصابها التحيز بإلتواء هناك. دور حرية الرأى هو إصلاح ما اعوج، أو ما التوى حتى يستقيم.
مهما كانت شدة خطأ الرأى الآخر، فإنه دائما يحمل جزءا من الحقيقة. وحيث أن الرأى الصواب بالنسبة لأى موضوع، لا يمثل الحقيقة كاملة، لذلك وجب الإستفادة من الرأى الآخر.
الرأى الصحيح بدون الرأى الآخر، يعتبر عقيدة عمياء بدون فهم أو منطق. وإيمان الناس بالحقائق بغير إستناد إلى منطق، يجعلهم مستعدين للإيمان بالأكاذيب بدون تفكير.
الإعتقاد بأن الحقيقة تنتصر بنفسها على الباطل، فلا داعى لحرية الرأى والبحث، هو إعتقاد خاطئ. لأن الحقيقة إن لم يكن هناك من يدافع عنها ويحمل لواءها، تختفى، ويختفى معها النور الذى يهتدى به البشر. فكرة كروية الأرض ظهرت عند قدماء المصريين فى مكتبة الإسكندرية قبل الميلاد. ثم إختفت لكى يعيد العرب إكتشافها فى عصر المأمون. ثم إختفت ليعيد الغرب إكتشافها فى العصر الحديث.
القول بأننا نحمى الأفكار المفيدة من الأفكار الهدامة أو الغير مفيدة، هو قول خاطئ.
أولا: لأنه ليس لأحد الحق فى أن يقرر للآخرين من هو المفيد ومن هو غير المفيد. مسألة المفيد وغير المفيد، هى آراء يجب أن تترك مثل غيرها لإبداء الرأى فيها، ولا يجب أن تأتى من سلطات أخرى.
ثانيا: لأن الآراء التى لا تستطيع أن تثبت وجودها عن طريق البحث وحرية الرأى، هى أفكار لا تستحق أن تعيش.
الأفكار مثل النظريات العلمية، أو مثل الحياة نفسها على سطح الأرض، تتبع قوانين التطور. الحياة أثمن وأعز من أن تعطى لغير القادر عليها. لذلك نقول أن حماية السلطة الحاكمة أو رجال الدين، لرأى معين. ومنع مناقشته عن طريق سن القوانين أو بتشديد الرقابة أو بالإرهاب الفكرى، يضعف هذا الرأى. ويضعف معه قدرتنا على كشف الحقائق.
النظر إلى الحقيقة من جانب واحد، ليس رؤية بالمرة. إنما مجرد سراب أو إنطباع أو وجهة نظر أو أحلام وتمنيات. لأن الحقيقة لها عدة وجوه. ومن لم ير جوانبها المختلفة، كمن لم يرها مطلقا. والقصة التالية توضح ذلك:
كان فيه زمان ستة عميان من هندوستان. قرروا أن يدبوا فى الأرض، بالطول والعرض. ليفتحوا الغوالق ويكتشفوا المجهول، وينالوا من الحكمة ما يشبع العقول.
بعد عدة خطوات على الطريق، وجدوا أنفسهم أمام فيل عتيق. فقرروا أن يبدأوا عملهم المجيد، بدراسة هذا الكائن العنيد، ومعرفة أمره بالتأكيد.
إقترب أولهم ووضع يده على بطن الفيل الجبار. وعاد مسرعا قائلا ياإخوتى ما هذا إلا جدار.
وتقدم الثانى فى حذر من الأمام. ولمس ناب الفيل بالإبهام. وقال يا سادتى هذا رمح كبير، لا يحمله إلا ذى شأن خطير.
وتقدم الثالث ببطء. وتحسس من الفيل الخرطوم، ليطلق صرخة تتجمع لها الغيوم. ويخبر باقى الهندوستان، أن الكائن هو الثعبان.
وتقدم الرابع يلمس ساق الفيل فى جرأة. ليعلن على الملأ أن المخلوق هو الشجرة.
أما الخامس فتحسس أذن الفيل بحنان. ليقول ، ياقوم، إنه مروحة يحملها الغلمان.
ويأتى الأخير ليشد الكائن من ذيله المنحول. ويعلن ، يارفاقى ما هذا إلا حبل مجدول.
الفيل هنا يمثل الحقيقة التى نبحث عنها جميعا. ويعتقد عمى هندوستان أنهم قد توصلوا إليها. هذه القصة تمثل محنة المعرفة البشرية بأثرها. كل منا يعتقد أنه يعرف الحقيقة كلها. لأنه قرأ كتاب تفسير أو تخصص فى فرع معين من العلوم أو الآداب وتعمق فيه. الواقع هذا التعمق والتخصص يبعدنا عن الحقيقة أكثر وأكثر. ويجعلنا نرى الفيل ثعبانا أو شجرة، وما هو بثعبان أو شجرة.
ماذا يحدث لو حاول كل واحد من عمى هندوستان التمسك برأيه على أنه الصواب والحق المبين المبنى على التجربة. وماذا يحدث لو رفض كل منهم الإصغاء تماما لكل ما يقوله الآخرين. ألا يقود هذا إلى ضياع الحقيقة. وماذا يكون عليه الحال، لو فرض أقواهم باعا وأعلاهم صوتا رأيه على الآخرين بالقوة وبالإرهاب الفكرى، وهدد وتوعد كل من يقر بأن الفيل يختلف عن الحبل المجدول.
إننا عندما نبنى الحواجز، ونقيم القضايا، ونستخدم التهديد والإرهاب، لإسكات الرأى الآخر، نكون قد فقدنا القدرة على التعلم والتقدم والإزدهار إلى الأبد.
إعصار الإرهاب الفكرى بدأ يطغى على المنطقة دون رحمة أو هوادة. وعاجلا أم آجلا, سوف نصل إلى ما وصلت إليه أوروبا فى العصور المظلمة. الفرق بيننا وبين أوروبا هو أن أوروبا إستطاعت أن تنجو من هذا الوباء. وفهمت الدين كما يجب. وفصلته عن العلم والبحث. أما نحن, فلا نزال نخلط بين العلم والإيمان. ونحن لا نعرف مفهوم العلم أو معنى الإيمان.
نستخدم العلم مكان الإيمان, والإيمان مكان العلم. التقدم له أسبابه. والتخلف لا يأتى من فراغ. وإذا لم نراجع أنفسنا ونعيد حساباتنا, سوف نضيع. وقد ضاعت أمم قبلنا كثيرة حين إختلط عليها الأمر, وحجبت الرأى, وحاربت العقل. فلم تعد تفرق بين الخطأ والصواب. أو الظلم والعدل.
zakariael@att.net
06/11/2014