مطبوعة الكترونية عربية مهتمة بموضوع المواطنة وتداول السلطة القانونى وحرية التعبير  فى العالم العربى  .. تصدر من الولايات المتحدة الأمريكية عن المركز الأمريكى للنشر الالكترونى .. والأراء الواردة تعبر عن وجهة نظر أصحابها.
............................................................................................................................................................

 
 

 كيف نقيم ثورة 23 يوليو 1952م فى عهد الرئيس عبد الناصر
...............................................................

بقلم: محمد زكريا توفيق
.............................

كيف نقيم ثورة 23 يوليو 1952م؟ هناك من يقيمها على أنها مجموعة مساوئ وأخطاء قاتلة فقط. وهناك من ينظر إليها نظرة دوجماتية خالية من العيوب والأخطاء. أو يعتبر أخطاءها أشياء طبيعية لا يمكن تجنبها فى ذلك الوقت. فقوى الشر كانت متربصة متحفزة, وهذا حقيقى، تحاول القضاء على الثورة منذ قيامها بكل وسيلة ممكنة.

أنا هنا فى هذا المقال سأحاول أن أكون محايدا بقدر الإمكان. مع العلم بأن حياد الكاتب ليس بالأمر السهل. فأنا من أبناء الثورة. قامت عندما كنت طفلا صغيرا بالمدارس الإبتدائية، وعشتها بالكامل وأنا قريب من القاع ومراقب له. فضل الثورة على الطبقات الفقيرة والكادحة، لا ينكره إلا جاحد أو مكابر. حبى لعبد الناصر ليس له حدود. لكن حبى للحقيقة أكبر وأجلّ. لذلك لن أترك عواطفى لكى تطغى على أفكارى وأنا أقوم بهذا السرد، لأن الكتابة أمانة ومسؤلية.

سأحاول ألا أغض الطرف عن أخطاء الثورة القاتلة، مع العلم بأن هذا سوف يغضب الكثير من السادة القراء. هذه الأخطاء، باتت مسئولة عن الوضع المخزى الذى نعيشه الآن. نعم، أخطاء الثورة هى المسئولة عن حالة المستنقع التى نغوص فيه جميعا إلى أذاننا اليوم. وإذا لم ندرس ونفهم أخطاءنا بعمق، سوف نقع فيها مرة ثانية وثالثة ومرات أخرى عديدة.


لا زلت أذكر حالة الفلاحين والعمال قبل الثورة عندما كنت طفلا صغيرا بالمدارس الإبتدائية. عندما كنت أعيش فى الريف حيث كان يعمل والدى موظفا صغيرا فى بنك التسليف الزراعى، ويتنقل بين قرى وجه بحرى ومعه باقى أسرته الصغيرة.

الفلاحون كانوا غلابة فى منتهى البؤس. يعيشون على حافة الوجود. يأكلون الخبز الجاف والسريس والجعضيد، وهى أعشاب ضالة لا تغنى ولا تشبع من جوع. أما البصل واللفت المخلل والجبن القديم المملح فكانت وجباته اليومية.

حقيقة كانت الفلاحة المصرية منتجة، تقوم بتربية الطيور وعمل الجبن والزبد فى منزلها. لكن ليس بغرض الإستهلاك، إنما إنتظارا ليوم السوق. للمقايضة وشراء لوازم البيت من سكر وشاى وبن وتبغ وصابون وكيروسين للإنارة وخلافه. كانت أغلبية الفلاحين حفاة شبه عراة فى ملابسهم الزرقاء الممزقة. تفترسهم وأولادهم الأمراض المستوطنة مثل البلهارسيا واإنكلستوما والإسكارس. ونسبة الوفيات بين أطفالهم مرتفعة جدا.

يسكنون بيوتا مصنوعة من الطمى. معتمة بدون نوافذ، أو بنوافذ صغيرة درأ لبرد الشتاء وحر الصيف. معروشة بالحطب وجريد النخل. بدون ماء أو كهرباء أو دورات مياة.

كان الفلاح يعمل هو وزوجته وأولاده مثل العبيد، منذ طلوع الفجر وحتى غروب الشمس. يعود إلى مسكنه لتناول وجبة المساء بعد صلاة العشاء، ويذهب إلى فراشه تحت رحمة الباعوض والبراغيث والبق. ويلقى بجسده جثة هامدة على الأرض أو فوق الفرن.

يستيقظ قبل آذان الفجر. وكما يقول بيرم التونسى "كان يستيقظ لكى يوقظ الديكة". لا يعرف أجازة إسبوعية أو سنوية. وليس لديه تأمين صحى أو معاش. يذهب إلى الوحدة الصحية أو المستشفى محمولا على حمار، ومسنودا بجيرانه أو أقاربه. وغالبا تكون زيارة الأخيرة. متوسط عمره لا يزيد على الأربعين سنة.

من حين إلى حين، ينتشر وباء الكوليرا. فتقطع المواصلات بين القرى. ويحصد الوباء أرواح الفلاحين بالجملة. يتساقطون مثل أوراق الخريف. لقد صور عميد الأدب العربى الدكتور طه حسين إحدى حالات الكوليرا فى الصعيد فى كتابه الأيام، والتى تسببت فى وفاة أخيه طالب الطب فى ريعان شبابه، عندما كان يشارك فى إسعاف المرضى.

لقد رأيت بنفسى فلاحا مريضا بالكوليرا يرتمى فى كوخ صغير على الأرض وهو دائم القيئ. الناس تصرخ فى المارة بالإبتعاد. وأخذ رجل من الواقفين عصا طويلة أو جريدة نخل وربط فى آخرها قطعة قماش فى شكل صرة بها رغيف خبز وإبريق ماء. ومد الرجل العصا من بعيد لكى يسقط الخبز والماء بالقرب من المريض بدون أن يقترب منه.

فى يوم من الأيام، سمعت صخب ومرج فى الشارع فى الصباح الباكر. وعندما خرجت لتقصى الخبر، علمت بأن خفر شونة بنك التسليف قامت بالقبض على لص تسلل ليلا لسرقة قمح من شونة بنك التسليف. وحيث أننى لم أكن قد شاهدت فى حياتى من قبل لصا. لذلك كانت صورة اللص فى ذهنى لا تختلف كثيرا عن لص السينما وأفلام أنور وجدى. أى رجل عبوس الوجه كئيب المنظر فظ غليظ يتطاير الشرر من عينيه ويلبس "فالنة" مخططة بالعرض، وبه جرح غائر فى وجهه.

جريت مع أطفال الشارع وذهبنا إلى الشونة. وجدناها مفتوحة وبها جمهور غفير جاء لكى يشاهد اللص. وعندما وقع نظرى على اللص، شعرت بخيبة أمل كبيرة وحزن كبير. لقد وجدت فلاحا شابا نحيفا سمح الوجه. لا يختلف عنا كثيرا. غير أنه يلبس جلبابا أزرق بال، وهى ملابس الفلاحين فى ذلك الوقت. تنزف الدماء من فمه بسبب ضرب خفر الشونه له بكعوب البنادق فى صدره وعلى ظهره. وتعجبت، كيف يكون اللص نحيف القوام سمح الوجه صغير السن.

الحمالون فى شونة بنك التسليف, يعملون طوال اليوم فى حمل أجولة الغلال الثقيلة على ظهورهم الضعيفة. ووقت الغذاء لا يجدون سوى بصلة ناشفة أو قشر برتقال أو لفت مخلل مع خبز جاف. وجوه شاحبة صفراء. حفاة الأقدام وملابسهم ممزقة بالية. عمال الدريسة التى تقوم بصيانة قضبان السكة الحديد، فى حالة أشد بؤسا وفقرا. وتعيش على البصل والخبز والماء.

رأيت العمال التى تضطر للسفر اليومى بالقطار فى الصباح الباكر فى فصل الشتاء قارس البرد. ولأنهم لا يقدرون على أجرة القطار الضئيلة فى ذلك الوقت، كان الغلابة يضطرون للتسلق والركوب على سطح القطارات فى ذلك الجو شديد البرودة. ومع الرياح الشديدة على السطح، يتكدسون وتلتصق أجسامهم ببعض طلبا للدفئ. لكن الشرطة كانت تطاردهم وتقبض عليهم. وكانت الكبارى العلوية تحصدهم حصدا إذا نسو أن ينبطحو تماما قبل الوصول إلى الكوبرى عندما يمر من تحته القطار. كل أسبوع حادث أو إثنين من هذا النوع. وعمال النظافة والرش والتراحيل، نفس البؤس ونفس الفقر. فقر وجهل ومرض بمعنى الكلمة، يصعب حتى على كتاب الروايات تصويره.

الثورة كانت ضرورة ملحة فى ذلك الوقت. الحالة السياسية والإقتصادية والإجتماعية فى مصر فى الفترة التى أعقبت ثورة سنة 1919م وحتى قيام ثورة سنة 1952م, كانت فى خدمة طبقة كبار ملاك الأراضى الزراعية. حيث كان المجتمع يتكون من عدة طبقات. طبقة ملاك الأراضى, والطبقة البرجوازية, وطبقة الموظفين, وطبقة العمال وطبقة الفلاحين.

كانت المساحة المزوعة فى ذلك الوقت ستة ونصف مليون فدان. خمسة أسباع هذه المساحة كان مملوكا لحوالى 160 ألف مالك. وبدلا من زيادة الضرائب التصاعدية على كبار الملاك لتحسين أحوال الفلاحين الذين كانوا يشكلون الغالبية العظمى من تعداد السكان, نجد كل الحكومات المتعاقبة قد فعلت العكس تماما. أى قامت بخفض الضرائب على كبار ملاك الأراضى الزراعية إلى أن بلغت 1%, بينما بلغت الضرائب على الطبقات الفقيرة 10% من الدخل القومى.

إذا أضفنا إلى هذا زيادة السكان وإنخفاض الدخل بالنسبة للفرد عاما بعد عام دون تدخل الحكومات المتعاقبة, مما تسبب فى زيادة الضغط على الوادى وزيادة البؤس بين الطبقات الفقيرة. ولكى تحمى طبقة ملاك الأراضى نفسها من الفلاحين, أصدرت قانونا يجرم تكوين إتحادات للفلاحين لحماية مصالحهم. أما العمال, فكان مسموحا بتكوين إتحادات ونقابات لهم. لكن البطاله الهائلة بينهم وإنتهازية وفساد قادتهم, أنهكت قوى الإتحادات العمالية, وحصرت جهودهم فى قضايا فردية.

الطبقات الفقيرة فى المجتمع المصرى لم تجد من يمثلها أو يدافع عنها. وكانت تعبر عن غضبها من حين لآخر بإستخدام العنف كما حدث بالنسبة لثورة سنة 1919م. حيث كان غضبها موجها ضد الإحتلال البريطاني. ولو وجه هذا الغضب الوجهة الصحيحة, لأدى إلى ثورة إجتماعية, كما حدث بالنسبة للثورة الفرنسية. أضف إلى ذلك كله ظروف الكساد العالمى وإنخفاض أسعار القطن التى أدت إلى زيادة كبيرة فى البطالة بين صغار الموظفين.

قامت الثورة المصرية بقيادة جمال عبد الناصر فى 23 يوليو عام 1952م، ومجموعة من الضباط صغار السن والرتبة والخبرة أطلقوا على أنفسهم إسم الضباط الأحرار. بهدف تحيق عدة أهداف محددة. فوجدوا أنفسهم حكاما لبلد عظيم مثل مصر. به مؤسسات عريقة وصحافة حرة وبرلمان ومجلس شيوخ ودستور ومناخ سياسى وثقافى ليبرالى. وبه أيضا غضب شديد لوجود قوات الإحتلال وغضب أشد لعدم وجود عدالة إجتماعية. وأيضا، كره شديد للفساد السياسى الموجود. الذى كان يتلاعب بالديموقراطية، ويجعل منها واجهة فقط. بينما الحكام الحقيقيون، كانت هى الطبقة الأرستقراطية. (رجاء مراجعة مقالى عن الديموقراطية قبل الثورة)

بدلا من إصلاح الفساد السياسى وتحقيق الديموقراطية الحقيقية والعدالة الإجتماعية على أسس سليمة، قام الثوار بالإستيلاء على السلطة لأنفسهم. وقامو بعزل كل السياسيين، وحل الأحزاب والقضاء على حرية الصحافة وإلغاء الدستور.

هنا ظهر فراغ سياسى كان لا بد من شغله. وكانت هناك حاجة ماسة إلى تعبئة الجماهير لمساندة الضباط الأحرار. لذلك تكونت هيئة التحرير، التى كانت تعتمد على تعاون النقابات العمالية. فمثلا، إتحاد عمال النقل فى عام 1954م، ساعد جمال عبد الناصر على التخلص من محمد نجيب، أول رئيس للجمهورية، والإنفراد بالسلطة.

غير ذلك، لم تفعل منظمة التحرير أكثر من تنظيم المسيرات والسير فى الجنازات. إستمرت هيئة التحرير من عام 1953م حتى عام 1958م. فى هذه الفترة، ظهر دستور 1956م، ثم انتخابات مجلس الأمة عام 1957م. الذى ضم عضوية أبو الفضل الجيزاوى وراوية عطية. والذى يعتبر أول وآخر مجلس نيابى انتخب بدون تدخل الحكومة.

هذا المجلس هو الذى تحدى كمال الدين حسين، وزير التربية والتعليم فى ذلك الوقت، بالنسبة لموضوع الإنتساب للجامعة. وعندما قرر المجلس أن يكون الإنتساب إلى الجامعة حقا لكل مصرى يحمل الثانوية العامة، استقال كمال الدين حسين من منصبه إحتجاجا. لكن عبد الناصر أعاد كمال الدين حسين إلى منصبه. وفى نفس الوقت، وللأسف، قام بحل مجلس الأمة. فلم يكن كبرياء عبد الناصر يسمح بأن يجبر ممثلى الشعب أحد وزرائه على الإستقالة.

فى هذه الفترة، لم تتضح هوية النظام السياسية والإقتصادية. وكانت شعارات مثل: الإتحاد والنظام والعمل هى السائدة. وكان النظام السياسى يأخذ شيئا من هنا ومن هناك. من بيرون فى الأرجنتين، ومن سالزار فى البرتغال، ومن تيتو فى يوغسلافيا، وحتى من تجربة كمال أتاتورك السابقة فى تركيا.

تلا هيئة التحرير فى عام 1958م، الإتحاد القومى. الذى بتشكيله الهرمى، لم يحقق أى نجاح بسبب ظروف الوحدة والإنفصال مع سوريا. بعد إنفصال سوريا عن الوحدة, كان يخشى عبد الناصر ردود الفعل الداخلية. والتى كان يسميها قوى الرجعية. لذلك قرر عبد الناصر إلغاء الإتحاد القومى، وتكوين الإتحاد الإشتراكى العربى.

قام الإتحاد الإشتراكى العربى أساسا على تحالف قوى الشعب العاملة. والتى كانت الثورة تقسمها إلى خمس فئات: العمال والفلاحين والمثقفين والرأسمالية الوطنية والجنود.

كان تعريف كل فئة غامض وغير دقيق. فتعريف الفلاح ينطبق على المزارع والأجير ومن يمتلك عشرة أفدنة. وتعريف الرأسمالى الوطنى ينطبق على صاحب الفندق وتاجر الصابون. وخريج كلية التربية البدنية وطه حسين، كلاهما من المثقفين. والعامل هو من لم يحصل على شهادة جامعية، إلا إذا كان حصوله عليها أثناء الوظيفة، ولا أدرى ما الفرق. أما الجنود، فلم يكن لهم أى دور داخل الإتحاد الإشتراكى. لأن المشير عبد الحكيم عامر كان يخشى نفوذ عبد الناصر داخل الجيش.

حرص عبد الناصر على حرمان كل من طبقت عليهم قوانين الإصلاح الزراعى والقوانين الإشتراكية، ومن أممت ممتلكاتهم، من عضوية الإتحاد الإشتراكى. بحجة أنهم أعداء تقليديين للثورة. وفى اجتماع اللجنة التحضيرية الأول لسنة 1961م، اقترح بعض الأعضاء العزل السياسى لكل أقارب هؤلاء المبعدين. لكن العقاب بسبب صلة الرحم، لم يطبق الا على أفراد الأسرة المالكة.

لكى يستطيع عبد الناصر السيطرة على تنظيمات الإتحاد الإشتراكى ومجلس الأمة، اشترط فى عام 1962م، نسبة الخمسين فى المائة عمال وفلاحين فى هذه التنظيمات. لأن العمال والفلاحين حسب تعريفهم السابق، على هامش السياسة والثقافة. ومن السهل التغرير بهم وتوجيههم الوجهة المطلوبة.

الغريب فى الأمر، أن هذه النسبة لا تزال سارية فى تشكيلات مجلس الشعب الحالى. وبدلا من أن تحافظ هذه النسبة على المكاسب الإشتراكية، التى حققتها الثورة، وتعض عليها بالنواجز. نجد أن هذا المجلس بنسبته المذكورة، هو الذى يتولى تصفية القطاع العام, والقضاء على ما تبقى من المكاسب الإشتراكية, وهو الذى يبيع أصول مصر للأجانب. هذا يفسر لنا سر تمسك النظام الحالى بنسبة الخمسين فى المائة عمال وفلاحين حتى الآن.

لم يكن أمام عبد الناصر سوى بناء الإتحاد الإشتراكى كقوة مناوئة للجيش، الذى كان يدين بالولاء للمشير عبد الحكيم عامر. فى أعقاب إنفصال سوريا، اتهم عبد الحكيم عامر بأنه المسؤول عن الإنفصال. لذلك حاول عبد الناصر إنتهاز هذه الفرصة، للتخلص من المشير.

فى أحد الإجتماعات، إقترح عبد الناصر أن يترك المشير الجيش ويتقلد منصب نائب رئيس الجمهورية، وأن يكون عضوا فى مجلس رئاسة للنظر فى الترقيات العسكرية. لكن المشير، تنبه لما يدور فى رأس عبد الناصر. فرفض وغادر الإجتماع غاضبا. ولم يكن أمام عبد الناصر سوى طلب بقاء المشير فى منصبه راجيا.

منذ ذلك الحين إلى وفاة المشير عام 1967م، ظلت القوات المسلحة هى تسلية المشير المفضلة. فكان يغدق عليها بسخاء, ويدلل ضباطها بالإسراف فى الترقيات والبعثات والأولويات فى الحصول على خطوط التليفون وإنتاج المصانع من سيارات وثلاجات وتخصيص شقق الحراسة العامة، التى تم الإستيلاء عليها من أصحابها بعد التأميم. إذ كانت ميزانية الجيش، ولا تزال حتى الآن، لا تخضع لرقابة المجالس النيابية. بحجة أنها من الأسرار العسكرية.

إعتقد عبد الناصر أن إنفصال سوريا كان بسبب تحالف قوى الرجعية الداخلية مع الحكم الرجعى فى السعودية، بمساعدة الولايات المتحدة. لذلك قرر تصدير الثورة إلى الدول العربية. لأن الوحدة العربية بدون ثورات أصبحت أملا ضائعا.

كان عبد الناصر يخشى نفوذ حزب البعث العربى الذى كان يحكم سوريا ثم العراق. لذلك حاول عبد الناصر عن طريق الدعاية وصوت العرب قلقلة نظم الحكم فى الدول العربية. إلا أن محاولات ناصر لم تنجح. لأنها كانت تفتقر إلى أيديولوجية واضحة. بدليل أن الإتحاد الإشتراكى العربى، لم ينجح فى تكوين فرع له فى أى دولة عربية فى ذلك الوقت.

الإتحاد الإشتراكى نشأ ضعيفا. لأن خوف عبد الناصر من مراكز القوي، جعله يضع على رؤوس أخطر الأجهزة السياسية التقدمية, رؤساء محافظين. فمثلا كان يرأس هيئة التحرير أنور السادات. وكان يرأس الإتحاد القومى، كلا من السادات وكمال الدين حسين. وأول رئيس للإتحاد الإشتراكى، كان حسين الشافعى. كل هؤلاء، كانوا أعضاء سابقين فى جمعية الإخوان المسلمين.

عندما تيقن عبد الناصر من ضعف الإتحاد الإشتراكى بعد سنوات قليلة من تكوينه، وعدم فاعليته وفقره الأيديولوجى، لذلك قرر تزويده بعناصر إشتراكية حقيقية وشيوعيين. بعد أن أفرج عنهم من السجون. وقام فى نفس الوقت بتعيين على صبرى رئيسا للوزراء ووزيرا للتخطيط.

هذه القرارات كان تأثيرها واضح فى زيادة المساعدات من الإتحاد السوفيتى، وزيادة العداء بين عبد الناصر والحكومة الأمريكية. التى قامت بدورها بزيادة المعونات بدون حدود إلى إسرائيل.

تلا ذلك أن حل الحزب الشيوعى المصرى نفسه. وكان يرأسه فى ذلك الوقت فؤاد مرسى وإسماعيل صبرى عبد الله. لكى ينضم أعضاؤه إلى الإتحاد الإشتراكى. وعندما اعترض بعض رفاق الثورة ومنهم كمال الدين حسين وعبد اللطيف البغدادى على الإتجاه الماركسى الذى تسير فيه البلاد، كان نصيبهم الفصل من مناصبهم والعزل السياسى.

فى عام 1965م، وتحت ظروف إقتصادية بحتة، عين عبد الناصر زكريا محى الدين رئيسا للوزراء، لكى يتفرغ على صبرى لرئاسة الإتحاد الإشتراكى. وكانت هذه فرصة على صبرى التى لا تعوض.

فى كل إنتخابات جديدة لتشكيل اللجنة المركزية أو الهيئة التنفيذية العليا، كان يتم انتخاب أتباع على صبرى كلهم. وبمرور الوقت، اشتدت قبضة على صبرى على كل تنظيمات وتشكيلات الإتحاد الإشتراكى السياسية. وأنشأ فى نفس الوقت، منظمة الشباب لكى يرأسها أحمد كامل، أحد أتباع على صبرى. وأنشا أيضا معهد الدراسات الإشتراكية لتخريج الكوادر.

يبدو أن صلة على صبرى بالسوفييت كانت قد توطدت أكثر من اللازم. وبدا أن الكرملن بدأ يخطط لإحلال على صبرى مكان عبد الناصر. خصوصا عندما علم السوفييت بمرض عبد الناصر واحتمال وفاته. وإذا أضفنا إلى ذلك، الزيادة المطردة لنفوذ على صبرى فى الإتحاد الإشتراكى، علمنا لماذا شعر عبد الناصر بعدم الإرتياح لعلى صبرى.

فى أثناء عودة على صبرى من روسيا، بعد مفاوضات مع السوفييت على شراء أسلحة جديدة للجيش المصرى، تم التحفظ عليه فى المطار بتهمة محاولة تهريب سجادة عجمى من الجمرك. طبعا شئ مضحك للغاية وحيلة صبيانية لا تليق بزعيم مثل عبد الناصر.

أبعد على صبرى بعد ذلك عن تنظيمات الإتحاد الإشتراكى. لكنه ظل محتفظا شكليا بعضوية اللجنة التنفيذية العليا، حتى وفاة عبد الناصر عام 1970م. هذا ما كان من أمر التشكيلات السياسية. أما بالنسبة للديموقراطية والحالة الإقتصادية والإجتماعية, فلم يكن أيا منها أفضل من الحالة السياسية.

لم يكن أمام عبد الناصر فى فترة حكمه فرصة لتحقيق أهدافه الإقتصادية والإجتماعية غير عامين للتحول الإشتراكى، وسنوات الخطة الخمسية الأولى. سبع سنوات عظيمة بكل المقاييس. تم فيها وضع أساس قوى وقاعدة عريضة للتصنيع والإنطلاق نحو غد أفضل. وهى أفضل سنوات تنمية مرت فى تاريخ مصر المعاصر.

بعد هزيمة عام 1967م، لم يكن لعبد الناصر هدف سياسى أو إقتصادى سوى محو آثار الهزيمة. لا صوت يعلو على صوت المعركة. وما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة.

تاريخ الدولة البوليسية فى مصر يرجع إلى الخمسينيات. عندما كان زكريا محى الدين وزيرا للداخلية. وبظهور القوانين الإشتراكية عام 1961م، وما كان يتطلبه تنفيزها من سلطات مطلقة للبوليس وجهاز المخابرات العامة. إزدادت سلطات الدولة البوليسية فى مصر على حساب الديموقراطية.

هذه الدولة البوليسية، هى التى أفرخت صلاح نصر وحمزة البسيونى ولجنة تصفية الإقطاع برياسة عبد الحكيم عامر، وعضوية على صبرى وعبد المحسن أبو النور وصلاح نصر وسامى شرف وشمس بدران.

لم يسلم من تطرف الدولة البوليسية يسار أو يمين. من شهدى عطية إلى مصطفى أمين. مرورا بلويس عوض. الذى أعتقل عدة مرات وفصل من عمله كمدرس بالجامعة.

فى عام 1965م، تم إعتقال 24 ألف مواطن فى يوم واحد بتهمة الإنتماء إلى الإخوان المسلمين. مائة ألف مواطن قدموا للمحاكمة ولم يفرج عنهم إلا فى عام 1975م, بأمر من السادات. أما الذين قتلوا من التعذيب فى المعتقلات السياسية, فهم كثيرون. منهم شهدى عطية ورشيد خليل ومحمد عثمان وعلى الديب وعبد الفتاح مفتاح.

فى عام 1968م، عندما حاول القضاة الدفاع عن إستقلالهم. قامت مذبحة القضاة. وفصل من وظائفهم 112 قاضيا. وأعتقل عبد الفتاح حسن وزير العدل السابق لمدة عام بدون محاكمة. ولم يعد القضاة إلى وظائفهم إلا فى عام 1973م فى عهد الرئيس السادات.

فى عام 1966م، انتقد عبد الناصر إدارة مستشفى القصر العينى وقارنه بإدارة قناة السويس، التى كان يديرها محمود يونس. فقام الدكتور رشوان فهمى، نقيب الأطباء بالدفاع عن إدارة القصر العينى قائلا، بأنه: "لو كان للقصر العينى ميزانية قناة السويس، لأصبح القصر العينى مثالا يحتذى به فى العلاج. ولو كان لقناة السويس ميزانية القصر العينى، لتوقفت الملاحة بالقناة إلى الأبد." بعد هذه الملاحظة، أممت ممتلكات الدكتور رشوان توفيق. وفصل من وظيفة مدرس بالجامعة. وفصل أيضا من عضوية الإتحاد الإشتراكى.

فى أعقاب هزيمة 1967م، أبعد عبد الحكيم عامر عن الجيش بالقوة. حينئذ، تجمع بضع عشرات من الضباط مطالبين بعودة عبد الحكيم عامر وشمس بدران إلى الجيش. لكن عبد الناصر قام بفصل هؤلاء الضباط، ومعهم 800 ضابط من الجيش. ثم قام عبد الناصر بالقبض على عبد الحكيم عامر. وبعد أيام قليلة، وتحت ظروف غامضة، أعلن عن إنتحار المشير بتناول السم.

كان عبد الناصر لا يثق فى المتعلمين والمثقفين. لذلك حرص على أن تكون الجامعات تحت سيطرته. فدس العملاء فى الإتحادات الطلابية وغير نظام العمداء وأصبح الإختيار بالتعيين بدلا من الإنتخاب. وجند الطلاب لمراقبة المدرسين وزملائهم وكتابة التقارير السرية عنهم. ووطئت أحذية الشرطة الحرم الجامعى. وهذا سبب فساد الجامعة إلى اليوم.

أممت الصحافة عام 1959م. وصارت خاضعة للإتحاد القومى. ثم إنتقلت ملكيتها للإتحاد الإشتراكى. وأصبح كل صحفى عضوا فى الإتحاد الإشتراكى. وكل مقال صحفى كان يعرض على الرقابة قبل النشر. وإذا فصل صحفى من الإتحاد الإشتراكى، منع من الكتابة فى أية صحيفة داخل أو خارج مصر.

أما البيروقراطية والفساد فى مصر، فقد إنتشرت بسبب ضعف الأجور. التسعيرة الجبرية مع قلة العرض، خلقت السوق السوداء. قوانين الجمارك والعملة ساعدت على التهريب. البطالة المقنعة وكثرة موظفى الحكومة، عرقلت المصالح والخدمات فى الوزارات.

سوء الإدارة وعدم مكافأة المجد وعقاب المسئ، خلقت جيشا من تنابلة السلطان فى إنتظار التوجيهات والتعليمات. الخوف من القانون والسلطة، أوجد جماعة عبدة القانون. كل أعمالهم مذكرات فى مذكرات لحماية أنفسهم والتهرب من أخذ القرارات.

فى هذا العصر أيضا، ظهرت اتهامات غير رسمية لرؤساء كل من مديرية التحرير، الصاغ مجدى حسنين، والمؤسسة الإقتصادية, والبنك الصناعى, وشركة النصر للزجاج والبلور, وشركة إسكو للحرير والأقطان، وشركة المحاريث والهندسة وشركة كولدير للتبريد. وكانت أصابع الإتهام تشير إلى كبار المسئولين فى الدولة. لذلك لم تصل هذه الإتهامات إلى القضاء.

مما سبق يتضح أن حكم عبد الناصر لم يكن ديموقراطيا. ولم يكن للشعب فيه أى دور فى إتخاذ قرارات مصيرية مثل تأميم قناة السويس والوحدة مع سوريا والقرارات الإشتراكية وحرب اليمن، ومغامرة الجيش المصرى فى سيناء عام 1967م.

هل كانت الثورة ضرورية؟ نعم. لأن الفساد السياسى والظلم الإجتماعى قبل الثورة كانا يفوقان الوصف. أهداف عبد الناصر فى العدالة الإجتماعية كانت نبيلة ورائعة، وخطته فى التنمية كانت أكثر من رائعة لولا إعتماده على أهل الثقة بدلا من أهل الكفاءة.

أما أسلوبه فى الحكم فلم يكن رائعا أبدا. فقد ترك لنا نظاما دكتاتوريا لا يزال يحكمنا حتى اليوم. وينشب أظافره فى أعناقنا دون رحمة أو هوادة. ولا ندرى كيف نستطيع التخلص من نيره. لوإختارت الثورة النظام الديموقراطى ومبادئ حقوق الإنسان منذ بدايتها كأسلوب للحكم, لتغير اليوم تاريخ مصر وتاريخ المنطقة بأسرها.

zakariael@att.net

06/11/2014

مصرنا ©

 

.....................................................................................

 


 

 
 



مطبوعة تصدر
 عن المركز الأمريكى
 للنشر الالكترونى

 رئيس التحرير : غريب المنسى

مدير التحرير : مسعد غنيم

 

الأعمدة الثابته

 

 
      صفحة الحوادث    
  من الشرق والغرب 
مختارات المراقب العام

 

موضوعات مهمة  جدا


اعرف بلدك
الصراع الطائفى فى مصر
  نصوص معاهدة السلام  

 

منوعات


رؤساء مصر
من نحن
حقوق النشر
 هيئة التحرير
خريطة الموقع


الصفحة الرئيسية