ساعات داخل الذرات تدل على صحة نظرية دارون
...............................................................
بقلم: محمد زكريا توفيق
...........................
كل دين, وكل مجتمع من المجتمعات, لديه حكاية أو أكثر تحكى قصة الخلق. الكتب المقدسة تخبرنا بأن الرب خلق العالم وملأه بالمخلوقات الحية فى ستة أيام. وجاء الأسقف جيمس آشر ليقول بأن العالم عمره ستة آلاف سنة تقريبا. بداية الخلق كانت يوم 23 إكتوبر عام 4004 قبل الميلاد.
كما أن المؤمنين لهم مزارهم المقدس الذى يحجون إليه, للجيولوجيين أيضا مزارهم المقدس. هو إمتداد نهر أكاستا الواقع شمال غرب كندا. إنك لا تستطيع الوصول إلى هناك إلا عن طريق التجديف بقارب صغير أعلى النهر ضد التيار لمدة أيام, أو بالطيران شمالا من بلدة يلونيف فوق أراضى نصفها ماء والنصف الآخر يابسة.
النصف المائى يتشكل من آلاف البحيرات والبرك. تتصل ببعضها البعض، مكونة أنهارا فى شكل كتل مائية غير منتظمة، شبيهة بالأنهارالجليدية التى كانت تغمر الأرض فى العصر الجليدى. يمكنك الوصول إليها بالتزحلق من جزيرة إلى أخرى وسط النهر.
أما الشاطئ فهو مغطى بالأشجار الصنوبرية السوداء، وطحالب الرنة ونباتات الخلنج والأشنة. تغريد طائر الزقزاق, يضخم حجم الصمت الرهيب. الذباب الأسود والباعوض، يجعلان جلدك ملئ بالثقوب.
حائط من الصخور ملقى فى الطريق إلى الماء يمكنك التسلق والسير عليه. هذه الصخور من نوع الجرانيت. لونها رمادى داكن، تتخللها بقع سليكات الألمونيوم. ربما تكون شاهدت مثل هذه الصخور من قبل، لكنها فريدة فى شئ واحد. عمرها المديد الذى يبلغ أو يزيد على أربعة بليون سنة. مما يجعلها أقدم صخور معروفة على وجه الأرض.
هذه الصخور قديمة قدما لا يمكن تصوره. إذا مثلنا السنة الشمسية بطول ذراعين ممتدتين من جانبى إنسان بالغ. فإن عمر صخور الأكاستا يمكن تمثيله بطابور من الناس. تقف جنبا إلى جنب، تمتد أذرعهم حتى تتلامس أصابعهم، ليقوم هذا الطابور بالدوران حول الكرة الأرضية 200 مرة.
بالرغم من أن عمر الصخور يصعب تخيله, إلا أنه يجعل دارون سعيدا فى قبره. ويجعل رجال الدين تصرخ وتقول: "كلام فارغ، الأسقف أثبت أن عمر الكون يزيد قليلا عن ستة آلاف سنة, وأنت تقول أن عمر صخور كندا، يربو على أربعة بليون سنة (بالباء). هذا كفر والعياذ بالله."
عندما قدم دارون نظريته عن التطور, لم يكن يعلم عمر صخور الأكاستا الموغل فى القدم. الفيزياء اللازمة لتحديد عمر الصخور لم تكن موجودة بعد. فقد ظهرت بعد دارون بخمسين عاما.
كان دارون يعتقد أن الكون قديم جدا. بالطبع هذا يخدم نظريته فى تدرج التطور جيلا بعد جيل. لكن لم يكن لديه دليل مادى على قدم عمر الأرض. خلال القرن العشرين فقط, إستطاع علماء الجيولوجيا والحفريات رسم خريطة بدقة لتاريخ قشرة الكرة الأرضية.
لم يكتشف العلماء الترتيب الزمنى للمخلوقات التى ظهرت على سطح الكرة الأرضية فقط, لكنهم إكتشفوا أيضا طرق دقيقة لتحديد عمر كل حفرية أو بقايا متحجرة. من هذه المعلومات، تبين أن أول حياة بدائية ظهرت على سطح الكرة الأرضية، كان منذ 3.85 بليون سنة مضت. وأن أول حيوان ظهر، كان منذ 600 مليون سنة. أما أول إنسان فكان منذ 150 الف سنة فقط.
من كل الإعتراضات التى واجهت دارون, سواء كانت دينية أم بيولوجية, كان الإعتراض الخاصة بعمر الأرض هو الأكثر إيلاما. فهو لم يأت من أسقف متعصب، إنما أتى على غير المتوقع من عالم فيزيائى.
وليام تومسون، المعروف باللورد كلفين، كان من كبار علماء الفيزياء العالميين المعاصرين، فى الوقت الذى نشر فيه دارون كتاب أصل الأنواع. اللورد كلفين، هو الذى أوضح مفهوم الأنتروبيا. وهو مفهوم يعنى أن كل شئ فى هذا الكون إلى زوال. الأمور والأشياء تذهب من النظام إلى الفوضى. إلا إذا مدت بطاقة تحافظ عليها من الإنهيار والتفكك. أشعل شمعة حتى نهايتها, تجد أن الهباب والغازات والحرارة التى أطلقت من الشمعة, لا تتجمع من نفسها مع بعضها ثانية لتكون شمعة من جديد. نظريا ممكن، لكن عمليا تكاد تكون مستحيلة.
أبحاث كلفين الخاصة بالحرارة جعلته ثريا، عندما طبقها فى تصميم الكابلات التى تعبر الأطلسى لوصل أوروبا بأمريكا الشمالية. ويبدو أنه كان يفكر أيضا فى عمر الأرض عندما كان على ظهر أحد بواخر الكابلات عبر الأطلسى.
كلفين هذا رجل ورع. لم يقبل أن عمر الأرض عبارة عن بضعة آلاف من السنين، لمجرد تفسير بعض الأساقفة للإنجيل. فقد كان يعتقد أنه من الممكن, وضع حد أعلى لعمر الأرض، بدراسة الحرارة المنبعثة منها.
كان يعرف كلفين أن عمال المناجم, تجد الصخور الأكثر عمقا, أكثر دفئا من الصخور القريبة من سطح الكرة الأرضية. وكان يعتقد أن الأرض تكونت نتيجة تصادم كواكب صغيرة مع بعضها. طاقة التصادم هذه صهرت الكواكب الصغيرة لتكون كوكب الأرض. وهوإفتراض ثبتت صحته فيما بعد.
إفترض كلفين أنه بعد التصادم, لن تستطيع الأرض الحصول على حرارة إضافية. بالتالى سوف تبرد بالتدريج. سطحها يبرد بمعدل أسرع من باطنها. هذا ما يفسر لنا وجود حرارة فى جوف الأرض حتى الآن. فى المستقبل البعيد, سوف يبرد جوف الأرض ليصبح فى درجة حرارة سطحها.
كلفين وعلماء فيزياء آخرون كانوا قد وضعوا معادلات رياضية تستطيع التنبؤ بالزمن الذى تبرد فيه الأجسام. قام كلفين بتطبيق هذه المعادلات على الكرة الأرضية كلها. وبقياس سرعة تسرب الحرارة من الصخور, وقياس درجات الحرارة في عمق الأرض, أمكنه تحديد عمر الأرض بالتقريب عام 1862م. عمر الأرض، كما يقول كلفين، لا يزيد عن 100 مليون سنة.
كان كلفين رجل متدين. لذلك وجد سعادة بالغة فى مهاجمة دارون والتشكيك فى صحة نظريته. نظرية دارون تقول أن الإختيار الطبيعى يستغرق زمنا طويلا جدا حتى يستطيع تغيير صور الحياة على سطح الأرض. لكن كلفين شكك فى ذلك, لأن العمر الذى توصل إليه للأرض، لا يعطى الكائنات هذا الوقت الكافى الذى تحتاجه.
حاول هكسلى الدفاع عن دارون بالمساومة بعض الشئ. وهو نادرا ما يفعل ذلك. وكان يقول أن علماء البيولوجيا عليهم أن يقبلوا ما قد توصل إليه علماء الجيولوجيا والفيزياء بالنسبة لعمر الأرض. وعليهم أن يبحثوا عن أسباب حدوث التطور فى خلال هذه الفترة القصيرة.
إذا كان عمر الأرض 100 مليون سنة فقط، كما يقول كلفين, إذن التطور قادر على العمل بسرعة أكبر. لذلك إقترح والاس أنه ربما كان التطور يسير بمعدلات أكثر فى الماضى عما يسير عليه الآن. أو ربما كان إختلاف الطقس، بسبب دوران الكرة الأرضية حول محورها، له دخل فى ذلك.
دارون لم يكن مقتنعا بهذه الحلول الوسط. وصرح فيما بعد بأنه غير مرتاح لعمر الأرض القصير الذى توصل إليه كلفين. مائة مليون سنة تعتبر عمرا قصيرا بالنسبة للتطور. ولا تكفى لخلق أنواع جديدة من الكائنات.
كان كلفين يوالى أبحاثه فى تحديد عمر الأرض بجمع المعلومات عن الحرارة فى باطنها. وكان يعدل حساباته كل مرة ليجد أن عمر الأرض أقل من العمر الذى أعلنه سابقا. فى النهاية توصل كلفين إلى أن عمر الأرض 20 مليون سنة فقط. أثناء هذه الفترة لم يكن فى إستطاعة دارون سوى العض على أسنانه. كان ظهور كلفن لدارون بمثابة ظهور شبح بغيض قادر على تدمير نظريته من أساسها.
بنى اللورد كلفين حسابات عمر الأرض على فروض أساسية (ثبت فيما بعد خطؤها). هى أن الأرض ليس لها مصدر آخر للحرارة منذ تكوينها. لكن اللورد لم يكن يحسب حساب الحرارة الكامنة داخل الأرض، ولم يدخل هذه الحرارة فى معادلاته.
فى عام 1896م, وبعد 14 عاما من وفاة دارون, قام عالم فرنسى يدعى هنرى بيكويريل بتغليف قطعة من أملاح اليورانيوم مع ألواح فوتوغرافية. عندما قام بتحميض الألواح, وجد بها نقطا بيضاء واضحة حادة الشكل. وضح لبيكويريل أن اليورانيوم يشع طاقة من داخل ذراته. بعد ذلك بسبع سنوات، أثبت بيير كورى ومارى كورى زوجته, أن اليورانيوم يطلق الطاقة بصفة مستديمة على صورة أشعة وحرارة.
وجد بيكويريل وبيير كورى وزوجته مصدرا آخر للطاقة داخل تركيبة الذرات. الذرة تتكون أساسا من ثلاث جسيمات: بروتونات ونيترونات وإلكترونات. الإلكترونات تحمل شحنة سالبة, وتحلق حول حافة الذرة, بينما البروتونات موجبة الشحنة والنيترونات متعادلة الشحنة. يقبع كلاهما داخل نواة الذرة.
كل عنصر من العناصر له عدد محدد من البروتونات لا يتغير يسمى العدد الذرى. الهيدروجين له بروتون واحد, الهيليوم له إثنان, والكربون له 6 بروتونات. إذا تغير عدد البروتونات داخل النواة، تغير العنصر إلى عنصر آخر. أما عدد النيترونات داخل نواة الذرة، فقد يختلف بالنسبة للعنصر الواحد.
الكربون الشائع المعروف بالكربون12 يتكون من 6 بروتونات و 6 نيترونات. لكن هناك أيضا الكربون13 الذى يتكون من 6 بروتونات و7 نيترونات. ويوجد أيضا، الكربون14 الذى يتكون من 6 بروتونات و8 نيترونات. هذه الأنواع المختلفة من الكربون، مثل الأنواع المختلفة من البرتقال، تسمى نظائر. النظائر ما هى إلا أنواعا مختلفة من نفس العنصر. تختلف فقط فى عدد النيترونات داخل النواة. هذه النظائر، هى التى تستخدم فى قياس الزمن الجيولوجى.
البروتونات والنيترونات داخل نواة الذرة تتكوم فيما يشبه أكوام البرتقال عند بائع الفاكهة. بعض الأكوام تكون مستقرة, وأكوام أخرى سرعان ما تنهار عند أى إهتزاز.
أكوام البرتقال تتماسك بسبب الجاذبية. لكن البروتونات والنيترونات تتماسك بواسطة قوى أخرى. هى قوة الجاذبية وقوة لا تعمل إلا داخل أنوية الذرات تسمى بالقوة الشديدة (Strong Force).
عندما ينهار أو يتحلل نظير من النظائر, فإنه يطلق دفعات من الطاقة ومعها جسيم أو أكثر من جسيمات الذرة. هذا يؤدى فى النهاية إلى تحول العنصر إلى عنصر آخر.
اليورانيوم238, على سبيل المثال, يتحلل ويطلق زوجا من البروتونات وزوجا من النيترونات، ويتحول إلى ثوريوم234. هو الآخر غير مستقر، ويتحلل إلى عنصر آخر هو بروتاكتينيوم234. هذا أيضا عنصر غير مستقر. وهكذا فى سلسلة من التحولات عددها 13, إلى أن نصل فى النهاية إلى الرصاص206 المستقر.
إنك لا تستطيع التنبؤ بالوقت الذى تبدأ فيه ذرة ما بالتحلل. لكن كل مجموعة كبيرة من الذرات المشعة، تتبع قوانين إحصائية معينة. هى قوانين الإحتمالات والأعداد الكبيرة التى تنطبق أيضا على المجتمعات السكانية. هذه القوانين تبين لنا نسبة الوفيات ونسبة المواليد فى كل مجتمع، أو نسبة حوادث السيارات مثلا بدقة متناهية. لكنها لا تعمل بالنسبة للفرد. ولا تستطيع معرفة متى سوف يموت شخص ما، أو متى سوف يتعرض لحادث سيارة على وجه التحديد.
لنفرض أن هناك حصاه بها مليون نظير من النظائر المشعة. وأن هذا النوع من النظائر له قدرة إحتمالية على التحلل تقدر ب 50% فى السنة. بعد السنة الأولى, نصف مليون نظير سوف يبقى فى الحصاه. بعد السنة الثانية يصل ما تبقى من النظائر إلى ربع مليون نظير فى الحصاة.
سنة بعد أخرى, نصف ما يتبقى من النظائر يختفى فى السنة التالية. بعد عشرين سنة, يختفى آخر نظير وتصبح الحصاه خالية من النظائر. يسمى علماء الفيزياء الوقت الازم لكل نظير لكى يفقد نصف عدده, بنصف الحياة. اليورانيوم238, على سبيل المثال, نصف حياته تقدر ب4.47 مليون سنة. عناصر أخرى لها نصف حياة تقدر بعشرات البلايين من السنين, بينما توجد عناصر تقدر نصف حياتها بالدقائق أو الثوانى.
اليورانيوم وعناصر مشعة أخرى مثل الثوريوم والبوتاسيوم توجد فى باطن الأرض, وتقوم بالتحلل وإطلاق الحرارة. إعتقد كلفين أن الأرض حديثة العمر, لأنها لم تبرد بعد منذ تكوينها. العناصر المشعة داخل باطن الأرض هى التى حافظت على حرارة الكرة الأرضية، ولم تجعلها تبرد بالسرعة التى تتناسب مع عمرها. وهذا ما أغفله كلفين.
العالم الفيزيائى أرنست رازرفورد هو الذى قام بإكتشاف مبادئ وقوانين الذرات والإشعاع. وهو الذى إكتشف أن الإشعاع ظاهرة قادرة على تحويل عنصر ما إلى عنصر آخر. وقال رازرفورد عن أحد محاضراته:
"لقد أتيت إلى غرفة, نصفها مظلم, ثم لاحظت وجود اللورد كلفين بين الحضور. لقد توقعت المشاكل, لأننى فى آخر المحاضرة كنت سأتعرض إلى موضوع عمر الأرض, وأنا أعرف أن رأيى يخالف رأى اللورد كلفين. لكن مما خفف من قلقى, هو أننى وجدت اللورد يخض فى نوم عميق. وعندما أتيت إلى النقطة الهامة فى المحاضرة, رأيت الطائر العجوز يعتدل فى مجلسه, ويفتح إحدى عينيه ليرمقنى بنظرة ثاقبة. عندها, إنتابنى إلهام مباغت. فقلت: اللورد كلفين كان قد حدد عمر الأرض، على فرض أنه ليس هناك مصادر أخرى للحرارة مثل الراديوم، تم أكتشافها بعد. يا إلهى, ما أن قلت هذا حتى غمرنى العجوز بإبتسامة كبيرة."
هذا ما يتذكره رازرفورد عن محاضرته, لكن اللورد كلفين, لم يتراجع علنا عن تقديره لعمر الأرض. بعد سنتين من سماعه محاضرة رزرفورد, كان يراسل جريدة لندن تايمز, موضحا أنه ليست هناك مواد مشعة كفاية لبقاء باطن الأرض ساخنا بالدرجة التى هو عليها الآن.
تبين لرازرفورد أن الإشعاع لا يبين فقط أن الأرض قديمة جدا, وإنما يستطيع أيضا أن يبين عمرها. أى كمية يورانيوم تكون قد حبست داخل صخرة باردة, سوف تتحلل ببطئ لكى تتحول إلى رصاص. ولأن علماء الفيزياء يعرفون نصف عمر اليورانيوم بدقة بالغة, فإنه من الممكن إستخدام ما تبقى من اليورانيوم والرصاص داخل الصخرة لحساب عمرها.
تعلم الجيولوجيون كيف يقيسون الزمن بساعتين مختلفتين فى نفس الوقت. بالإضافة لليورانيوم238، بعض الصخور تحتوى على اليورانيوم235. يتحلل هذا النظير إلى نظير آخر من الرصاص, هو الرصاص207، الذى له نصف حياة مختلف يقدر ب704 مليون سنة. وبقياس عمر الصخرة بتجربتين مختلفتين يمكن للعلماء الحصول على قراءات أكثر دقة.
أمكن العلماء تلافى الأخطاء الناتجة عن دخول اليورانيوم أو الرصاص بطريقة ما إلى الصخور بعد تكوينها. بعض الصخور تتكون من ذرات الزركونيوم والأكسوجين فى صورة بلورات الزركون، المعروفة بالماس الصناعى.
الزركون له خواص السجون الميكروسكوبية متناهية الصغر. أى ذرة يورانيوم أو رصاص تقع داخل بلورة الزركون, من الصعب جدا لهذه الذرات أن تهرب, ومن الصعب أيضا لذرات جديدة أن تدخل إلى البلورة.
داخل سجن الزركون, يبدأ اليورانيوم فى التحلل ببطء إلى رصاص بدون التدخل من العالم الخارجى. الجيولوجيون الذين قدروا عمر صخور أكاسيا ب4.04 بليون سنة, فعلوا ذلك عن طريق دراسة بلورات الزركون داخل تلك الصخور.
قام العلماء بإطلاق شعاع مشحون من جسيمات الذرة على بلورات الزركون، لإطلاق سحابة صغيرة من النظائر المحبوسة. ثم قاموا بقياس عمر هذه النظائر. هذه الإحتياطات جعلت الخطأ فى تقدير عمر الصخور لا يتعدى (0.3%) بالنسبة لعمر صخور الأكاسيا الذى يبلغ البلايين، وهو خطأ لا يذكر.
صخور الأكاسيا هى أقدم صخور على سطح الأرض. لكنها تكونت عندما كان عمر الأرض 500 مليون سنة. الجيولوجيون يريدون هدية من السماء لمعرفة العمر الحقيقى للأرض. فى عام 1940م, بدأ العلماء دراسة نظائر الرصاص داخل الشهب التى تتساقط على الكرة الأرضية من السماء.
معظم الشهب تتكون من مزيج من نفايات الفضاء, عنما تكونت المجموعة الشمسية. وفى عام 1953م, قام عالم الجيولوجيا كلير باترسون, بمعهد التكنولوجيا بكاليفورنيا, بقياس اليورانيوم والرصاص فى الشهاب الذى تسبب فى الفجوة التى يبلغ طولها 1.2 كيلومترا، والموجودة فى ولاية أريزونا. لم يُوجد يورانيوم يذكر فى الشهاب. لأن كل الذرات كانت قد تحولت إلى رصاص. هذا الشهاب تكون مع بداية تكون المجموعة الشمسية, وظل يدور حول الشمس إلى أن سقط على الأرض.
أرضنا والشهب التى تسقط عليها، تكونت من نفس الخلطة البدائية. لكن كل منها به خليط من العناصر مختلفة، بما فى ذلك اليورانيوم والرصاص. بمقارنة كميات اليورانيوم والرصاص الموجودة فى الشهب بمثيلاتها الموجودة فى الصخور, أمكن لباترسون تحديد عمر الأرض ب4.55 بليون سنة.
لماذا هناك فجوة زمنية قدرها 500 مليون سنة بين عمر الأرض وعمر أقدم الصخور التى وجدت على سطح الأرض؟ لأن الأرض تدمر قشرتها لتكون صخور جديدة تحل محلها. رواسب تخرج من باطن الأرض لتضيف صخور جديدة فى جانب من جوانب الأرض, فيغوص جانب آخر إلى باطن الأرض ومعه حفرياته.
لا يستطيع اليورانيوم أن يدل على عمر كل الصخور. الزركون, هذه الساعة الممتازة, يوجد فقط فى حمم معينة من مخلفات البراكين. طريقة اليورانيوم والرصاص فى تحديد عمر الصخرة يعتبر عديم الفائدة بالنسبة للصخور الرسوبية. (وهى الصخور التى تتكون بسبب عوامل الترسيب والتفاعلات الكيميائية على سطح الأرض)
مشكلة أخرى, هى حاجة اليورانيوم إلى ملايين السنين لكى يتحول إلى كمية يمكن قياسها من الرصاص. الصخور التى تقدر أعمارها بآلاف السنين, والتى تتزامن مع عمر الإنسان على سطح الكرة الأرضية, لا يمكن تقدير عمرها بإستخدام اليورانيوم.
لحسن الحظ, وجد الجيولوجيون عشرات المواد المشعة الأخرى، التى تتطلب مدد أقصر من المدة التى يتطلبها اليورانيوم. لكى نحدد بدقة تاريخ البشرية, وجد العلماء نظير مشع آخر، نصف عمره يقدر ب 5700 سنة. هو الكربون14 الذى يستطيع أن يدلنا على الزمن حتى 40 ألف سنة.
يتكون الكربون14 المشع عندما تصطدم جسيمات الذرة المتساقطة من الفراغ الخارجى بذرات النيتروجين فى الغلاف الجوى للكرة الأرضية. هذا الكربون14 المشع، يتحول بمرور الوقت إلى نيتروجين ثانية، ويطلق أثناء التحول بعض الجسيمات.
الكائنات الحية، سواء نبات أو حيوان, تتنفس الهواء من الغلاف الجوى المحمل بالكربون14 المشع. هذا الكربون14 يجد طريقه إلى الخلايا الحية فى جسم الكائن الحى، جسمى وجسمك، وكل الأحياء التى تتنفس، وأجسام الكائنات الآخرى التى نتغذى عليها.
ما أن يموت هذا الكائن, فإن كمية الكربون المشع14 داخل جسمه لا تتجدد بالتنفس أو بالغذاء. وبذلك، تأخذ هذه الكمية المحدودة فى التحلل بمرور الوقت إلى نيتروجين. وبقياس الكربون المشع داخل خلايا الكائنات الميتة, يمكن معرفة الوقت الذى كانت تحيا فيه. هذه هى الطريقة التى قسنا بها عمر ممياء فرعون مصر العظيم رمسيس الثانى.
ساعات النظائر المشعة، ساعدت علماء البليونتولوجيا (العلم الذى يدرس حياة الحفريات فى العصور السالفة) على إعادة تنظيم تاريخ الكائنات بدقة. لم تكن هذه المعلومات متوافرة لدارون ورفاقه. وأفضل تقدير لعمر الحفائر فى ذلك الوقت، كان القول بأنها جاءت من عصر جيولوجى معين.
علماء البليونتولوجيا يعرفون الآن أن الحياة بدأت منذ أكثر من 3.85 بليون سنة. أقدم دليل على وجود حياة على سطح الكرة الأرضية, جاء من جنوب غرب ساحل جرينلاند.
وجد العلماء أن نسبة تواجد الكربون13 المشع إلى نسبة الكربون12, أقل فى الكربون العضوى الموجود فى الخشب والشعر, بالمقارنة بالكربون الغير عضوى المتسرب من البراكين. هذا ساعدهم فى معرفة هل الكربون الموجود فى الصخور كان بداخل كائن حى من قبل أم لا.
النباتات والحيوانات التى بها نسبة منخفضة من كربون13 إلى كربون12, بعد أن تموت وتتحلل فى التربة, تحملها الأمطار والسيول إلى البحر لتصبح صخور رسوبية. لذلك, فالصخور الرسوبية التى تكونت قبل ظهور الحياة، بها نسبة مرتفعة من الكربون13, بينما الصخور التى تكونت بعد ظهور الحياة, بها نسبة منخفضة من الكربون13.
فى عام 1996م, سافر فريق من العلماء الأمريكان والأستراليين إلى جنوب غرب جرينلاند حيث توجد أقدم الصخور الرسوبية على الأرض. إستخدم العلماء طريقة الزركون فوجدوا أن عمر الصخور 3.85 بليون سنة. ثم قاموا بقياس نسبة الكربون13 إلى نسبة الكربون12 فى نفس الصخور, فوجدوا أنها تطابق النسبة الموجود فى الأحياء اليوم. أى أن الحياة ظهرت, ربما فى صورتها البدائية, منذ 3.85 بليون سنة.
أقدم آثار متحجرة للباكتيريا ثبت أن عمرها 3.5 بليون سنة, أى 350 مليون سنة بعد أحياء جرينلاند. وفى عام 1990م, إكتشفت مجموعة من العلماء الأستراليين عن طريق النظائر المشعة, وجود آثار لمخلوقات تشبه الأميبا يرجع عمرها 2.7 بليون سنة.
لعدة بلايين من السنين, بقت الحياة على سطح الأرض فى صورتها البدائية. كائنات أحادية الخلية مثل الباكتيريا والميكروسوبات. لكن منذ 1.8 بليون سنة تقريبا, ظهرت أول حفريات لمخلوقات متعددة الخلايا, فى صورة أشكال حلزونية عجيبة طولها حوالى 2 سنتيمتر.
أقدم الكائنات متعددة الخلايا والتى أمكن التعرف على حفرياتها هى الطحالب الحمراء. فقد وجد أن عمرها يرجع إلى 1.2 بليون سنة. أما الحيوانات التى ننتسب إليها, فعمر حفرياتها 575 مليون سنة.
كلمة حيوانات هنا تعتبر كلمة عامة لهذه الكائنات. فأشكالها تشمل القرص الذى تزين أطرافه نتوءات. كل منها به ثلاثة شوكات. ومنها الذى يشبه عملة إمبراطورية غابرة. وهناك كائنات تشبه الأوراق، بها شقوق طولية. والكائنات القديمة التى تركت آثارا على قاع البحر، فى شكل بصمات أصابع ضخمة.
هذه الكائنات تسمى أحياء إيدياكاران, نسبة لتلال فى أستراليا بنفس الإسم، توجد بها هذه الكائنات بكثرة. فى الماضى كان علماء البليونتولوجى يصنفون هذه الكائنات مع النباتات. لكن الآن, كثير من الخبراء يعتقدون أنها أو بعضها ينتمى إلى مجموعة الحيوانات المعروفة بإسم الفيلا.
إلى جانب كائنات إيدياكاران, وجد العلماء فى صخور عمرها 550 مليون سنة, آثارا لحيوانات ذات جلد وأمعاء وعضلات تستطيع أن تحبو وتحفر. الحيوانات البدائية مثل قنديل البحر لا تتوافر لديها مثل هذه الأعضاء. الفرق بين الحيوانات البدائية, والحيوانات التى لها جلد وعضلات, يظهر أيضا فى تكوين الجنين.
جنين قنديل البحر يتكون من طبقتين, بينما الحيوانات الأخرى يتكون جنينها من ثلاث طبقات. أحدى هذه الطبقات الثلاث تسمى إكتوديرم وهى التى تتحول إلى الجلد و الأعصاب, والطبقة الثانية تكون العضلات والعظام, أما الطبقة الثالثة فتكون الأمعاء. تسمى الحيوانات ذات الطبقات الثلاثة بالترايبلوبلاست. الحيوانات التى وجدت آثارها فى الصخور التى يبلغ عمرها 550 مليون سنة, هى من حيوانات الطبقات الثلاثة.
فى عام 1998م, حقق علماء من أمريكا والصين تقدما كبيرا بإكتشافهم حفريات لمجموعة من الأجنة يبلغ عمرها 570 مليون سنة. بعضها به خلية واحدة مخصبة, وبعضها به خليتان, أى فى المرحلة الثانية من تكاثر الخلية. وأخرى بها أربعة خلايا, أى فى المرحلة الثالثة من التتكاثر. ومجموعة رابعة بها ثمانية خلايا, ثم خامسة بها 16 خلية, وهكذا. لم يعرف العلماء نوع الحيوانات التى تؤول إليها هذه الخلايا عندما تكبر, ولكنهم من شكل وحجم ونمط الإنقسام, إستطاعوا التكهن بأنها تخص الحيوانات ثلاثية الطبقات.
منذ 530 مليون سنة, حيوانات إدياكاران البدائية, أخذت تتناقص فى العدد إلى أن إختفت. وفى نفس الوقت, الحيوانات ثلاثية الطبقات أخذت فى التكاثر والإنتشار بشكل مهول. بين حفريات تلك الحقبة, تستطيع أن تجد وبصورة واضحة جدا, أقارب للعديد من الحيوانات التى تعيش اليوم. أسرة الحيوانات التى ننتمى إليها, لها حفريات تمثلها فى شكل سمكة.
أقارب الحيوانات الرخوية ذات الشكل الحلزونى التى تعيش الآن, تجد لها أقارب فى شكل الوسادة مرصعة برؤوس الحراب. وحيوانات غريبة أخرى مثل العربة الحربية التى تجرها الخيول. وتجد أيضا حيوان له خمس عيون تخرج من رأسه مثل عش الغراب. هذه الحيوانات تتحرك على قاع البحر بواسطة مخالب تنتهى بخراطيم للإمساك بالضحية وإرسالها للفم. وغيرها الكثير جدا.
تبين أن مخاوف دارون فى أيامه الأخيرة بالنسبة لعمر الأرض لم تكن مبررة. الآن يستطيع العلماء تحديد الزمن عن طريق قياس النظائر المشعة, والتعرف على أنواع الكائنات عن طريق دراسة حفرياتها. لقد بينوا أن العالم كان فى الواقع يحتشد بالحياة لعدة بلايين من السنين كما توقع دارون.
بدأت الحياة تحت سطح الماء. وبينما كانت المخلوقات تتكاثر تحت سطح الماء, كانت اليابسة خالية من الحياة إلا من البكتيريا التى كانت تغطى مساحات كبيرة من الأرض.
لكن لم يمض وقت جيولوجى كبير قبل إنتشار مخلوقات متعددة الخلايا على الشواطئ. أولا جاءت النباتات. منذ 500 مليون سنة مضت, بدأت الطحالب الخضراء تتطور لكى تلائم الحياة على شواطئ الأنهار بأن تكون لسطحها الخارجى طبقة عازلة لكى تحميها من الهواء.
منذ 450 مليون سنة مضت, بدأت كائنات متعددة الأرجل وكائنات لافقارية تجوب الشواطئ. ثم تطورت أنواع جديدة من النباتات استطاعت أن تصلب عودها وتقف فى الهواء. منذ 350 مليون سنة, بدأت الأشجار تظهر وتنمو لإرتفاع يصل إلى 60 قدم. من البرك والمستنقعات حبا أسلافنا، أول الفقاريات، إلى اليابسة. لكى يخطوا خطواتهم الأولى على الأرض.
بالنسبة لتاريخ الحياة على الكرة الأرضية, الإنتقال إلى اليابسة يمثل فترة زمنية قصيرة نسبيا. تسعة أعشار تطورنا تم تحت الماء. لكن من وجهة نظرنا, ما حدث فى المئات القليلة من ملايين السنيين الأخيرة هو الأغرب.
حفريات الفقاريات القديمة ثبت أنها قد إنقسمت إلى نسلين منذ 320 مليون سنة. أحدهما هو البرمائيات الذى أنتج حيوانات ضخمة لم يبق منها إلا الضفادع والسمندر وحيوانات أخرى صغيرة.
إنها تحتاج أن تظل مبلولة وتضع بيضا لين القشرة. الفرع الآخر, الأمنيوتس, وبيضته جدارها صلب. منها الديناصورات التى ظهرت منذ 250 مليون سنة مضت. وظلت تسيطر على اليابسة حتى 65 مليون سنة, عندما إنقرض معظمها.
لم يتبق منها الا الطيور اليوم. الطيور ماهى إلا ديناصورات صغيرة لها ريش. وبالرغم من أن الثدييات ظهرت مع الديناصورات, إلا أنها لم تسيطر على اليابسة, إلا بعد إختفاء الديناصورات.
أما بالنسبة للإنسان الهوموسيبين, فأقدم حفرية وجدت، كان عمرها 600 ألف سنة. كل البشر الذين يعيشون اليوم, يمكنهم تتبع أسلافهم إلى أصل واحد كان يعيش منذ 150 ألف سنة فقط.
تاريخ الحياة البشرية على سطح الكرة الأرضية يعتبر فترة قصيرة جدا إلى درجة مذهلة، بالنسبة لعمر الحياة نفسها. إذا كانت الأربعة بليون سنة، وهى عمر الحياة منذ نشأتها، يمكن تشبيهها بيوم من أيام الصيف, فإن ال200 ألف سنة التى ظهر خلالها الإنسان الحديث بما فيها ظهور اللغات والفنون والآداب والأديان والتجارة والزراعة, هذه الفترة تمثل غمضة عين وإنتباهتها.
zakariael@att.net
06/11/2014