مطبوعة الكترونية عربية مهتمة بموضوع المواطنة وتداول السلطة القانونى وحرية التعبير  فى العالم العربى  .. تصدر من الولايات المتحدة الأمريكية عن المركز الأمريكى للنشر الالكترونى .. والأراء الواردة تعبر عن وجهة نظر أصحابها.
............................................................................................................................................................

 
 

 النظافة من الإيمان
...............................................................

 بقلم : محمد زكريا توفيق
....................................

كنت فى زيارة لبلدى الحبيب مصر فى العام الماضى, للترويح عن النفس ورؤية الأهل والأصدقاء وقضاء بعض الأمور التى تستلزم وجودى ولا تُقضى بغيرى. فلا أجمل ولا أرق من أن نَلقى أصدقاء الشباب بعد طول غياب, ونرى رفاق الصبا عندما كانت الدنيا جميلة والمستقبل واعد والأمل مشرق بدون حدود. وها نحن قد كبرنا وكبر الزمان, وفرقتنا السنون والأيام فى كل بقاع الأرض, وأبعدتنا عن أهالينا وأحبابنا دون رحمة أو هوادة. ودفعتنا المقادير لكى نعيش غرباء , ولكن بإباء, عن أوطاننا جل عمرنا. وها نحن نلتقى بعد غيبة, فى أوطاننا كالغرباء لكى نستعيد الذكريات, فما أجل اللقاء.

لقد لاحظت أثناء زيارتى أن بلدى قد تغيرت تغيرا كبيرا. فلقد تركتها عندما كان المد الثورى والتحول الإشتراكى على أشدهما. وعندما كانت الجمعيات التعاونية الحكومية تبيع الفراخ البيضاء والسمك الروسى والحلاوة الطحينية. أما الآن فالسوبر ماركت والمَولات فى كل مكان.

 

إلقاء القمامة في الشوارع خطر يهدد البيئة

 


زمان كانت هناك محلات الفول المدمس والكشرى والقهاوى البلدى, أما الآن فمحلات ماكدونلاد وكنتاكى والكوفي شوب. وظهرت مدن جديدة ومنتجعات فريدة ومدارس بالعملة الصعبة للنخبة والمحظوظين. وأشياء أخرى تسر وتبعث الأمل فى النفوس لم تكن موجودة عندما غادرت مصر. ولكن الأشياء التى ساءتنى كثيرة. منها الفقر والبؤس والروتين والرشوة وسوء التعليم والزحام وفوضى المرور والتلوث وقانون الطوارئ وكبت الحريات السياسية, إلخ إلخ. وبالطبع الحديث عن الإيجابيات متروك للصحف القومية, أما الحديث عن السلبيات فيحتاج إلى مجلدات. لكننى هنا سوف أتحدث عن موضوع واحد فقط وهو موضوع النظافة والتلوث.

كنت عائدا بالسيارة من الإسكندرية إلى القاهرة عن طريق الطريق الزراعى. وعند مرورى بمدينة كفر الشيخ, وجدت الطريق يكاد تحجبه الرؤية من شدة الدخان الأسود المنتشر فى الجو. فظننت أن هناك حريقا قد إندلع , أو إنفجارا قد وقع. ولكن تبين أنه لا هذا ولا ذاك. فكمية الدخان هذه شئ طبيعى, بسبب وجود مصانع الطوب الطفلى الكثيرة فى مدخل البلد, بالإضافة إلى أن زبالة المدينة تلقى على جانبى الطريق, وتشعل فيها النيران للتخلص منها. وليت الأمر ينتهى عند هذا الحد, ولكن كان ذلك أوان حرق قش الأرز, الذى يقوم به الفلاحون للتخلص من الحشرات التى قد تنتقل إلى المحصول الجديد. ثم فوق كل ذلك السحابة السوداء, وقد كان ذلك أوانها, والتى تصيب الإنسان السليم بالربو, فما بالك بمن يعيشون فى المنطقة. كما أنى قد وجدت سكان مدينة كفر الشيخ, وجوه شاحبة وعيون غائرة وأجسام هزيلة ليس بينهم كبار السن. فمن منهم يستطيع بلوغ سن الكهولة فى بيئة مثل هذه.

لى قطعة أرض فضاء فى قريتى لها سور قديم متروكة منذ مدة طويلة. وبمرور الوقت, بدأ مستوى الشارع يرتفع شيئا فشيئا, وبالتالى بدأ ينخفض إرتفاع السور بالنسبة للشارع حتى صار فى متناول المارة. ولم يجد سكان المنطقة مكانا أفضل لرمى الزبالة والنفايات والطيور والحيوانات النافقة إلا من فوق السور داخل أرضى وأمامها. وعندما شاهدت الحالة على الطبيعة, أصبت بالهلع الشديد. فقمت على الفور بإستئجار جرار بمقطورة لنقل الزبالة من أرضى ومن أمامها. وهو عمل إستغرق 30 نقلة بتكلفة 20 جنيها للنقلة. وحمدت الله وإعتقدت أن الأمر إنتهى عند هذا الحد, ولكن وجدت سكان المنطقة مستمرين فى إلقاء الزبالة كما تعودوا فى أرضى. ونصحنى أهل الخير بتعلية السور حتى يكون فى منأى عن المارة وأهل الحى. وأحضرت البنا والطوب والرمل والأسمنت والذى منه. وتمت تعلية السور والحمد لله, ولكن الأهالى عندما وجدت السور مرتفع, صارت تلقى القمامة والحيوانات النافقة أمام البوابة وعلى جانبى السور.

لم أجد بدا من الشكوى لرئيس المدينة, وأشرت عليه بأن يضع صندوقا كبيرا فى المنطقة حتى يتعود السكان على إلقاء القمامه داخله. فأخبرنى أن الميزانية لا تسمح, وإذا كان ولابد, فيمكننى صنع صندوق على نفقتى الخاصة وإحضاره للمجلس لكى يضعه فى المنطقة. سعدت كثيرا بهذا الحل, وقمت على الفور بتكليف حداد بعمل صندوق كبير له أربعة أرجل, وضلفتان من أعلى لإلقاء الزبالة داخلة, وضلفتان جانبيتان لتفريغها, ثم تم طِلاؤه باللون الأخضر عدة مرات حتى يكون متعة للناظرين. وقد كلفنى هذا مبلغ 1000 جنيه لأن الحديد سعره غال والصندوق كبير. وإنتظرت من المجلس أن يضع الصندوق فى المنطقة كما إتفقنا, ولكن لم يحدث شئ. وبعد عدة زيارات لمجلس المدينة والعديد من المكالمات التليفونية, تبين أن أصحاب المحلات فى المنطقة قد قاموا بالشكوى وطالبوا عدم وضع صندوق القمامة, ومن ثم صرف مجلس المدينة النظر عن هذا الموضوع. فقمت بوضع الصندوق فى أرضى داخل الصور وإستعوضت الله فى المصاريف.

فهل إنتهى الأمر عند هذا الحد؟ لا, فقد فوجئت بالمُحضر يخطرنى بقضيتين, عقوبة أحدهما الحبس والغرامة, والثانية الغرامة فقط. القضية الأولى هى تعلية السور بدون ترخيص, والثانية هى إستخدام عمال فى بناء السور بدون دفع مستحقاتهم للتأمينات الإجتماعية. عند ذلك قمت بعمل توكيل لمحام للسير فى القضيتين ولزت بالفرار وأنا لا أصدق النجاه.

هذه البلدة التى لا يريد مجلس مدينتها وضع صندوق للقمامة فى الشارع, مع أنه لن يكلفهم شيئا, بها مستشفى كبير به مايزيد على 170 دكتور. أمام المستشفى طريق ثم ترعة صغيرة. ولم يجد مجلس المدينة مكانا لإلقاء زبالة البلد إلا فى الترعة وأمام المستشفى ولطول عدة كيلومترات. ثم يقومون بإشعال النار فى الزبالة الجديدة على أمل التخلص منها. وإذا مررت أما المستشفى فلا بد من قفل نوافذ السيارة وتشغيل التكييف حتى تعبر هذه المنطقة. أما المرضى, فمن لم يمت من الميكروبات والجراثيم والباكتيريا, بالتأكيد سوف يموت خنقا بالدخان.

شعرت يوما بالحنين لركوب القطار. فله عندى ذكريات جميلة, عندما كنت أركبه يوميا للذهاب إلى الجامعة. وظننت أن الجلوس بجوار النافذة سوف يجعلنى أحلم وأغرق فى التأمل مع النسيم العليل والسواقى والحقول والنخيل والطيور والزهور, كما كان العهد فى صباى. ولكن لم أجد سوى ماكينات الرى بأصواتها المزعجة, وأكوام الزبالة والحيوانات النافقة على جانبى شريط السكة الحديد, وعلى جانبى أى طريق تمر به فى مصر, بحرى أو قبلى. وحتى مدخل القاهرة, التى كانت عاصمة الشرق فى يوم من الأيام, هو أيضا لم ترحمه القذارة والزبالة.

وداخل المدن الكبيرة وأمام محلات الأكل والمطاعم والقصابين وبائعى الفاكهة, تجد الزبالة فى كل مكان. وحتى عيادات الأطباء فى المداخل وعلى السلالم, تجد الزبالة والقاذورات والأتربة.

وجدت صاحب محل يجلس بجلبابه المكوى الأبيض الناصع, الذى يدل على البراءة والطهارة, على كرسى أمام دكانه وهو يحتسى الشاى وقت العصارى. ولاحظت أمامه وعلى مسافة عبور الشارع, كلب ميت وأكوام من الزبالة والذباب والديدان والرائحة الكريهة التى لا تطاق. فإقتربت منه وسألته بغيظ, هل أنت سعيد بأكوام الزبالة التى أمامك هذه؟ فأجاب بكل ثقة وكأنه ليست لديه مشكلة: بتوع الزبالة بيجوا ياخدوها.

راقبت عمال النظافة وهى تجمع الزبالة من الشوارع, فوجدتهم يستخدمون أيديهم بدون قفازات واقية. يأخذون الناشف منها والذى يستطيعون حمله, وأما الناعم والمبلول فيتركوه للذباب والحشرات والفئران. وفئة عمال النظافة هذه فى منتهى البؤس, هياكل بشرية تعيش على حافة الوجود. وجدت أحدهم بعد أن قام بجمع الزبالة بيديه, قد ملأ كفيه بحفنة من تراب الشارع, ثم فركها ليزيل ما علق بهما من قازورات, ثم أحضر رغيفا وفرك به قرصين طعمية لكى يصنع ساندوتش, وقام بإلتهامه بشهية يحسد عليها. ثم حبس بكوب شاى وسيجارة كيلوبترا. آخر مزاج. وآخر بعد أن جرحت رجله لإرتطامها بحجر, بحث عن ورقة جرنال جافة فى أكوام الزبالة, ثم بصق على الجرح وقام بلصق الورقة عليه(أى والله هذا حدث أمامى). وعندما رأيت ذلك أصبت بالذهول, فإقتربت منه وطلبت أن يذهب إلى الصيدلية القريبة منا لشراء مطهر وقطن وشاش على نفقتى الخاصة, ولكنه رفض وقال مطهر وشاش إيه يا بيه: قول يا باسط.

ذهبت إلى بقال لشراء جبن منزوع الدسم. فأحضر لى صبى البقال, وكان يقوم بكنس المحل من الداخل, نصف كيلو جبن فى علبة بلاستيك. وعندما سألته للتأكد هل الجبن منزوع الدسم؟ نزع غطاء العلبة ورفع بإصبعه القذر قطعة من الجبن, وطلب منى أن أتذوقها. وعندما رأى ذهولى وترددى, وضع الجبن فى العلبة ثانية وقام بتسويته بإصبعه, لكى يعيده إلى وضعه الأصلى, ثم وضع العلبة على الرف وكأن شيئا لم يكن.

عند ذهابى للمسجد, أجد المراحيض فى حالة يرثى لها من القذارة وعدم الإعتناء, وليس بها صابون لغسل اليدين. وبعد قضاء الحاجة, يذهب الرجل إلى الصلاة ويختمها بمصافحة من بجواره. وفى صلاة الفجر تجد الناس تلهث مسرعة فى الشارع عند سماعها الآذان لكى تبادر بالوقوف فى الصف الأول , وهو كله بثوابه. ثم تخرج إلى الشارع وهى رافعة طرف جلبابها لكى تعبر مياة المجارى الطافحة.

وفى المنازل يشرب الناس من نفس الزجاجة. غير عابئين إذا كان أحدهم مريضا بمرض معد أو بإلتهاب فى الحلق أو الأسنان. وتشارك الأسر بالمعالق والشوك نفس الطبق. والخبز يوضع على الأرصفة وعلى الأرض حتى يبرد. وأشياء مثل ذلك كثيرة تدل على عدم الوعى الصحى عند الناس.

وإننى أتساءل, ما الذى نعلمه لأولادنا فى المدارس؟ وأين صفحات الإرشاد على أغلفة الكراريس والتى كانت تحض على النظافة وغسل اليدين قبل الأكل وبعده. وأين دور الإعلام ودور رجال الدين, فى توعية الإنسان البسيط الذى لم يحظ بنصيب كاف من التعليم والوعى, بدلا من سب الكفار وطلب غض الأبصار والدروس التقليدية المكررة التى لم تتغير منذ ظهور الإسلام. ألسنا مسئولين عن إخواننا البسطاء الغلابة هؤلاء لإرشادهم والعناية بهم.

أكوام القمامة تراكمت فى محافظة الجيزة

الذبابة المنزلية الواحدة منذ بداية الصيف وحتى نهايته, تنجب هى وذريتها ما يقرب من 250 مليون ذبابة. تتغذى على أكوام الزبالة الملقاه فى شوارعنا وطرقاتنا, ثم تهبط على الطعام المكشوف فى منازلنا, لتفرغ ما فى بطنها لكى تفسح مكانا للطعام الجديد. وبذلك يكون المسرح مستعدا لإنتشار وباء كبير لا يبقى ولا يذر فى هذا البلد المنكوب, مثل الطاعون أو الكوليرا أوالتيفود أو ما شابه. وبهذه الأوضاع, تكون المسألة مسألة وقت فقط. وكل ما أخشاه, هو أن يكون قضاء الله قد وقع, قبل أن يتنبه السادة المسئولين, الذين دأبوا على الإستيقاظ بعد فوات الأوان.

والغريب أن تراثنا الإسلامى يجعل النظافة واجبة وشرطا من شروط العبادة. مطلوبة من المرء خمس مرات فى اليوم. وتعاليم قدماء المصريين كانت تطلب النظافة وتغالى فيها, إلى الدرجة التى جعلتهم يكتبون على جدار معابدهم وفى كتاب الموتى أن المصري عليه وهو واقف يوم الحساب أن ينفى أم الكبائر ويقول: " أنا لم ألوث النهر". فهل هناك أمل فى إقناع الناس والمسئولين فى بلادنا بفوائد النظافة, أم هى مسألة أخلاق وتربية وثقافة؟

zakariael@att.net

 

.....................................................................................

 


 

 
 



مطبوعة تصدر
 عن المركز الأمريكى
 للنشر الالكترونى

 رئيس التحرير : غريب المنسى

مدير التحرير : مسعد غنيم

 

الأعمدة الثابته

 

 
      صفحة الحوادث    
  من الشرق والغرب 
مختارات المراقب العام

 

موضوعات مهمة  جدا


اعرف بلدك
الصراع الطائفى فى مصر
  نصوص معاهدة السلام  

 

منوعات


رؤساء مصر
من نحن
حقوق النشر
 هيئة التحرير
خريطة الموقع


الصفحة الرئيسية