نظرية التطور لدارون (3)
...............................................................
بقلم: محمد زكريا توفيق
............................
كان تشارلز دارون على وعى كبير بمدى خطورة نظريته فى التطور. لا لأن نظريته تقول بأن الكائنات الحية تتطور مع الزمن بتغير البيئة والمناخ, ولكن لأن سبب وأسلوب التطور الذى تقترحه نظريته يتعارض مع كل معتقاد الديانة المسيحية التى كانت منتشرة فى عصره.
فى كراسة مدوناته, كان دارون يذّكر نفسه بالمصير المحزن الذى ينتظر العلماء الخارجون عن الخط المألوف للعقيدة, والذين يقولون كلاما يتعارض مع المعتقدات الدينية. فمن منا يجرؤ على القول بأن الأرض كروية, إذا كان الإعتقاد بأنها منبسطة ومفلطحة كل التفلطح. هناك من يؤمن حتى اليوم بتسطيح الأرض وفلطحتها, سواء فى بلادنا أو فى الغرب. وهنا فى الولايات المتحدة جمعية لها موقع على الإنترنت, ترفض كروية الأرض وتجزم بتسطيحها وإنباساطها فى كل الإتجاهات.
لم يكن دارون ليخاف العقاب المادى أو الجسمانى. فشخصيته الطيبة الوديعة ودماثة خلقه, كانت كفيلة بسبر غور الحماية الجسدية والمادية له. لكن سبب القلق والخوف كان بسبب ما صادفه, منذ سنوات قليلة مضت, العالم روبرت تشامبرز عندما نشر كتابه "آثار التاريخ الطبيعى للخلق".
من الخطأ الشائع أن دارون قد أمضى حياته كلها ملحدا, لا ينتمى إلى أية عقيدة دينية يمكن أن تتعارض مع أفكاره. إلا أنه منذ أن وضع رجليه على متن السفينة بيجل, لم يكن يخلو تماما من العقيدة الدينية, إلا فى العشرين سنة الأخيرة.
كان دارون غير واثق من تقبل العلماء الآخرين لنظريته فى التطور. فقد كان يعلم أنه ما لم تكن نظريته مدعمة بالملاحظات والدلائل المادية القوية, فنظريته لا شئ سوى مجرد مجموعة فروض نظرية. وبالتالى لن يكون لها إحترام من قبل المحافل العلمية.
كان يعلم أيضا أن التطور لا يمكن مشاهدته مباشرة بالعين المجردة, لكن يمكن إستنتاجه من شواهد أخرى بطرق غير مباشرة. لذلك لجأ إلى جمع أكبر عدد من الشواهد والدلائل المادية التى يمكن عن طريقها إستنتاج حدوث التطور.
هذا عمل جبار, إستغرق منه مايزيد على العشرين عاما. تيقن دارون أيضا أن نظريته سوف تواجه بالعديد من النقد والتجريح, ما لم يكن فى مقدوره الدفاع عنها وتفنيد الإنتقادات الموجهة إليها.
مثلا, نظرية التطور عن طريق الإرتقاء الطبيعى, تفترض وجود التبائن العشوائى بين الأفراد(الأفراد تختلف عن بعضها فى الصفات والملكات). وتفترض أيضا, الميل الغير محدود إلى ترك صيغة الآباء(الأبناء تختلف عن الآباء).
بالرغم من وجود العديد من الشواهد التى تدعم هذه الفروض, إلا أن دارون كان عليه أن يبين السبب فى حدوث هذه الفروض. لا يكفى أن نثبت ما قد حدث, ولكن علينا أن نوضح كيف ولماذ حدث.
هذا هو الفرق بين العقل الغربى والعقل الشرقى اليوم. العقل الغربى يريد أن يعرف لماذا, لماذا يعمل الكمبيوتر بهذه الطريقة ولا يعمل بطريقة أخرى سواها؟ بينما العقل الشرقى يكتفى بكيف. كيف يعمل الكمبيوتر؟ ولا يجهد نفسه أكثر من ذلك. ويسمى هذا علما.
استمر دارون يعمل فى منزله الريفى خارج مدينة لندن فى هدوء. واستمر فى جمع البيانات والأدلة لتدعيم نظريته التى وضع خطوطها العريضة عام 1844م. لكن ما قام بنشره حتى الآن لا يشير إلى نظرية التطور من قريب أو بعيد.
فى عام 1846م, قام بنشر دراسته عن جيولوجية أمريكا الجنوبية. الثمانى سنوات التالية قام بتكريسها لدراسة البراقيل (حيوانات تنتمى لمجموعة الجمبرى والسرطانات البحرية).
شاهد دارون إبنته آن, أقرب أبنائه إلى قلبه, وهى تنازع مرض الإنفلونزا, ثم وفاتها بين يديه عم 1851م عن عمر لم يتجاوز العشر سنوات, مما أفقده الثقة فى الدين والملائكة. بعد وفاة إبنته, لم يستطع مناقشة إيمانه المزعزع مع زوجته إيما.
مع الخوف والتعب والحزن بسبب وفاة ابنته, كان دارون مسحورا بالبراقيل. لقد تبين له أنها المجموعة المثالية من الحيوانات التى تبين كيف حدث التطور.
كان فى مقدور دارون أن يرى كيف تطورت أنوع البراقيل التى جمعها من سواحل شيلى, والتى تشمل نوعى الذكر والأنثى, من الأنواع الشائعة الخنثاء التى لها جنس واحد, عن طريق التحول إلى أنواع وسيطة أخرى. وكان دارون مندهشا لكثرة عدد أنواع البراقيل التى تختلف فى تركيبة أجسامها.
هنا تحقق دارون أنه أمام معين لا ينضب من الحيوانات الخام التى تعمل فيها قوانين الإختيار الطبيعى. فى البداية, كان يعتقد أن الإختيار الطبيعى يعمل فى أوقات معينة, مثل بداية ظهور المد أو الجزر, أو عند غرقها تحت سطح الماء. لكن كثرة أنواع البراقيل, جعلته يعتقد أن قوى الإختيار الطبيعى تعمل طول الوقت للتحول من نوع إلى آخر.
هذه الأفكار لم تر النور فى كتابات دارون عن البراقيل التى بلغت الألف مدون, والتى بسببها, إكتسب دارون المديح والجوائز والإحترام الذى يسعى إليه كواحد من أفضل علماء التاريخ الطبيعى. فى عام 1854م, كان مستعدا للخروج من عزلته, ومعاودة التفكير فى نظريته, نظرية الإختيار الطبيعى التى تفسر كيف يحدث التطور بين الكائنات.
فى مايو عام 1856م, شرع دارون فى كتابة كتاب آخر, إختار له فى البداية عنوان "الإختيار الطبيعى". وفى شهر أكتوبر من نفس العام, كان قد أتم فصلين من الكتاب عن تنوع الكائنات. وفى بداية السنة التالية, أتم فصل آخر عن التغيرات الطبيعية. وفى شهر مارس, أتم الفصل الخاص بالصراع لأجل البقاء. وفى منتصف عام 1857م, كان منهكا يشعر بأحد نوبات المرض, فتوقف عن إكمال كتابه.
فى 18 يونية عام 1858م, تلقى دارون رسالة بريدية مفزعة من شاب يدرس التاريخ الطبيعى إسمه "ألفريد رسل والاس", الذى كان يعمل لسنين عديدة فى جزر الأرخبيل بملاى الأندونيسية.
كان والاس يطلب رأى دارون فى بحثه الذى قام بتلخيصه فى رسالته لدارون. قال فيه أنه يرى أن الإختيار الطبيعى يلعب دورا أساسيا فى تغيير شكل المخلوقات الحية.
صعق دارون عندما قرأ الخطاب, وكتب فى الحال رسالة إلى العالم الجيولوجى المشهور "ليل" يخبره فيها بأنه محبط. قائلا: "لقد توصل والاس إلى ما قد توصلت إلية طوال عمرى, ويستخدم نفس التعبيرات التى أستخدمها كعناوين لدراستى."
كان دارون فى حيرة من أمره. هل يقوم بنشر دراسته عن التطور أم لا. وكان يقول: "أنا أفضل أن أقوم بحرق كتابى عن التطور, على أن يعتقد أحد, والاس أو غيره, أننى قد تصرفت بطريقة غير أخلاقية. لكن كلا من "ليل" و "هوكر", كانا من رأيهما أن يقوم دارون بنشر نظريته بالرغم من خطاب والاس. لكن دارون رفض الإنفراد بنسبة الفضل إلى نفسه, وقرر إشراك والاس معه. وهذا أمر يدل على نبل أخلاق دارون.
فى أول يوليو عام 1858م, قام دارون ووالاس بنشر مقال علمى مشترك فى جريدة علمية عن تنوع الكائنات ومواءمتها للبيئة عن طريق الإختيار الطبيعى.
يخبرنا التاريخ أن رواد الحضارة والعلوم, كانوا أبطالا منبوذين ومكروهين فى وقتهم. لكن كان يأتى معهم ثلاثة حقائق:
- قوة الإقناع التى يأتوا بها, كانت تستقطب بعض الأصدقاء المهمين.
- تنوع الأفكار العلمية يجعل عدد المؤيدين للفكر الجديد لا يستهان به.
- الثورات العلمية يسبقها دائما فترة طويلة من التعارض والشك بالنسبة للنظريات القديمة. وعندما تظهر النظرية الجديدة على السطح, فإنها تقابل بالترحاب.
لذلك, عندما ظهر كتاب أصل الأنواع الذى يشرح فيه دارون نظريته فى النشوء والإرتقاء, قوبل بالحماس والرضا من علماء مهمين فى بريطانيا العظمى. توماس هكسلى, لام نفسه لأنه لم يكتشف النظرية بنفسه. والاس, كما رأينا, سبق هكسلى وفكر فيها. هوكر الذى كان يؤمن بعمق فى نظرية الخلق الذكى وثبوت الخلق, تحول فورا إلى نظرية التطور بعد قراءته لكتاب أصل الأنواع.
بعد سنوات قليلة, كانت نسبة المؤيدين لنظرية التطور لدارون فى تزايد مستمر. بالرغم من أن أسباب التطور كما عرضها دارون كان يشوبها قليل من الشك.
بالطبع كانت هناك معارضة شديد لنظرية التطور لدارون. بعض المعارضة كانت أقل مصداقية من الأخرى لأسباب مختلفة. لذلك لم تستطع التوحد فى معارضة قوية. مثل حال أحزاب المعارضة فى بلادنا اليوم. الجهلة بالأمور البيولوجية لم يستطيعوا نقدها بطريقة علمية.
فى شتاء عام 1860م, عندما كانت إنجلترا تقبع تحت وابل من العواصف الثلجية, جلس آلاف الناس بجوار الدفايات يقرأون كتاب أصل الأنواع لدارون. 1250 نسخة من أول طبعة, نفذت من الأسواق فى يوم واحد. وفى شهر يناير, طبعت 3000 نسخة أخرى.
أرسل هكسلى, عالم الفسيولوجيا والجيولوجيا وأشد أعوان دارون والمدافعين عن نظريته, كلمات إطراء إلى دارون, ومعها تحذير بأنه هناك بوادر معركة تلوح فى الأفق. "إننى أشحذ أظافرى وأسنانى إستعدادا لهذه المعركة." وكتبت الصحف مقالات مختصرة عن كتاب أصل الأنواع. لكن الدوريات العلمية البريطانية كانت قد قدمت نقدا شديدا. بعضها مؤيد, وغالبيتها معارض. هكسلى وعلماء آخرون قاموا بتأييد دارون فى كل ما كتبه. بينما غالبية الدوريات رأت فى الكتاب تجديف وكفر. وجاء فى النشرة الدورية الربع سنوية, أن نظرية دارون تتعارض مع علاقة الخالق بمخلوقاته, ولا تستقيم مع كمال قدرته.
النشرة الدورية التى أغضبت دارون أكثر من غيرها, هى نشرة إيدينبرا عام 1860م. فالنقد الذى جاء بها لم يكن موقعا. لكن كان من السهل إستنتاج أنه أسلوب "ريتشارد أوين" عالم البيلوجيا. الذى كان يكن عداء شديدا لدارون. فقد وصف أوين كتاب دارون "أصل الأنواع", بأنه مسبة للعلوم. وكان يحتج بأن دارون ورفاقه يتسمون بالمادية العمياء. ويدعون أن الإختيار الطبيعى هو الطريق الوحيد الممكن للخلق. بينما هناك طرق أخرى للخلق لا تتعارض مع الكتاب المقدس.
ومع ذلك, فعل دارون ما لم يستطعه أوين. فبينما كان يحاول أوين التوليف بين الإكتشافات الحديثة فى علم البيولوجيا والكتاب المقدس, نجده قد إنتهى إلى مفاهيم غامضة. مثل ما يسمى بالنموذج الأصلى وإستمرارية الخلق. أما دارون, فقد أمكنه بسهولة تفسير التشابه بين الأنواع, بنظريته التى تعمل فى كل زمان وكل مكان بدون تعارض.
كتب أوين نقده بدافع الغضب من دارون وهكسلى. فلقد كان هكسلى يزدرى أوين فى محاضراته التى كان يلقيها على الملأ, وينتقده بمرارة. وكان يبغضه لسببين: السبب الأول, لإنتمائه للعلماء الأرستقراطيين. بينما هكسلى, عالم من أصل متواضع ينتمى لعامة الشعب. والسبب الآخر, أن هكسلى يرى أن أوين يمثل العلم الردئ. ولقد نعت هكسلى نظرية أوين, "النموذج الأصلى", بأنها كلام فارغ.
كان أوين غاضبا من معارضيه إلى الدرجة التى جعلته يقول فى أحد محاضراته للعامة, موجها كلامه إلى هكسلى وكان حاضرا, " أى واحد لا يستطيع أن يرى تسلسل الحفريات المسجلة عبر الزمن على أنها عمل إلهى, لا بد أن يكون معاقا عقليا."
الحرب الضروس بين هكسلى وأوين بدأت تهدأ بعض الشئ قبيل نشر كتاب أصل الأنواع لدارون. وكان أوين يحاول فى تلك الفترة إثبات أن أصل الإنسان يختلف عن باقى الحيوانات. فقد سبق أن قام عام 1850م بتشريح قرود إنسان الغابة, وقرود الشمبانزى, والغوريلا لدراسة هياكلها العظمية. وبذل أوين جهدا كبيرا للبحث عن شئ يميز الإنسان عن هذه الحيوانات. وكان يقول: "إذا لم نكن سوى نوع آخر من القرود, فما تبقى لنا من كرامة وكبرياء؟"
الذى يجعل الإنسان يتميز تميزا كبيرا عن باقى الحيوانات, هو قدرتنا العقلية. وقدرتنا على الكلام والإستنتاج. لذلك فحص أوين مخ القرود للبحث عن هذا الفرق. وفى عام 1857م, إدعى أوين أنه وجد ضالته. فنصفى كرة المخ فى الإنسان يمتدان كثيرا إلى الخلف مكونان فصا ثالثا. أسماه أوين القرين. هذا القرين, وهو خاص بالإنسان, كفيل بأن يضع الإنسان فى مكان خاص به. إذن, مخ الإنسان يختلف عن مخ الشمبانزى. ومخ الشمبانزى يختلف عن مخ حيوان منقار البطة (البلاتيبوس). (وهو حيوان له منقار بطة, والحيوان الوحيد الذى يبيض ولا يلد.)
إشتبه هكسلى فى أن أوين قد خدع بدراسة أمخاخ حيوانات لم تحفظ جيدا. وبنى تصنيفه على خطأ جسيم. فيقول هكسلى:
"فى الواقع, مخ الإنسان لا يختلف كثيرا عن مخ الغوريلا. ومخ الغوريلا لا يختلف كثيرا عن مخ قرد البابون. ولست أنا الذى يحاول النيل من كرامة الإنسان وجعلها رهنا بوجود شبه بين الإنسان والقرود. لكن أحاول وأبذل ما فى وسعى كى أمحو غرور الإنسان هذا."
نقد أوين العنيف لنظرية أصل الأنواع لدارون, رفعت درجة حرارة التوتر بين أوين وهكسلى أكثر من قبل. وبعد شهور قليلة, إنفجرت عداوتهما فى عام 1860م. وعندما عقدت رابطة تقدم العلوم البريطانية إجتماعها السنوى فى إكسفورد, الذى حضره آلاف المدعوين, ألقى أوين, رئيس الرابطة, كلمته. شارحا مرة أخرى كيف يختلف مخ الإنسان عن مخ القرد.
لكن هكسلى جلس متربصا له. وعند نهاية كلمتة, وقف هكسلى وأعلن أنه لتوه قد وصله خطاب من عالم تشريح إسكتلندى مشهور, قام بتشريح مخ قرود الشمبانزى, فوجد أن مخ الشمبانزى يشبه إلى حد كبير مخ الإنسان, بما فى ذلك الفص الثالث المسمى البطين. ولم يجد أوين بدا من الدفاع عن نفسه, وسط هذا الحشد الغفير من العلماء. ويبدو أن هكسلى قد إختار أفضل مكان لمهاجمة وإلحاق الخزى بغريمه أوين.
بعد كسب معركة مخ الإنسان, عزم هكسلى على مغادرة أكسفورد اليوم التالى. لكن تشامبرز مؤلف كتاب الآثار, نصحه بالإنتظار للدفاع عن دارون. لأنه قد نما إلى علمه أن الأسقف صامويل ويلبرفورس, سوف يهاجم دارون. فالأسقف له وزن دينى كبير. ولسنوات عديدة, يقف ضد فكرة التطور بصفة عامة. وسبق له عام 1844م, أن هاجم كتاب الآثار الذى تعرض لمناقشة التطور. وإتهمه بأنه مجرد تخمينات غبية.
لذلك كان من المتوقع الا تختلف وجهة نظره فى كتاب دارون عن ذلك. وكان أوين يحل فى ضيافة الأسقف أثناء وجوده فى أكسفورد. وبالتالى كان يوحى إليه بالمعلومات التى سوف تساعده فى شجب أفكار دارون, عندما يقوم الأسقف بإلقاء كلمته.
إفتتح أوين المؤتمر فى اليوم التالى. وأمام حشد غفير من العلماء يملأ الصالة الكبيرة, قال أوين: "دعونا نهب أنفسنا على الدوام جادين لقضية البحث العلمى. واثقين أن الممارسة تشحذ الذهن, وتجعلنا أكثر كفاءة. فكلما كنا أكثر قدرة, كلما كنا أكثر ملاءمة للتقرب إلى الله."
ألقى متحث آخر محاضرة عن تطور الثقافة الأوربية فى ضوء أفكار دارون. وكانت فاترة وطويلة ومملة وذات أسباب واهية. وبالرغم من ذلك لم يغادر الحاضرون القاعة, لأنهم كانوا فى إنتظار سماع الأسقف.
وقف الأسقف ويلبرفورس, وكان قد نشر نقدا لكتاب دارون فى أحد الدوريات. فأعاد بعض ما كتبه فى نقده أمام الحاضرين. ولم يذكر أن الإنجيل يجب أن يكون آلية للحكم على العلوم. لكنه قال فى الماضى فى كتاباته أن: "الأخطاء العلمية التى جاءت فى نظرية دارون, ليست أخطاء بسيطة, وخصوصا عندما تحد من قدرة الرب فى خلقه. فلقد أخطأ دارون, وكتابه بنى على إفتراضات شاطحة بدون أية دلائل واضحة. فحجته مبنية على فكرة الإختيار الطبيعى, التى لم يكتشف أحد دليلا على صحتها."
وبدلا من تكرار ما قاله فى كتاباته السابقة, كرر أمام الحاضرين بعض أفكار أوين التى تقول أن: "كل المخلوقات هى تعبير بالمادة عن أفكار أبدية وجدت فى عقل الخالق. هذا النظام التام وعلاقاته الكاملة, التى تنتشر بين مخلوقاته, وجدت أولا عند أعظم عقل. عقل رب الجميع." وعندما أنهى خطابه, نظر إلى هكسلى وقال ساخرا: "أى جانب من أجدادك قد إنحدر من القرود." لكن هكسلى هب واقفا متحديا الأسقف ومجيبا على سؤاله قائلا:
"لم يقل الأسقف شيئا جديدا, فيما عدا سؤاله عن أجدادى. وإذا سألنى شخص ما عما إذا كنت أفضل أن يكون جدى من سلالة بائسة من القرود, أو يكون جدى رجل موهوب بالفطرة ويمتلك الكثير من الأموال والنفوذ, إلا أنه يستخدم هذه الملكات وهذا النفوذ, لإقحام التهكم والسخرية فى مناقشات علمية خطيرة. أقول للسائل أننى أفضل بدون أى تردد أن يكون جدى من القرود."
ضجت القاعة بالضحك المتواصل, إلا أن وقف رجل بشعر شايب وأنف رومانى وسط الحاضرين ينتفض غضبا. هو الكابتن فيتزروى ربان السفينة بيجل التى كان عليها دارون أثناء دراسته للتطور.
لم تكن العلاقة بين دارون وفيتزروى على ما يرام خلال السنوات الماضية. فالكابتن كان يعتقد أن كتاب دارون عن رحلة السفينة بيجل, يفخم الذات ويخلو من الإشارة إلى جهود الكابتن وبحارته, فى مساعدة دارون أثناء رحلته. وبالرغم من أن فيتزروى كانت له دراية متواضعة بعلوم جيولوجية قديمة, إلا أنه عاد وتفرغ لدراسة الإنجيل. وفى كتابه الخاص برحلة السفينة بيجل, حاول فيتزروى أن يفسر كل ما رآه وجمعه هو ودارون, فى ضوء حدوث فيضان نوح. ولقد فزع عندما وجد أن دارون يتجه إلى الإلحاد, ليس بإنكاره حدوث الفيضان فقط, وإنما بإنكاره عمل الرب أيضا.
جاء الكابتن إلى أكسفورد لإلقاء محاضرته عن العواصف. وعندما إنتهى هكسلى من الرد على الأسقف, وقف الكابتن فيتزروى ليقول, كيف أنه كان فزعا عندما وجد أن دارون يتبنى أفكارا تتعارض مع الإنجيل. ثم أعلن أن قراءة كتاب أصل الأنواع سببت له ألم حاد. ثم رفع فيتزروى كلتا يديه فوق رأسه حاملا الإنجيل, سائلا الحضور الإيمان بالرب وليس بالإنسان. وهنا عج المكان بالصراخ طالبين منه الجلوس.
جاء الآن دور جوزيف هوكر عالم البيولوجيا وأحد مؤيدى دارون, لإلقاء محاضرته. صعد هوكر إلى المنصة, وقام بمهاجمة الأسقف ويلبرفورس. وإتهمه بأحد أمرين: إما أنه لم يقرأ كتاب أصل الأنواع لدارون, أو أنه جاهل تماما بمبادئ علم البيولوجيا. وفى النهاية, إنتهى المؤتمر لصالح دارون. وأصبح هو سيد الموقف.
لم يحضر دارون مؤتمر إكسفورد. وكان قد بلغ الخمسين من عمره, ويعيش فى شبه عزلة. بينما كان هكسلى وهوكر يقومان بالدفاع عنه فى أكسفورد, كان هو فى ريتشموند يعالج من مرضه المزمن. وهناك كان يقرأ رسائل الأصدقاء التى تصف له ما دار فى المؤتمر. وكان يقول: " إننى أفضل أن أموت على أن أرد على هجوم الأسقف على كتابى فى محفل مثل هذا."
أصبح مؤتمر أكسفور بسرعة مؤتمرا أسطوريا. واعتقد الأسقف أنه ربح المناظرة. بينما هكسلى وهوكر, إعتقدا بأنهما قد أصابا الأسقف فى مقتل. وبقدوم عام 1870م, كان معظم العلماء الجادين فى بريطانيا يقرون بحدوث التطور بين الكائنات. إلا أنهم كانوا يتحاورون ويختلفون فى كيفية حدوث هذا التطور. وبعد وفاة دارون, دفن فى "وست مينستر" بجوار قبر نيوتن. ويقف تمثاله الآن فى متحف التاريخ الطبيعى بلندن. شاهدا على عظمته ومكانته الرفيعة بين العلماء.
كانت هناك أربع إعتراضات هامة بالنسبة لنظرية دارون عند صدورها. الأولى جاءت من عالم الحيوان جورج ميفارت. فهو يقول أن نظرية الإنتخاب الطبيعى ربما تفسر سبب تأقلم الكائنات فى بيئتها الجديدة. لكنها لا تفسر المراحل الأولى لتكوين العضو الجديد. فمثلا كيف بدأت العين تتكون من لا عين؟
فى البداية, ربما كانت العين عبارة عن نتوء صغير عديم الفائدة. لكى تتحول إلى عين, لابد أن يكون هناك علم مسبق هو الذى تسبب فى هذا النتوء.
لكن دارون يقول بأن هذا النتوء ربما كانت له فائدة أخرى غير النظر. ثم تحول إلى وظيفة أخرى تحت تأثير التطور. التراكم للمزايا الصغيرة المكتسبة عشوائيا, قد تبدأ مفيدة لشئ معين, ثم تنتهى بكونها مفيدة لشئ آخر. ربما تكون العين قد بدأت كعازل للحرارة أو للأشعة الحارقة لحماية الكائن, ثم تحولت إلى خلايا حساسة للضوء. الريش فى الطيور ربما يكون قد بدأ لهدف آخر, ثم تحول إلى ميزة تصلح للطيران.
الإعتراض الثانى قد أتى من وجود ثغرات زمنية كبيرة فى بقايا الكائنات المتحجرة. وكان دارون يقول أن هذه البقايا كانت موجودة ولكنها فقدت لسبب ما. وكان مقتنعا بأن مواصلة الفحر والتنقيب سوف تكتشف بقايا حجرية تملأ هذه الفجوات.
لكن هذا لم يحدث. وبذلك يكون دارون قد فشل فى تبرير وجود هذه الفجوات الزمنية. الآن لدينا شواهد كثيرة تدل على أن بعض الكائنات كانت مستقرة لا تتغير لمدة زمنية كبيرة, ثم إنقرضت فجأة ليحل محلها مخلوقات أخرى.
بالطبع أصحاب الخلق الذكى, تلقفوا هذه المعلومات لكى يشككوا فى نظرية دارون. ولكى يثبتوا أن الخلق الذكى كان قد تم على فترات متباعدة. لكن علماء البيولوجيا, ترفض هذا الرأى. وتقول أن التغير حقيقة يحدث بالتدريج وبإستمرار كما يقول دارون, لكن يحدث أيضا معه تغيرات مباغتة وفجائية للمخلوقات ينتج عنها ظهور أنواع جديدة وإنقراض أنواع تالدة.
الإعتراض الثالث يقول بأن التغير التدريجى الذى تقوله نظرية دارون, يحتاج إلى حقبات زمنية طويلة جدا. هذا الفرض تعارض مع عمر الأرض كما قدره عالم الفيزياء كلفن فى ذلك الوقت. فقد قام كلفن بحساب عمر الأرض عن طريق قياس درجة حرارة باطنها وقياس حرارة سطحها. وجاءت حساباته تقول بأن الأرض شابة فى مقتبل العمر. عمرها القصير لا يسمح بالتغير التدريجى الذى يقترحه دارون.
كان دارون على حق, عندما شكك فى حسابات عالم الفيزياء كلفن لعمر الأرض. ولو عاش دارون مدة أطول, لتيقن أن عمر الأرض أطول بكثير من العمر الذى كان يعتقده.
الإعتراض الرابع, يأتى من جهل العلماء بأمور الوراثة البيولوجية. ولم تكن لدي دارون المعلومات الكافية لكى يدافع عن إعتراضات العالم الإسكتلندى فليمنج جينكن عام 1867م, عندما زعم مخطئنا, أن الصفات المكتسبة المميزة, سرعان ما تذوب, عن طريق التزاوج, فى بودقة صفات المجموع وتختفى.
كان يعتقد جينكن أن العوامل الوراثية تنقسم إلى أجزاء صغيرة لا نهائية. وبذلك يمكنها أن تذوب فى المجموع وتختفى. المضحك أنه فى نفس الوقت الذى كان يهاجم فيه دارون بسبب عوامل الوراثة هذه, كان الراهب التشيكى مندل يقوم بدراسة عوامل الوراثة بإستخدام نبات البازلاء.
بعد أقل من عام واحد, من هجوم جينكن, قام ميندل بنشر أبحاثة التى يثبت أن العامل الوراثى لا ينقسم أو يتجزأ. العامل الوراثى إما موجود أو غير موجود. العيون الخضراء للأم, إما تكون موجودة فى الأبناء أو غير موجودة. لكن لا تمتزج مع غيرها وتتحول إلى عيون صفراء أو رمادى.
بسبب هجوم كلفن (عمر الأرض القصير), وجينكن(عامل الوراثة الذى يذوب), بدأ دارون يفقد ثقته فى مبدأ الإختيار الطبيعى. وحاول إدخال عامل جديد يسرع من عملية التطور. لكن ثبتت الدراسات الحديثة أنه لم يكن فى حاجة إلى ذلك. فالأرض عجوز شمطاء يقدر عمرها ب 4.8 بليون سنة. وهى مدة أكثر من كافية لحدوث التطور كما يراه دارون. كما أن عوامل الوراثة ثبت أنها لا تتجزأ أوتذوب فى المجموع.
يمكن أن نقول أن التطور لا يحدث, وأنها نظرية قد ألفها الشيطان نفسه, كما يقول رجال الكنيسة ومشايخنا الكرام. ويمكن أن نناصب العداء وننصب المشانق لمن يخالفنا الرأى, نستبيح دمه وعرضه وماله وعياله. فنحن أحرار نفعل ما نريد. لكن ما هو الثمن؟
لم تعد الأدوية عبارة عن سفوف, وشربة زيت خروع, ولبخة ردة, وحقن شرجية. لكنها أصبحت مضاضات حيوية وعقاقير فى غاية التعقيد والتركيب. تعتمد على هندسة جينات متقدمة جدا. إذا لم نفهم نظرية التطور بعمق, وكذلك الأبحاث الجديدة الخاصة بها وبالجينات وتركيبة الحامض النووى, فكيف نصنع الأدوية ونعالج مرضانا ونحمى شعوبنا من الأوبئة والحروب الكيميائية لا قدر الله.
كيف نقاوم الحشرات, وكيف نزيد من إنتاجية الأرض, حتى نوفر الغذاء لأطفالنا. كيف نحمى أنفسنا من هجوم الميكروبات والذباب والبعوض. إنفلونزا الطيور وإنفلونزا الخنازير وجنون البقر والإيدز وأمراض فيروسات الكبد الوبائى, وما يستجد فى المستقبل؟
إذا لم نفهم كيف تعمل الفيروسات, وكيف تتغير وتتبدل لكى تظل على قيد الحياة, فهى أيضا كائنات حية, تقوم بإستمرار بتعديل جيناتها حتى تستمر فى البقاء, فكيف نستطيع مقاومتها وحماية أنفسنا؟
المسألة جد ولا تحتاج إلى تهريج. الجهل مصيبة. فقد كان الناس فى القرون الوسطى وعصور الظلام, عندما يجتاح الأرض وباء مثلا, يذهبون جميعا إلى الكنائس والجوامع ودور العبادة للصلاة والدعاء. فينتشر الوباء أكثر وأكثر مع الزحام وعدم الوعى.
لا يجب أن نخلط العلم بالدين. إذا قال العلم أن نظرية دارون صحيحة, فليكن. وإذا أثبت العلم أنها خاطئة, فلتذهب إلى الجحيم غير مأسوف عليها. علينا فى هذه الحالة أن نبحث عن غيرها وأفضل منها.
إذا تعارض العلم مع الدين, فلنرجع إلى كتبنا المقدسة لكى نعيد تفسيرها. الإيمان يأتى عندما ينتهى العلم. ولا يجب أن يكون بديلا له. ولا يجب مزج الخل بالزيت. وصدقونى, ليس أمامنا خيار آخر.
zakariael@att.net
06/11/2014