مطبوعة الكترونية عربية مهتمة بموضوع المواطنة وتداول السلطة القانونى وحرية التعبير  فى العالم العربى  .. تصدر من الولايات المتحدة الأمريكية عن المركز الأمريكى للنشر الالكترونى .. والأراء الواردة تعبر عن وجهة نظر أصحابها.
............................................................................................................................................................

 
 

 نظرية التطور لدارون (2)
...............................................................

بقلم: محمد زكريا توفيق
.................................


ولد تشارلز دارون فى شروزبورى بإنجلترا عام 1809م. أبوه, روبرت دارون, كان طبيب أرياف مشهور. جده, إيراموس دارون, كان أيضا طبيب مرموق وعالم بيولوجيا. أم تشارلز, سوزانا, كانت إبنة المثال الشهير جوزيه ودجوود.

أُرسل الصغير تشارلز دارون إلى مدرسة فى شروزبورى عام 1818م. لكنه لم يحصّل الكثير فى هذه المدرسة. إلا أن هواية جمع الحصى والحشرات بدأت تتملكه. كان والده يعتبره طالب فاشل, عار على عائلته, لا يصلح لشئ, وأينما توجهه لا يأتى بخير.

فى عام 1825م, أخرج الوالد إبنه من مدرسة شروزبورى, وأرسله إلى جامعة أدنمبرا لدراسة الطب. كانت أدنمبرا منذ منتصف القرن الثامن عشر, أهم مراكز النهضة والثقافة فى أوروبا. مثل مدينة أثينا أيام الحضارة الإغريقية, والإسكندرية أيام حكم البطالمة. ظهر بها فلاسفة وعلماء ومفكرين أمثال دافيد هيوم وآدم سميث ودوجالد ستيوارت, وأيضا كيميائيين وعلماء إجتماع ودين وأطباء. وكانت شهرة أطبائها تفوق كل المدن الأوربية فى ذلك الوقت.

لكن الشاب تشارلز, البالغ من العمر 16 عاما, لم يكن لديه هذا الطموح. وجد دارون دراسة الطب محنة كئيبة لا تناسب قلبه الضعيف وشعوره المرهف. كانت مناظر طفح الجروح بالصديد, وعمليات البتر بدون بنج, وصراخ المرضى والرعب المرسوم فى عيونهم, تصيبه بالغثيان.

كما أنه وجد أن معظم المحاضرات جافة مملة. دراسة الطب كانت له بمثابة إضاعة للوقت. لكنه كان دائم القراءة فى موضوعات التاريخ الطبيعى (تاريخ الأحياء), ومستمر فى ممارسة هوايته فى جمع الحصى والفراشات. تعلم طريقة التحنيط على يدى مختص. وهى هواية ساعدته كثيرا فى دراسته للأحياء. صادق عالم الحيوان روبرت جرانت, الذى شرح له نظرية لامارك التى تفسر تطور الكائنات.

تيقن الأب أن إبنه طالب طب فاشل, لذلك إتفق مع إبنه على أن يتوجه لدراسة اللاهوت, لكى يصبح قسيسا بالأرياف. فى عام 1827م, إلتحق تشارلز بالكلية المسيحية بجامعة كامبريدج لدراسة اللاهوت. لكنه إستمر فى حبه لدراسة التاريخ الطبيعى. بدأ يتصل بعلماء التاريخ الطبيعى والأحياء بالجامعة, ويقوى صداقته بهم. منهم القس وعالم النبات جون ستيفينز هينسلو.

فى عام 1831م أثناء العطلة الصيفية, تلقى شارلز دارون من صديقه هينسلو, خطابا يعرض فيه وظيفة باحث وجامع بيانات علمية عن الأحياء, على متن السفينة بيجل التابعة للملكية البريطانية. أصيب والد تشارلز داروين بالهلع والخوف على مستقبل إبنه عندما علم بهذا الخطاب. لكن بمساعدة أحد الأقارب تم إقناع الأب, وأخذ موافقته على قبول هذه الوظيفة.

كان الكابتن برنجل ستروكس هو القائد السابق للسفينة بيجل. فى يوم 22 مايو عام 1826م, أثناء رحلتها الأولى لجمع البيانات البحرية, عندما وصلت إلى ميناء فامين بمضيق ماجلان بأمريكا الجنوبية, أصيب الكابتن ستروكس بإكتئاب شديد. أغلق الكابتن على نفسه كابينته لمدة 14 يوما. وفى يوم 2 أغسطس عام 1828م, أطلق الرصاص على نفسه, ومات بعد 12 يوما متأثرا بجراحه. فى ديسمبر عام 1828م, تم تنصيب الكابتن روبرت فيتزروى قائدا للسفينة.

فى 5 سبتمر عام 1831م, قام الكابتن فيتزروى بمقابلة وإمتحان تشارلز دارون للوظيفة الشاغرة. لم يعجبه شكل أنف دارون المفلطح, معتقدا أن الأنف المفلطح دليل على التعجل والكسل. لكنه وافق على تعينه على أية حال. ظلت السفينة فى ميناء بليموث مدة شهرين, كانت الأسوأ فى حياة دارون. فقد كان بعيدا عن الأهل والأصدقاء. يشعر أنه فاشل فى تعليمة, ولا يشغل عملا مهما. كان الطقس يضيف كآبة أخرى إلى حالته النفسية.

بدأت الرحلة فى ديسمبر من نفس العام. وأخذت وقتا أكثر من المتوقع. لم يضع دارون رجليه على أرض الوطن منذ خمس سنوات كاملة, هى مدة الرحلة. ذهبت السفينة بيجل عبر الأطلسى إلى شواطئ أمريكا الجنوبية, وإلى جزر جالاباجوس فى المحيط الهادى, ورأس الرجاء الصالح وإستراليا. كانت تجمع بيانات عن المياة الإقليمية ومياة المحيطات والعمق والتيارات البحرية. كان دارون يترك السفينة ويذهب إلى البر فى أمريكا الجنوبية والجزر التى يمر بها للإستطلاع وجمع بيانات عن الأحياء فى هذه الأماكن, ثم العودة إلي السفينة ثانية.

كان الكابتن فيتزروى, مسيحى إنجيلى غيور ملتزم. الغريب أن أفكار الكابتن كانت على النقيض من أفكار دارون تماما. كان الكابتن مؤمنا أشد الإيمان بحرفية الإنجيل وبنظرية بداية الخلق كما جاءت فى الكتب المقدسة. كان فيتزروى أيضا على العكس من دارون بالنسبة للأفكار السياسية والإجتماعية. يؤمن بضرورة نظام العبيد, وبالفكر الإمبريالى. شخصيتان متناقضتان تماما تعيشان سويا على متن نفس السفينة لمدة خمس سنوات.

كان دارون مرعوبا من قسوة الكابتن فيتزروى وأسلوبه فى معاملة البحارة. وقد لاحظ ضيق أفق الكابتن بخصوص المسائل الدينية. مما جعل دارون لا يفتح قلبه للكابتن, أو يطلعه على أسراره. خصوصا ما يدور فى رأس دارون من ناحية فكرة تطور الأحياء, وتعارضها مع العقيدة الدينية. قام دارون بالتركيز على جمع عينات الحيوانات والطيور الحية, وبقايا الأحياء المتحجرة فى الأماكن التى كانت تقف فيها السفينة بيجل.

كان دارون يقوم بتشريح بعض هذه الكائنات وتحنيط البعض الآخر, بعد تسجيل بيناتها بدقة. حتى كادت السفينة تمتلئ بالعينات التى قام بجمعها. وكان يستعين بكتاب عالم الجيولوجيا ليل. وجد دارون دلائل تشير على أن التغيرات الجيولوجية, كما قال ليل, تحدث بصفة مستمرة ولا تحدث فى فترات متباعدة كما تقول نظرية الخلق الذكى.

أخيرا, تحرر دارون من سلطة الأب القلق على مستقبل إبنه. وبدأت صحته وحالته النفسية تتحسن. هذه الرحلة أعطته الفرصة لكى يرتب أفكاره, ولكى يرى الأمور على حقيقتها. كانت إهتماماته الجيولوجية تطغى على باقى الإهتمامات. هذا بسبب تأثير كتاب ليل عليه.

فى يوم 26 إكتوبر عام 1832م, تلقى دارون الكتاب الثانى للعالم الجيولوجى ليل, الذى نقد فيه نظرية لامارك. هذه الأفكار ترسبت فى العقل الباطن لدارون.

فى أمريكا الجنوبية, كان دارون مندهشا للشبه الكبير بين حيوان "المدرع" الحى, والبقايا الحجرية المكتشفة لنفس الحيوان. الفرق الوحيد هو أن الحيوان القديم كان أكبر حجما. هذا التشابه لم يكن وليد الصدفة كما كان يعتقد دارون.

لاحظ دارون أيضا, أن بعض أنواع النعام كانت تظهر لتستبدل أنواعا منقرضة بالتدريج. كل نوع يختلف بعض الشئ عن النوع السابق له. النعام المنقرض يختلف عن فصيل النعام الحية, بسبب جغرافية المكان وظروف عزله عن باقى الأماكن. كما لاحظ أيضا أن مناقير العصافير على جزر الجالاباجوس, يناسب كل منها نوع الغذاء المتوافر لها.

عندما زار دارون جزر فى جنوب أفريقيا, كان مندهشا لوجود شبه كبير بين مخلوقات الجزر الأفريقية والمخلوقات التى تعيش على أرض القارة الأفريقية نفسها. بينما الشبه بعيد بين مخلوقات الجزر الأفريقية وجزر جالاباجوس البعيدة جدا. كان يقول أن مخلوقات الجزر الأفريقية والقارة الأفريقية أتت من أصل واحد حديث, بخلاف مخلوقات جالاباجوس.

لاحظ دارون, بالنسبة لجزر جالاباجوس المعزولة, أنه تعيش على كل منها كائنات مختلفة من الحيوانات والطيور. بالرغم من تشابه المناخ والجيولوجيا فى هذه الجزر. السحالى والسلاحف والعصافير على كل جزيرة, تختلف إختلافا بينا عن السحالى والسلاحف والعصافير على الجزر الأخرى. لذلك رأى دارون أن فصل الجزر عن بعضها وأنعزالها هو السبب فى إختلاف كائناتها.

قام دارون بتسجيل كل هذه البيانات بدون أن تتضح له الصورة كاملة. فقط فى نهاية الرحلة التى استغرقت خمس سنوات, عندما عاد إلى ملاحظاته لكى يراجعها ويعيد تبويبها, بدأت الصور الكاملة تتضح لديه. هذه الملاحظات وما جمعه من بقايا الكائنات المتحجرة والكائنات الحية المحفوظة والمحنطة, جعلت منه شخصية مشهورة فى الأوساط العلمية على مستوى العالم كله. وقام أيضا بنشر تقرير علمى, وكتابة يومياته عن رحلة السفينة بيجل. هذه اليوميات أصبحت فيما بعد عملا أدبيا كلاسيكيا فى أدب الرحلات.

قام دارون أيضا بنشر كتاب عن الشعب المرجانية فى الجزر البركانية وفى أمريكا الجنوبية. هذا الكتاب جعله يحظى بإعجاب العالم الجيولوجى الكبير تشارلز ليل. فى عام 1838, تم إختيار دارون سكرتيرا لجمعية الجيولوجيين. توطدت صداقته بعد ذلك بعلماء كثيرين منهم هوكر وهكسلى, اللذان قاما بمساعدته والوقوف بجواره عندما نشر نظريته, نظرية التطور, فيما بعد.

فى 11 نوفمبر 1838م, طلب دارون يد قريبته إمما ويدجوود. وبعد ثلاثة شهور, تم زواجه وإنتقاله إلى مسكنه الجديد فى لندن. فى عام 1842م, كانت بعض الأفكار قد إختمرت فى ذهن دارون عن تغير الأحياء. فقام بكتابة 35 صفحة يلخص فيها أهم هذه الأفكار. بعد ذلك بعامين, كانت لديه الثقة لكى يحول ال 35 صفحة إلى دراسة من 230 صفحة عن تغير الكائنات. ترك معها ملحوظة تقول: "الرجا نشر هذا الدراسة فى حالة وفاتى".

السبب فى هذه الملحوظة, هو حالات المرض التى كانت تنتابه من حين لآخر منذ عام سابق لزواجه. عندما كانت تنتابه الحالة, يشعر بالضعف وعدم القدرة على الحركة أو التفكير. كانت تستمر الحالة لعدة أيام أو بضع شهور, يرقد خلالها فى الفراش. لذلك قدم إستقالته من جمعية الجيولوجيين. فى عام 1842م, بدأ البحث عن بيت فى الأرياف خارج مدينة لندن يكون أكثر هدوءا. لعل تغيير المسكن والمناخ يساعده على إكمال دراسته عن تغير الأنواع.

بعد البحث عن مسكن لمدة طويلة, وجد دارون طلبه فى الريف. فى المسكن الجديد كان يعمل دارون ساعات قليلة كل يوم قبل أن تنتابه حالات الغثيان والضعف والصداع والرعشة, التى تأتى مع نوبات المرض.

ما طبيعة مرض دارون؟ يقول بعض المؤرخين أنه ربما يكون بسبب لدغ حشرة له أثناء رحلته فى أمريكا الجنوبية. تكون قد نقلت إليه فيروس أو بكتيريا فى الدم سببت له هذا المرض. الأعراض شبيهة بمرض يسمى "تشاجاس" تسببه حشرة تعيش فى أمريكا الجنوبية.

هناك تفسير آخر سيكولوجى لطبيعة مرض دارون. يتلخص فى خوف دارون الدفين من رد فعل المجتمع لأفكاره, عندما يعلنها على الملأ. لأن هذه الأفكار قد تسبب متاعب له ولأسرته. وكان دارون بالرغم من مرضه, يرهق نفسه فى العمل. يعمل أكثر من الرجل العادى. فى نفس الوقت, كان يحب الحياة الأسرية ويقدسها.

أفكار دارون عن حياة الكائنات, مرت بعدة تطورات منذ عودته بعد رحلة الخمس سنوات. الكمية المهولة من الملاحظات والمدونات, لم تنبئ عن شواهد لفكرة التطور فى ثوبها النهائى. صفحة بعد صفحة من التردد والحذر والملاحظات الجانبية, أثبتت أن دارون كان يتحسس طريقه ببطء لفهم جديد لنظرية خلق الكائنات. كانت هناك بدايات خاطئة, وكثير من التعارض وعدم التوافق.

بعد مراجعته لكراسة ملاحظاته الأولى عام 1837م, تأكد دارون من صحة نظرية عالم الجيولوجيا ليل فى التغير الجيولوجى المنتظم. ولاحظ دارون أن التغير الجيولوجى, يلازمه تغير فى صفات الكائنات الحية. لكى تبقى هذه الكائنات حية, كان عليها أن تتأقلم لكى توائم ظروف البيئة الجديدة.

فى نهاية عام 1837م, توصل دارون إلى بيت القصيد. الحياة على سطح الأرض, عبارة عن عملية خلق مستمرة. بدأت مع نشوء أول خلية حية, ومستمرة حتى اليوم. عملية الخلق عبارة عن كتاب مفتوح لم يقفل بعد.

إذا كانت القشرة الأرضية قد تعرضت إلى هذه التغيرات الكبيرة تدريجيا, كما يقول ليل, فليس مستغربا أن تكون الكائنات قد طرأ عليها تغيرات كبيرة هى الأخرى. تغيرات موازية لما حدث للقشرة الأرضية. هذه الكائنات إن لم تتغير, فسوف تفنى. وتصبح الأرض بلقعا تصفر فيها الرياح. الكائنات الغير قادرة على التكيف والمواءمة, تنقرض لتحل محلها كائنات جديدة قادرة.

كان ليل, يقول بالتغيير التدريجى للقشرة الأرضية. لكنه لا يعترف بالتغيير التدريجى للكائنات. هذا الرأى لم يقنع دارون. وكان مقتنعا تماما بأن الكائنات تتغير وتتبدل هى الأخرى. أنواع تنقرض, وأنواع تنشأ من سلالات أخرى عن طريق التغير المستمر.

تغير الكائنات عند دارون يشبه فى الشكل فقط تغير الكائنات عند لامارك. كلاهما يقول أن الكائن يتأثر بالبيئة الموجود بها. لكن هناك فرق كبير بين سبب التغير عند لامارك, وسبب التغير عند دارون؟

لنأخذ طول عنق الزرافة كمثال. يقول لامارك أن كل الزراف له نفس الصفات لأنها نفس النوع. داخل كل زرافة, نزعة للتحول إلى زرافة أفضل. إذا وُجد الزراف فى مكان به أشجار عالية, فإن الفرد منها يظل يمد عنقه لكى يصل إلى أوراق الشجر العالية, طلبا للغذاء. محاولات الوصول إلى الأوراق العالية, تجعل الزرافة تكتسب بعض الطول فى عنقها. ثم تقوم بتوريث هذه الميزة الجديدة المكتسبة إلى الجيل التالى. هذا يعنى أن الفرد قادر على التغير التدريجى بنفسه.

لكن دارون يرى شيئا مختلفا. كان هناك فصائل, داخل النوع الواحد من الزراف, مختلفة الأحجام وطول الرقبة. وجدت فى مكان منعزل به أشجار عالية وأشجار منخفضة ومتوسطة الطول, فى وقت جفاف غير عادى لم تهطل فيه الأمطار. هذا يحدث بصفة مستمرة فى الجزر مثلا.

الأشجار المنخفضة والمتوسطة فى متناول جميع الحيوانات. لذلك نضبت أوراقها بسرعة أولا. ولأن المكان منعزل وليس هناك مطر لعدة سنوات, لم يبق سوى الأشجار العالية. الزرافات الضخمة طويلة العنق إستطاعت أن تصل إلى الأوراق وعاشت. والزرافات القصيرة والمتوسطة وقصيرة العنق لم تجد ما تأكله, فماتت وانقرضت. وجاءت الأجيال الجديدة ضخمة الجسم طويلة الرقبة.

هنا التغير لا يحدث بالنسبة للفرد كما يقول لامارك. الفرد ثابت لا يتغير عند دارون. لكن التغير يحدث للنوع ككل. التغير يحدث بالإختيار الطبيعى لا برغبة الفرد. الصفاة المكتسبة لا تورث بعكس ما يقوله لامارك. بطل كمال الأجسام, لا يورث عضلاته.

كل نوع جديد بمثابة فرع جديد فى الشجرة الأم. الفرع الجديد تنبت منه فروع أخرى وهكذا. إنقراض بعض الأنواع وإختفائها يفسر الفجوات التى ظهرت فى بقايا الكائنات المتحجرة. هذا يفسر أيضا لماذا حيوانات استراليا تختلف عن باقى حيوانات العالم. الأماكن الأكثر عزلة هى الأكثر إختلافا عن باقى الأماكن.

كان على داروين أن يجيب على أسئلة مثل: ما هى القوى التى تدفع التغيير؟ وكيف يوجه التغيير فى إتجاه معين؟ وكيف تظهر أنواع جديدة من الكائنات؟ وما يضمن تلاؤمها مع البيئة؟

فى الصفحات الأولى من كراسة ملاحظاته, تنبه دارون لدور التكاثر عن طريق الجنس, ودوره فى تنوع الكائنات داخل النوع الواحد. فمثلا بالنسبة للإنسان, نجد الطويل والقصير والقوى والضعيف والذكى والغبى, والأبيض والأسود, وهكذا. الإختلاف ليس فقط بين الأب وإبنه, ولكن بين الإخوة, وبين الأخوات أيضا.

هذه التغيرات تحدث بطريقة عشوائية. منها التغيرات المفيدة التى تكون فى صالح الكائن وتساعده على البقاء, ومنها التغيرات الضارة التى تعوق الكائن ولا تساعده على الإستمرار فى الحياة.

قام دارون بدراسة عمليات التهجين الصناعى التى يقوم بها المربيون للخيول والكلاب والحمام وغيرها من الحيوانات. عملية التهجين الصناعى تقوم بمزج السلالات المختلفة عن طريق التزاوج, لإنتاج سلالات أفضل وأحسن ولها خواص معينة.

كل ما على المربى عمله, هو التعرف على خاصية مميزة فى الحيوان عندما تظهر. ثم عزل هذه الحيوانات ذات الخاصية المميزة للتزاوج فيما بينها. وبذلك يحصل على سلالات قوية أو مميزة.

هذه العملية تعتمد على إرادة المربى. لكن فى الطبيعة, ليس هناك مربى يقوم بالإختيار والعزل. يوجد فقط التنافس. وهى قوة عمياء ليس لها قلب. تقوم بطريقة أوتوماتيكية بإبادة العاجز والضعيف ومن لا يصلح للمواءمة للظروف الجديدة.

بسبب التنافس الشديد, الكائن المحظوظ الذى يرث عن أبويه صفة مميزة, تكون فرصته فى الحياة أفضل. قد تطول هذه الفرصة حتى يستطيع الكائن أن ينقلها عن طريق التزاوج للأجيال التالية.

بالرغم من أن دارون كان يعى تماما دور التنافس بين المخلوقات. إلا أنه لم يتنبه إلى خطورته إلا بعد أن قرأ كتاب توماس مالثيوس عن تزايد السكان. الذى قال فيه أن الإنتاج يزيد بمتوالية عددية, بينما التزايد السكانى يسير بمتوالية هندسية. هذا يعنى أن الإنتاج لن يكفى التزايد فى السكان فى القريب العاجل. هذا سوف يؤدى, سواء شئنا أم أبينا, إلى الحروب والأمراض والمجاعات والفقر وخلافه. وهذا ما نراه فى بلادنا اليوم بسبب تزايد السكان المطرد.

عندما قرأ دارون كتاب مالثيوس, تيقن أن الإنتخاب الطبيعى هو القوة الموجهة التى يبحث عنها. وبحلول شتاء عام 1838م, كانت لديه كل المواد الخام اللازمة لنظريته فى التطور. والتى يمكن أن نلخصها فى الآتى:

- القشرة الأرضية تمر بتغيرات مستمرة بطيئة. والكائنات عليها أن توائم هذه التغيرات لكى تبقى على قيد الحياة, وإلا تنقرض.
- الطبيعة تمد الكائنات بهبات وصفات وراثية غير محدودة عن طريق التنوع والتزاوج.
- إنتاج الغذاء المحدود بالنسبة لتزايد الكائنات, ينتج عنه صراع غير محدود بين الكائنات.
- الأنواع الجديدة تنشأ بسبب العزلة. والأنواع المختلفة لا يحدث التزاوج بينها.

نتيجة الصراع بين الأحياء, الكائنات التى تملك صفات وراثية مفيدة سوف تبقى على قيد الحياة. بينما المخلوقات التى لا تملك هذه الصفات, سوف تنقرض. وبالرغم من أن الصفات المفيدة قد تكون صغيرة جد, لكن تراكمها من جيل إلى جيل قد يجعلها مفيدة ولها تأثير كبير على حياة الكائن.

لكن ما هى الشواهد الأخرى التى نراها والدالة على صحة أفكار دارون؟ هذه الشواهد يمكن تلخيصها فى الآتى:

يتكون مخ الإنسان من ثلاثة أمخاخ مختلفة بدلا من مخ واحد, بطريقة تشبه إضافة غرف جديدة إلى منزل قديم صغير؟ المخ الأول يشبه مخ الزواحف تكون منذ 250 مليون سنة. يتحكم فى الوظائف اللاإرادية مثل نبضات القلب والتنفس والبلع والدفاع عن النفس عند الخطر. المخ الثانى يشبه مخ الثدييات. يتحكم فى العواطف والغرائز البهيمية وحاسة الشم واللمس. أما المخ الثالث فهو خاص بالإنسان "نوتوركس". تكون منذ 50 ألف سنة. وهو المخ الذى يضعنا فى القمة بالنسبة لباقى المخلوقات, ويجعلنا نتساءل عن سبب وجودنا, ويمكننا من إكتشاف نظريات هامة مثل نظرية التطور.


لم يعد مبيد الحشرات "دى دى تى" فعالا كما كان فى الماضى فى قتل الحشرات والذبابة المنزلية, كذلك الفيلت والبيرسول. ولم تعد المضادات الحيوية قادرة على قتل بعض الباكتيريا الموجودة فى المستشفيات. لذلك تبحث شركات الأدوية عن مضاد حيوى جديد كل عدة سنوات, أو تعمل على تطويره بهندسة الجينات. وجود مضاد حيوى واحد يكفى.

هل نتذكر فى أوائل الستينات, أيام المهندس سيد مرعى وزير الزراعة, عندما حدثت كارثة إنتشار دودة القطن وإتلافها للمحصول, بسبب عدم فاعلية المبيد الحشرى التوكسافين. ظن الجميع أن الغش فى المبيدات هو السبب. لكن الغش التجارى برئ من هذه التهمة. ولم يتنبه أحد للتفسير الذى تقدمه نظرية دارون وطروحاتها فى هذا الخصوص.

ما هو سر خلق الزهور والفواكه؟ بالطبع لم تخلق لكى يشمها الإنسان وحده. ولم توجد لكى نقطفها ونضعها فى فازات فى الصالون. الفاكة لم تخلق لكى نشتريها بالقفص. لأن الزهور والفاكهة خلقت من أجل الحشرات والحيوانات.

هذه الكائنات سوف تستمر بنا أو بدوننا, فقد كانت مستمرة قبلنا ملايين السنيين. لكن بإختفاء الفراشات والحشرات, سوف تختفى الفاكهة والخضروات. وبإختفاء الطيور والحيوانات, التى تأكل الفاكهة وتقوم بنقل بذورها إلى آفاق بعيدة, سوف تختفى الأشجار والثمار.

لولا وجود حيوان الخرتيت فى جزيرة سوماطرة لإنقرضت أشجار المانجو. لأن الحيوان يبتلع الثمرة بكاملها, فتنجو البذرة بغلافها السميك من عصارات الهضم فى الأمعاء, ليلقيها الخرتيت مع إخراجه فى مكان بعيد عن الشجرة. ولولا وجود الخرتيت, لسقطت الثمار, لكى تتلفها الحشرات التى تنتظر عادة بلهفة تحت الشجرة. البذور التى تنجوا من فتك الحشرات, تنمو تحت الشجرة الأم, فتشاركها الغذاء والماء والضياء, مما قد يتسب فى قتل الأم والأبناء.

لماذا خُلقت الزهور التى تعتمد على الفراشات لنقل حبوب اللقاح وبدونها تنقرض؟ ولماذا تتفتح أثناء النهار وتغمض أثناء الليل؟ ولماذا لها ألوان جذابة تختلف عن لون الأوراق, ولها أريج عاطر؟ لماذا الزهور التى تعتمد على الخفافيش تتفتح أثناء الليل وتغمض أثاء النهار؟ والزهور التى تحتاج إلى الذباب لنقل حبوب لقاحها رائحتها كريهة تشبه الجيفة النتنة؟

لمذا لون الفاكهة الناضجة يختلف عن لون أوراق الشجرة وطعمها حلو المذاق, بينما الفاكهة النية لونها مثل لون ورق الشجر وطعمها مر المذاق؟ لماذا الذكور فى الطيور شكلها أجمل وألوانها زاهية, بينما الإناث أقل جمالا وألوانها باهتة, أليس المفروض هو العكس؟

لماذا توجد بعض زهور الأوركيد ولها رحيق على عمق 16 بوصة داخل الزهرة, ويوجد معها فراشات لها لسان طوله 16 بوصة, وأيهما وجد أولا؟ إذا إنقرض إحدهما تبعه الآخر. لماذا تنتج بعض النباتات السم الزعاف فى أوراقها وسيقانها, فى نفس الوقت الذى توجد فيه حيوانات لديها مناعة ضد هذا السم؟ وإذا كانت الحياة قد ظهرت منذ 3.8 بليون سنة على سطح الأرض, فلماذا تأخر خلق آدم وحواء بلايين السنيين؟

لماذا ديك الدجاج له عرف أحمر قانى وما فائدته, وما فائدة ذيل الطاووس؟ أليس ذيل الطاووس يعتبر عائقا للحركة ويستهلك جزءا كبيرا من غذائه اليومى؟ ولماذا تتناطح الكباش, وتتقاتل الذكور, ويقتل الأسد أشبال غيره, ويقتل الدب أولاده, وتقتل أنثى العنكبوت الذكر بعد الوصال؟ وما قصة التهجين وخلق سلالات جديدة من الحمام والكلاب والخيول والمحاصيل؟ كل هذه الأسئلة وغيرها تجيب عليها نظرية التطور بإجابات رصينة ومقنعة, كما بينتها فى مقال سابق عن "نظرية التطور والجنس", نشر فى هذا الموقع.

عندما وضعت أسماك الجوبى الصغيرة مع أسماك كبيرة مفترسة فى بحيرة محدودة المساحة بحيث لم تتمكن الأسماك الصغير من الهروب, كان دفاعها من أجل البقاء هو زيادة النسل والبلوغ المبكر. وعند عزل الأسماك الصغيرة عن الأسماك المفترسة الكبيرة وشعورها بالأمان لعدة سنوات قليلة, وجد أن نسلها قد قل, ومدة سن البلوغ لها قد طالت بنسب محسوسة.

هذا بالضبط ما تقوله نظرية التطور. عمليات خلق وإنقراض مستمرة بسبب تغير البيئة والمناخ. خلق أنواع جديدة قادرة على الحياة, وإنقراض أنواع تالدة غير قادرة على المواءمة للظروف الجديدة. هذا ما قد حدث فى الماضى ويحدث كل يوم وفى كل مكان على سطح الكرة الأرضية. ولا يحتاج إلى إذن رجال الدين فى بلادنا.

عندما بلغ دارون سن الثلاثين, كان لديه أساسيات نظرية كاملة للنشر عام 1839م. لكن مضى عشرون عاما قبل أن ينشر دارون نظريته التى شرحها فى كتابه أصل الأنواع عام 1859م. ما سبب تأجيل نشر دارون لنظريته وما تأثير هذه النظرية على العامة ورجال الدين؟ هذا ما سوف نناقشه فى المقال القادم إن شاء الله.

zakariael@att.net
 

 

06/11/2014

مصرنا ©

 

.....................................................................................

 


 

 
 



مطبوعة تصدر
 عن المركز الأمريكى
 للنشر الالكترونى

 رئيس التحرير : غريب المنسى

مدير التحرير : مسعد غنيم

 

الأعمدة الثابته

 

 
      صفحة الحوادث    
  من الشرق والغرب 
مختارات المراقب العام

 

موضوعات مهمة  جدا


اعرف بلدك
الصراع الطائفى فى مصر
  نصوص معاهدة السلام  

 

منوعات


رؤساء مصر
من نحن
حقوق النشر
 هيئة التحرير
خريطة الموقع


الصفحة الرئيسية