نظرية التطور لدارون (1)
...............................................................
بقلم: محمد زكريا توفيق
.............................
عندما قرأ توماس هكسلى كتاب أصل الأنواع لتشارلز دارون لأول مرة, قال لنفسه: "يالك من غبى. كيف لم تفكر فى هذه النظرية من قبل."
لا يعنى هذا أن أفكار دارون كانت تافهة أو ساذجة. لقد إنبهر هكسلى بأفكار نظرية التطور الثورية. وكرس معظم وقته للدفاع عنها, ونشرها فى المحافل العلمية. ساهم هكسلى فى تنقية وتعديل بعض أجزائها. مما جعله يستحق لقب "الحارس الأمين لدارون".
الغريب أن نظرية التطور لدارون, رغم خطورتها وتأثيرها الثورى فى عالم البيولوجيا, هى نظرية فى غاية البساطة والوضوح. كتبت بلغة إنجليزية عادية سهلة. يفهمها من يستطيع أن يتابع حججها المنطقية, أو من لديه القدرة على الشك, وقدر معقول من إستقلال الفكر. وهما هبتان لا تتوافران فى الكثيرين منا.
أول طبعة من كتاب أصل الأنواع, نفذت فى الحال. هذا يرجع لإختلافها عن باقى النظريات العظيمة التى ظهرت عبر التاريخ. فهى لا تحتاج إلى معادلات رياضية معقدة أو إلى فروع من الكيمياء والفيزياء غير مفهومة للعامة ولغير المتخصصين. مجرد لغة بسيطة تحتاج إلى قليل من المفهومية. ونحن لا نحتاج إلى فهامة صلاح جاهين لكى نفهمها. بساطة نظرية التطور لدارون هى التى جعلت توماس هسكلى يتساءل لماذا هو لم يفكر فيها من قبل.
فى عام 1859م, كان الوسط العلمى فى أوروبا مشبعا بأفكار التطور. وكانت مسألة وقت فقط قبل أن يتوصل أحد علماء البيولوجيا إلى نظرية التطور. فى الواقع لم يقم دارون بنشر نظريته إلا بعد أن وصله عن طريق البريد, بحثا من ألفريد راسل والاس عن التطور عبارة عن تلخيصا لما كان دارون يقوم به فى السر لمدة عشرين سنة.
لماذا لم ير هكسلى وغيره من العلماء, بإستثناء والاس, ما قد رآه دارون؟ هذا يذكرنى بالقصة التالية: ذهب أحد علماء الغرب إلى الهند طالبا الحكمة من ناسك يعيش فوق هضبة التبت. يلتحف بقطعة قماش حول وسطه, ويقتات بالماء وفتات الخبز. عندما رأى الناسك الضيف, وبعد أن سأله عن مراده, قدم له كوبا من الشاى. أخذ يصب الناسك الشاى فى الكوب حتى ملئ وبدأ يسيل من جوانبه.
لكن الناسك مستمر فى صب الشاى فى الكوب. فقال له العالم, ياسيدى لقد ملئ الكوب ولم يعد يقبل المزيد. فأجابه الناسك على الفور: "هكذا يمتلئ عقلك بالأفكار السابقة. كيف أعلمك شئ وعقلك, ممتلئ مثل هذا الكوب, ولم يعد يقبل المزيد."
هذا هو السبب فى أن الأفكار الجديدة تجد صعوبة بالغة لكى تجد لها مكانا بين الأفكار القديمة الراسخة فى عقول الناس. هذا ينطبق على النظريات العلمية وعلى الأديان والعادات والتقاليد. فدارون لم يكتشف شيئا جديدا لم يكن معروفا أيامه. الحقائق التى كان يجمعها كانت معروفة وتم مناقشتها بين العلماء. لكن لا أحد من علماء عصره, كان كوبه فارغا بحيث يستطيع أن يرى ما قد رآه دارون. المعلومات القديمة كانت تقف حجر عثرة فى طريق الفكر الجديد.
كل دين, وكل مجتمع من المجتمعات, لديه قصة أو أكثر تحكى حكاية الخلق. الكتب المقدسة تخبرنا بأن الرب خلق العالم وملأه بالمخلوقات الحية فى ستة أيام. وجاء الأسقف جيمس آشر ليقول بأن العالم عمره ستة آلاف عام تقريبا. بداية الخلق كانت يوم 23 إكتوبر عام 4004 قبل الميلاد.
خلق الرب الأرض فى شكلها الحالى, وأى تشويه أو تدمير يصيب الأرض, يرجع إلى الزلازل والبراكين والفيضانات التى يصبها الرب على عبيده بسبب عصيانهم وعدم سماعهم الكلام. فيما عدا ذلك, الأرض, كما خلقها الرب, لم تتغير. ولا داعى لمخلوقاتها لكى تتبدل وتتطور. فقد خلقت على أكمل صورة.
بعد أن قام آدم بتسمية النباتات والحيوانات, ظلت على حالها. الكلب كلب والحمار حمار. وإلا أصبح الإسم غير مطابق للمضمون ونحتاج إلى آدم من جديد لكى يعدل ويبدل فى الأسماء.
عندما غضب الرب على العصاة من عبيده, وقرر إغراق العالم بكل ما فيه من كائنات حية, أمر نوح ببناء الفلك لإنقاذ المؤمنين البررة. وطلب من نوح أيضا أن يأخذ من كل نوع من المخلوقات, زوجين إثنين, ذكر وأنثى. حتى تعود الحياة على سطح الأرض إلى سابق عهدها بعد الفيضان.
بالنسبة للعقيدة الإيمانية, العالم كما نراه الآن له نفس الصورة التى خلقه بها الرب منذ البداية, ولم يتغير أو ينقرض أى نوع من الحيوانات أو النباتات منذ بداية الخلق.
بسبب العقيدة والإيمان المتأصل فى نفوس الناس, لم يتنبه أحد لمعنى وجود بقايا الأحياء المتحجرة (Fossils). البقايا المتحجرة التى توجد فى أشكال مختلفة مثل بقايا الحيوانات الصدفية. الهياكل العظمية, لم تؤخذ بجدية. كان ينظر لها على أنها مجرد ديكورات ونقوش صنعها الخالق, أو جاءت بمحض الصدفة. لا تعنى شيئا أكثر من ذلك.
فى القرن السبع عشر, أعلن عالم الأحياء الطبيعية جون راى أن الكثير من الحيوانات الصدفية قد إنقرضت ولم يعد لها وجود كمخلوقات حية. هذه الحقيقة, ينكرها العلماء ورجال الدين. فهم يعتقدون أن الرب قد خلق الكون فى أكمل صورة. وتعهد بحفظ مخلوقاته وحمايتها من الإنقراض.
بدلا من الإعتراف بإنقراض بعض الأحياء, التى لم تستطع التكيف مع تغير المناخ والظروف التى كانت تعيش فيها, زعم المؤمنون بأن الرب قام بتدمير مخلوقاته بالجملة عن طريق الفيضان, لكى يعيد خلق هذه الكائنات من جديد. ولكى يعطى الإنسان درسا فى مبادئ الأخلاق وأصول الطاعة.
هذه الفكرة جاءت لكى تبرر نتائج الإكتشافات الجيولوجية الجديدة فى القشرة الأرضية. التى أظهرت وجود, لا طبقة واحدة, ولكن العديد من الطبقات. كل منها بها بقايا أحياء متحجرة لمخلوقات منقرضة, لم يعد لها وجود على سطح الأرض. فى نهاية القرن الثامن عشر من القرن العشرين, أصبح من المعروف أن الصخور تحتوى على تسجيل كامل لكل الأحياء المنقرضة, سبق أن عاشت على سطح الأرض.
حتى يتجنب العلماء الصراع مع الفكر الدوجماتى ورجال الدين, كان عليهم أن يرفضوا فكرة الخلق المستمر والتغيير المتوال الذى يحدث للمخلوقات. هذه الأحياء قد خلقها الرب على هذه الصورة, ولم يحدث لها أى تغيير منذ بدء الخلق. ولكى يفسروا وجود العديد من طبقات القشرة الأرضية, والتى يختلف كل منها عن الأخرى فى نوع الأحياء المتحجرة المدفونة بها, جاءوا بفكرة الكوارث الوسيطة. بمعنى أنه لم تحدث كارثة فيضان واحد, لكن العديد من الفيضانات. فيضان نوح هو آخرها. بعد كل فيضان, كان الرب يعيد تعمير الأرض بقطيع جديد من الأحياء, وأنواع جديدة من المخلوقات.
فى الطبقات السفلى للقشرة الأرضية, توجد بقايا أحياء متحجرة لكائنات بدائية بسيطة. مثل كائنات وحيدة الخلية والأميبا والديدان. فى الطبقات التى تليها, نجد مخلوقات متحجرة أكثر تعقيدا. وبعد عدة طبقات, نصل إلى بقايا الفقاريات, أى التى لها هيكل عظمى. وبعد طبقات أخرى نرى بقايا أسماك. وبعد ذلك نرى آثار الزواحف والطيور. وفى الطبقات الأخيرة والقريبة من سطح الأرض, نجد بقايا الثدييات والإنسان. شريط سينمائى يبين تسلسل الكائنات مع الزمن.
هذا التدرج فى طبقات القشرة الأرضية ليس له علاقة بفكرة التطور. كل طبقة كان ينظر لمخلوقاتها على أنها حالة خلق فريدة بذاتها ومستقلة عن الطبقات الآخرى. أيضا, كل مخلوق مستقل بذاته, ليس له علاقة بباقى المخلوقات.
شكل المخلوقات وطبيعتها ليس لها علاقة بالمناخ والبيئة التى تعيش فيها. قد خلقها الرب كما أراد لغرض معين. فالأرض خلقت لكى يوضع فوقها الإنسان. والشمس لكى تعطيه الدفئ والضياء, والقمر والنجوم لكى تنير له طريقه فى الظلام. والحيوانات والنباتات تسخّر لخدمته, ولكى تمده بالغذاء والكساء.
واضح أن الخلق وراءه فكر ذكى. مبنى على التخطيط والتصميم الممتاذ. ولا يعقل أن يكون كل هذا قد أتى بمحض الصدفة. الزعانف للأسماك والريش للطيور والقلب والرئة والعيون, كلها أعضاء فى قمة التخصص والدقة. لا يمكن أن تكون قد أتت بغير صانع وخالق قادر. قام بتصميم هذه الأعضاء قبل خلقها. فهل يعقل أن تصنع الساعة بدون صانع؟ الطبيعة أصبحت كتابا مفتوحا يدل على وجود الخالق, كما كان يقول إسحق نيوتن.
كان دارون يعلم مدى قوة منطق نظرية التصميم الذكى. وكان أيضا هيكسلى يعترف أن نظرية التصميم الذكى, هى أهم نظرية يمكن أن نفسر بها ما يحدث بالنسبة للمخلوقات. إنشار نظرية التصميم الذكى كانت أهم العوامل التى أخرت ظهور نظرية التطور فى إنجلترا.
مع نهاية القرن الثامن عشر, بدأت الأرض تميد تحت أقدام التفسير الدجماتى للكون ونظرية التصميم الذكى. فى عام 1859م, عندما نشر دارون كتابه أصل الأنواع يشرح فيه نظريتة, كان المجتمع العلمى مستعدا لقبول فكرة التطور. السبب هو روح العصر, والتغيرات الخطيرة التى ظهرت فى باقى فروع العلوم. فى الفيزياء والفلك والجيولوجيا.
خلال العصور الوسطى, كان العالم نظام مغلق. مركزه الإنسان, ومُسير بإرادة الرب. تتحكم فى كل صغيرة أو كبيرة فيه. الكوارث الطبيعية غضب من الله. البرق والعواصف الثلجية, عقاب بسبب عدم أداء العشور. الأمراض بسبب الربا وخطايا البشر. الحشرات عقاب بسبب إهمال قداس الأحد. حوادث الأبناء بسبب ذنوب الآباء.
مع قدوم القرن التاسع عشر, بدأت الصورة تتغير. الأرض لم تعد مركز الكون. ووضعت فى مكانها الطبيعى, لكى تدور مع باقى الكواكب حول الشمس. الكوارث الطبيعية أصبح لها تفسيرا آخر علمى, غير غضب الرب على عباده. المعجزات والخوارق الطبيعية, أصبحت تفسر بالقوانين الفيزيائية. الإنسان بدأ يثق فى العلم على أنه الشافى المعافى لعلله وأمراضه, والمخّلص الحقيقى لمتاعبه وآلامه, والمحقق الوفى لأحلامه وآماله.
فى عام 1788م, نشر جيمس هيوتن عالم الجيولوجيا الإسكتلندى نظرية جديدة يقول فيها أن القشرة الأرضية تتعرض إلى قوى طبيعية تمثل عوامل تغيير مستمرة, مثل الأمطار والسيول والأعاصير والزلازل والبراكين وما شابه. هذه النظرية تستبدل نظرية كوارث الفيضانات التى كانت سائدة, وتحدث على فترات زمنية متقطعة.
لم يتنبه علماء الجيولوجيا إلى نظرية هيوتن فى التغيير المستمر للقشرة الأرضية. إلى أن جاء شارلز ليل عالم الجيولوجيا العظيم فى القرن التاسع عشر, لكى يحى أفكار جيمس هيوتن. بالرغم من أنه لم يتطرق مباشرة إلى موضوع تطور الكائنات, إلا أن أبحاثه الجيولوجية مهدت الطريق إلى نظرية التطور فيما بعد وكان لها تأثير كبير على دارون.
لكن, هل كانت هناك شواهد ودلائل فى ذلك الوقت تشير إلى تطور الأحياء؟ نعم. فى عام 1830م, كانت الشواهد كثيرة. مثلا, كان آدم سيدجويك يقول: " كجيولوجى, أرى أن المخلوقات تنزع للتقدم والإرتقاء. لكنى كمسيحى مؤمن, لا أعتبر هذا دليلا وشاهدا على عملية الخلق المستمرة."
كانت الدراسات الجيولوجية فى البداية, تجد فواصل زمنية كبيرة بين بقايا الأحياء المتحجرة. هذا ما دعم نظرية كوارث الفيضانات. لكن بعد أن تقدم علم الجيولوجيا, وبدأ يستخدم أساليب حديثة, أصبحت الفواصل الزمنية الجيولوجية بين البقايا المتحجرة صغيرة جدا. فكرة التغير المستمر باتت مقنعة.
مع نهاية القرن الثامن عشر, كان علماء الجيولوجيا يعرفون أن المخلوقات الحية, لها أعضاء خاملة أو ليس لها فائدة. فمثلا الحشرات التى لا تطير, لها بقايا أجنحة صغيرة. الدواجن المنزلية والبط المنزلى له أجنحة عديمة الفائدة. أرجل البط المنزلى بها غشاء لا تحتاجه على الأرض. يعوق حركتها. حيوانات الكهوف لها عيون أثرية لا ترى بها. أنواع من الذباب لا تطير بالرغم من وجود أجنحة لها. بعض الثعابين, لها بقايا أرجل غير مستخدمة. الإنسان له عظمة العصعص أسفل العمود الفقرى, وعظم ما بين الفكين, والزائدة الدودية عديمة الفائدة, بل تلتهب وتنفجر وتعرض حياته للخطر, وعدم وجودها أفضل. هناك ضروس العقل وأصابع الرجلين وثديى الرجل وبظر المرأة. الأسنان الأثرية للعجول والأسنان الأثرية للطيور. وكلها شواهد تتعارض مع التصميم الذكى للخلق.
لكن دارون رأى أنه يستطيع أن يقدم تفسيرا أفضل لهذه الشواهد, إذا إفترضنا أن هذه المخلوقات قد جاءت من سلالات كانت مجهزة بهذه الأعضاء, لكن لم تكن ضامرة فى الماضى. هذه الأعضاء فقدت صلاحيتها تدريجيا بعدم الإستخدام, عندما تأقلم الكائن على الحياة الجديدة.
دارون كان مندهشا من حقيقة أن يد الإنسان وهى منقبضة, تشبه يد الخلد (ضرب من الجرذان) المستخدمة فى الحفر. وكذلك رجل الحصان, وزعنفة الدلفين, وجناح الخفاش. الشبه شديد من الناحية التشريحية. كل منها لها نفس عدد العظام والتركيب.
هذا يدل على وحدة الخالق فى نظرية التصميم الذكى, لكن دارون لم يقبل بنظرية التصميم الذكى. هذا يذكرنا بقصة الناسك والكوب الممتلئ. سبب التشابه بالنسبة لدارون, يرجع إلى أن هذه المخلوقات لها أصل واحد , ثم تغير كل كائن عن الأصل أو الجد, عن طريق التغيير المستمر, حتى يوائم طريقة العيش فى البيئة الجديدة التى يعيش فيها.
فى القرن الثامن عشر, لاحظ علماء التشريح أن الجنين عند تكوينه يمر بمراحل نمو تشبه مراحل تطور الكائنات الحية. فمثلا عند الإنسان, الجنين تتكون له خياشيم تشبه خياشيم السمك. فى بعض مراحل التكوين الأولى, لا يمكن التمييز بين جنين الزواحف وجنين الطيور وجنين الثدييات. أليس هذا دليلا على أن جميع المخلوقات لها أصل واحد؟
الفلاحون والمشتغلون بتربية الحيوانات والطيور, مثل تربية الخيول والكلاب والحمام, يلاحظون التنوع الكبير لفصائل وأنواع هذه الحيوانات. وأن التهجين بين الفصائل المختلفة ينتج عنه فصائل جديدة. تنتقل صفاتها المكتسبة بالتهجين إلى أجيال جديدة. بعد عدة أجيال تصبح هذه الفصائل الجديدة بصفاتها المكتسبة مستقرة. وكما يقول دارون, هذا ما يحدث فى الطبيعة طوال الوقت.
كان من المعروف قبل دارون أن الحيوانات تتكاثر أسرع من معدل زيادة الغذاء المتوافر لها. هذا يؤدى بالطبع إلى المنافسة الرهيبة التى نشاهدها بين الحيوانات للبقاء على قيد الحياة. تنبه كومتيه دى بوفن وإيراموس جد دارون إلى هذا الأمر. لكن شارلز دارون كان الأول بين العلماء الذى رأى الفرق بين ما يقوم به مربى الحيوانات من إختيارهم للسلالات الجيدة, وما تقوم به الطبيعة من نفسها بإختيارها للسلالات القوية التى تستطيع البقاء.
قصة الخلق كما ترويها الأديان, بدأت تواجه بعض المشاكل فى القرنين السادس والسابع, عندما عادت الرحلات الإستكشافية بحيوانات غير مذكورة فى الكتاب المقدس. مخلوقات العالم الجديد وإستراليا كانت تختلف عن الحيوانات المعروفة فى العالم القديم. فى عام 1749م, صرح عالم الأحياء الطبيعية الفرنسى بوفون أن عمر الأرض أكبر بكثير من تقدير الأسقف أشر. وأن المخلوقات قد حدث لها تغيرات كبيرة منذ نشأتها. لكنه لم يوضح ماذا يعنى بهذه التغيرات الكبيرة.
قبل دارون جاء باتيست لامارك, العالم الفرنسى الكبير, فى القرن الثامن عشر ليقول أن الكائنات تتغير بإستمرار. ذلك بتأثير عوامل الطبيعة والتزاوج واستعمال الأعضاء أو إهمالها. الكائنات الحية الراقية نشأت من كائنات بدائية خلال فترة زمنية طويلة جدا. هذه الكائنات البدائية, نشأت بدورها ذاتيا من المواد الجامدة فى فترة من فترات تطور الأرض. التطور يحدث كما يرى لامارك, ببطء شديد, ويستغرق زمنا طويلا. الأنواع لم تضمحل وتنقرض, بل تغيرت تدريجيا وتطورت, ثم تحولت إلى أنواع جديدة.
تستند نظرية لامارك إلى عاملين أساسيين هما:
- إستعمال أى عضو من أعضاء الجسد, يزيد من حجمه وقوته. أما إهماله وإغفاله, فيسبب ضموره وضعفه.
- التغيرات الناجمة عن إستعمال أو إهمال العضو, تنتقل بالوراثة إلى الأبناء, وتتكرر هذه العملية لعدة أجيال قادمة.
حسب نظرية لامارك, البيئة والمجتمع الذى يعيش وسطه الكائن هى التى تشكله وتتحكم فى شكل أعضائه. الأشجار المرتفعة هى المسؤولة عن طول رقبة الزرافة. والبرك والمستنقعات هى التى جعلت أرجل الطيور طويلة حتى تستطيع أن تبقى جسمها خارج الماء. عدم إستخدام هذه الميزة يجعل رقبة الزرافة ورجلى الطائر, تعود إلى طولها الطبيعى. الرقبة والأرجل الطويلة تورث إلى الأجيال اللاحقة. عدم إستخدام أصابع أرجلنا جعلها ضامرة ضعيفة.
بالرغم من خطأ نظرية لامارك, إلا أنها لاقت قبولا واسعا بين العلماء لبساطتها ومعقوليتها. وظلت سائدة حتى ظهور نظرية التطور لدارون. الغريب أن الإتحاد السوفيتى السابق ظل يستخدم نظرية لامارك, ويرفض نظرية دارون حتى عام 1965م لأسباب سياسية. فقد كانت نظرية لامارك تتفق مع الفكر الإشتراكى الماركسى بعكس نظرية دارون. ولم تعد نظرية التطور لدارون إلى الإتحاد السوفيتى إلا بعد كارثة الإنتاج الزراعى التى حدثت فى الستينات والتى عزل بسببها الزعيم السوفيتى خروتشوف. هذا خطر تسييس العلوم أو إخضاعها للسلطة الدينية.
فى عام 1844م وقبل أن ينشر دارون أصل الأنواع, صدر كتاب تحت عنوان: "آثار التاريخ الطبيعى للخلق". بمجرد صدور الكتاب, ثارت ضجة عارمة وإجتاح الناس غضب جارف. سبب الغضب هو إثبات المؤلف, بإستخدام بقايا الكائنات المتحجرة, أن عملية الخلق مستمرة, لم تتوقف منذ بداية الخلق. مؤلف الكتاب كان الإسكتلندى روبرت تشامبرز.
بسبب رد الفعل العنيف الذى أحدثه هذا الكتاب, كان دارون مترددا فى نشر كتابه أصل الأنواع. وكان دارون يعتبر نشره لنظريته بمثابة إعتراف بجريمة قتل. لكن فى عام 1859م, كان العالم أشد تقبلا لفكرة التطور من ذى قبل.
لكن من هو دارون هذا الذى نتحدث عنه, وما هى نظريته, وكيف كان رد فعل العلماء والعامة على هذه النظرية الهامة والخطيرة؟ هذا ما سوف أناقشه فى المقالات القادم إنشاء الله.
zakariael@att.net
مصرنا ©