نظرية النسبية العامة لأينشتين
...............................................................
بقلم: محمد زكريا توفيق
...........................
فى مقال سابق ناقشت نظرية النسبية الخاصة لأينشتين بإختصار لأفتح شهية السادة القراء لهذه الموضوعات الهامة والجميلة التى يجب أن نلم بأصولها, أو على الأقل نأخذ فكرة عنها فى هذا العصر المبنى على العلم والتكنولوجيا.
أهم ما جاء بنظرية النسبية الخاصة لأينشتين, هو أن سرعة الضوء ثابتة لا تتغير. فهى تنطلق من المصباح أو تأتى إلينا من النجوم البعيدة بنفس السرعة. الذى يتغير فى الضوء هو طول الموجة والتردد. وهذا يعطينا الألوان. مثل الترددات المختلفة فى الموسيقى, تعطينا أنغاما مختلفة.
جاء بنظرية النسبية الخاصة لأينشتين أيضا, أن الأطوال والزمن نسبى. بمعنى أن السير بسرعة تجعل الجسم ينكمش فى إتجاه الحركة إذا قيس من بعيد. وتجعل الزمن يبطئ هو الآخر. أى أن ساعة الحائط التى تسير بسرعة إذا شاهدناها من بعيد نجدها دائما تشير إلى زمن أقل. (الساعة تؤخر وتحتاج إلى ضبط).
شئ آخر هام جاء بنظرية النسبية الخاصة, هو مساواة الكتلة بالطاقة. الطاقة تساوى حاصل ضرب الكتلة فى مربع سرعة الضوء (E=mc2). وهذا يعنى أن الضوء له طاقة وكتلة, وبالتالى له وزن. وأن الطيور وهى تطير لها كتلة أكبر منها لو كانت واقفة على الشجر. لأن سرعة الطائر تجعله يكتسب طاقة, والطاقة لها كتلة تزيد من كتلة الطائر.
فى عام 1907م بعد سنتين من نشر نظرية النسبية, كان أينشتين لا يزال يعمل فى مكتب تسجيل المخترعات ببيرن بسويسرا. لكنه بدأ يشعر أن نظريته محدودة ينقصها شئ هام. نظرية النسبية الخاصة تتكلم عن السرعات المنتظمة فقط. (سرعة منتظمة يعنى أنها لا تزيد أو تنقص). ولا تشمل السرعات المتزايدة أو المتناقصة بإطراد, أى التى تتحرك بعجلة تزايدية أو عجلة تناقصية. لذلك بدأ أينشتين التفكير فى نظرية جديدة تكون أعم وأشمل تأخذ فى الإعتبار التغير فى السرعات والحركة بعجلة. لكن كيف؟
فى محاضرة عام 1922م, أخبر أينشتين مستمعيه أنه بينما كان يجلس فى مكتب تسجيل المخترعات ببيرن, جاءه خاطر مباغت. لو سقط إنسان من إرتفاع شاهق, فإنه أثناء السقوط لن يشعر بوزنه. وبالتالى لن يشعر بجذب الأرض له. كانت هذه اللحظة هى أسعد اللحظات التى مر بها أينشتين فى حياته. لأن هذه الفكرة أعطته بداية الخيط الذى أوصله إلى نظرية النسبية العامة, التى تعتبر أهم وأخطر نظرية عرفها الإنسان حتى الآن.
نفترض أننا فى مصعد يستقر على سطح الأرض. إذا سقطت كرة من إرتفاع داخل المصعد فإن الكرة تسقط إلى أسفل وترتضم بأرض المصعد. لماذا؟ الجاذبية الأرضية بالطبع.
إذا إفترضنا أن المصعد مزود بمحرك نفاث جعله ينطلق إلى أعلى حتى يصل إلى منطقة بعيدة عن الكواكب والنجوم. فى هذه الحالة, إذا سقطت نفس الكرة من نفس الإرتفاع وكان المصعد يسير بعجلة أى تزيد سرعته بإطراد فى إتجاه السقف, فإن الكرة سوف تسقط أيضا إلى أرض المصد.
فى الواقع الكرة لم تسقط وإنما ظلت فى مكانها. أرض المصعد هى التى صعدت إليها. لكن يبدو لنا من الداخل, أن الكرة هى التى سقطت إلى أرض المصعد ما دامت سرعة المصعد تتزايد. وسوف نجد أيضا أن أرض المصعد تضغط على أقدامنا فنشعر بأوزاننا, كأننا نقف على الأرض تماما. هذا لا يحدث مع السرعة المنتظمة. لأن السرعة المنتظمة تجعل الكرة وتجعلنا نحن أيضا داخل المصعد نسبح فى الهواء بدون أوزان.
هل هناك فرق بين الحالتين؟ أى بين جاذبية الأرض, وحركة المصعد بعجلة؟ لا فرق. الجاذبية هى مجرد الحركة بعجلة, أى بسرعة متزايدة. وقام أينشتين بتسمية هذه الفكرة " مبدأ التكافؤ".
نحن الآن فى المصعد الذى يتحرك بعجلة فى إتجاه السقف. فى أحد الجدران يوجد ثقب صغير يسمح بشعاع من الضوء يأتى من الخارج, وليكن من نجم بعيد مثلا. بينما الضوء يسير داخل المصعد لكى يقع على الجدار المقابل, يكون الجدار قد تحرك قليلا إلا أعلى. وبذلك يقع الضوء فى هذه الحالة أسفل المكان المقابل للفتحة. نحن داخل المصعد, نرى الضوء قد إنحنى إلى أسفل. فنقول بأن الضوء ينحنى بتأثير الجاذبية. وهذا ما يقوله أينشتين, الجاذبية تحنى شعاع الضوء.
إكتشف أينشتين مبدأ التكافؤ هذا, أى تكافؤ الجاذبية مع الحركة بعجلة, عام 1907م, وقام بنشر هذا المبدأ فى نفس العام. ظل هذا الإكتشاف الهام فى طى النسيان حتى عام 1911م. خلال هذه المدة, كان أينشتين مشغولا ببحوث خاصة فى الفيزياء الكمية. لكنه عندما عاد لإستكمال أبحاثه عن النسبية والجاذبية, أصبح "مبدأ التكافؤ" مسألة هاجس وإستحواذ, إمتلكت عقله ولبه, ولم يعد يفكر إلا في هذه المسألة. وأخذت منه أربع سنوات كاملة لكى يكمل الفكرة ويتم نظريته الجديدة, نظرية النسبية العامة عام 1915م, والمعدلة عام 1916م.
فى عام 1911م, كانت أشهر الجامعات تتمنى أن تتعاقد مع أينشتين لكى يعمل بها. جاءته عروض من روسمان زميل الدراسة لكى يعمل فى معهد البوليتيكنيك ومن هندريك لورانتز من جامعة أوتريتشت ومن جامعة ليدن وجامعة فيينا وكولومبيا. لكن قلب أينشتين كان مع معهد البوليتيكنيك الذى تخرج منه. وبعد أن جاءته تزكية من العالم الفرنسى الكبير بوانكاريه وكذلك من عالمة الذرة مارى كورى, قامت الحكومة السويسرية بالتعاقد مع أينشتين لكى يعمل بالبوليتيكنيك لمدة عشر سنوات.
عندما عاد أينشتين للعمل فى البوليتيكنيك عام 1912م, تيقن أن هندسة إقليدس والرياضيات القديمة لا تصلح لإستكمال أبحاثه فى نظرية النسبية العامة الجديدة. لماذا لا تصلح هندسة إقليدس لمثل هذه الأبحاث؟
الدائرة لها محيط وقطر. المحيط هو الخط الذى يحيط بالدائرة, والقطر هو المستقيم الذى يصل بين نقطتين متقابلتين على المحيط مارا بالمركز. كل الدوائر التى نعرفها تتفق فى شئ واحد. هو أنه لو قسمنا طول المحيط على طول القطر لحصلنا على نسبة ثابتة نسميها "ط". ط هذه ليس لها علاقة بكبر أو صغر الدائرة. سواء كانت الدائرة فى مساحة العملة المعدنية أو فى مساحة ملعب كرة القدم أو أكبر أو أصغر, نسبة المحيط إلى القطر "ط", ثابتة لا تتغير فى جميع الدوائر. هذه النسبة قيمتها الحقيقية غير معروفة بالضبط, لكن قيمتها التقريبية تقدر ب 3.14 أو 22\7. (من الأخطاء الشائعة بين مدرسى الرياضيات هو إعتبار ط النسبة التقريبية. لكن التعريف الدقيق ل "ط", هو أنها النسبة الحقيقية لطول المحيط إلى القطر وليست التقريبية, أما النسبة التقريبية فهى 3.14 أو 22\7)
لكن إذا كنا نتكلم عن الفضاء وأبعاد النجوم وشعاع الضوء الذى ينحنى والأطوال التى تنكمش مع السرعة, لا تصلح لدينا القوانين التى تقول أن مجموع زوايا المثل 180 درجة, ونسبة محيط الدائرة إلى قطرها هى "ط". لماذا؟
لأنه مثلا, إذا كان لدينا صاروخ يسير بسرعة تقدر بنصف سرعة الضوء ويدور فى محيط دائرة. فإن طول محيط الدائرة سوف ينكمش بمقدار 13%. لكن القطر يظل ثابتا لأنه عمودى على الحركة. (الأطوال تنكمش فى إتجاه الحركة فقط). وبذلك تكون نسبة محيط الدائرة إلى القطر أصغر من ط بمقدار 13%.
لوكان لدينا شعاع يسير بالقرب من نجم كبير مثلا فسوف ينحنى الشعاع ولن يصبح خطا مستقيما. والخطوط المنحنية إذا كونت مثلثا فإن مجموع زواياه قد تزيد عن 180 درجة أو تقل عن 180 درجة, حسب نوع الإنحناءات هل هى محدبة أو مقعرة.
وجد أينشتاين أن أفضل هندسة يمكن أن تساعده فى حساباته هى هندسة ريمان. هذه الهندسة أسسها عالم الرياضيات الألمانى بهرهارد ريمان عام 1854م. وهى لا تعمل فى مستوى واحد مثل هندسة إقليدس, وإنما على أسطح منحنيات, كروية ومقعرة ومحدبة وعلى شكل سرج الحصان وغيرها. ولكى يستطيع أن يستفيد أينشتين من هذه الهندسة, عليه أن يعيد كتابة معادلاته لكى تصف الحركة فى فراغات منحنية وليست مستوية.
وجد أينشتين أنه أمام عمل جبار, وأن نظرية النسبية الخاصة التى نشرها عام 1905م كانت بمثابة لعب عيال بالمقارنة بما ينوى الخوض فيه. وحيث أنه عالم فيزياء وليس عالم رياضيات, وجد نفسه مضطرا إلى الإستعانة بصديقة الوفى روسمان الحاصل على دكتوراة فى الرياضيات والذى يعمل بالتدريس منذ سنوات. روسمان كان أكبر فى السن من أينشتين بسنة واحدة, وكان صديقا وفيا لأينشتاين أثناء الدراسة وكان يعيره ملخصاتة وهى التى ساعدت أينشتين على التخرج.
كان روسمان سعيدا بمساعدة أينشتين, لكنه حذره بأنه غير مسؤول عن الناحية الفيزيائية فى شطحات أينشتين. مسؤولية روسمان تنحصر فى جانب العلوم الرياضية فقط.
الثلاث سنوات التالية كانت أصعب السنوات بالنسبة لأينشتين. فبعد بدايات خاطئة كثيرة ونهايات غامضة غير سليمة, إستكملت نظرية النسبية العامة. النظرية النهائية تحتوى على معادلات رياضية عالية المستوى وتطبيقاتها العلمية صعبة حتى على المتخصصين. لكن هذا لا يمنع أن كل العلماء الآن يتفقون على أن هذه النظرية الجميلة, ليست فقط أعظم أعمال أينشتين, لكنها نظرية كاملة تعتبر من أهم نظريات الفيزياء, بل من أعظم النظريات التى ظهرت فى العلوم على الإطلاق.
بعد نشر نظرية النسبية الخاصة عام 1905م, قام البروفيسور هيرمان مينكوفسكى أستاذ الرياضيات وأستاذ أينشتين, عندما كان طالبا, بتطوير مجموعة معادلات رياضية تعبر عن نظرية النسبية الخاصة بإستخدام ثلاثة أبعاد للفراغ وبعد رابع للزمن. قام أينشتين بإستخدام هذه المعادلات فى نظريته الجديدة, نظرية النسبية العامة.
فكرة إستخدام الزمن كبعد رابع ليست غريبة علينا ونستخدمها طول الوقت. فى هندسة إقليدس, ليس هناك زمن. عندما نستخدم الزمن فى قياس سرعة وعجلة الأجسام المتحركة, نستخدمه كعنصر مستقل عن الفراغ والحجوم. لكن ليس هناك ما يدعو إلى فصل الزمن كبعد عن الفراغ بأبعاده الثلاثة. وسوف أوضح ذلك.
إذا كانت النقطة تتحرك على الخط المستقيم. فهنا بعد واحد, يحدد مكان النقطة من بداية الخط. وإذا كانت النقطة تتحرك فى مستوى, صفحة من كراسة مثلا. فإننا يمكن تحديد مكان النقطة ببعدها عن خط رأسى وخط أفقى. أى أننا نحتاج إلى بعدين لتحديد مكان النقطة. وإذا كانت النقطة أو الجسم فى الفراغ, مصباح يتدلى من منتصف الغرفة مثلا. فيلزمنا ثلاثة أبعاد لتحديد مكان المصباح. بعده عن حائط ما, وبعده عن حائط آخر عمودى على الحائط الأول, وكذلك إرتفاع المصباح عن سطح الأرض. هذه الأبعاد الثلاثة تمكننا من تحديد مكان المصباح فى أى مكان فى الغرفة. فى هذه الحالة لدينا أبعادا ثلاثة.
نحن الآن نتكلم عن أشياء, نقطة أو مصباح, ولكن لا نتكلم عن أحداث. الأحداث تستلزم وجود بعد رابع هو الزمن. إذا إتفق إسماعيل على أن يقابل حسن فى مطعم يقع بالدور الخامس فى العمارة التى تقع فى شارع كذا المتقاطع مع طريق كذا فى تمام الساعة الواحدة ظهرا. هنا يلزمنا أربعة أبعاد لكى يتم هذا الحدث. إسم أو نمرة الشارع وإسم أو نمرة الطريق القاطع لهذا الشارع ورقم الدور الذى يوجد به المطعم والبعد الرابع هو الساعة الواحدة ظهرا, أى الزمن.
الفرق بين الزمن والأبعاد الثلاثة الأخرى هو أنك تستطيع الحركة على هذه الأبعاد الثلاثة مجيئة وذهابا. يمين وشمال. إلى الأمام وإلى الخلف. لكن الزمن يسير فى إتجاه واحد. إلى الأمام فقط. مثل السهم المنطلق من القوس. لا يرجع إلى الوراء. فى الواقع الفراغ بأبعاده الثلاثة يسير مع الزمن إلى الأمام, مثل القطار الذى يسير إلى الأمام, والزمن يمثل المحطات التى يمر بها. هذه فكرة الزمن كبعد رابع فى نظرية النسبية. ومن الآن عندما أذكر الفراغ فأعنى "الفراغ_زمن", بأبعادة الأربعة بما فيها الزمن.
نظرية النسبية العامة تقول بأن كل جسم يمط أو يحنى الفراغ حوله. وهذا بالتالى يؤثر فى أى جسم آخر يدخل فى هذا الفراغ الممطوط. الفراغ الذى نتحدث عنه له أربعة أبعاد. ومن الصعب تصور إنحنائه. لكن يمكن توضيح الفكرة فى بعدين فقط.
تخيل ملاية سرير مشدودة من أربع أركان. سوف نجدها فى مستوى أفقى. أما إذا وضع فى وسطها كرة من الحديد مثلا. فإنها سوف تهبط من الوسط عن المستوى وتخلق حولها مساحة هابطة حولها بحيث إذا وضعت كرة صغيرة أخرى على الملاية فإنها تنزلق إلى أن تصل إلى الكرة الحديد الأصلية. من يشاهد ذلك يقول بأن الكرة الحديد جذبت الكرة الصغيرة, لكن فى الواقع, إنحناء الملاية هو الذى جعل الكرة الصغيرة تنزلق إلى المركز. وإذا دفعنا الكرة الصغير فى إتجاه عمودى, فإنها تدور حول الكرة الحديد.
كذلك الشمس تمط الفراغ حولها. الأرض وباقى الكواكب تدور حول الشمس. لا بسبب الجاذبية الشمسية, ولكن بسبب أن الفراغ حول الشمس ممطوط أو منحنى.
فى تجربة المصعد والثقب الذى ينفذ منه الضوء, وجدنا أن الضوء ينحنى إلى أسفل. وقلنا أن حركة المصعد بعجلة هى التى جذبت الضوء إلى أسفل. على كل حال, الفراغ داخل المصعد لا تنطبق عليه هندسة إقليدس. لأن الضوء لا يمشى في خطوط مستقيمة وليست مجموع زوايا المثلث 180 درجة و قيمة "ط" أقل من 3.14 وهذا ما نعنى بالفراغ المنحنى.
كان يعلم أينشتين أن تأثير إنحناء الفراغ على الضوء صغير جدا من الصعب قياسه. إننا نحتاج إلى كتلة ضخمة مثل الشمس لكى تجعل الضوء يحيد عن مساره بمقدار يمكن قياسه. حسب أينشتين حيود الضوء من نجم معين يرافق الشمس بإستخدام معادلاته.
عندما يظهر النجم ليلا يمكن تحديد مكانه. وعندما يظهر مع الشمس, يكون من الصعب رؤيته بسبب ضوء الشمس الساطع. وعلينا أن ننتظر كسوفا للشمس لمعرفة موقع النجم عندما يمر ضوؤه بالقرب من الشمس.
فى عام 1914م, قام فلكيون ألمان بإلذهاب إلى روسيا لإختبار صحة نظرية أينشتين بخصوص إنحراف مسار الضوء لهذا النجم وقت كسوف الشمس. لكن بسبب ظروف الحرب فى ذلك الوقت, تم أسر الفلكيين الألمان وتدمير أجهزتهم. أطلق سراحهم فيما بعد, لكن البعثة باءت بالفشل الذريع.
لحسن حظ أينشتين أن البعثة فشلت. لأن حساباته لحيود مسار ضوء النجم لم تكن صحيحة. وكانت معادلاته التى إستخدمها خاطئة. لكن عندما نشر الصيغة النهائية لنظرية النسبية العامة عام 1916م, أعاد أينشتين حساب حيود مسار ضوء النجم وجاء برقم جديد.
فى عام 1919م, قام الفلكى البريطانى المشهور آرثر إيدنجتون بتنظيم بعثة إلى جزيرة برنسيبى فى غرب أفريقيا, لإختبار تنبؤ أينشتين الجديد. ولمدة 19 يوما قبل كسوف الشمس كان الجو صحوا والسماء صافية. لكن يوم الكسوف, كانت السماء ملبدة بالغيوم. وعندما بدأ كسوف الشمس وأخذ قرص القمر يحجب قرص الشمس, لم يظهر أي نجم من وراء السحب. لكن لحسن الحظ, قليل من النجوم بدأت تظهر من وراء السحب فى الخمس دقائق الأخيرة للكسوف. وعندها قام إيدنجتون بتصوير النجوم التى ظهرت فى خمس لقطات فوتوغرافية.
عاد إيدنجتون إلى إنجلترا لكى يفحص لوحاته الفوتوغرافية ويقوم بعمل حساباته. النتيجة أثبتت أن الضوء القادم من هذه النجوم, قد تغير مساره وإنحرف ناحية الشمس بمقدار يطابق تماما المقدار الذى تنبأ به أينشتين بإستخدام معادلاته الرياضية فقط.
لكى يتأكد أينشتين أن معادلاته الخاصة بنظرية النسبية العامة صحيحة فى كل الحالات, قام بتطبيقها أيضا على مشكلة الكوكب عطارد. ولكن ما هى مشكلة عطارد هذه؟
المسلمون كانوا متقدمين جدا فى علم الفلك. رصدوا النجوم وصححوا أخطاء كتاب المجسطى فى الفلك وإخترعوا الإسطرلاب وخلافه, لكنهم كانوا أسرى مركزية الأرض, وفكرة أن الكواكب تدور حول الأرض فى دوائر كاملة. جاء بعدهم كبلر ليقول بأن الأرض والكواكب تدور حول الشمس فى مسارات إهليليجية (بيضاوية). لكن الفلكى الفرنسى أوربين لي فيرير, إكتشف أن كل الكواكب تتبع قانون كبلر فيما عدا كوكب عطارد. فهو يدور فى مدار بيضاوى غير كامل. بمعنى أنه قبل أن يقفل عطارد المدار البيضاوى, يقوم بالسير فى مدار جديد. مثل الزنبرك أو الياى. دائرة مفتوحة تقود إلى دائرة أخرى مفتوحة وهكذا.
لتفسير مدار عطارد الغريب دون باقى الكواكب, إفترض علماء الفلك وجود كوكب آخر بجوار عطارد لم يكتشف بعد. وبدأوا البحث عنه بين النجوم. لكن دون فائدة. ليس هناك كوكب آخر. وظلت المشكلة قائمة إلى أن ظهرت نظرية النسبية العامة.
قام أينشتين بحساب إنحناء الفراغ بالقرب من الشمس حيث يوجد مدار عطارد, وهو أقرب الكواكب إلى الشمس. معادلاته أوضحت أن عطارد لا يقوم بإتمام مساره البيضاوى بالضبط مثل باقى الكواكب, لأن إنحاء الفراغ بالقرب من الشمس يجذبه بعيدا عن المسار بمقدار صغير يعادل 42.98 جزء من 3600 جزء من الدرجة الواحدة. (الدائرة تساوى 360 درجة). وهو رقم يتفق تماما مع حسابات الفلكيين التى تقدر درجة حيود عطارد بين 42.91 و 43.33 جزء. (الفلكيون دائما لا يستخدمون رقما واحدا للدلالة على قيم أرصادهم بسبب إحتمالات الخطأ فى عملية الرصد)
بعد عودة إيدنجتون إلى إنجلترا وإعلانه عن نتائج بعثته الفلكية التى تطابق حسابات أينشتين, أصبح أينشتين موضوع مانشتات الصحف الكبرى فى أوروبا وأمريكا. جريدة النيويورك تايمز نشرت عدة مقالات بعنوان: "ثورة فى العلوم", "نظرية جديدة لتفسير الكون", "أفكار نيوتن لم تعد صالحة". والصحف الأوروبية بدأت تبحث عن كتاب علميين وعلماء لتوضيح النظرية الجديدة للقراء. وأحد الصحف الألمانية, وضعت صورة أينشتين فى صفحتها الرئيسية مع مانشيت يقول: "مارد جديد فى التاريخ العالمى: البرت أينشتين, الذى تعنى أبحاثه تغيير مفهومنا للطبيعة والكون من حولنا. أبحاثه تجعله يقف إلى جوار كوبرنيق وكبلر ونيوتن". أصبح أينشتين فجأة أشهر المشهورين فى العالم.
أكمل أينشتين نظرية النسبية العامة عام 1915م, وقام بتعديلها عام 1916م. بعد جهد جهيد دام ثمان سنوات بحثا عن المعادلات الصحيحة التى تمثلها. وعند الإنتهاء منها وصفها بأنها: "نظرية لا تقارن فى الجمال", و"أعظم إكتشافت حياتى". وهى أوصاف يتفق معه فيها كل علماء الفيزياء. وفى مؤتمر تريستى بإيطاليا عام 1968م, قال العالم الإنجليزى بول ديراك, أن نظرية النسبية العامة: "ربما تكون أعظم الإكتشافات العلمية التى ظهرت حتى الآن".
نظرية النسبية العامة يمكن تلخيصها فى جملة واحدة وهى: "إنحناء الفراغ يتوقف على كمية المادة والطاقة الموجودة فيه". وهى مكونة من عشر معادلات رياضية, حلها فى غاية الصعوبة ويتطلب تخصصا فى الرياضيات التطبيقية على مستوى عالى جدا. وحتى وقتنا هذا, لم تظهر سوى حلول قليلة لهذه المعادلات.
حسب نظرية النسبية ومعادلات أينشتين, الشمس تمط الفراغ المحيط بها وتحنيه بطريقة تؤثر على أى جسم آخر يقع فى هذا الفراغ, وتجعله يغير من حركته. الشمس ليست فقط هى التى تحنى الفراغ المحيط بها, ولكن كل شئ. أنا وأنت والكرة الأرضية وباقى الكواكب والنجوم والمجرات. لكن من الصعب قياس إنحناء الفراغ بالنسبة للأشياء العادية أو حتى بالنسبة للكرة الأرضية. الأشياء الكبيرة مثل الشمس أو النجوم هى التى يمكن قياس إنحناء أو إعوجاج الفراغ حولها. وبالرغم من ذلك, فإنحناء الفراغ بسبب الشمس يمثل جزئين فى المليون. هذا الإنحناء يمكن قياسه عمليا كما فعل الفلكى أيدينجتون, ويمكن إيجاده بالمعادلات الرياضية, وهذا ما فعله أينشتين.
أول محاولة لإستخدام نظرية النسبية العامة لأينشتين, كانت لعالم الفلك كارل شوارزتشيلد فى نهاية عام 1915م. فبعد صدور نظرية النسبية العامة, بدأ كارل فى تطبيقها على الفلك خارج النجوم. وافترض أن النجوم لا تدور حول نفسها حتى يبسط المعدلات الرياضية فيسهل حلها. وبعد عدة أيام, إستطاع كارل حل المعادلات بطريقة مبسطة جميلة. وأرسل النتائج إلى أينشتين الذى سر بها وقام بعرضها فى مؤتمر علمى فى بروسيا عام 1916م.
بعد أيام قليلة, وصلت أينشتين رسالة أخرى من شوارزتشيلد, يحسب فيها هندسة الفراغ داخل النجوم. وقام أينشتين أيضا بعرض الرسالة الثانية فى مؤتمر علمى لعلماء الفيزياء. الرسالة الأولى والثانية لشوارزتشيلد أصبحتا النموذج والقياس الذى يحتذى به كل علماء الفيزياء.
لم يكن كارل شوارزتشيلد يرسل هذه الرسائل العلمية من مكتبه فى الجامعة أو من أحد مراكز البحث العلمى. لكنه كان يرسلها من الجبهة الروسية فى الحرب العالمية الأولى. فقد كان كارل متطوعا فى الجيش الألمانى. وقام بأبحاثه وهو يختبئ فى الخندق وتحت ظروف فى منتهى القسوة. وتنتهى القصة الحزينة بوفات شوارزتشيلد عن عمر يناهز الواحد والأربعين, بسبب عدوى أصابته وهو فى الجبهة, وقبل أن يرى نتائج أبحاثه الرائعة بإعتراف اينشتين نفسه.
فكرة الثقوب السوداء لم تأت مع أينشتين أو كارل شوارزتشيلد. بل كانت موجودة منذ عام 1700م. وجاءت عندما نشر العالم الإنجليزى جون ميشيل رسالة يبحث فيها حالة الضوء بالنسبة للنجم فى نهاية عمره عندما ينكمش حجمه بسبب نفاذ الوقود داخله, وتظل كتلته كما هى.
إذا ألقينا كرة رأسيا إلى أعلى, فإن الكرة ترتفع ثم تهبط إلى سطح الأرض. ولو ألقيناها بقوة أكبر, فإنها ترتفع مسافة أكبر. وإذا إستخدمنا مدفعا مثلا, فإن الكرة ترتفع إلى بعد شاهق, ولكنها تعود ثانية إلى الأرض. الكرة تعود إلى الأرض بسبب عجلة الجاذبية. ولكن هل يمكن أن نقذف الكرة بشدة بحيث تتغلب على عجلة الجاذبية ولا تعود ثانية إلى الأرض؟ نعم إذا قذفناها بسرعة لا تقل عن 11 كيلومتر فى الثانية, فإن الكرة تغادر الأرض ولا تعود إليها. وهذا ما يحدث عندما نطلق الصواريخ إلى القمر أو إلى الأجرام السماوية الأخرى.
بالنسبة لسطح الشمس, نحتاج إلى سرعة لا تقل عن 617 كيلومتر فى الثانية لكى نهرب من جاذبية الشمس. الضوء سرعته 300 الف كيلومتر فى الثانية. لذلك يهرب بسهولة من الشمس ويصل إلينا وإلى الفضاء الخارجى. لكن عندما يموت النجم وينكمش حجمه وتبقى كتلته كما هى, فى هذه الحالة تزداد جاذبيته لأن سطحه يقترب من مركزه. وفى هذه الحالة نحتاج إلى سرعة أكبر بكثير لكى نهرب من جاذبيته إذا كنا بالقرب من سطحه.
أدرك جون ميشيل أنه من الممكن أن يوجد نجم له حجم صغير وكتلة كبيرة جدا, وهذا ما يحدث للنجوم عندما تموت. فى هذه الحالة تكون جاذبيته كبيرة إلى الدرجة التى لا تسمح للضوء نفسه من الهرب إلى الفضاء الخارجى. ويصبح النجم فى هذه الحالة نجم أسود أو ثقب أسود لا يهرب من جاذبيته شئ.
حسب ميشيل الحجم اللازم لكى يصبح النجم ثقبا أسودا, فوجد أن الشمس مثلا عليها أن تنكمش إلى كرة قطرها لا يزيد عن 6 كيلومترات لكى تتحول إلى ثقب أسود.
عندما حل شوارزتشيلد معادلات أينشتين وهو فى الجبهة الروسية, بدأت فكرة الثقوب السوداء تظهر من جديد. وجاءت حسابات شوارزتشيلد مطابقة لحسابات ميشيل من قبل. أى أن الشمس عليها أن تنكمش إلى كرة قطرها 6 كيلومترات لكى تتحول إلى ثقب أسود لا يستطيع الضوء الهرب منه.
لكن هنا مشكلة. ميشيل كان يعتبر الضوء عبارة عن كرات صغيرة يمكن أن نقذفها إلى أعلى فتبطئ من سرعتها وتعود إلى الأرض. لكن النسبية الخاصة لأينشتين تقول بأن الضوء يسير بنفس السرعة ولا يمكن تغيير سرعته. فكيف حسب شوارزتشيلد حجم الثقب الأسود.
النسبية الخاصة لأينشتين تقول بأن سرعة الضوء لا تتغير, ولا يمكن زيادتها أو نقصانها. لكن موجات الضوء يمكن تغييرها. النجوم والمجرات التى تبتعد عنا بسرعات كبيرة, نجد ضوءها يحيد فى إتجاه اللون الأحمر. والنجوم التى تقترب منا يحيد ضوؤها فى إتجاه اللون الأزرق.
مثل صوت القطار القادم إلينا نجده يختلف عن صوت القطار المبتعد عنا. لماذا؟ لأن القطار القادم, صوته مضغوط فى إتجاهنا, والقطار المبتعد عنا صوته متخلخل بعيدا عنا. وهذا ما يحدث للضوء, لكن سرعته لا تزال ثابتة. هذه الظاهرة تسمى ظاهرة دوبلر.
حسابات شوارزتشيلد وجدت أن الجاذبية الشديدة أو الفراغ المنحنى يؤثر على موجات الضوء, وليس على سرعتة. كلما زادت الجاذبية زادت الخلخلة فى موجات الضوء إلى أن تصبح مسطحة. فى هذه الحالة لن يكون هناك ضوء.
هذه قصة نظرية النسبية العامة لأينشتين. رائعة الروائع. تحكى إنتصار العقل البشرى ونضاله الحر. حكاية عظيمة بكل المعايير. تبين جهود الصفوة من العلماء والمفكرين. عمل جبار لحل لغز هذا الكون الذى نعيش فيه.
لم ينفرد أينشتين بفعل كل شئ من الألف إلى الياء بمفرده كما هو الحال فى بلادنا المنكوبة. لكنه وجد العون والتشجيع من أصدقائه وزملائه وأساتذته. ولم يخجل من الوقوف على أكتاف عمالقة سبقوه لكى يستفيد من أبحاثهم المنشورة. عمل جماعى فقدناه منذ أفلت شمس حضارتنا من زمن ولى وفات.
كان أينشتين بمثابة القبطان الواعى المدرك لضخامة وخطورة العمل الذى يقوم به, قاد السفينة بمهارة فائقة ولم يعبأ بشدة الأمواج وقسوة الرياح وغزارة السيول. لم يخجل من تصحيح المفاهيم الخاطئة التى ثبت بطلانها. ولم يخف من مواجهة الباطل حتى ولو كان مألوفا ومستقرا فى عقول الناس.
تواضع جم وعزيمة فولاذية وقناة لا تلين وإصرار ندر وجوده. عزم وكفاح لا نجده اليوم بين رجالنا المحترمين. شمعة من الشموع التى تضئ وتحترق لكى تنير للبشرية طريقها إلى المعرفة الحقيقية. وياريت نقرأ ونتعظ ونتعلم, ونقلد هؤلاء العظام الذين قل أن يجود الزمان بمثلهم.
zakariael@att.net
مصرنا ©