أينشتين ونظرية النسبية الخاصة
...............................................................
بقلم: محمد زكريا توفيق
..........................
منذ مئة عام تقريبا, رأى شاب صغير يعمل بالخدمة المدنية فى سويسرا أن قوانين ونظريات علم الفيزياء غير سليمة وبها قصور. لذلك قام بالعمل على إصلاحها. ما فعله هذا الشاب كان من الأهمية والخطورة إلى الدرجة التى جعلت مجلة عالمية مثل مجلة التايم تنتخبه رجل القرن العشرين. واعتبرته أفضل المرشحين من بين ملوك وملكات وقادة عسكريين ورؤساء جمهوريات وثوار وفنانين ونجوم سينما ومسرح وزعماء دين ومصلحين إجتماعيين وغيرهم. هذا الشاب هو البرت أينشتين, موضوع مقالنا هذا.
أصيبت والدته بخيبة أمل كبيرة عندما وقع نظرها عليه أول مرة. الرأس كبيرة معوجة, والأذنان كبيرتان مفلطحتان لا تتناسبان مع حجم الجسم. لكن عقل أينشتين, وليس شكل رأسه, هو الذى جعله متميزا عن باقى البشر. وسنعرف لماذا.
ترك أينشتين وصية بالتبرع بمخه بعد وفاته لأغراض البحث العلمى. وعندما توفى عام 1955م, قام توماس هارفى عالم الباثولوجيا بفحص بعض خلايا مخه. لكنه لم يجد شيئا بها يتميز عن خلايا مخ البشر. لكن فى عام 1999م, اكتشفت ساندرا ويتلسون من جامعة ماكماستر بكندا أن مخ أينشتين ليس به تجاعيد توجد عادة فى منطقة المخ الخاصة بالتخيل وتقدير المسافات وعلوم الرياضيات.
شكل مخ أينشتين وحده ليس هو المسؤول عن عبقريته, لكن المسؤول أيضا وبدون شك, الوسط الذى نشأ فيه والقضايا العلمية التى كانت موجودة أيامه. عبقرية مثل عبقرية أينشتين لا يمكن أن تظهر فى مجتمعاتنا لأن الوسط العلمى عندنا للأسف لا يسمح بذلك.
لم يكن أينشتين فى طفولته الطفل المعجزة. بالعكس, تعلم النطق فى سن متأخرة, وكان فى سن الرابعة منطويا لا يميل إلى اللعب مع باقى الأطفال. مما سبب قلقا كبيرا لوالدته, فقد كانت تخشى أن يكون معاقا. وكان فى صباه عادى جدا, لكنه كان مستقل التفكير. وبسبب إستقلاله فى التفكير هذا, كان الكثيرون من مدرسيه يتنبأون له بالفشل فى دراسته وبمستقبل مظلم. قليل جدا من أساتذته هم الذين لمسوا ذكائه, لكن لا أحدا منهم تنبأ له بهذه المكانة العلمية الرفيعة التى وصل إليها.
عندما كان فى سن الرابعة أو الخامسة, أعطاه والده عندما كان مريضا يرقد فى السرير, بوصلة مغناطيسية. حركة البوصلة وإستقرارها دوما, ولسبب لا يعرفه, فى وضع يشير إلى الشمال, ترك أثرا عميقا فى نفسه لم يفارقه طيلة حياته. لماذا تشير البوصلة إلى جهة الشمال بصفة دائمة؟ إنه يريد أن يعرف. طلب المعرفة المبكر هذا تحول إلى طلب لمعرفة كيف تعمل قوانين هذا الكون.
فى سن التاسعة, التحق أينشتين بالمرحلة الثانوية وظل بها حتى سن الخامسة عشر. حيث قام بدراسة اللغات الحديثة والجغرافيا والأدب والرياضيات. وكانت أفضل المواد الدراسية عنده هى اللغة اللاتينية والرياضيات. وكان يحصل فيها على أعلى الدرجات. أما اللغة اليونانية, فقد كان يكرهها وكان أداؤه يغضب دائما مدرسها.
عندما وصل إلى المرحلة السابعة, إستدعاه مدرس اللغة اليونانية إلى مكتبه وطلب منه ترك المدرسة. فأجابه أينشتين بأنه لم يفعل شيئا مسيئا. أجاب المدرس: "مجرد وجودك داخل الفصل يفسد إحترامى لباقى الطلبة". لكن الدكتور فرديناند روس مدرس الأدب الألمانى والتاريخ القديم, كان يختلف عن باقى المدرسين. فهو لا يعتمد على التلقين والحفظ فى التدريس, وكان يحفذ الطلبة على التفكير, واكتشاف الحقائق بأنفسهم. لذلك كان أينشتين يكن إحتراما كبيرا للدكتور روس. وعندما كان أينشتين مشهورا, قرر زيارة الدكتور روس مدرسه السابق المفضل. لكن الدكتور روس لم يتعرف على أينشتين, وظن أنه, بسبب شعره المنكوش وملابسه الرثه, متسولا جاء متخفيا يطلب حسنة. وأمر خادمه بإلقاء أينشتين إلى الشارع.
فى سن الثانية عشر, أعطاه عمه كتابا فى الجبر, وقال له أن الجبر علم ممتع. "أنت تذهب لصيد الحيوانات الصغيرة ولا تعرف ما هى. لذلك نسميها س. وعندما ينتهى الصيد, نعطيها إسمها الحقيقى". فى سن الثالثة عشر, كان يقرأ لعمانويل كانط "نقد العقل المحض", وظل مولعا بدراسة الفلسفة جل عمره إلى جانب دراسته للعلوم. وقال فى مذكراته, أنه كان يقرأ الكتب العلمية فى صباه وكان يراها تتعارض مع قصص الكتاب المقدس. لذلك كان يشك فى كل أنواع السلطات والمؤسسات الدينية, وهو شك لم يفارقه طوال حياته بالرغم من أصل ديانته اليهودية.
فى عام 1894م, قرر والد أينشتين إغلاق المصنع الذى كان يمتلكه هو وأخيه, والذهاب إلى إيطاليا لتجربة حظه هناك. كان عمر أينشتين فى ذلك الوقت 15 سنة. وباقى له لإكمال دراسته الثانوية ثلاثة أعوام. لذلك قرر والده تركه فى ميونخ لإستكمال دراسته الثانوية. لكنه بعد 6 شهور, أصيب بإكتئاب شديد جعله يترك ميونخ لكى يلحق بوالديه فى إيطاليا.
فى إيطاليا, وعد أينشتين والديه بإستكمال دراسته بنفسه والإستعداد لإمتحان القبول لمعهد البوليتكنيك الفيدرالى بمدينة زيورخ, والذى لم يكن يتطلب الحصول على شهادة إتمام الدراسة الثانوية. المطلوب فقط النجاح فى إمتحان القبول بالمعهد.
فى سن السادسة عشر, ذهب أينشتين لأداء إمتحان القبول فى زيورخ بإذن خاص, لأن سن القبول كان 18 سنة. وكان عليه أن ينجح فى مواد التاريخ السياسى واللغة الألمانية والفرنسية والرسم والرياضيات والهندسة الوصفية والبيولوجيا والكيمياء والطبيعة. وعليه فوق ذلك أن يكتب مقالة.
نجح أينشتين فى مواد الرياضيات والفيزياء وحصل على درجات عالية, لكنه رسب فى باقى المواد. إلا أن مدير المعهد وجد شيئا فى أينشتين. فطلب منه أن يحصل على دبلومة الدراسة الثانوية السويسرية وبعدها يقوم بإعادة المحاولة. البروفيسور "وبر" كان منبهرا بإجابة أينشتين فى مادتى الرياضيات والفيزياء. فطلب منه أن يقوم بمساعدته فى تصحيح أوراق طلبته إذا قرر البقاء فى زيوريخ.
إلتحق أينشتين بمدرسة ثانوية بقرية أرو بسويسرا. وقضى بها أجمل أيامه. وكان مدير المدرسة رجل ليبرالى يشجع أسلوب التفكير والنقد فى التدريس, بدلا من التلقين والحفظ لحقائق ومعلومات سبق إكتشافها, وتؤخذ كقضايا مسلم بصحتها. هذا الجو كان يناسب طبيعة أينشتين تماما. وهناك بدأت بذور نظريته فى النسبية الخاصة. حيث كان يسائل نفسه, ماذا يحدث لى لو ركبت شعاع الضوء وسرت معه بسرعته؟ هل يمكن رؤية بداية شعاع الضوء؟
فى عام 1896م, أكمل أينشتين دراسته الثانوية بتفوق عظيم. وحصل على الدرجات النهائية فى معظم المواد. ماعدا اللغة الفرنسية وكادت تتسبب فى رسوبه. لكنه نجح وتم قبوله بمعهد البوليتكنيك فى زيورخ بالرغم من أن سنه كانت تقل 6 أشهر عن الحد الأدنى للقبول.
أثناء دراسة أينشتين بمعهد البوليتكنيك, كان أينشتين يدرس كتبا غير مقررة لمجرد أنها تشمل موضوعات يريد أن يعرفها. وكان لا يهتم بالمحاضرات فى المواد التى كان يكرهها. لذلك كانت مدوناته مليئة بالفجوات التى لا تصلح للإستذكار والإستعداد للإمتحان النهائى. وكان المدرسين فى المعهد لا تتقيد بكتب أو مراجع معينة. لذلك كانت محاضراتها خارج الكتب. لكن لحسن حظ أينشتين أن كان له زميل صديق وفى, يدعى مارسيل جروسمان.
على العكس من أينشتين, كان جروسمان يواظب على حضور وكتابة كل المحاضرات بإهتمام بالغ. هذا الصديق هو الذى ساعد أينشتين بعد التخرج فى الحصول على وظيفة فى مكتب تسجيل المخترعات. وهو الذى عندما صار فيما بعد عميدا لكلية الرياضة والفيزياء, أمد أينشتين بالمعادلات الرياضية المتقدمة اللازمه لإستكمال نظريته, نظرية النسبية العامة. مدونات جروسمان وملخصاته ساعدت أينشتين فى التخرج من معهد البوليتيكنيك عام 1898م.
بعد التخرج من معهد البوليتيكنيك عام 1900م وحصوله على درجة البكالوريوس فى الفيزياء, كان أينشتين يرغب فى مواصلة حياته الأكاديمية والحصول على درجة الدكتوراة فى فلسفة العلوم. لذلك قام بطلب وظيفة مساعد أستاذ للدراسات العليا فى معهد البوليتيكنيك. لكن لم يقبل طلبه بسبب سلوكه قبل مدرسيه. فقد كان دائم المعارضة والنقاش. ويميل إلى إحراج مدرسيه وإثبات خطئهم ووقوعهم فى التناقض. فضلا عن أنه لم يكن يهتم بحضور العديد من المحاضرات. وكان يحضر فقط المحاضرات التى تروق له. لذلك كان الوحيد بين أقرانه الخريجين الذى لم يجد عملا يتعيش منه.
راسل أينشتين كل الجامعات المعروفة فى عصره يطلب عملا فى قسم الطبيعة, وكان يرفق مع الطلب صورة من البحث الذى أتمه بعد تخرجه. لكن دون فائدة. وأخيرا بعد 18 شهرا من البطالة, يئس من الحصول على وظيفة أكاديمية فى أحد الجامعات. ومع مساعدة صديقه الوفى جروسمان, وجد أخيرا وظيفة فى مكتب توثيق المخترعات فى مدينة بيرن بسويسرا.
فى عام 1900م, أى السنة التى تخرج فيها أينشتين, كانت علوم الفيزياء تمر بأزمة شديدة. مع الإكتشافات الجديدة فى عالم الكهرباء والمغناطيسية والذرة, بدأت النظريات القديمة تتعارض مع بعضها وتفشل فى تفسير الظواهر والإكتشافات الحديثة.
أحد المشاكل التى واجهت علماء الفيزياء هو ما يعرف ب "كارثة الأشعة الفوق البنفسجية". كارثة لأنها ظاهرة تناقض قوانين الحرارة المعروفة. فمثلا, لو قمنا بتسخين قضيب من الحديد. فإنه يبدأ فى الإحمرار. وبزيادة درجات التسخين يبدأ القضيب فى تغيير لونه إلى البرتقالى. وإذا إستمرت التسخين تحول إلى اللون الأصفر.
إلى هنا كل شئ ماشى تمام مع قوانين الحرارة. وهذا يعنى أن اللون له علاقة بشدة الحرارة فى قضيب الحديد. وهذا يعنى أيضا أننا إذا قمنا بتسخين قضيب الحديد أكثر وأكثر فإننا سوف نصل إلى اللون الأزرق ثم الأشعة الفوق بنفسجية(أشعة غير مرئية ولكن تحس بها أجسامنا وتصبغها باللون الأسمر). المعادلات والنظريات الفيزيائية تقول هذا. لكن التجارب المعملية تقول العكس. ليست هناك علاقة بين اللون الأزرق أو اللون البنفسجى أو الفوق بنفسجي, ودرجة الحرارة المنبعثة من قضيب الحديد.
المشكلة الثانية هى طبيعة الضوء. طبعا الجلوس فى ضوء القمر وسماع فيروز شئ, وبحث طبيعة الضوء شئ آخر. فقد كان معروفا منذ القدم أن الضوء عبارة عن كرات صغيرة جدا تنبعث من مصدر الضوء إلى عيوننا فتسبب حاسة الإبصار. لكن حديثا أثبت هايجنز أن الضوء موجات. وقام ماكسويل بتأكيد ذلك بالمعادلات الرياضية. وأضاف بأن الضوء ليس موجات فقط, وأنما هو موجات كهرومغناطيسية.
ماذا يعنى أن الضوء موجات كهرومغناطيسية؟ لتوضيح معنى هذا, لابد من شرح بعض قوانين الفيزياء.
بالنسبة للكهرباء, كلنا يعرف أن حبات السبحة إذا قمنا بحكها بقطعة صوف مثلا, فإنها تجذب قصاصة الورق الصغيرة. هذا يحدث لأن عملية الحك جعلت حبة السبحة تفقد إلكترونات. فتحاول تعويضها من قصاصة الورق, لذلك تجذبها إليها.
ووجد أيضا أن كل جسم مشحون مثل حبة السبحة مثلا, محاط بمجال غير مرئى يسمى المجال الكهربى. هذا المجال إذا وضعت فيه شحنة صغيرة أخرى فإنها تنجذب أو تتنافر مع حبة السبحة.
بالنسبة للمغناطيس, كلنا يعرف أن المغناطيس يجذب برادة الحديد والمسامير. المغناطيس له مجال حوله على شكل أقواس خارجة من القطب الشمالى متجهة إلى القطب الجنوبى. ويمكن رؤية شكل المجال المغناطيسى بوضع ورقة على المغناطيس ونثر برادة الحديد فوقها. هذا المجال يسمى المجال المغناطيسى.
وجد أيضا أننا لو أخذنا مغناطيسا وجعلناه يتحرك بالقرب من سلك معدنى, فإن السلك يمر به تيار كهربى. هكذا تتولد الكهرباء فى السدود ومساقط المياة. المغناطيس له مجال مغناطيسى, والسلك الذى يمر به التيار الكهربى له مجال كهربى. إمتزاج المجالين يجعل كل منهما يؤثر فى الآخر. وينتج عن ذلك موجات تسمى كهرومغناطيسية. منها موجات الراديو وال (FM) والميكروويف والرادار وتحت الحمراء والضوء والأشعة الفوق البنفسجية والأشعة السينية وأشعة جاما.
الضوء موجات كما أثبت كلا من هيجنز وماكسويل. لكن الموجة تحتاج إلى وسط تنتشر فيه. فالصوت مثلا لا يمكن أن ينتشر بدون وسط, مثل الهواء أو الماء. الصوت لا ينتقل فى الفراغ. فكيف ينتقل الضوء إلينا من النجوم والمجرات البعيدة؟ لا بد من وجود وسط. ومن هنا جاءت فكرة الأثير. ولا أزال أتذكر صوت المذيعات فى الخمسينات والستينات وهن ينقلن إلينا برامجهن عبر موجات الأثير.
إذا كان الأثير موجودا فى كل مكان ويملأ هذا الكون, فما هى سرعة الأرض بالنسبة للأثير؟ لكى يجيبا على هذا السؤال, قام مايكلسون ومورلى بتصميم تجربة غاية فى الدقة بإستخدام المرايا لمعرفة سرعة الضوء فى إتجاه حركة الأرض, وسرعة الضوء فى عكس إتجاه حركة الأرض. ومن الفرق يمكن حساب سرعة الأرض بالنسبة للأثير.
لكن النتائج كانت مخيبة للآمال. فلم يجد مايكلسون ومورلى أية فرق بين سرعة الضوء فى إتجاه حركة الأرض وعكس إتجاه حركة الأرض. ماذا يعنى هذا؟ هذا يعنى أن الأرض إما أن تكون ثابته بالنسبة للأثير, أى أنها مركز الكون, أو أن الأثير غير موجود. وهما أمران أحلاهما مر.
نحن الآن فى عام 1905م وهو عام المعجزات بالنسبة لأينشتين. عمره الآن 26 سنة. يعمل كما أسلفنا فى مكتب تسجيل المخترعات الفيدرالى ببيرن. متزوج من ميليفا ماريك زميلة الدراسة منذ سنتين. وله طفل عمره سنة واحدة. أبحاثه العلمية لم تكن فى الجامعة. وإنما كانت, إما فى المنزل أو أثناء عمله الذى كان يوفر له الوقت الكافى للتفكير والبحث.
فى شهر مارس من نفس العام, قام بنشر رسالة عن توليد وأنتشار الضوء, وضعت أساسيات النظرية الكمية. والتى حصل بسببها على جائزة نوبل فى الفيزياء بعد عدة سنوات لاحقة.
وفى شهر أبريل, نشر رسالة عن أبعاد جزيئيات الذرة كانت هى رسالة الدكتوراة التى قبلتها جامعة زيورخ. هذه الرسالة ساعدت فى إثبات وجود الجزئييات.
فى مايو, نشر رسالة عن حركة الجزيئيات فى السوائل. والتى تفسر سبب حركتها المتعرجة.
وفى يونية, نشر رسالة عن الكهروديناميكية للأجسام المتحركة. كانت هى أول خطوة فى نظرية النسبية الخاصة.
وفى سبتمبر من نفس العام, نشر رسالة أخرى عن نظرية النسبية الخاصة جاء بها معادلته الشهيرة التى تساوى بين الطاقة والمادة والتى تقول (E=mc2). الطاقة المتولدة من جسم كتلته m تساوى حاصل ضرب كتلته فى مربع سرعة الضوء.
الرسائل الأولى والرابعة والخامسة قلبت نظريات الفيزياء رأسا على عقب.
على عكس ما هو معروف, أينشتين لم يخترع النسبية الخاصة. إنما الفضل يرجع إلى جاليليو جاليلى. لكن أينشتين هو الذى حول فكرة النسبية إلى نظرية هى الأكثر ثورية من أى نظرية علمية عرفتها البشرية. ولا تقل نظريته عن نظرية التطور أهمية.
يقول جاليليو أن الحركة المنتظمة والسكون لا يمكن معرفتهما بدون مرجع. بمعنى أنك لو كنت فى قطار ونظرت من النافذة لتجد قطارا آخر على الشريط المقابل. فأنت لا تدرى أي القطارين يتحرك. قطارك أم القطار المقابل. وعليك أن تجد وسيلة أخرى لمعرفة أى القطارين يتحرك وأيهما الساكن, كالنظر إلى الرصيف مثلا.
جورج فيتسجيرالد من جامعة ترينيتى بإيرلندا وهنريك أنتون لورانتز من جامعة ليدن قالا تقريبا, فى نفس الوقت, أن سبب فشل تجربة تحديد سرعة الأرض بالنسبة للأثير هو أن الأطوال تنكمش مع السرعة وفى أتجاهها. كلما أسرع الجسم كلما زاد أنكماشه. وذلك حتى تظل سرعة الضوء ثابته.
وقام لورانتز بإستخدام مبدأ جاليليو فى النسبية لكى يضع على أساسها معادلات رياضية تحسب مقدار الأنكماش مع السرعة. نشر لورانتز رسالتة عام 1895م عندما كان أينشتين يبلغ من العمر 16 عاما. إستخدم أينشتين معادلات لورانتز فى نظريته للنسبية الخاصة ولكن بتفسير مختلف.
جوليس هنرى بوانكاريه فى فرنسا كان له تفسيرا آخر لتجربة مايكلسون ومورلى. لذلك طلب من لورانتز أن يراجع معادلاته آخذا فى الإعتبار أن الزمن نفسه يمكن أن ينكمش مثل الأطوال, أى الساعة 60 دقيقة تصبح 50 دقيقة عندما نشاهدها بالتليسكوب مثلا. بالطبع لم يكن أحد يعتقد أن معادلات لورانتز التى تحسب إنكماش الأطوال والزمن مع السرعة تنطبق على الواقع الذى نعيشه.
فى عام 1904م فى مؤتمر العلوم والفنون بسانت لويس, القى بوانكاريه محاضرة أوضح بها مفهومه لمعنى النسبية. قال فيها أن القوانين الفيزيائية لا تتغير سواء كنت ساكنا أو فى حركة منتظمة. فكرة بوانكارية عن النسبية هى نفس فكرة أينشتين عن النسبية الخاصة. وظهرت قبل نظرية أينشتين بسنة كاملة. الغريب أن بوانكاريه, وهو العالم المحنك ذو الخبرة الواسعه, لم يأخذ الخطوة الأخيرة لكى يكتشف النظرية الصحية للنسبية. لأنه كان يعتقد, كما جاء فى محاضرته, أنها مجرد أفكار غير واقعية وتخمينات. لكن ما هى نظرية النسبية الخاصة هذه التى نتحدث عنها؟
أخذ أينشتين مفهوم النسبية لجاليليو الذى ينطبق على القوانين الميكانيكية القديمة فقط وطبقه على جميع قوانين الفيزياء. وكان عماده فى هذا أن القوانين الفيزيائية واحدة بالنسبة لأى مشاهد بغض النظر عن كونه ساكنا أو متحركا بسرعة منتظمة. وإفترض أيضا أن سرعة الضوء ثابتة لا تتغير. بمعنى أنك لا تزيد من سرعة الضوء إذا حملت المصباح وجريت به حتى وإن إقتربت سرعتك من سرعة الضوء. فهى مهما فعلت لا تزيد أو تنقص عن 300 ألف كيلومتر فى الثانية(سبعة أضعاف قطر الكرة الأرضية فى الثانية).
إذا كنت واقفنا على رصيف المحطة وجاء قطار بضائع طوله كيلومتر مثلا. فلن تلاحظ أى فرق فى طول القطار سواء كان واقفا أما يسير بسرعته المعتادة, حتى لوكانت معك أجهزة تقيس الأطوال من بعد. وذلك لأن سرعة القطار المعتادة صغيرة جدا بالنسبة لسرعة الضوء. ومن ثم يكون الإنكماش فى طول القطار غير محسوس. أما إذا كان القطار يسير بسرعة تعادل نصف سرعة الضوء, فإنك سوف تجد طول القطار قد إنكمش بمقدار 13%. أى أن طوله أصبح 870 متر فقط. هذا ليس خداع بصر. إنكماش الأطوال هنا حقيقى. وإنكماش الزمن حقيقى أيضا.
هل هناك دليل على أن هذا الكلام صحيح. نعم توجد أدلة كثيرة على صحة نظرية النسبية الخاصة لأينشتين. فمثلا, جزيئيات من المادة تسمى ميونات (جمع ميون) تتكون بفعل الأشعة الكونية فى الغلاف الجوى على بعد 6 آلاف متر من سطح الأرض. عمر الميون الواحد قصير جدا 2.2 ميكروثانية. هذه الميونات تهبط على الأرض بسرعة تعادل 99.8% من سرعة الضوء. وعندما يصل الميون إلى سطح الأرض, نجد أن عمره 34.8 ميكروثانية. كيف حدث ذلك؟ لأن عمره وهويسير مقتربا من سرعة الضوء ينكمش بالنسبة لنا, ونحن نقيسه, إلى 2.2 ميكروثانية.
آخر رسالة نشرها أينشتين كانت عن مساوات الطاقة بالكتلة فى معادلته الشهيرة (E=mc2). E تمثل الطاقة, m الكتلة, c سرعة الضوء. الطاقة هى القدرة على عمل معين. والكتلة تختلف عن الوزن. لأن الوزن مرتبط بجاذبية الأرض. الكيلوجرام على سطح الأرض يختلف عن الكيلوجرام على سطح القمر. لأن جاذبية الأرض تختلف عن جاذبية القمر. لكن الكتلة واحدة فى أى مكان.
كان أينشتين يعلم أن المواد المشعة مثل اليورانيوم تفقد طاقة بسبب الإشعاع. فقام بإستخدام معادلات نظرية النسبية الخاصة لحساب الفرق فى الطاقة بين الذرات المشعة للضوء فى حالة السكون وفى حالة الحركة بسرعة معينة. حساباته بينت أن كتلة الذرة تقل بسبب الإشعاع.
قام أينشتين بتعميم هذه الفكرة, وقال أن هذه الظاهرة تنطبق على جميع الذرات. كتلة الجسم هى مقياس لكمية ما يحتويه من طاقة. الكتلة هى طاقة, والطاقة هى كتلة. ومن هنا جاءت معادلته الشهيرة (E=mc2). لكن لماذا مربع سرعة الضوء؟ مربع سرعة الضوء (c2) مجرد عامل تحويل الكتلة إلى طاقة. مثل تحويل الدولارات إلى جنيهات مصرية يستلزم الضرب فى 5.62 وهو سعر التحويل الحالى. وبالطبع إنتاج القنابل الذرية خير دليل على صحة هذه المعادلة.
ما معنى أن الكتلة هى طاقة والطاقة هى كتلة. هذا يعنى أن الطيور عنما تطير تكون كتلتها أكبر منها إذا كانت واقفة على الشجر. هذا التغير فى الكتلة بسبب الطيران صغير جدا من الصعب قياسه. لكن إذا طار الطائر بسرعة الضوء, فإن كتلته تصبح نهائية. وهذا يعنى أنه من المستحيل أن نسافر بسرعة الضوء فى يوم من الأيام.
وهذا يعنى أيضا أن الأجسام عندما تتجاذب, تفقد جزءا من الطاقة فى عملية الجذب, وبذلك تكون أقل كتلة عما إذا كانت متفرقة. هذه الأمور مهمة جدا إذا كنا نقوم بدراسة قلب الذرة التى تحتوى على جزيئيات فى حالة جذب شديد لبعضها. وعدم معرفتنا لنظرية النسبية الخاصة يجعل كل حساباتنا خاطئة.
فى عام 1906م, بدأت شهرة أينشتين تملأ الآفاق. البروفيسور العظيم ماكس بلانك أبو الميكانيكا الكمية بدأ يراسله ويناقشه فى نظريته. والرسائل تنهال عليه تطلب العمل معه فى أبحاثه. مما شجعه على البحث عن وظيفة أكاديمية وترك وظيفته الحالية بمكتب توثيق المخترعات. وفى عام 1909م, ترك وظيفته بمكتب التوثيق, وذهب للعمل كبروفيسور للفيزياء النظرية فى جامعة زيورخ بمرتب قدره 4500 فرانك.
فى بداية حياته الأكاديمية, لم يكن يجيد التدريس. وكان يذهب إلى المدرج يرتدى سروالا قصيرا ويحمل قصاصة ورق بها موضوع المحاضرة. لكن مع الوقت, تحسن أسلوبه فى التدريس. وبدأت الطلبة تحبه وتتعلق به. فهو كان بسيطا غير ملتزم بالشكليات والبروتوكول. وفى يوم من الأيام, أرسلت له دعوة لحضور حفل تتويج بجامعة ميونخ, وهو لا يعلم أن الجامعة سوف تنعم عليه بدرجة الدكتوراه الفخرية. فذهب إلى الحفل بملابسه الرثة وسرواله القصير وقبعته القش لكى يتسلم درجة الدكتوراه الفخرية.
ظل أينشتين يدرس بجامعة زيورخ من عام 1909م إلى 1911م. خلال هاتين السنين, نشر 11 بحثا فى الفيزياء النظرية. معظمها أبحاث تتعلق بمسائل الإشعاع وعلاقته بالضوء. أثناء هذه الأبحاث ومنذ البدايه, كان أينشتين دائم التفكير فى تعميم نظريته فى النسبية الخاصة بحيث تشمل الحركة الغير منتظمة. وهذا عمل شاق مضنى جبار. إستعرق منه الجهد والعرق, لكنه توج بنظرية النسبية العامة عام 1917م. التى سوف أقوم بمناقشتها فى مقال قادم إن شاء الله.
zakariael@att.net
مصرنا ©