مطبوعة الكترونية عربية مهتمة بموضوع المواطنة وتداول السلطة القانونى وحرية التعبير  فى العالم العربى  .. تصدر من الولايات المتحدة الأمريكية عن المركز الأمريكى للنشر الالكترونى .. والأراء الواردة تعبر عن وجهة نظر أصحابها.
............................................................................................................................................................

 
 

 اللاشئ
...............................................................

 بقلم : محمد زكريا توفيق
..............................


ما هو "اللاشئ"؟ يمكننا تعريف اللاشئ بأنه الشئ الغير موجود. وبالرغم من عدم وجوده, إلا أنه يلعب دورا هاما فى تصورنا وأفكارنا. فالعلوم والفنون والفلسفة والمنطق والرياضيات وكذلك حياتنا اليومية لا تخلو من تصور, ومن إستخدام هذا الشئ المسمى باللاشئ.

هل اللاشئ له خواص؟ نعم. منها أنه غير موجود, وأنه يدل على لاشئ, ولا يحتوى شئ, ولا ينتج منه شئ. وليس له وزن أو حجم أو لون أو طعم أو رائحة أو ملمس. ولا يوجد إلا فى تصورنا, مثل الدائرة والخط المستقيم والغول والعنقاء والخل الوفى.

إعتقدت "أليس" فى كتاب "لويس كارول" أنه كلام فارغ فى فارغ عندما قدم لها الأرنب نبيذا غير موجود. وعندما أعجب الملك الأبيض بمقدرتها على رؤية لا أحد على الطريق. ومن قصص الصوفية:

كان هناك ملك دعا الجميع إلى وليمة كبيرة إحتفالا بزواج إبنته. وكانت من عادة ترتيب المقاعد فى مثل هذه الإحتفالات الرسمية, أن يجلس بجوار الملك باقى الملوك ثم الأمراء فالوزراء والسفراء ثم الأعيان, ويأتى بعد ذلك عامة الشعب. إلا أنه أثناء الحفل, فوجئ الحراس برجل عجوز, أشعث أغبر رث الثياب, حافى القدمين, يتقدم بخطوات ثابتة, وبكل جرأة ليجلس بجوار كرسى الملك فى أحد المقاعد الشاغرة. حينئذن, هرول أحد الحراس إليه وبادره سائلا: "يا رجل, إذا كنت تبغى مقعدا من مقاعد الشعب, فليس هذا مكانك. فهل أنت من عامة الشعب؟" فأجاب الرجل: "لا, بل أنا أعلا منصبا." فقال الحارس: إذن أنت من كبار الأعيان." فأجاب الرجل: "لا, ولكن أعلا من ذلك." فقال الحارس: إذن أنت من السفراء." فأجاب الرجل: "أعلا من هؤلاء." فسأله الحارس بإستغراب: "هل أنت من الوزراء أو الأمراء؟" فأجاب الرجل: "أعلا بكثير" فسأله الحارس: "ربما تكون من الملوك." فقال الرجل: "أعلا أيضا" فتعجب الحارس قائلا: "أعلا من الملوك؟ لم يبق إلا أن تكون من الملائكة!!" فقال الرجل بإصرار: "أعلا من هؤلاء أيضا." فأدرك الحارس أنه أمام رجل مختل العقل, فأراد مداعبته قائلا: "أعلا من الملائكة لا يوجد إلاّ الآلهة. فهل أنت إله؟" فقال الرجل أعلى من الآلهة أيضا." فقال الحارس: أعلى من الآلهة لاشئ." فأجاب الرجل بكل ثقة: "أنا هذا اللاشئ"

لننظر إلى الحفرة مثلا. كنا نتساءل كنوع من إختبار الذكاء, ماهو حجم كمية التراب التى توجد داخل حفرة طولها مترا وعرضها مترا وأرتفاعها مترا؟ والأجابة الصحيحة هى لاشئ. فالحفرة لا توجد بها أتربة. ولكن لها طول وعرض وإرتفاع. ولقد كتب "لاوتسى" فى كتاب "تاو تى شنج": الثقب فى مركز العجلة هو الذى يجعلها مفيدة. والفراغ فى الباب أو فى النافذة, هو الذى يجعلهما مفيدان. الربح يأتى من الأشياء, لكن الفائدة تأتى من الثقوب والفراغات, أى من اللاشئ. ولقد كان المصريون القدماء يهتمون بالصمت, ويعتبرونه أبلغ من الكلام. لذلك فهو فضيلة تدعو إليها كل القيم النبيلة. وفى قصيدة لا تكذبى, ذكر كامل الشناوى "الصمت الرهيب". فكيف يكون الصمت رهيبا؟

من أين تأتى عقدة الحبل؟ وأين تذهب حين تحل؟ وهل العقدة يمكن وجودها بدون الحبل؟ وهل اللون يوجد بدون الشئ؟ وهل الموجة يمكن أن توجد بدون الماء؟ وعندما تهدأ الرياح, أين تذهب الأمواج؟ هل الحق والعدل أشياء فى حد ذاتها؟ أم هى من نتاج العقل؟وهل سيكون هناك صوت عندما لا توجد أذن تستمع إليه؟ وهل الكون كما نعرفه, يمكن أن يوجد بدون العقل الذى يدركه؟ وهل الشئ يمكن أن يوجد بدون اللاشئ؟

فى الثلاثينيات والأربعينيات من هذا القرن تغير مفهومنا للفراغ. فالفراغ بين النجوم والذرات ليس عدما كما كنا نعتقد. وإنما هو ملئ بجزيئيات ومضادات جزيئيات المادة, فى حالة خلق وفناء مستمرين. الفراغ يبدو فراغا لأننا ننظر إليه فى زمن طويل نسبيا. كمن ينظر إلى سطح المحيط من مسافة بعيدة, فنراه هادئا ساكنا, بينما هو ملئ بالأمواج والعنف. فالفراغ هو كل الفيزياء الحديثة. وكل ما هو موجود أو ممكن قد أتى أو سوف يأتى من هذا الفراغ أو اللاشئ.

المادة تتكون عندما تحدث إلتواءات حادة فى هذا الفراغ, مثل الإلتواءات التى تحدث فى طيات الملابس. فالمادة هى عقدة الحبل أو إنثناءات الفراغ الكونى. وعندما تنهار النجوم والمجرات تحت تأثير ثقلها وجاذبيتها, تكون مايعرف بالثقوب السوداء. هذه الثقوب السوداء موجودة فى الفضاء الخارجى, ولا يستطيع أن يهرب منها شئ, حتى الضوء لا يستطيع الهرب من جاذبيتها. وهى تعتبر نوافذ تقودنا إلى عوالم أخرى وأزمان أخرى.

تصور "ديراك" عالم الفيزياء الذى تنبأ بوجود مضادات جزيئات الذرة, أن البوزترون "مضاد الإلكترون" ماهو إلا ثقب أو فجوة داخل شحنة سالبة. وعندما يتقابل البوزترون مع الإلكترون, فإن الإلكترون يقع فى حفرة البوزترون, ويؤدى هذا إلى تلاشى كلا منهما ويصبحان لاشئ.

الأمثلة عل اللاشئ فى الفنون كثيرة. فالفراغ المحيط بالأشكال له أهمية بالغة فى التكوين الفنى للوحات الفنية. فى سنة 1951م, بدأ الرسام الأمريكى "رينهاردت" المتوفى سنة1967م, فى رسم لوحات فنية عبارة عن مساحات مسطحة كلها لون واحد, ودرجة واحدة. كلها أزرق, كلها أحمر, ثم لوحات كلها أسود. وفى سنة 1963م, عرضت إحدى لوحاته, وهى عبارة عن مسطح أسود فى شكل مربع طول ضلعه 5 أقدام فى صالونات نيويورك وباريس ولوس أنجلوس ولندن. أحد النقاد علق بأن هذا خداع ونصب فى عالم الفن. وآخرون أبدوا إعجابهم بالفكرة وقدرتها على التعبير عن نقاء النفس. والغريب أن لوحات "رينهاردت" كانت تباع سنة 1965م بمبالغ تتراوح بين 1500-12000 دولارا. وحيث أن اللون الأسود ناتج عن غياب الضوء. فإن لوحات رينهاردت يمكن إعتبارها محاولة لتصوير اللاشئ.

"جون كيج" مؤلف موسيقى للبيانو, يطلب من عازفي موسيقاه فترة من الصمت المطبق خلال العزف قدرها 4 دقائق و33 ثانية بالضبط. وفتر الصمت هذه (273 ثانية) تناظر درجة الصفر المطلق الحرارية (-273 درجة مئوية) والتى عندها تتوقف جزيئات المادة عن الحركة. ويقال أن من إستمع إلى فترة الصمت هذه, فإنه يعتبرها أحسن أعمال كيج الموسيقية.

"البرت هيوبارت" كتب مقالة عن الصمت, عبارة عن صفحات بيضاء ليست بها كتابة. وفى عام 1974م, صدر كتاب بعنوان "كتاب اللاشئ" عن دار النشر "هارمونى هوس" عبارة عن عدة صفحات بيضاء. ولقد لاقى كتاب اللاشئ رواجا لدرجة أن دار النشر أعادت نشره فى طبعة فاخرة سنة 1975م.

كان هناك رجل ينام فى فنارة تطلق صفارة إنذار للسفن كل 10 دقائق لتفادى الضباب. وفى إحدى الليالى بعد منتصف الليل, تعطل الجهاز الميكانيكى الذى كان يطلق الصفارة, فإستيقظ الرجل مذعورا صائحا: "إيه فى إيه". غياب المياه قد يسبب موت. وفقد الحبيب أو الثروة قد يؤدى إلى الإنتحار. والصمت فى بعض المواقف يعتبره القانون جريمة. فى أحد قصص "شرلوك هولمز", كان عدم نباح كلب فى أحد الليالى, هو السبب فى حل لغز القصة البوليسية. أى أن اللاشئ له تأثير الشئ وبنفس العنف.

فى العصور الوسطى كان الخوف من الموت مصحوبا بالخوف من عذاب النار. أما فى أوروبا اليوم, فالخوف من الموت أصبح هو الخوف من أن تصبح لاشئ. وهذا يقودنا إلى السؤال الخالد. لمذا؟ ولقد تساءل مئات الفلاسفة, ليبنزيج, شيلينج, شوبنهور,...الخ. لماذا هناك شئ بدلا من لا شئ؟

هذا سؤال فضولى ليس كباقى الأسئلة. كثير من الناس تعيش وتموت بدون أن تفكر فيه. أما الفيلسوف "مارتن هيدجر", فيعتبره أعمق وأهم سؤال فى كل الأسئلة الميتافيزيقية. الواقعيون وأصحاب التفكير الإيجابى يعتبرونه سؤالا تافها. لأنه سؤال ليست له إجابة عملية أو منطقية. إنه سؤال غير ذات معنى, مثل سؤال- هل العدد 2 لونه أحمر أو أخضر؟ أما "ميلتون ميونيتز", الذى ألف كتابا كاملا عن معنى الوجود, فيعتبر السؤال له معناه. ولكن المشكلة تأتى من عدم قدرتنا على إجابته. لأن الإجابة تقع خارج العلوم والفلسفة.

بالنسبة للرياضيات, إكتشاف الصفر عن طريق الهنود, ساعد الخوارزمى على وضع أصول علم الرياضيات, بالرغم من أن الصفر يعبر عن كمية تقدر بلاشئ. والمجموعة الرياضية التى تتكون من لاشئ, هى أساس الرياضيات الحديثة. وهى تختلف عن الصفر من حيث أن الصفر عدد, أما المجموعة فهى شئ بداخله لاشئ. وقد بنى فريج نظرية الأعداد بدءا من المجموعة العدمية كبديهية لا تحتاج إلى برهان.

من هنا يتضح أهمية اللاشئ بالنسبة لفهمنا للأشياء. ومن يدرى فربما يكون عالمنا هو عالم اللاشئ بالنسبة لعوالم أخرى تتكون من الشئ. أو يكون عالمنا هو عالم الشئ بالنسبة لعوالم أخرى تتكون من اللاشئ.

zakariael@att.net

 

.....................................................................................

 


 

 
 



مطبوعة تصدر
 عن المركز الأمريكى
 للنشر الالكترونى

 رئيس التحرير : غريب المنسى

مدير التحرير : مسعد غنيم

 

الأعمدة الثابته

 

 
      صفحة الحوادث    
  من الشرق والغرب 
مختارات المراقب العام

 

موضوعات مهمة  جدا


اعرف بلدك
الصراع الطائفى فى مصر
  نصوص معاهدة السلام  

 

منوعات


رؤساء مصر
من نحن
حقوق النشر
 هيئة التحرير
خريطة الموقع


الصفحة الرئيسية