كيف نشأت الحياة؟ وما هو مستقبل الإنسان؟
...............................................................
بقلم: محمد زكريا توفيق
................................
عمر الأرض يقدر ب 4.6 بليون سنة. أول حياة بدائية (بكتيريا), ظهرت بعد خلق الأرض ببليون سنة تقريبا. هل الحياة إنتاج أرضى بحت, أم منحة من السماء جاءت إلينا عن طريق الشهب والنيازك؟ لا نعرف بالتأكيد. إذا كانت قد هبطت علينا من السماء, فلا بد أن تكون قد أتت من كوكب آخر يشبه الأرض إلى حد كبير فى تكوينه ودرجة حرارته. لكننى هنا فى هذا الإستطلاع سوف أفترض أن الحياة قد بدأت على سطح الأرض.
نظرية التطور لدارون تفسر سبب وجودنا. وهو التفسير الوحيد المنطقى, خارج نطاق الأديان, الذى يوضح ملحمة الخلق هذه. سوف أحاول هنا شرح نظرية بداية الخلق بأسلوب مبسط, مبتعداً عن التعريفات العلمية بقدر الإمكان, ومبتدأً بحالة الجو وسطح الكرة الأرضية قبل حدوث التطور نفسه.
فى البداية كانت البساطة. حتى البساطة, من الصعب تفسير وجودها فى بادئ الأمر. نظرية دارون للتطور تلقى القبول, لأنها تفسر كيف تحولت البساطة إلى شئ معقد. كيف تجمعت الذرات, وهى فى حالة فوضى, لكى تكون نماذج مرتبة ومعقدة؟ وكيف سارت من المعقد إلى الأكثر تعقيدا حتى وصلت إلى خلق الإنسان؟
نظرية التطور لدارون ومبدأ "البقاء للأصلح", يعتبر حالة خاصة من نظرية أعم وأشمل. هى نظرية "البقاء للأكثر إستقرارا". الكون ملئ بالأشياء المستقرة. وهى التى نراها وندركها. والغير مستقر يختفى وينقرض.
الشئ المستقر يتكون من مجموعة ذرات, تتجمع فى شكل معين لمدة كافية, بحيث يمكن إطلاق إسم عليها. قد تكون حالة فردية مثل الهرم الأكبر, وقد تمثل فئة معينة مثل نقط المطر. كل الأشياء التى حولنا والتى يحتاج وجودها إلى تفسير, مثل الصخور والمجرات والمحيطات, تشكل نماذج مستقرة من الذرات.
فقاقيع الصابون تأخذ الشكل الكروى. لأن هذا هو التكوين المستقر الذى تأخذه بالونة رقيقة إذا ملئت بغاز. فى مركبات الفضاء, إذا سكبت المياه فى الفضاء فإنها تستقر فى الشكل الكروى. لكن على سطح الأرض, تنبسط وتأخذ الوضع الأفقى. هذا بالطبع بسبب فعل الجاذبية الأرضية. بلورات الملح تأخذ الشكل المكعب, لأن هذه هى الطريقة الأكثر إستقرارا لترتيب أيونات الكلور مع أيونات الصوديوم (الأيونات هى ذرات مشحونة بشحنة كهرباء موجبة أو سالبة).
عندما تتقابل الذرات, فإنها تتحد مع بعضها فى تفاعلات كيميائية لتكوين جزيئات. لماذا؟ لأنه ليست هناك ذرة تستطيع أن تعيش بمفردها. إذا لم تجد الذرة من تتحد معه من العناصر الأخرى, فإنها تتحد مع ذرات من نفس نوعها لتكون ما يعرف بالجزئ(الوحدة صعبة حتى على الذرات). هذه الجزيئات قد تكون مستقرة أو غير مستقرة. مستقرة بمعنى الإستمرار فى شكل معين, وغير مستقرة بمعنى الإنحلال والتفكك. هذه الجزيئات قد تكون صغيرة الحجم أو كبيرة الحجم جدا. بلورة الماس مثلا(فص السيلوتير), هو من الناحية الكيميائية, عبارة عن جزئ واحد بسيط ومستقر. بسيط لأن تركيبة ذرات الكربون داخله تتكرر بإنتظام بنفس الطريقة. (الماس مكون من ذرات كربون أى من الفحم – عجيبة دى)
فى عالم الأحياء, توجد جزيئات كبيرة جدا ومعقدة التركيب مكونة من عدة عناصر. دم الإنسان مثلا, يتكون من جزيئات تسمى بروتينات. البروتين هام جدا لأنه يمثل قوالب الآجر التى تبنى بها الخلايا الحية. كل جزئ من البروتين يتكون من سلسلة من جزيئات أصغر حجما تعرف بالأحماض الأمينية. وكل جزئ من هذه الأحماض, يتكون من عشرات الذرات مرتبة فى شكل خاص.
جزئ الدم الأحمر, الهيموجلوبين, يتكون من 574 حامض أمينى بالتمام والكمال. مرتبة فى شكل أربع سلاسل. تلتف حول بعضها لتكون ما يشبه شجيرة شوك. لكن بدون إلتواءات أو إنحناءات أو أخطاء. مجرد تكرار لنموذج تركيبة معينة مرارا وتكرارا. عدد جزيئات الهيموجلوبين 6 آلاف مليون مليون مليون جزئ فى جسم الإنسان البالغ. الجسم يُنتج منها 400 مليون مليون جزئ فى الثانية الواحدة. لتحل محل نفس العدد من الجزيئات التالفة. (عجيبة أخرى من عجايب هذا الكون)
إذا تعرضت مجموعة من الذرات لطاقة معينة, مثل التقلبات الحرارية الناتجه عن البراكين وتقلب المناخ, ووجدت نفسها داخل نموذج مستقر, فإنها تستمر فى ذلك الوضع. الجزيئات المستقرة يمكنها أن تتكون بهذه الطريقة. لكن الإنسان لم يخلق هكذا. ولم يأت عن طريق وضع مجموعة ذرات فى زجاجة ورجها بشدة مرات عديدة لكى نخلق منها آدم وحواء. من هنا جاءت نظرية التطور لدارون لكى تكمل لنا القصة, وتفسر لنا كيف جئنا نحن إلى هذا الوجود بدون أن يسألنا أحد.
بالطبع لم يكن هناك أحد موجودا منذ بداية عملية الخلق لكى يشاهدها ويخبرنا بها. إنما هى مجرد نظرية ككل النظريات العلمية, تحتمل الصواب والخطأ. لكنها, فى الواقع, نظرية أكثر مصداقية من قصص كثيرة نسمعها ويجزم أصحبها ويقسمون بالطلاق بصحتها.
قبل أن تظهر الحياة على سطح الأرض, كانت المياة موجودة بكثرة. وكذلك غاز ثانى أكسيد الكربون والميثان والأمونيا. لكن غاز الأكسوجين الذى نتنفسه, لم يكن موجودا لحسن الحظ. بالرغم من أهمية غاز الأكسوجين فى عملية التنفس, إلا أنه غاز خطير وسام للمخلوقات البدائية التى ليس لديها إنزيمات خاصة تحميها من الأكسدة والإحتراق. إننا نستخدم الأكسوجين ونقوم بحرقه لتوليد الطاقة وتوزيعها على باقى خلايا الجسم عن طريق الدم. مثل إستخدامنا للنار, إذا لم نستخدمها بحكمة وروية, فقد نحترق بها. وكذلك الأكسوجين.
حاول العلماء خلق مناخ يشابه حالة سطح الأرض فى بداية تكوينها كيميائيا. وقاموا بوضع الماء والغازات المذكورة فى قارورة, وأمدوها بطاقة مثل الأشعة فوق البنفسجية أو شرارة كهرباء. هذه الأشعة كانت متوافرة بكثرة فى بداية عمر الأرض. ولم يكن هناك أكسوجين فى الغلاف الجوى كما أسلفنا, وبالتالى لم تكون قد تكونت طبقة الأوزون التى تحمى الأرض من هذه الأشعة. الأوزون نوع من الأكسوجين يتكون جزيئه من ثلاث ذرات. بعكس الأكسوجين العادى, الذى يتكون جزيئه من ذرتين فقط. وهو أشد خطورة وسمية من الأكسوجين العادى.
بعد أسابيع قليلة, وجد العلماء أن الماء داخل القارورة قد تغير لونه إلى اللون البنى. وبفحصه, وجد أن أحماضا أمينية قد تكونت داخل القارورة. الأحماض الأمينية هذه تتكون منها البروتينات التى تبنى خلايا الجسد. وفى تجارب حديثة, أمكن تكوين جزيئات أخرى تسمى "بورين" و "بايريمين", أساسية فى تكوين الجينات. أى أنه أمكن تكوين البروتين والمواد التى تُبنى منها الخلية والجينات التى تحمل الصفات الوراثية معمليا.
ظروف مثل هذه كانت موجودة بكثرة فى مياة المحيطات والبرك منذ أربعة بلايين سنة. لذلك يمكننا القول أن المواد العضوية, فى صورة جزيئات, ربما تكون قد تكونت فى البداية بفعل الأشعة والكهرباء هى الأخرى على سطح الأرض. ويحتمل تحول بعضها إلى جزيئات أكثر تعقيدا. حاليا الجزيئات الكبيرة المعقدة التركيب لا تعيش لمدة كبيرة بفعل الباكتيريا والمخلوقات الدقيقة. لكن فى بداية ظهور الأحياء على سطح الأرض, لم تكن الباكتيريا والمخلوقات الدقيقة موجودة بعد. لذلك يمكن للجزئات الكبيرة أن تعيش مدد طويلة نسبيا.
وسط هذه الجزيئات المعقدة, ظهر عن طريق الصدفة جزئ له خاصية غريبه. هى أنه يستطيع أن ينسخ نفسه. هل هذا ممكن؟ نعم. فنحن فى صبانا فى المرحلة الإعدادية, كنا نُحضّر بلورات سكر النبات عن طريق وضع بلورة سكر نبات صغيرة مربوطة فى خيط رفيع داخل محلول مركز من السكر, ونتركها عدة أيام. تقوم جزيئات السكر العالقة بالسائل بالترسب على السطح الخارجى لبلورة سكر النبات بطريقة تحافظ معها على الشكل الأصلى للبلورة. ينتج عن ذلك بلورة كبيرة لها نفس خواص وشكل البلورة الأصلية الصغيرة. إذا قمنا بكسر البلورة الكبيرة, فإنها تنقسم إلى أجزاء صغيرة تشبه أيضا البلورة الأم, وبذلك نكون قد إستنسخنا البلورة الأصلية. وهى ظاهرة تحدث فى العديد من البلورات.
الآن أمامنا مجموعة كبيرة من الجزيئات التى تستطيع أن تنسخ نفسها مثل حالة بلورة سكر النبات. كل جزئ منها تترسب فوقه جزيئات أصغر منه. ويزداد حجمه إلى أن يصل إلى حالة إستقرار. فيتوقف حجمه عن الزيادة, ولكنه بفعل عامل الوزن أو عامل الضغط أو الحرارة أو غيرها, يقوم بالإنقسام إلى جزيئات أصغر. وبذلك يكون الجزئ قد نسخ نفسه.
عملية النسخ والتكرار هذه يحدث عنها أخطاء. ومن منا لا يخطئ. هذا معروف جيدا أثناء نسخ الكتب باليد أو بالترجمة. فعندما تمت ترجمة الإنجيل من العبرية إلى اليونانية فى مدينة الإسكندرية, حدث خطأً فى الترجمة. وترجمت عبارة "المرأة الصغيرة" من العبرية إلى "العذراء" باللغة اليونانية. وبذلك تحولت جملة "المرأة الصغيرة تلد إبنا" إلى "العذراء تلد إبنا". وشتان بين المعنيين. هذا ما يحدث بسبب أخطاء النسخ. وقد تكون الأخطاء متراكمة, إذا كنا نقوم بالنسخ من كتب منسوخة.
بسبب أخطاء النسخ هذه يكون لدينا جزيئات معقدة التركيب يستطيع كل منها نسخ نفسه, لكنها مختلفة بعض الشئ فى التركيب أوالحجم أوالعدد. يكون بعضها أكثر إستقرارا أو أطول عمرا أو أسرع أو أدق فى عملية الإنقسام والنسخ...الخ.
الخطوة التالية بالنسبة للجزيئات المعقدة التى ذكرناها هى ما أسماه دارون بالتنافس. مع أن دارون كان يتحدث عن الحيوانات والنباتات. لكننا لا نزال فى مرحلة الجزيئات العالقة فى الماء. لا حياة هنا, وإنما مجرد تركيبات كيميائية. بعض هذه الجزيئات يمكنه أن ينسخ نفسه بدرجات مختلفه, والبعض الآخر لا يستطيع أن ينسخ نفسه. الجزيئات التى تنسخ نفسها بمعدلات أكبر وأسرع هى التى تستخدم الجزيئات العالقة فى الماء حولها. مثل جزيئات السكر العالقة عندما تترسب على السطح الخارجى لبلورة سكر النبات.
الجزيئات الأبطأ لن تجد جزيئات عالقة يمكن أن تستخدمها فى النمو والإنقسام. وبذلك تنقرض وتختفى. هذا يحدث بدون شعور أن هناك صراع بين القوى والضعيف.
مع الوقت, تصبح الجزيئات القادرة على تكرار نفسها أكثر دقة وكفاءة لهذه الوظيفة. بعضها قد يجد, عن طريق خطأ الإنقسام وبدون قصد, وسيلة لتدمير الجزيئات المنافسة وإستخدام مكوناتها كمواد بناء. وبعض الجزيئات يجد أيضا طريقة ما لحماية نفسه من التمزق, عن طريق إضافة عناصر كيميائية جديدة لعناصره أو ببناء جدار عازل من البروتين حوله. وربما تكون هذه هى الطريقة التى ظهرت بها أول خلية حية.
لا ننس أن هذه الجزيئات التى تستطيع نسخ نفسها, لديها كل الوقت الذى تحتاجه لتطوير أسلوبها إلى الأحسن. أربعة بلايين سنة كافية لإتقان حرفة نسخ النفس وحمايتها من الخطر الخارجى. هذه الجزيئات موجوده داخل خلايا جسمى وجسمك وتكون عقل وجسد كل منا.
كل الشواهد تدل على أن حماية النفس وحفظ النوع هو الهدف الحقيقى من وجودنا على سطح الأرض. هذه الجزيئات التى تستطيع أن تنسخ نفسها والتى تعيش داخل كل فرد منا إسمها "جينات". أجسامنا مجرد آلات لحفظها وحمايتها وتكرارها. الجينات هى التى تحمل الصفات الوراثية التى تنتقل من جيل إلى جيل.
خلال الستمائة مليون سنة الأخيرة, إكتسبت الجزيئات التى تنسخ نفسها(الجينات) خواص فريدة. وأضحت تستخدم أعضاء جديدة مثل العضلات والقلب والعيون, كل منها تطور بمفرده ويحتاج إلى مقالة مستقلة. هذه الجينات لم تعد تعمل بمفردها, ولكن فى مجموعات داخل الجسد الواحد تسمى (DNA). هذا يعنى أن الجسد ما هو إلا مسكن أو مأوى مؤقت لمجموعة الجينات هذه.
الجسم يعيش مدة محدودة. لكن تركيبة الجينات داخله تعيش مدة طويلة. تنتقل من جسد إلى جسد عن طريق التزاوج أو الإنقسام. المهم هنا هو تركيبة الجينات وليست الجينات نفسها. فى لغة المطبخ, المهم الطريقة أو الوصفة, لا الطبيخ نفسه. الجينات هى التى تبقى وتستمر لا الإنسان أو المخلوقات.
أول من قام بدراسة هذه الجينات هو الراهب النمساوى "مندل". ثبت أن الجين الواحد لا يتجزأ. أى أن الصفة الوراثية الواحدة, لون العيون مثلا, لا تتغير من جيل إلى جيل. فالجين إما أن يكون موجودا فى الجسم أو غير موجود. أى أن لون العيون الخضر, إما أن يكون موجود أو غير موجود. اللون الأخضر لن يتغير بمرور الوقت إلى أصفر أو أزرق. الجين ينتقل من أبعد الجدود إلى آخر الأحفاد, بدون أن يندمج مع جين آخر. لأنه إذا إندمج جين مع جين آخر لكى يكونا جين جديد, فإن التطور كما نعرفه يصبح مستحيلا. وكما بين "مندل" أن الجين قد يختفى فى الآباء ويظهر فى الأحفاد.
كان العكس, هو المعروف أيام دارون. لذلك كانت نظريته فى التطور تقابلها صعوبات كبيرة. بالرغم من أن "مندل" كان قد سبق فى نشر أبحاثه فى الجينات, إلا أن دارون وباقى علماء عصره, لم تكن تعرف عنها شيئا. ولم تعرف أبحاث مندل هذه إلا بعد وفاة كلا من دارون ومندل. مندل لم يكن يعرف أهمية دراسته عن الجينات, وإلا لكان أرسلها إلى دارون.
خاصية أخرى للجينات, هى أنها لا تهرم أو تشيخ. سواء كان عمرها ملايين السنيين أو عدة ساعات. لأنها مجرد وصفات أو برامج أو تصميمات هندسية مكتوبة بحروف أربعة من البروتين. هذه الجينات تنتقل من جسد إلى آخر, ومن جيل إلى جيل, لكى تتحكم فى أجسامنا إلى النهاية. تحاول جاهدة أن تنتقل من الأجسام الفانية, أجسامنا, قبل الشيخوخة والموت, إلى أجسام أخرى فى مقتبل العمر لكى تستمر الدورة. الجسد يقاس عمره بعشرات السنين, لكن الجين يقاس عمره بمئات الألوف أو ملايين السنين.
فى البداية, كانت الجزيئات القادرة على الإستنساخ, والتى نسميها اليوم جينات, تحيط نفسها بجدار من البروتينات للحماية من الحرب الكيميائية وأسلحة الدمار الشامل التى يشنها المنافسين, أو من خطر التصادم العشوائى وحوادث الطريق مع الجزيئات الأخرى. وكانت تلتقط الجزيئات العالقة فى الماء والتى ليست لها حماية لبناء أجسامها (تغذية) بدون مشقة. لكن هذه الحياة السهلة لها نهاية, عندما ينضب معين الجزيئات العالقة فى الماء التى تمثل الغذاء.
هنا يظهر فرع جديد من هذه الجينات يسمى "نبات", قادر على إستخدام ضوء الشمس مباشرة لبناء جزيئات معقدة من جزيئات بسيطة التركيب. وفرع آخر يسمى "حيوان", قادر على إستغلال النبات وأكله أو أكل حيوان آخر. وهنا فتح الباب لظهور مخلوقات أكثر تعقيدا وكفاءة للإستمرار فى هذا الوسط الملئ بالتنافس. وهكذا ظهر عالم النبات وعالم الحيوان الذى نراه حولنا بكل تنوعاته وتفريعاته.
فى عالم النبات أو عالم الحيوان, الكائن عبارة عن جسد مكون من خلايا عديدة كل منها يحتوى على نسخة من الجينات الموروثة عن الآباء. لا نعرف لماذا أو متى بدأت المخلوقات وحيدة الخلية تتجمع فى أبدان عديدة الخلايا مع بعضها. جسم الإنسان عبارة عن مجموعة أو تجمع من الخلايا أو من الجينات بالرغم من شعور كل منا بأنه فرد واحد.
الإنتماء للجماعة له مزايا. فمثلا, إذا كنت وحدك فى الخلاء وظهر أمامك وحش مفترس, ففرصتك فى النجاة تكاد تكون معدومة. أما إذا كنتما إثنين, فترتفع فرصة النجاة إلى 50%. وإذا كانت المجموعة عددها 1000, فتكون فرصة النجاة فى هذه الحالة كبيرة جدا تصل إلى 99.9%.
كما أن الإنتماء للجماعة يفيد فى التخصص. هذا يقوم بالحراسة من جهة اليمين, وذاك يراقب من جهة اليسار وهكذا. لذلك نجد فى عالم الحيوان, أن الطيور تهاجر فى مجموعات. والأسماك يعيش أنواع منها فى مجموعات وكذلك الذئاب والنمل والنحل وغيرها من المخلوقات. هذا يوضح أن تجمع الخلايا, من وجهة نظر التطور, له فوائد. لأنه يسمح بالتخصص ويضاعف القوة اللازمة للمنافسة. ربما يفسر هذا رغبتنا فى الإنتماء إلى الجماعات الدينية أو السياسية أو النوادى الرياضية, لأن هذا يعطينا شعورا بالأمان موروثا منذ أيام زمان. لكن حاجتنا للإنتماء الفكرى أشد. لأن العزلة الفكرية تؤدى إلى الإكتآب والجنون.
الجينات تحاول السيطرة على باقى خلايا الجسم. لكن الجينات ما هية إلا حروف للكتابة مصنوعة من البروتينات. إنتقال المعلومات عن طريق البروتينات يستغرق شهورا. لهذا يتطلب تكوين الجنين تسعة أشهر فى بطن أمه لكى يكتمل نموه. لأن التوجيهات الخاصة ببناء الجنين تأتى عن طرق الجينات.
لكن الحياة اليومية للكائن الحى تتطلب إنتقال المعلومات بسرعة تقدر بالثوانى أو أجزاء من الثانية. الهرب من وحش كاسر لا ينفع معه الإنتظار عدة شهور لتدارك الخطر. لهذا تحتاج الجينات إلى كمبيوتر(حاسوب) مستقل محلى سريع, ليقوم بالسيطرة بنفسه على باقى خلايا الجسد نيابة عن الجينات. هذا الكمبيوتر يكون مستقلا دون الرجوع الي الجينات فى كل قراراته.
يكون عمل الكمبيوتر فى هذه الحالة, فى ظل التوجيهات والقواعد والبرامج العامة التى تضعها الجينات. فمثلا, هذا الكمبيوتر, يجب أن يكون قادرا على التعلم بنفسه وبالتجربة والخطأ. أى يعمل بالتغذية الراجعة السلبية(Negative Feedback). هذا موجود فى مكيفات الهواء ورؤوس الصواريخ الموجهة. المكيفات تقيس بإستمرار درجة الحراة, وعلى أساس درجة الحرارة تقرر زيادة أو خفض البرودة. هذا الكمبيوتر أو الحاسوب السريع نسميه المخ.
يقول "جون زكارى يانج" عالم البيولوجيا, أن الجينات تفعل شيئا يشبه التنبؤ. جينات الدب القطبى تتنبأ بأن المولود الجديد يحتاج, لكى يعيش, إلى فراء سميك أبيض اللون. إذا أخطأت الجينات وأنتجت أشبالا لونها أسود أو لها فراء رقيق فى القطب الشمالى, فإنها تدفع الثمن وتموت مع المولود.
كيف تتنبأ الجينات بالمستقبل؟ عن طريق المحاكاة(Simulation). المحاكاة تستخدمها الجيوش فى التدريبات ورسم الخطط ومقارنتها لمعرفة الأخطاء وأكثر الخطط كفاءة. ويستخدمها أيضا الطيارون لإختبار النفثات الحديثة. وأصبحت توجد برامج كمبيوتر للمحاكاة فى مجالات كثيرة تشمل الطب والإقتصاد وغيرها. يمكن عن طريق هذه البرامج معرفة ماذا يحدث مستقبلا للإقتصاد لو رفع البنك الفيدرالى الفائدة نصف فى المائة مثلا. وكذلك لمعرفة الأخطاء فى تصميم طائرة معينة حتى قبل أن يبدأ تصنيعها.
إذا كانت برامج المحاكاة مفيدة لنا وتجعلنا نتنبأ بالمستقبل إلى حد ما. فلماذا لا نتوقع أن الجينات تكون قد سبقتنا إلى إكتشاف أسلوب المحاكاة هذا فى التنبؤ. الجينات قد سبقتنا إلى إكتشاف أشياء كثيرة, حتى قبل أن نظهر على ظهر الكرة الأرضية.
على سبيل المثال لا الحصر, قد سبقتنا الجينات فى إكتشاف العجلة والموتور بملايين السنين. فهناك أنواع من الباكتيريا وحيدة الخلية لها موتور فى شكل عجلة تدور بسرعة لكى تساعد الباكتيريا على الحركة فى الماء(Bacterial Flagellum). وقد إكتشفت الجينات قبلنا أيضا العدسات والمرايا التى تأخذ شكل القطع المكافئ, والذاكرة لخزن المعلومات وغيرها من الأشياء العجيبة. ولقد سبقنا النمل فى إكتشاف الزراعة ومحاربة الآفات بالطرق البيولوجية وإستخدام نظام العبيد. ولقد سبقتنا المخلوقات الصغيرة والتى لا ترى بالعين المجردة إلى نصب الشباك ووضع الفخاخ لصيد الفريسة.
عندما تقابلنا مشكلة, ونقف لنقرر أى الطرق نسلك, فإننا نقوم بتخيل ماذا يحدث لو سلكنا كل طريق على حدة. ونختار من هذه الطرق الأسلم والأصح والأقل تكلفة من وجهة نظرنا. كذلك تفعل الجينات عن طريق المحاكاة. فالجينات التى تستطيع المحاكاة بدقة أكثر, تكون فرصتها فى الحياة والإستمرار أكبر وأفضل.
الفرق الكبير بين الكمبيوتر والمخ, هو أن المخ له وعى وإدراك بالذات. لكن الكمبيوتر, حتى الآن, ليس لديه هذا الوعى إلا فى أفلام السينما. عندما يقوم الكمبيوتر بتنفيذ برامج المحاكاة, فهو لا يعى شيئا عنها. لكن فى المستقبل, قد يحتوى الكمبيوتر على برامج محاكاة تعرف كل شئ عن الكمبيوتر نفسه وعن برامج المحاكاه التى ينفذها. عندها يصبح الكمبيوتر له وعى وإدراك.
ماذا سوف يحدث حينما يصبح الكمبيوتر له وعى؟ هذا متروك لكتاب الروايات الخيالية. فهم يتنبأون بأن الوعى للكمبيوتر, سوف يعمل على تدمير الجنس البشرى أو إستعباده. ولم لا, فكل المخلوقات على سطح الأرض تفعل ذلك.
يخشى هؤلاء الكتاب أن الذكاء الصناعى(Artificial Intelligent) بالنسبة للكمبيوتر, قد يتحول إلى شر مبرم. لكن هناك من يقول بأن الكمبيوتر كما نصنعه. معظم برامجه مصممة فى شركات معروفة تجاريا مثل شركة "ميكروسوفت" أو "أى بى إم". لذلك ليس هناك داع للقلق.
الكمبيوتر بدأ بالفعل فى السيطرة على حياتنا. ليست السيطرة التى تصورها الروايات الخيالية, لكن بمعنى إزدياد إعتمادنا عليه يوما بعد يوم. ولن ننتبه إلى خطر تدخل الكمبيوتر فى حياتنا المخيف إلا بعد فوات الأوان.
لو توقف كمبيوتر السوبر ماركت, بسبب إنقطاع الكهرباء مثلا, فإن الزبائن لن تستطيع شراء ما تحتاجه بالرغم من وجود البضاعة أمامها والنقود فى جيوبها. إذا توقف الكمبيوتر, توقفت عملية الشراء. ولا يحتاج الكمبيوتر هنا إلى برامج ذكاء صناعى لكى يسيطر على حياتنا.
إعتمادنا على الكمبيوتر يتراكم مع الوقت بدون خطة مقصودة. الإنسان يعتمد على الكمبيوتر, ويتنازل له عن إدارة شؤونه خطوة خطوة. إلى أن يأتى اليوم الذى نفقد فيه السيطرة على حياتنا ومقدراتنا تماما ونحن لا ندرى كيف ومتى حدث ذلك.
الطائرات تقلع وتهبط بالكمبيوتر. وكذلك السيارات الحديثة والقطارات والسفن وكاميرات التصوير. العمليات الجراحية والتحاليل الطبية بدأت تتم بالكمبيوتر. والجيوش تستخدم الكمبيوتر لوضع الخطط ودراستها. وحتى القنابل ورؤوس الصواريخ بها كمبيوتر.
الإنسان الآلى الذى يعد لك الإفطار, ويقوم بمعظم الأعمال المنزلية, سوف نراه قريبا فى الأسواق. والسيارات التى تسير بدون تدخل السائق, جارى تصميمها وإختبارها. شبكة الإنترنت أصبحنا عبيدا لها ولا نستطيع الإستغناء عنها. بيوتنا سوف تُفتح شبابيكها وأبوابها بالكمبيوتر حسب حالة الطقس. وسوف يصبح الكمبيوتر غير مرئي. لأن شرائحه سوف تختبئ فى الحوائط والسقوف وتحت البلاط وفى نعال أحذيتنا وشنابر نظاراتنا.
الكمبيتر يتطور, وتزداد سرعته وسعة ذاكرته آلاف المرات فى سنوات قليلة. حجمه أيضا ينقص مع مرور الوقت. الآلة الحاسبة التى توضع فى الجيب, هى كمبيوتر أيضا. تفوق قدرتها آلاف المرات قدرة الكمبيوتر المستخدم فى السبعينات, والذى كان حجمه يملأ غرفة كبيرة.
ماذا يحدث لعقل الإنسان عندما يعتمد على الكمبيوتر فى كل شئ؟ وكيف يتطور مخ الإنسان فى المستقبل تحت هذه الظروف الجديدة؟ إلى الأحسن أم إلى الأسوأ؟ فى أيامنا كنا نحفظ جدول الضرب ونستخدم جداول اللوغاريتمات والمساطر الحاسبة لحل المسائل الحسابية المعقدة. الآن لا أحد يستخدم مثل هذه الوسائل وأصبحت من الحفريات. الآلة الحاسبة أسرع وأدق. فهل هذا أفضل أم أسوأ لعقولنا؟
ما مستقبل كل هذا على أجسامنا وعقولنا؟ كان جدودنا يلهثون طوال اليوم لكى يعودون من الصيد بفروج بائس أو أرنب صغير. لذلك لم يكن يعرفون الأرق والقلق والإكتئاب, أو أمراض القلب والضغط والسكرى.
أما نحن, فبمجرد تليفون أو رسالة بريد إلكترونى, نجد ما نطلبه على باب المنزل. السيارة تغنينا عن المشى والتريض. والريموت كنترول يجعلنا نلتصق بالسرير والأريكة. حتى ترهلت أجسامنا وإمتدت كروشنا وإنسدت شرايننا. الميكروويف يعد وجباتنا فى ثوان. والإنترنت تستبدل المكتبة والكتاب والصحيفة والقلم. وكل ما أخشاه أن نتحول فى المستقبل إلى كائنات برؤوس كبيرة وأجسام هزيلة وأرجل ضامرة, تقضى جل عمرها على الكراسى المتحركة أمام شاشة كبيرة محاطين بالرموت كنترول.
أولادنا الآن تبتعد عنا, كل فى عالمه. لا يجمعنا بهم سوى سقف المنزل. هذا منغمس فى ألعابه الإلكترونية. وذاك يرغى على الإنترنت أو فى المبيل. الزوجة فى واد على التليفون والزوج يلتحف بهموم يومه وغيوم غده. يهرب إلى المسلسلات الفضائية أو إلى مباريات كرة القدم, لكى يبحث عن غيبوبة أو مجد وهمى, يزيد به الإنفعال وسرعة ضربات القلب.
هذا ما يحدث الآن. فما يخبئه لنا الغد؟ ماذا يحدث لنا عندما ننفصل عن الطبيعة وندمن رؤية كل شئ من نافذة العربة أو المنزل أو من خلال شاشة الكمبيوتر أو التلفزيون؟ حينئذن, سوف يختفى القمر وتأفل النجوم, وتغيب زرقة السماء وخرير الماء, ويتركنا النسيم والأريج, وتهجرنا الطيور وحفيف الأشجار.
zakariael@att.net
مصرنا ©