كوندورسيه خاتمة فلاسفة التنوير الفرنسية
...............................................................
بقلم: محمد زكريا توفيق
..........................
ظهر كوندورسيه فى العصر الذى أنجب فولتير و"توماس بين" وروسو وديدرو. وبالرغم من أن شهرته لا تبلغ شهرة هؤلاء, إلا أن كوندورسيه كان يمثل بصدق وأمانة عصر الأنوار الأوروبى.
فى كتابه "نشرة تمهيدية لجدول تاريخى بمراحل تقدم العقل البشرى", والذى يعتبر "الماجنا كارتا" للديموقراطية الحديثة (أى الوثيقة العظمى). فهو الذى كرس حياته لمبادئ حرية التعبير, والمطالبة بحكومات دستورية, وبالتسامح الدينى, وحرية العمل, وحرية الصناعة والتجارة. والمطالبة بإلغاء الرق, والعمل على نشر السلام العالمى بين الدول.
وهو الذى إقترح إقامة محكمة دولية لفض المنازعات بين الدول. لتقوية الإرتباطات السلمية والإنسانية, وإفساد شهوة السيطرة والحروب بينها. وهو المدافع عن قضية إلغاء حكم الإعدام, والمقترح لبرنامج إصلاح وتهذيب لتأهيل السجناء. يمكن مقارنته ببرامج الإصلاح فى الدول الحديثة اليوم.
الدين بالنسبة لكوندورسيه, يجب أن ينحصر فى أمور الهداية والأخلاق للفرد فقط, ولا يجب أن يتدخل فى الأمور الفكرية والسياسية للبشر. وهو رائد تحرير المرأة ومساواتها بالرجل فى كل الحقوق, ومنها الحقوق السياسية. وهو بطل التعليم العام المجانى لكل أفراد الشعب. والمطالب بإعادة كتابة التاريخ بطريقة موضوعية خالية من العواطف والتحيز.
كتابه هذا, "النشرة التمهيدية", وكذلك كتاب فولتير "مقالات عن السلوك", يعتبر عمل فلسفى عن الحضارة الحديثة. يبين حركة التاريخ عن طريق التقدم الحضارى للشعوب, وقدرة الإنسان المطلقة على التقدم على مر التاريخ. لذلك يمكننا القول أن كوندورسيه, عالم وفيلسوف مهموم بمشاكل البشر. ورائد من رواد الليبرالية, وأحد مكونى عقل وضمير الإنسان الحديث.
ولد الماكيز كوندورسيه, وإسمه الأصلى "جان أنطوان نيقولا كاريتا", فى بيكاردى شمال فرنسا عام 1743م. من أسرة عريقة فى دوفينيه. تلقى تعليمه فى المدارس اليسوعية فى رامس وباريس. فقد والده فى سن مبكرة, وتربى فى حضن أمه المتدينة. وسرعان ما بدت عليه موهبة الكتابة وعلوم الرياضيات. وعندما بلغ السادسة عشر من العمر, ظهرت مقدرته التحليلية التى نالت إعجاب عالم الرياضيات دى لامبرت. وسرعان ما بدأ كوندورسيه فى الدراسة على أيدى دى لامبرت عام 1765م لمدة عشر سنوات. وفى عام 1765م, نشرت له أول دراسة علمية فى رياضيات التفاضل والتكامل, والتى نالت إعجاب الجميع. وانتخب عضوا فى جمعية أكاديمية العلوم وهو فى السادسة والعشرين من عمره, وأصبح فيما بعد سكرتيرا دائما لها. وفى عام 1785م, نشرت له دراسة فى نظرية الإحتمالات سبق بها نظرية مالثوس, واقترح فيها تحديد النسل كعلاج لمشكلة تزايد السكان.
إستمر كوندورسيه فى دراساته الرياضية وأبحاثه فى نظريات الإحتمالات, إلى أن قابل عام 1772م, جاك تورجو الإقتصادى الفرنسى. وسرعان ما أصبحا صديقين حميمين. وعندما تبوأ تورجو منصب وزير المالية فى بلاط لويس الخامس عشر عام 1774م, تم تعيين كوندورسيه فى وظيفة مفتش عام فى باريس, عندما بلغت شهرته الآفاق فى فرنسا وخارجها. وكان عضوا شرفيا فى العديد من المحافل العلمية والأكاديمية فى فرنسا والمانيا وروسيا والولايات المتحدة.
فى السنوات التى تلت, أصبح كوندورسيه, ليس مجرد عالم رياضيات وإحصاء فقط, وإنما أيضا فيلسوف وسياسى. يتبنى قضايا حقوق الإنسان وخصوصا المرأة والعبيد والسود. وكان يؤيد نظام الحكم الجديد فى الولايات المتحدة. ويشارك بإقتراحاته السياسية والإقتصادية فى الإصلاح المنشود فى فرنسا. وكان من الرعيل الأول فى الحملة التى شنت على تجارة الرقيق عام 1781م.
عندما قامت الثورة الفرنسية, كان كوندورسيه فى طليعة المؤيدين لها. فى عام 1790م, أختير للمجلس البلدى, ثم أنتخب عضوا فى الجمعية التشريعية التى حكمت فرنسا من أكتوبر 1791م إلى ديسمبر 1792م, وأصبح فى مدة قصيرة رئيسا لها. ووضع بوصفه رئيسا للجنة التعليم العام تقريرا يوضح خطة قومية للتعليم الإبتدائى والثانوى العام. وعندما وطد نابليون سلطته, جعل تقرير كوندورسيه أساسا للتعليم الجديد فى فرنسا.
وجد كوندورسيه نفسه فجأة وسط العاصفة السياسية التى كانت تتجمع فوق فرنسا, والتى أطاحت عند إنفجارها بكل شئ. وبالرغم من ذلك, نجده يؤيد بحماس الديموقراطية, ويعمل جاهدا على تطبيقها ونشرها. ولم يمل كتابة المنشورات التى تطالب بالإصلاح وتعديل الدستور.
لم يتح لكوندورسيه مكانة مرموقة فى المؤتمر القومى الذى حل محل الجمعية التشريعية. وعندما هرب الملك وأسرته عام 1791م إلى فارين, كان كوندورسيه أحد المنادين بإلغاء الملكية وإقامة الجمهورية فى فرنسا. وهو الأمر الذى أبعد عنه أصدقاءه القدماء فى الحزب الدستورى.
لم يكن كوندورسيه ينتمى إلى حزب معين فى فرنسا. لكن سمعته كانت تعطيه زخما كبيرا. وكان هو و"توماس بين", أبرز الشخصيات فى اللجنة الثمانية المكلفة بصياغة مسودة الدستور الفرنسى عام 1793م. لكن المسودة التى قدمها هو و"توماس بين" للمؤتمر الوطنى الذى سيطر عليه اليعاقبة, أثارت جدلا عنيفا عند مناقشتها إنتهى بالرفض. وفضلت عليها المسودة الأكثر تطرفا والمقدمة من عضو آخر(مسودة شيللى). عند ذلك كتب كوندورسيه نشرة, غفلا من التوقيع, ينصح فيها المواطنين أن يرفضوه.
توقف العمل على صياغة الدستور الجديد بسبب أحداث القبض على الملك ومحاكمته وإعدامه. وكان كوندورسيه يعارض الوضع القانونى للمؤتمر الوطنى فى محاكمة لويس السادس عشر, ويشجب فى نفس الوقت مبدا عقوبة الإعدام بصفة عامة. بالرغم من أنه يدين الملك بسبب موقفه من قضايا الحرية. وكان يرى عقوبة أخرى للملك غير عقوبة الإعدام.
وسط هذا الجو الملئ بالرعب والمشحون بالشك والتربص, لم يستطع كوندورسيه الحفاظ على حياده بين المعتدلين والراديكاليين من قادة الثورة الفرنسية. نقده الشديد لمسودة الدستور البديلة الذى تبناها المؤتمر, وشجبه لعمليات القبض العشوائى على الأعضاء المعتدلين من الأحزاب الأخرى, ومعارضته لأعمال العنف وجو الرعب الذى يعم البلاد, كل هذا مهد إلى إتهامه بالخيانة العظمى ومعاداته للجمهورية. وفى 8 يوليو عام 1793م, أمر المؤتمر الوطنى بالقبض عليه.
حينئذن, فر كوندورسيه هاربا. ووفر له بعض الأصدقاء ملجأً فى منزل مدام فيرنيه, أرملة الفنان التشكيلى كلود جوزف فرنيه. بعد أن تأكدت أنه رجل شريف, وقبل أن تسأل عن إسمه, قالت: "دعوه يأتى ولا تضيعوا الوقت. إذ ربما ونحن نتكلم يقبض عليه." لكن كوندورسيه خاف أن يعرض هذه السيدة الكريمة للخطر بإختبائه عندها. لأنه خارج عن القانون فى نظر السلطات. وإذا تم إكتشاف مكانه, قد تتعرض السيدة لنفس المصير البائس الذى ينتظره. لكن السيدة أجابت بما يهدئ من روعه.
قامت مدام فيرنيه بمراقبة كوندورسيه منذ اللحظة الأولى, خشية أن يهرب من منزلها ويعرض نفسه للخطر. فحاولت شغل فكره بالقراءة والكتابة. فقام فى هذه الأثناء بتأليف كتيبا يصلح تلخيصا لحركة التنوير, وكتاب تخطيط للمجتمع المثالى القادم. وقام أيضا بإتمام أشهر أعماله "نشرة تمهيدية لجدول تاريخى بمراحل تقدم العقل البشرى" جاء فيه:
أن التاريخ ينقسم إلى عشر مراحل: 1) اتحاد الأسر فى قبائل لزوم الصيد 2) الرعى والزراعة 3)اختراع الكتابة 4) الحضارة اليونانية 5) الحضارة الرومانية 6) العصور المظلمة حتى الحروب الصليبية 7) من الحروب الصليبية حتى اختراع الطباعة 8) من إختراع الطباعة حتى الثورة الفلسفية التى أنجزها ديكارت 9) من عصر التنوير حتى الثورة الفرنسية 10) عصر الفكر الحر
كان كوندورسيه, مثل فولتير, يشجب العصور الوسطى ويناهض سيطرة الكنيسة على الفكر الأوروبى. ويتهمها بتخدير الناس بسحر القداس وعبادة القديسين. ومع أنه كان يؤمن بالله, إلا أنه كان يرى أن تقدم المعرفة يقوض من سلطة الكنيسة وينشر الديموقراطية ويرتقى بالأخلاق. الخطيئة والجريمة بسبب الجهل. الأمل فى التعليم وحرية الفكر والتعبير, وإستقلال الشعوب, والمساوات أمام القانون, وإعادة توزيع الثروة.
تنبأ كوندورسيه بأهمية سلطة الصحافة وإستقلالها كضابط لطغيان الحكومة. وكان يؤمن بدور التأمين والمعاشات الإجتماعية فى بناء دولة الرفاهية. ويطالب بتحرير المرأة وحقوقها السياسية. ويؤمن بالتقدم العلمى والطبى. وإنتشار النظم الإتحادية بين الدول. وبتحرير الشعوب وتحويل الإستعمار إلى معونات أجنبية تقدم للدول الفقيرة. وبتطبيق العلوم والإحصاء فى الحكومة والمؤسسات, حتى تتم القرارات على أسس سليمة. وأنه ليست هناك نهاية للتقدم, والإنسان يسعى دوما للكمال.
إستمر كوندورسيه فى مخبئه مدة 9 شهور. لكن بعض الأحداث جعلته يعتقد أن منزل مدام فيرنيه غير آمن وربما يكون مراقبا بالسلطات. وحتى لا يعرض حياة مضيفته للخطر, أودعها مخطوطة وغادر بيتها متنكرا رغم إعتراضاتها. وبعد أن تشرد ثلاثة أيام على أطراف باريس, ذهب بملابسه الممزقة ورجله الدامية, تبدو عليه علامات الجوع والإعياء, إلى حانة طالبا طبق بيض "أومليت". وعندما سأله صاحب الحانة عن عدد البيض المطلوب, قال: "دسته". حينئذ, سأله صاحب الحانة عن عمله. فقال: "نجار". فأجاب صاحب الحانة: "النجار ليس لدية يدين مثل يديك, ولا يطلب دستة بيض فى طبق الأوملت". وحينما عجز كوندورسيه عن تقديم ما يثبت شخصيته, تم القبض عليه وتسليمه للسلطات. وأثناء نقله إلى زنزانة السجن الباردة, أغمى عليه ووضع على حصان تبرع به أحد المزارعين شفقة ورحمة. وفى اليوم التالى وجد ملقى على أرض الزنزانة ميتا. فهل مات منتحرا بالسم الذى كان يحمله فى خاتمه؟ أم قتل من قبل السلطة التى كانت تخشى إعدامه العلنى بالمقصلة بسبب شعبيته وحب الناس له؟ أم مات قضاء وقدرا من الجوع والإعياء والقهر؟ لا أحد يعرف بالتأكيد.
فى عام 1989م, تم نقل جثمان كوندورسيه إلى البانسيون وسط إحتفال مهيب بمناسبة مرور 200 سنة على الثورة الفرنسية. إلا أن تابوت هذا العالم المفكر الفيلسوف الإنسان, آخر الرجال المحترمين وخاتم عمالقة التنوير, وجد خاويا . لأن جثمانه كان قد فقد فى القرن التاسع عشر ولا ندرى كيف.
zakariael@att.net
مصرنا ©