توماس بين رجل بلا وطن
...............................................................
بقلم: محمد زكريا توفيق
...................................
عندما قال جون آدمز: "أينما توجد الحرية, يكون وطنى" أجاب توماس بين: "لا, بل أينما تغيب الحرية, يكون وطنى" هذا جواب رجل بدون وطن. كان كفاحه من أجل الحرية يشمل ثلاث دول.
توماس بين كبريطانى, وضعت إنجلترا جائزة على رأسه. وكفرنسى, كان على وشك الطلب للمقصلة. وكأمريكى, إنتهى به الأمر إلى عدة تهم. هذا هو الرجل الذى أعطى الولايات المتحدة إسمها. ومؤلف كتاب "حقوق الإنسان", الذى بين للإنسان فى كل أنحاء الأرض, أن له حقوقا طبيعية من الواجب الحفاظ عليها. ومؤلف كتاب "عصر العقل" الذى حارب به الخرافات, والذى فشلت كتب التاريخ فى تقديره حق قدره.
ولد توماس بين عام 1737م فى إنجلترا لأسرة فقيرة . ترك المدرسة وبدأ عمله فى الثالثة عشر من عمره, ثم عمل كمحصل جمركى فى لندن فى التاسعة عشر من عمره, غير أنه فصل من العمل بعد ذلك. فقد زوجته الأولى بالوفاة, والثانية بالفصل القانونى. فى عام 1774م, كان وحيدا فقيرا. نصحه بنيامين فرانكلن, عندما كان فى لندن, بالتوجه غربا إلى أمريكا. وعندما كان معظم الشباب تنشغل بتأمين مستقبلها المالى والإجتماعى, كان توماس بين يهب نفسه كلية إلى خدمة الإنسانية.
عندما وصل توماس بين إلى فيلاديفيا فى الولايات المتحدة, كتب فى بعض المجلات مقالات تناهض الرق وتطالب بإلغائه. وكانت صدق كتاباته تزيد من حجم توزيع المجلات. فتم تعينه مديرا لتحرير أحد المجلات. عندها قام بتحويل المجلة إلى منبر للإصلاح. تنادى بإلغاء الحروب والرق, وتحارب الفقر, وتطالب بإصدار قانون دولى لحفظ حقوق المؤلفين, وتناهض الحكم الفردى, وتسخر من ممارسة المبارزة والمنازلة بين الأفراد.
تنبه توماس بين, قبل واشنجطون وجيفرسون, بوجوب الإستقلال عن إنجلترا. وأصبح المتحدث بإسم الولايات الأمريكية, بعد إصدارة كتيب "الفطرة السليمة – Commom Sense", الذى ساهم مساهمة كبيرة بدوره فى الإستقلال عن بريطانيا. كتيب الفطرة السليمة, بيعت منه 120 ألف نسخة فى ثلاث شهور. حصيلة هذه المبيعات, أعطيت إلى جورج واشنجطون للمساهمة فى تسليح جيشه. فلم يكن "توماس بين" يقبل أى دخل من كتاباته لنفسه, وكان يتبرع بها لتحقيق الهدف الأمريكى. وكان كتاب "الفطرة السليمة", بمثابة الطلقة التى سمع دويها فى جميع أركان العالم. وكان بمثابة أول دعوة تنادى بالإستقلال عن إنجلترا. وكما قال مارلو الكاتب السياسى الكبير: "يرجع الفضل فى الإستقلال الأمريكى إلى قلم "توماس بين", وسيف جورج واشنجطون". وكان يقال: "مهما يقال عن من كتبوا وثيقة إعلان الإستقلال, إلا أن الكاتب الحقيقى لها هو توماس بين" لأن ما جاء فى وثيقة إعلان الإستقلال الأمريكية, هى أفكار "توماس بين" التى جاءت فى كتاب "الفطرة السليمة". وكان توماس يطلب ويلح من جيفرسون أن تتضمن وثيقة الإستقلال, بندا ينص على إلغاء الرق. إلا أن هذا البند لم يمكن إضافته, بسبب معارضة ولايتى جورجيا وجنوب كارولينا.
بعد ذلك إنضم إلى جيش جورج واشنجطون. وكان يصدر مذكرات بعنوان الأزمة جاء فيها: "تلك هى الأزمة التى تمتحن نفوس الرجال ... الإستبداد كالجحيم تماما, ليس من السهل التغلب عليه" وكان واشنجطون يقرأ المذكرات بصوت عال على جنوده لزيادة حماسهم وإلهاب مشاعرهم فى أحلك الأوقات, مما ساهم فى النصر. وقد جمعت مذكرات الأزمة ونشرت فى ثلاثة عشر طبعة. كانت حصيلة مبيعاتها 300 ألف جنيه, تم التبرع بها بالكامل إلى جيش واشنجطون.
فى هذا الوقت, تم تعيين "توماس بين" فى وظيفة سكرتير لجنة الشئون الخارجية فى الولايات الأمريكية. وكان نشاطه ومراسلاته الدبلوماسية خلال هذه الفترة, تتضمن نصائح قيمة لوأتبعت لكان لها تأثير عظيم فى مجالى الحرب والسلم. ثم تقلد بعد ذلك عدة مناصب صغيرة هنا وهناك. قام خلالها بخدمة الشعب الأمريكى بإخلاص. وقام أثنائها بعبور الأطلنطى سرا معرضا حياته للخطر لو وقع فى أيدى البحرية البريطانية, وذلك لكى يحصل على قرض لأمريكا من فرنسا.
بعد نهاية حرب الإستقلال عام 1787م, قام "توماس بين" بزيارة أوروبا لرؤية والديه, ولكى يكمل مشروعه فى تصميم وبناء كوبرى. وفى هذه الأثناء, كتب العديد من الرسائل والمنشورات وشغل نفسه ببعض المشروعات الهندسية. وعندما ذهب إلى فرنسا هذه المرة, قام بمقابلة كوندورسيه ودانتون ومفكرين آخرين راديكاليين. وفى يوليو عام 1789م, سقط سجن الباستيل إبان الثورة الفرنسية. وقام الجنرال الفرنسى لافايت بتسليمه مفتاح السجن لإعطائه إلى جورج واشنجطون كرمز للتحرير.
عندما صدر كتاب "حقوق الإنسان" لتوماس بين فى إنجلترا, بيعت منه مليون نسخة. وعندما تنبهت السلطات البريطانية لخطورة هذا الكتاب, قامت بمصادرته ووجهت الإتهام للناشر وطالبت بمحاكمة المؤلف بالخيانة العظمى. لكن الكتاب إنتشر إنتشار النار فى الهشيم. وجن به العامة, وإنطلقت تهتف فى الشوارع وتنشد الأناشيد التى يقول مطلع أحدها: "جاء المصلح العظيم جاء".
وفى أمريكا, لاقى كتاب "حقوق الإنسان" إعجاب كل أبطال الإستقلال الأمريكيين. ووصفوه بأنه عمل أسطورى وطالبوا أن يكون توماس بين ضمن أفراد الحكومة الأمريكية.
جاء فى كتاب "حقوق الإنسان" أن الإنسان يولد وله حقوق طبيعية. لكن هذه الحقوق قد سلبت منه عن طريق السلطة الحاكمة والسلطة الدينية. الثورة الفرنسية والثورة الأمريكية قامتا لإرجاع هذه الحقوق لأصحابها. الكنيسة الكاثوليكية وتعاليمها الصارمة هى العدو الحقيقى للحرية. التهم التى يوجهها رجال الدين إلى الناس, ليست خصائص موجودة فى الدين المسيحى أو فى أى دين. وإنما هى قوانين وفتاوى وتعاليم صارمة أضيفت لكى تجعل رجال الدين تتحكم فى مصائر الناس بالقوة. خذ من الأديان تشريعاتها القاسية الرادعة هذه, وأنت تحول كل دين إلى دين سلام وتقدم.
الحق الإلهى وتوريث الحكم شئ مضحك. عن طريق هذا النظام, أى عبيط يمكنه أن يعتلى العرش وفقا لهذا الحق. والعداء بين الدول ما هو إلا عداء بين سياسة حكوماتها. كل حكومة تتهم الأخرى بالتآمر والغدر, وذلك لشحذ الهمم ودفع مواطنيها للحرب. وهذا ما رأيناه فى عصر بوش الإبن بحجة محاربة الإرهاب. الإنسان ليس عدوا للإنسان. لكن العداء يحدث بسبب سياسات الحكومات العفنة. الضرايب يجب أن تكون تصاعدية وفقا للدخل. وهذا هو العدل. ونقابات العمال لازمة للدفاع عن العمال وحفظ حقوقهم. والتعليم يجب أن يكون مجانى وإجبارى لكل أفراد الشعب(كالماء والهواء كما يقول المرحوم طه حسين). والمعاشات لكل كبار السن. والعمل يجب أن يتوفر لكل الأيدى القادرة على العمل.
هذه هى حقوق الإنسان الطبيعية. والتى تتأكد بمناداته بأن الأوضاع الجديدة تتطلب قوانين جديدة. الدساتير والمؤسسات يجب أن تتغير وفقا للظروف. قوانين الديموقراطية والليبرالية, يجب أن تكون ديناميكية تلائم طبيعة المجتمع والعصر الذى نعيشه. ولا تقتصر على حقبة واحدة من التاريخ أو مكان معين دون باقى الأماكن. لذلك من الواجب مراجعتها من حين إلى آخر. إن المطلوب هو المشروب, لا القارورة. وليس من حق جيل واحد أن يملك كل الحق, لكى يقرر الشكل النهائى للدستور والحكومة والقوانين. لكى تظل سارية إلى نهاية الزمن.
كل عصر وكل جيل, يجب أن يكون حرا لكى يقرر ما يصلح له. الظروف تتغير, والأوضاع الدولية تتغير والمجتمع يتغير, والأفراد تتغير. والذى نجده مناسب وجيد اليوم, ربما نجده غير ذلك غدا. أفضل دستور يمكن وضعه الآن, يلائم اللحظة التى نعيشها. لكن ربما نجده قاصرا بعد سنوات قليلة فقط.
إعتبر الإنجليز كتاب حقوق الإنسان, كتاب تحريض ضد الحكومة البريطانية. وسرعان ما تم توجيه الإتهام للمؤلف. الذى فر هاربا من إنجلترا إلى فرنسا. وهناك, إستقبلته فرنسا بالترحاب وإطلاق المدافع وعزف الفرق الموسيقية. وأنعمت عليه بالجنسية الفرنسية وضمته إلى المؤتمر الوطنى.
تم إختيار توماس بين ضمن اللجنة المشكلة لصياغة الدستور الفرنسى. وهناك, قابل كوندورسيه الفيلسوف والرياضى وآخر مفكرى حركة التنوير الفرنسيين. وكان توماس بين الوحيد ضمن اللجنة, الذى عارض إعدام الملك لويس السادس عشر. وكانت حجته, أنه ضد الملكية وليس ضد الملك. معارضته الشديدة لقوبة الإعدام بصفة عامة والملك بصفة خاصة, أثارت عليه حفيظة "مارا" و"روبسبير" وبعض قادة الثورة الراديكاليين. مما جعل حياة توماس بين تصبح فى خطر بالغ.
أرسل لويس السادس عشر إلى المقصلة. وصعد روبسبير إلى قمة السلطة عام 1793م, وبدأت المجزرة. وشمل التطهير غالبية قادة الثورة الفرنسية والمنادين بالجمهورية. فيما عدا "توماس بين". فقد خجل روبسبير من إرسال مؤلف "حقوق الإنسان" إلى المقصلة. لكن توماس بين لزم مسكنه. وتفرغ لكتابة الجزء الأول من كتابه الخطير "عصر العقل".
أنه يهدى "عصر العقل" عام 1794م إلى رفاقه الأمريكيين قائلا: أؤيد بشدة حق كل إنسان فى إبداء رأيه مهما كان مختلفا معى. إن من ينكر على الآخرين حقهم فى إبداء رأيهم إنما هو عبد لرأيه الحالى. لأنه يسلب نفسه حق تغيير هذا الرأى. إن العقل أمضى سلاح ضد الخطأ. ولم يحدث أبدا أن إستخدمت سواه. وإننى واثق أننى لن أثق مستقبلا فى سواه"
وفى مقدمة كتابه يقول "بين" أنه لا يهدف إلى مناهضة الأديان وإنما يبغى من كتابه منع الفساد الناتج عن تداخل الخرافات فى الأديان, مما يسبب تدميرا للنظم الإجتماعية. فاللاهوت الزائف, مثل نظم الحكم الزائفة, تفقدنا الأخلاق والإنسانية والدين الحق. ويضيف: "أننى أومن بالله الواحد, وآمل فى تحقيق السعادة بعد هذه الحياة. إننى لا أومن بالمؤسسات الدينية. فعقلى هو كنيستى. أما الباقى فهى بدع أقيمت لإرهاب البشر وإستعبادهم ولإحتكار السلطة وتحقيق المكاسب المادية."
فأساطير الأديان الحالية, لا تختلف عن أساطير القدماء أيام الوثنية. يستخدمونها لخدمة أغراض السلطة الدينية. وبقى على العقل والفلسفة أن يبطلا هذا الدجل. ثم قام توماس بين فى الهجوم على قصص الكتاب المقدس وخصوصا قصص العهد القديم. وفندها وإتهمها بأنها مجرد خرافات لا تتفق مع العقل.
فأفكارنا عن الله لا يمكن أن نكتشفها إلا عن طريق التأمل فى خلقه. إن الخلق يتحدث لغة عالمية توضح عظمة الخالق. هذه العظمة, تتجلى فى سنن الكون التى لا يعتريها تبديل والتى تحكم كل شئ. بإختصار, أتريد أن تعرف الله؟ إبحث عنه فى نفسك وفى الخلق لا فى الكتب المقدسة.
ثم لحقه بعد ذلك بالجزء الثانى من كتابه "عصر العقل". وكرسه لتوجيه نقد حاد للكتاب المقدس. وأضاف قليلا لنقد أفكار وردت فى دراسات أكاديمية. لذلك وجد نفسه بلا تكريم فى وطنه الأصلى ووطنه الجديد. وعندما عاد عام 1802م إلى نيويورك, ووجه بإستقبال بارد. وعاش فى وحدة وعزلة. فأدمن الشرب فى السنوات السبع الأخيرة من عمره. ومات فى نيويورك عام 1809م. وبعد موته بعشرة أعوام, قام وليم كوبت بنقل رفاته إلى إنجلترا. حيث ظلت كتبه تلعب دورا هاما فى المعارك التى خاضها الشعب الإنجليزى إلى أن تمخض كفاحها عن صدور مرسوم الإصلاح عام 1832م.
zakariael@att.net
مصرنا ©