فولتير رائد من رواد فلسفة التنوير فى القرن الثامن عشر
...............................................................
بقلم: محمد زكريا توفيق
.........................
قابل فيليب الثانى, الوصى على العرش الفرنسى, أيام لويس الخامس عشر, فولتير فى أحد الحدائق العامة فى يوم من الأيام وقال له: "سيد أرويه, أراهن على أننى أستطيع أن أريك شيئا لم تره من قبل" فقال فولتير: "ماهو؟" أجاب الوصى بسرعة: "سجن الباستيل من الداخل" وبالفعل, كان فولتير داخل الباستيل فى اليوم التالى. فمن هو فولتير هذا؟ هو كاتب، وشاعر, وفيلسوف. يعده الأوروبيون واحدا من أبرز أدباء حركة التنوير في القرن الثامن عشر. إسمه الأصلي "فرانسوا ماري أرويه". ولد فى باريس(1694-1778م). نشأ فى وسط بورجوازى معارض. وكان يعمل والده محاميا لدى الدوق "دى روشيليو" و"الدوق دى سان سيمون".
تعلم في معهد يسوعي, ودرس الأدب اللاتينى واللغات والمسرح. ورفض دراسة القانون وفضل دراسة الأدب والإشتغال به. عمل لفترة مساعدا لسفير فرنسا في لاهى ثم عاد إلى باريس سنة 1714م. وعمل فترة أخرى في مكتب موثق عقود وفيها تعرف على بعض النبلاء, وراجت بينهم أشعاره الساخرة, خصوصا ما كان يقرظه في هجاء "فيليب الثانى" الوصى. فتم سجنه بسبب ذلك لمدة عام فى سجن الباستيل سنة 1716م.
في سجن الباستيل, إتخذ إسم "فولتير" لقلمه. وكتب أيضا ملحمته "هنرياديه", التى تروى فى الظاهر, قصة حصار "هنرى الثالث" لباريس عام 1589م, ولكنها بين سطورها, تنتقد السلطة الدينية فى عصره. وكان لا يسمح له بورق كتابة داخل السجن. فكان يكتب بين سطور أحد الكتب المطبوعة. وأفرج عن فولتير فى إبريل 1718م. عندما قرر الوصى على العرش أن سنة كاملة فى سجن الباستيل تعتبر ثمنا عادلا لكتابة أغنية.
كتب مسرحية "أوديب" فلاقت نجاحا كبيرا، وكانت قد عرضت فى أحد مسارح باريس لمدة 45 يوما متتالية, وهذا أمر لم تبلغه مسرحية أخرى فى تلك الأيام. واعترف به كأعظم شاعر في فرنسا. وبلغت شهرته الآفاق, وأصبح حديث صالونات باريس.
فى أحد حفلات العشاء, أشار إليه النبيل "شيفاليه دى روهان شابوت" متسائلا: "ما إسم هذا الشاب ذو الصوت العالى؟" فجاء الجواب سريعا من فولتير: "سيدى اللورد, إنه واحد من اللذين لا يجرون أسماء طويلة خلفهم, لكنه يستطيع أن يحمى ويشرف الإسم الذى يحمله" وبعد يومين, قام إثنان من البلطجية, كان قد إستأجرهما شيفاليه, بضرب فولتير علقة ساخنة. وفى اليوم التالى, ظهر فولتير فى المسرح يعرج وهو مضمد بالأربطة, وإقترب من شيفاليه, وقد كان حاضرا, طالبا منه المنازلة. ولم يكن شيفاليه خبيرا بإستخدام السيف, لذلك تجنب المبارزة. لكنه فى نفس الوقت رتب مع السلطة أمرا بالقبض على فولتير. وفى عام 1726م, وجد فولتير نفسه مرة ثانية فى سجن الباستيل, لكن بعد عدة أسابيع, أفرج عنه بشرط أن يذهب إلى المنفى فى إنجلترا.
كانت هذه نقطة تحول خطيرة فى حياته. وبذلك تكون أيام التهريج والفوضى قد ولت إلى غير رجعة, وجاء وقت النضج والمسؤولية. وأصبح بحر المانش يفصل بين عهدين فى حياته. عهد الهزل وعهد الجد.
تحول نفى فولتير إلى إنجلترا من عقاب إلى مكافأة. فقد أصبحت إنجلترا لفولتير بمثابة وطنه الثقافى الرئيسى كما كانت "لإراسموس (Erasmus)" فى القرن الخامس عشر. وفى عامه الأول, لاحظ أن صديقاه, "ألكساندر بوب" و"جوناثان سويفت", يكتبان ما يحلو لهما بدون خوف أو مطاردة من السلطات. فكتب إلى أحد أصدقائه: "هنا فى إنجلترا يمكن للإنسان أن يستخدم عقله بدون خوف أو تذلل. هنا يوجد شعب مستقل ومتحضر, ثار على نظام الحكم القديم. فلا يوجد سجن الباستيل, ولا يوجد إضطهاد دينى.
قام فولتير أثناء نفيه إلى فرنسا, بدراسة الدستور البريطانى, الذى يكفل الحرية والتسامح لكل الطبقات. وقضى وقتا كبيرا مع "بولنجبروك" و"سويفت" و"بوب" و"كونجريف". ودرس بعمق مسرح شكسبير وفلسفة "لوك" ونظريات "نيوتن" العلمية. وتأثر تأثرا كبيرا بكتاب "الفهم الإنسانى" "لجون لوك", ومعقولية "فرانسيس بيكون", وأفكار الإصلاح "لتيندال".
لقد حلق فولتيرفى عالم آخر من القيم الرفيعة الراقية. وهنا أصبح الشاعر, مؤرخا وفيلسوفا. بعد أن إتسع أفقه. ومعه, إتسع أفق القارة الأوروبية كلها. وقال عنه "جورج برانديس": "أعطته إنجلترا نقطة إرتكاز أرشميدس خارج فرنسا, ومنها إستطاع أن يرفع فرنسا ومعها القارة كلها"
لكن أهم شئ فى هذه القصة, هى إحساسه بالحرية فى بلد حر ديموقراطى. الحرية الإنجليزية أصبحت بالنسبة له مثلا أعلى. هنا, لا أحد يمكن أن يفقد حريته بأى سلطة من السلطات. ولا أحد يمكن أن يعاقب بدون محاكمة. هنا حرية كاملة للكتابة والخطابة والصحافة. وتسامح دينى كامل بين الأديان المختلفة. لقد رأى الآن الفرق بين نظامين. بدا واضحا فى كتابه "رسائل عن إنجلترا" التى تعتبر نقطة إنطلاق, وبداية الثورة الفرنسية.
لقد كتب, بالنسبة للحرية الدينية عند الإنجليز, أن الرجل الإنجليزى, يذهب إلى الجنة عن طريق الدرب الذى يختاره هو بمحض حريته. وبالنسبة للحرية السياسية, يقول أن إنجلترا هى البلد الوحيد على سطح الكرة الأرضية الذى تحجم سلطة الملوك فيه. فالحاكم تترك له كل السلطة لفعل الخير, وفى نفس الوقت تكبل يديه عن فعل الشر.
مدة النفى فى إنجلترا كانت ثلاث سنوات. بعدها عاد فولتير إلى فرنسا. ليكتشف أن السلطات كانت قد أعدت أمرا كتابيا بإعتقاله. وحتى لا يعيش مع فئران الباستيل مرة أخرى, فر هاربا من باريس. وإختبأ فى سيريه عند الماركيزة "إيميلى شاتيليه" التى وقع لتوه فى غرامها. وأقام عندها مدة 16 عاما. كانت كلها سنين إنتاج وسعادة. ففى خلالها, كتب تراجيديتيين وروايتين وكتاب عن حياة وعصر "لويس الرابع عشر" وبحث عن السلوك.
التاريخ الحديث لم يبدأ بكتابات "ويلز" و"روبنسن", وإنما بدأ بكتابات فولتير. فهو أول من أضاف البعد الإنسانى للتاريخ. وأول من صاغه على هيئة عمل درامى, وليس مجرد سرد لحقائق وتواريخ جامدة وأسماء معارك وملوك. لقد رأى فولتير التاريخ من منظور التطور والنمو الإنسانى. لذلك يعتبر فولتير أبو التاريخ الحديث عن جدارة.
كان عصر لويس الرابع عشر بالنسبة له, عصر إنجاز للفنانين والعلماء والفلاسفة, لا عصر المغامرات الحربية والمناورات السياسية. وقد كتب فريدريك الأكبر عن فولتير: "كتاباته التاريخية تعتبر كنوز للعقل. تدل على عبقرية فى التأليف, وشرفا للعصر الذى نعيش فيه وللعقل الإنسانى بمجمله"
ذهب فولتير بناء على دعوة "فريدريك الأكبر" إلى بوتسدام. لكنه لم يستقر بها طويلا بسبب غيرة المنافسين وحسد الحساد. ثم ذهب إلى جينيف وقام بشراء فيلا على بحيرة هناك. لكنه لم يستقر بها أيضا بسبب الإضهاد الدينى له. فقرر ترك جينيف والذهاب إلى فيرنى حيث قام ببناء وحدات سكنية للعمال ومصانع صغيرة. وقام بزراعة 4 آلاف شجرة. وقام بتوظيف المئات من العمال اللاجئين.
فى هذه الأثناء كتب أشهر أعماله, رواية "كانديد". التى يسخر فيها من فلسفة "روسو" و"ليبنتز". فنحن نعيش فى عالم, ليس فيه كل شئ على ما يرام. والحلول لا تكون إلا بإستخدام العقل والعلم. والرواية تمثل البحث عن شئ ذات معنى, فى عالم مجنون مجنون مجنون.
السلاح الوحيد الذى يمكن إستخدامه ضد القوة الغاشمة والسلطة المستبدة, هو القلم والعقل والذكاء. فالقلم أمضى من السيف. وكانت كتاباته تتسم بالدقة والوضوح. وهو أسلوب نجده واضحا فى كتابات "فلوبرت" و"رينان" و"أناضول فرانس".
كان المسيحيون البروتستانت فى تولوس فرنسا غير مسموح لهم بمزاولة مهنة الطب أو المحاماة, أو أمتلاك محلات بقالة أو مكتبات, أو حتى مزاولة مهنة المولدات. وفى يوم من الأيام, ترك "مارك كالاس" الأبن عائلته وذهب إلى أقرب كوخ ليشنق نفسه.
جاءت الشائعات تتهم "جين كالاس" الأب البروتستانتى الديانة, بقتل إبنه مارك بسبب تحوله إلى الكاثوليكية. وسرعان ما تم القبض على الأب وباقى العائلة. وحكم على الأب, بعد محاكمة سريعة غير عادلة لم يسمع فيها شهود النفى, بالتعذيب والإعدام.
تعرض الأب المسكين لعمليات تعذيب تفوق الوصف. فقد نزعت عظام يديه ورجليه من مفاصلها بآلة خاصة. وكان يضرب بقضبان الحديد على صدره لتحطيم ضلوعه. وزبانية الجحيم تراعى بقاؤه أطول مدة حيا حتى يتجرع من الآلام والعذاب أشده وأقساه. ثم بعد ذلك تم شنقه وحرق جثته.
عندما وصلت الأخبار إلى فولتير, إستشاط غضبا. وأيقن أن بريئا تم تعذيبه وقتله شر قتلة ظلما. فقرر تبنى هذه القضية والدفاع عن شرف هذه الأسرة وإعادة الإعتبار لها. فقام بالتفرغ لهذه القضية لمدة ثلاث سنوات متصلة. أخذت كل وقته وفكره وجزءا من ثروته. قام خلالها بالإتصال بكل أصدقائه أصحاب النفوذ. منهم ملك بروسيا وإمبراطورة روسيا. وأقنع الصحافة الإنجليزية بتبنى القضية ونشرها فى كل أوروبا. وأخيرا نجح فى إعادة المحاكمة بقضاه محايدين. قاموا بسماع شهود النفى لأول مرة. وإنتهت بتبرئة الأب الذى قتل ظلما بسبب التعصب وضيق الأفق.
أعلن فولتير منذ ذلك الوقت الحرب على التعصب وعدم التسامح الدينى الذى إستعبد أوروبا آلاف السنين. وكان يقول: "كفى حرق الكتب, والإطاحة برؤوس الفلاسفة وإعدام الأبرياء بحجة أنهم يدينون بديانات مختلفة. هذا عار يجب أن يمحى. الإنسان يحب أن يتحرر من خرافات العصور الوسطى, ومن سلطة الحكومة الدينية. الإنسان يجب أن يحكم بالحجة والعقل."
فى رسالته عن التسامح الدينى وفى كتابه قاموس الفلسفة, يؤكد حرية العقيدة, والأخوة الإنسانية. وينتقد الخطاب الدينى الرسمى. وينادى بفصل الدين عن الدولة. ويبتهل إلى الله بالدعاء التالى:
"إلهى, ألتجئ إليك يا خالق كل شئ, أن لا تجعل الكره والبغضاء بين البشر يستشرى, بسبب الفروق التافهة بين ملابسنا أو قوانيننا, أو لغاتنا المختلفة أو عاداتنا المضحكة أو آرائنا الغبية أو مراكزنا الإجتماعية. هذه فروق تبدو عظيمة لنا بسبب جهلنا, ولكنها متساوية وليست فروقا على الإطلاق بالنسبه لك. فاجعلهم يتذكرون دائما أنهم لازالوا إخوة وأخوات"
وتأتى النهاية فى 30 مايو 1778م. لكن الكنيسة تقوم برفضت مراسم دفنه. فقام أصدقاؤه بدفنه خلسة فى سيليريه. وبعد 13 سنة فى عام 1791م, عندما كانت الثورة الفرنسية فى أوجها, أصدرت الجمعية الوطنية الفرنسية أمرا بنقل جثمان فولتير إلى البانثيون إلى جوار رفاة "جان جاك روسو" وباقى عظماء فرنسا, وسط مراسم دفن عظيمة حضرها 600 ألف فرنسى. وكتبت على عربة الدفن العبارة: "شاعر وفيلسوف ومؤرخ. أعطى العقل الإنسانى دفعة هائلة, وأعدنا للحرية"
هذا الرجل, كتب يوما إلى "جان جاك روسو": "أنا لا أتفق مع كلمة واحدة مما تقول. لكننى أدافع حتى الموت عن حقك لكى تقولها"
وعلى قبره, كتبت لافتة تقول: "حارب المتعصبين والمتزمتين, ودعا إلى روح التسامح الدينى، وطالب بحقوق الإنسان ضد العبودية, وحارب نظام الإقطاع. شاعر، ومؤرخ، وفيلسوف. جعل آفاق النفس البشرية تتسع, وتتعلم معنى الحرية".
zakariael@att.net
مصرنا ©