الإنفتاح على الغرب وبداية اليقظة فى مصر والشام
...............................................................
بقلم: محمد زكريا توفيق
..........................
بعد جلاء الجيش الفرنسى فى عام 1801م, أخذ الشعب المصرى ينظر بعين السخط والمقت إلى عودة حكم المماليك وحكم الأتراك معا.
لم يكن الشعب قد نسى مظالم حكم المماليك القديمة, وما جره على البلاد من خراب. أما الحكم التركى, فقد ظهر من سيئاته ومظالمه خلال السنوات التى أعقبت جلاء الفرنسيين, ما جعل المصريين يكرهون أن يعود إلى نيره القديم.
كانت الجنود العثمانية, كما يقول الرافعى, خليطا من أردأ عناصر السلطنة العثمانية. مجردة من النظام والرقى والتهذيب. يقودها رؤساء جهلاء, لم يألفوا من أساليب الحكم, إلا الظلم والقسوة. فلم يكن لهم هم سوى النهب والتخريب والإستهانة بأرواح الناس, وإرهاق الشعب بمختلف المظالم.
فى هذه الظروف الغير مستقرة, الناتجة عن صراع السلطة بين الوالى والجيش التركى, الذى دخل مصر أعقاب إنسحاب الفرنسيين والمماليك, والجيش الإنجليزى الذى قام بإحتلال الإسكندرية ورشيد ودمنهور, ثار المصريون ضد الحكم التركى, وضد الإحتلال الأوروبى. وقاموا بعزل الوالى خورشيد باشا. وإختاروا بمحض إرادتهم, محمد على باشا الألبانى, واليا عليهم. ولم يكن أمام السلطان العثمانى خيارا, سوى مباركة هذا الإختيار, والإعتراف بمحمد على باشا واليا على مصر.
لم يصدر محمد على باشا قوانين تحفظ حقوق الأفراد, أو تكفل الحريات للمصريين. ولم يحاول تطوير النظام السياسى, كما حدث فى أوروبا. ولم ينشئ سوى المجالس الإستشارية التى هى أشبه بالدواوين الحكومية منها بالمجالس النيابية. مثل المجلس الخصوصى, والمجلس العمومى, ومجلس المشورة.
كان نظام حكمه, هو النظام الإستبدادى الفردى. فكل القرارات, كان يصدرها بنفسه, بعد مناقشتها مع مستشاريه. ولم يكن رجال الدين أو كبار المشايخ, الذين إختاروه بإدارتهم لحكم مصر, ضمن مستشاريه المقربين. وكان إلغاؤه للنظام الضرائبى للأطيان, وتدخله فى شؤون الأوقاف, له تأثير مباشر على النظام الإجتماعى السائد فى البلاد. فبعد قضائه على طبقة المماليك, كونت طبقة جديدة موالية له, من الأتراك والأكراد والألبان والشركس والأوروبيين والأرمن. وليس بينها المصريين.
كان محمد على باشا, لا يشجع أو يسمح بالإشتغال بالسياسة وشؤون الحكم. وعندما أخبره أحد تلاميذ البعثة التعليمية إلى أوروبا, أنه درس نظم الإدارة المدنية فى فرنسا, قال محمد على: "أنا الذى أحكم هذا البلد. إذهب إلى القاهرة, وقم بترجمة الكتب العسكرية"
بالرغم من أنه كان بطلا فى نظر الأتراك, لقيامه بتدمير قوة الوهابيين فى الجزيرة العربية بأمر السلطان العثمانى, إلا أن سياسته كانت هى المساواة بين المسلمين وغير المسلمين. فاليهود والمسيحيين والأجانب, كان مسموحا لهم بالإقامة فى مصر. وكانت حقوقهم مكفولة. وكان يشجعهم على إستثمار أموالهم فى التجارة والصناعة داخل البلاد.
كان محمد على باشا, يعلم أن سر قوة أوروبا تكمن فى قوتها الإقتصادية. المبنية على العلم والتنظيم. لذلك يمكن القول, أنه أول من وضع الأسس الحديثة للإقتصاد المصرى. فقام بالتوسع فى زراعة القطن فى الأراضى المستصلحة حديثا. عن طريق شق الترع والإهتمام بشبكات الرى والصرف. وقام أيضا بوضع نظام حديث للنقل والتسويق. وحاول إدخال الصناعة الحديثة, لكن لعدم وجود السوق المحلية أو الخارجية لمنتجاته, جعلت نجاحه فى الصناعة أقل حظا من نجاحه فى الزراعة والتجارة.
بسبب اهتمامات محمد على العسكرية, واحتياجه إلى الأيدى العاملة المدربة, توسع فى فتح المدارس وإرسال البعثات إلى أوروبا. وكان هدف هذه البعثات واحد. هو نقل الخبرة والعلوم وكل مايمكنه أن يجعل مصر دولة قوية عسكريا وإقتصاديا بأسرع وقت ممكن. وكانت هذه البعثات تحت إشراف محمد على الشخصى. وكان يحرص على أنه لا يخرج الطالب عن غرض البعثة المخصص لها. وعندما طلبت إحدى البعثات عمل رحلة لمعرفة حياة الأسرة الفرنسية, رفض ذلك بإصرار.
لكن الأفكار الخاصة بالحرية والمساواة وحقوق الإنسان والديموقراطية, التى كانت تجتاح أوروبا فى ذلك الوقت, لم يكن حجبها عن كل أفراد البعثات بسهولة. حيث بدأت الأفكار تتسلل خلال أفراد وطنيين فيما بعد.
كان أول من قام بالتدريس فى المعاهد التى أنشأها محمد على, هم الإيطاليون. لذلك كانت اللغة الإيطالية هى اللغة الأجنبية الأولى. سرعان ما تغيرت لكى تصبح اللغة الفرنسية. والتى عن طريقها, تسربت أفكار فلاسفة التنوير أمثال فولتير وروسو ومنتسكو إلى مصر.
فى عام 1816م, وجدت كتبهم فى أحد المدارس المصرية. وأصبحت البعثات منذ عام 1816م, ترسل إلى فرنسا. وكانت فى بادئ الأمر, مقصورة على الأتراك والأجانب. لكن بمرور الوقت, أصبحت غالبيتها من المصريين.
الجدير بالذكر, أن طلبة هذه البعثات هم بناة مصر الحديثة. فقد قاموا بترجمة ونشر الكتب العلمية والأدبية والثقافية. من هؤلاء, جاء شريف باشا, صاحب الفضل فى ظهور أول دستور مصرى. ورفاعة رافع الطهطاوى, أول مفكر سياسى فى مصر الحديثة.
أما بالنسبة لبلاد الشام, فإن النظم الحديثة للحكم, جاءت متأخرة. فالعائلات الكبيرة التى كانت تعيش فى المدن, كان نشاطها مقصورا على الأمور المحلية. ولا دخل لها بشؤون الحكم ككل. وكان المسيحيون على إتصال بسيط بالأفكار الأوروبية. ويرجع تاريخ هذا الإتصال, إلى القرن السادس عشر.
فى ذلك الوقت, قامت الكنيسة الكاثوليكية بالإتصال بأفراد الكنيسة الشرقية فى بلاد الشام. عن طريق الإرساليات المسيحية. ومنذ عام 1736م, أصبحت الكنيسة المارونية على علاقة خاصة بالفاتيكان. وكذلك الأرثوذكس والأرمن والنسطوريين فى بلاد الشام. وأصبحوا تحت الحماية الفرنسية, بالرغم من أن البلد سياسيا, كانت تحت النفوذ العثمانى.
بسبب الإرساليات والمدارس الكاثوليكية, ظهرت مجموعة من المتعلميين. على دراية بما يدور فى أوروبا فى ذلك الوقت. فنجد أمير الجبل فخر الدين, كان يستخدم المارون المتعلمين لتمثيل بلاده فى البلاط الأوروبى. وفيما بعد, نجد الحكام الأتراك فى سوريا وحكام طرابلس وصيدون, يقومون بتوظيف المسيحيين فى الوظائف الكتابية والمالية.
قبل نهاية القرن الثامن عشر, نجد المسيحيين الشوام, يعملون فى الجمارك المصرية أثناء حكم المماليك. وعندما جاء محمد على , قام هو الآخر بإبقاء المسيحيين الشوام فى وظائفهم, نظرا لحاجته إليهم. من هؤلاء, ظهرت عائلات كانت مشهورة بالقلم. مثل عائلة اليازجى وشدياق والبستانى. ومن هؤلاء تكون عصر النهضة فى بلاد الشام.
عندما خضعت البلاد لحكم إبراهيم باشا, إبن محمد على, بدأت مرحلة جديدة من الإنفتاح على أوروبا. وبدأت الشام تعرف النظام المركزى فى الحكومة, والجيش النظامى, والبحث العلمى عن المصادر الطبيعية. وأهم من كل ذلك, عرف المساواة بين المسيحيين والمسلمين.
لقد جلسوا جنبا إلى جنب فى المجالس الإدارية, التى أنشأها محمد على باشا فى الشام. وكان ضمن مستشارى إبراهيم باشا, حنا بحرى المسيحى الديانة, وبشير شهاب أمير لبنان الذى توفى على الديانة الكاثوليكية. لكن هذه الوحدة الدينية التى كان يحرص عليها إبراهيم باشا فى بلاد الشام, هى التى قامت بمعارضة حكمه والثورة على نظامه.
عندما هزم إبراهيم باشا الجيش التركى فى موقعة نزريب, سار بجيشه داخل آسيا الصغرى. حينئذن, إرتاعت أوروبا. وإعتبرت أن هزيمة تركيا تشكل خطرا على مصالحها فى الإمبراطورية العثمانية المتهاوية. فسرعان ما تكون تحالف أوروبى. ليجبر محمد على باشا, على سحب قواته. ليس فقط من آسيا الصغرى, ولكن أيضا من بلاد الشام.
قام الأوروبيون فى نفس الوقت, بتحريض الثوار فى لبنان ضد حكم إبراهيم باشا. ليس بهدف إستقلال بلاد الشام السياسى. لكن تمهيدا لعودة البلاد إلى النفوذ العثمانى. وعندما انسحب إبراهيم باشا من الشام, ومع عودة الحكم التركى, انتهى نظام الإمارة. وقسمت لبنان بين المارونية وبين الدروز. تبع ذلك عشرون سنة من القلاقل والأزمات بسبب النفوذ الأوروبى, والتنافس بين فرنسا وانجلترا وتركيا فى المنطقة.
فى هذه الأثناء, تسربت الأفكار الأوروبية إلى البلاد. وإزداد عدد المتعلمين المسيحيين بسبب إنتشار المدارس الكاثوليكية التى تدرس اللغات الأجنبية. ثم أدى ذلك إلى الصدام بين المارونية والدروز. إنتهى بالحرب بينهما عام 1860م. ومرة أخرى تدخلت الدول الأوروبية. وبعد مشاورات بينهما وبين الباب العالى. تقرر أن يحكم لبنان حاكم مسيحى. على أن تساعده مجالس محلية. مكونة من أعضاء تمثل السكان تمثيلا متساويا. فالكل متساو أمام القانون.
فى جانب آخر من الإمبراطورية العثمانية, كانت تدور أحداث لها خطرها أيضا. فتونس الخضراء, كانت تتمتع بشبه إستقلال عن الدولة العثمانية. وكانت تدير شؤونها الداخلية والخارجية بنفسها. ومنذ منتصف القرن التاسع عشر, بدأت تونس تبنى جيشا حديثا. وتدخل نظام الإدارة الحديثة. وبدأت تشجع رأس المال الأجنبى. وتسمح للتجار الأجانب بالدخول والإقامة بالبلاد.
فى عام 1857م, أصدر محمد بك حاكم تونس "عهد الأمان". جاء فيه:
"إن الإنسان لا يمكن أن يرتقى ويتقدم, إلا إذا توفرت له الحرية. واستظل بحمى العدالة. وتمتع بالمساواة بين المسلمين وغير المسلمين. فيجب أن يتساوى الناس أمام القانون. والأجانب, يجب أن يكون لهم أيضا نفس الحقوق مثل التونسيين."
فى عام 1860م, صدر أول دستور تونسى. وهو أول دستور يصدر فى بلد إسلامى فى العصر الحديث. ولا ندرى من هم وراء هذا الدستور!؟ هل هم الأجانب, أم أولاد البلد الذين قاموا بزيارة فرنسا؟ لكن لسوء الحظ, لم يستمر الدستور أكثر من بضع سنوات. وذلك بسبب الأزمة الإقتصادية وتمرد القبائل وتدخل إنجلترا وفرنسا. ورغبة الحاكم فى الإنفراد بالحكم.
بالرغم من فشل تجربة الدستور, إلا أنها تركت خطوطا عميقة فى الضمير السياسى التونسى. وأتت على السطح بمجموعة من المصلحين والمفكرين والكتاب. ظهروا فى مسجد الزيتونة للدراسات الدينية. أمثال الشيخ محمد قبادو فى المدرسة الحديثة للعلوم العسكرية التى أنشأها محمد بك, وقام بالتدريس بها المدرسون الأجانب. ويستمر الإنفتاح على الغرب, وتتفتح النوافذ, وتصحوا شعوبنا بعد طول رقاد.
zakariael@att.net
مصرنا ©