مطبوعة الكترونية عربية مهتمة بموضوع المواطنة وتداول السلطة القانونى وحرية التعبير  فى العالم العربى  .. تصدر من الولايات المتحدة الأمريكية عن المركز الأمريكى للنشر الالكترونى .. والأراء الواردة تعبر عن وجهة نظر أصحابها.
............................................................................................................................................................

 
 

 نحن ونظرية التطور
...............................................................


بقلم: محمد زكريا توفيق
..................................



إستضاف مذيع التليفزيون النابه الأستاذ محمود سعد إثنين من المشتغلين بالخطاب الدينى للمناظرة. أحدهما الدكتور عبد الصبور شاهين, والآخر الدكتور زغلول النجار. وكان الموضوع هو مناقشة كتاب "أبى آدم - قصة الخليقة بين الأسطورة والحقيقة" للدكتور شاهين, والذى يثبت فيه بآيات من القرآن الكريم أن سيدنا آدم لم يكن أول الخلق من الرجال, وإنما إصطفاه الله سبحانه وتعالى من بين بقية المخلوقات التى يطلق عليها بشر, والتى كانت موجودة من قبل.

تابعت المناظرة, أو الحوار إن شئت, بشغف شديد. وذلك لأن المتحاورين من الوزن الثقيل. وهما على إختلاف مشاربهما يزيد عمرهما معا على 160 سنة, ويمثلان النخبة المثقفة الرافضة لنظرية دارون. الدكتور عبد الصبور كان أحد المسئولين عن تكفير الدكتور حامد أبو زيد, لأنه خرج عن الكلام المباح وطالب بإستخدام العقل. والدكتور زغلول ترك مجاله فى الجيولوجيا وتفرغ للتفسير العلمى للقرآن, وله باع طويل فى التـأويل والتبرير.

بعد أن بسمل الدكتور النجار وحوقل, وبعد أن غلف نفسه وحماها بأدعيةِ وآيات قرآنية حتى يكون فى منأى عن الهجوم المضاد, إتهم الدكتور شاهين بأنه يحاول عن طريق اللف والدوران إثبات صحة نظرية دارون خلسة. ودافع الدكتور شاهين دفاع المستميت عن أفكاره بكل ثقة وأريحية, ووصف كتابه هذا بأنه مجرد إجتهاد, أخذ له موافقة مجمع البحوث الإسلامية والأزهر الشريف, بالرغم مما جاء به من أخطاء علمية تتعلق بعمر الأرض. وأضاف أن أفكار الكتاب هى من بنات أفكاره هو وإبتكاراته المستحدثة. وبرأ نفسه وطهرها بالثلج والبَرَدْ من سبة نظرية التطور لدارون, ووصفها بحسم يثير الذهول بأنها نظرية (هلس فى هلس) لا تستحق ثمن الحبر المكتوبة به. وعندما إستشهد الدكتور شاهين بصور حفريات وجماجم, كان قد أحضرها معه لكى يثبت بها أن الإنسان مغرق فى القدم, رفض الدكتور النجار الصور وشكك فى صحتها. وأكمل وجهة نظره فى هذا السياق بوصف كل الحفريات بأنها هواجس وخيال علمي جامح للغربيين دأبوا عليه. خيال لا يجارى الحقيقة التى توصل سيادته بمفرده إليها. وإتهم الغرب بأنهم يبحثون عن خلقٍ بدون خالق, وطبعا لغرض فى نفس يعقوب. وأضاف بأن الخلق قضية غيبية لا يستطيع أن يخوض فيها العقل. (ربما عنى العقل الشرقى فى الوقت الراهن, الذى لا يستطيع أن يخوض فى أى شئ). ثم تساءل: ماقيمة وجود بشر قبل آدم, أو بمعنى آخر ما قيمة هذا الكتاب؟

حزنت بشدة على المستوى الذى وصل إليه رجال الدين ورجال العلم عندنا. وتيقنت من عدم دِرايتهم بالطامة الكبرى والمُدْلَهِّمة العظمى التى تعيشها شعوب العالم الإسلامى اليوم, بسبب عدم فهمهم للقضايا العلمية الخطيرة المعاصرة. وتعجبت لتجاهلهم ورفضهم لأى رؤية جديدة بديلة أو مكملة للتفاسير العتيقة التى شابوا وشاخوا عليها. وإصرارهم على ممارسة الرفض, الذى يستنزف طاقة الأمة الإسلامية وجهدها. وترحمت على رواد الحضارة الإسلامية وأبطالها, الرازى والفارابى والكندى وإبن سينا وإبن رشد وإبن خلدون وإبن الهيثم والخوارزمى والبيرونى والبتانى وغيرهم. وتمنيت لو كانوا بيننا الآن فما أشد حاجتنا إليهم فى هذا الزمن الصعب. فقد تخلت عنا رحمة المولى, وتجاهلتنا عين الرضا. وخوت جعبتنا من كل جميل وأصيل, ونضب معيننا من القادة المخلصين والعقول المستنيرة. وألقى بنا القدر فى بحار مظلمة تإن فيها الرياح, ضاع فيها المجداف والملاح. وبعد فقداننا لفلسطين, وإحتلال العراق وأفغانستان, وتمزيق أوصال الصومال والسودان, وبعد أن أدمن حكامنا البطش, وتعودت شعوبنا على الذل, فجعنا فى رجال الدين الذين شغلونا بالتراهات والمهاترات, فأضاعوا جهودنا بِكُنْه بول الرسول وفتاوى إرضاع الكبير. وترك علماؤنا الأكادميون جامعاتهم ومعاهدهم والبحث عن الحقيقة, لكي يتفرغوا للإفتاء والتلفيق والتزوير, بهدف الشهرة والكسب السريع. والخوض فى مواضيع لا يمكن إثباتها أو نفيها. ثم يدّعون أن هذا هو العلم الصحيح الذى لا مندُوحَة عنه. ويقولون لشبابنا أن نظرية دارون لا تستحق المداد الذى كُتبت به, دون أن يدرسوها أو يوفوها قدرها من النقد العلمى الذى تستحقه, أو يعيروها أدنى إهتمام من باب العلم بالشئ ولا الجهل به. ويشككون فى الشواهد العلمية ويصفونها بأنها محض خيال علمى جامح وغير حقيقى, من الأفضل للمسلمين تجاهله وغض الطرف عنه, لأنه خيال يراد به دعم الكفر والعياذ بالله .

إذا لم نأخذ بالشواهد المنطقية التى أمامنا, كيف نفرق بين ما هو صواب وما هو خطأ؟ وإذا لم نستخدم عقولنا, كيف يمكننا أن نستنتج معلومة واحدة, أو نصل إلى أية حقيقة؟ وإذا لم نأخذ بذمام الأفكار والنظريات الحديثة فى العلوم والتكنولوجيا, وإذا لم نعطها حقها من البحث والتمحيص, كيف نتقدم ومتى تقوم لنا قائمة, وكيف ندافع عن أنفسنا؟

نظرية دارون لم تأتِ بنفسها من أعماق المجهول, ولم تقدم لنا بدون دليل أو برهان. ولم يتفتق ذهن صاحبها بها أثناء حالة من اللاوعى والتجّلى والسلطنة, أو بعد تناوله كمية لابأس بها من البانجو وحبوب الهلوثة. لقد إستغرق تأليف هذه النظرية ما يقرب من 25 سنة من الجهد والعرق والإغتراب والمكابدة. وظل دارون يُراجعها ويعيد صياغتها فى عزلته مدة 20 سنة أخرى. وقبل نشرها, أطلع عليها معظم علماء عصره على إختلاف مشاربهم وطروحاتهم, لنقدها ومراجعتها بدقة العلماء المعروفة عند الغرب. لأنه كان يخشى مُعارضة رجال الكنيسة وإتهامه بالكفر. ولم يسارع بنشرها إلا عندما وجد عالما آخرا يوشك أن ينشر أفكارا مشابه لأفكاره فى تفسير التطور.

حاول الإتحاد السوفيتى السابق فى عصر ستالين صبغ بعض العلوم بالصبغة الماركسية, وحاول تصنيفها إلى علوم تؤيد الفكر الإشتراكى, وأخرى تتعارض معه. لكن هذه المحاولات باءت كلها بالفشل الذريع, وكانت النتيجة كارثة علمية. ففى أوائل الثلاثينات من هذا القرن, قاد عالم البيلوجيا "ليزنكوف" حملة إرهاب فكرى ضد باقى علماء البيلوجيا الذين يعارضون أفكاره ونظرياته التى قام بتحريفها لأسباب سياسية كى توائم النظرية الماركسية. وقام بتشريد العلماء المعارضين, وبالتحريض على قتلهم فى بعض الأحيان. كما حدث بالنسبة لعالم البيلوجيا "فافيلوف", الذى أُعدم بسبب عدم موافقته على نظريات "ليزنكوف".

وقام الإتحاد السوفيتى أيضا بمنع تدريس نظرية التطور لدارون, وتبنى بدلا منها نظرية "لامارك", الذى يقول بأن التطور يحدث بسبب عوامل البيئة والمجتمع, بعكس دارون الذى بنى نظريته على مبدأ الإختيار الطبيعى (البقاء للأصلح). والغريب أن نظرية دارون ظلت مرفوضة داخل الإتحاد السوفيتى حتى عام 1965م. لذلك تأخرت علوم البيلوجيا فى الإتحاد السوفيتى عن مثيلاتها فى الغرب. وتأخرت الزراعة وإنتاج المحاصيل, وكانت كارثةً على الإقتصاد السوفيتى, وكانت من أهم الأسباب التى أدت إلى عزل خروتشوف فى أوائل الستينات.

إذا كانت نظرية التطور خاطئة, فمن يجيبنا على الأسئلة الآتية:

ما فائدة ثدييى الرجل, والزائدة الدودية, وأصابع القدمين التى تشبه أصابع اليدين ولكنها ضمرت من عدم الإستخدام, بعكس أصابع القدمين عند الشمبانزى؟ ولماذا يتكون مخ الإنسان من ثلاثة أمخاخ مختلفة بدلا من مخ واحد, بطريقة تشبه إضافة غرف جديدة إلى منزل قديم صغير؟

المخ الأول يشبه مخ الزواحف تكون منذ 250 مليون سنة. يتحكم فى الوظائف اللاإرادية مثل نبضات القلب والتنفس والبلع والدفاع عن النفس عند الخطر. والمخ الثانى يشبه مخ الثدييات. يتحكم فى العواطف والغرائز البهيمية وحاسة الشم واللمس. أما المخ الثالث فهو خاص بالإنسان "نوتوركس". تكون منذ 50 الف سنة. وهو المخ الذى يضعنا فى القمة بالنسبة لباقى المخلوقات, ويجعلنا نتساءل عن سبب وجودنا, ويمكننا من إكتشاف نظريات هامة مثل نظرية التطور.

لمذا نرى التطور واضحا جليا كشريط سينمائى من بداية تكوين الجنين داخل الرحم, بدأً من ظهور الذيل والخياشيم والزعانف إلى أن يصبح بشرا سويا. ولمذا نرى الحفريات وكأنها شريط سينمائى يبين لنا قصة التطور فى طبقات الأرض المختلفة. ولماذا نرى التطور واضحا فى جينات الحيوانات؟ ولماذا لم يعد مبيد الحشرات "دى دى تى" فعالا كما كان فى الماضى فى قتل الحشرات والذبابة المنزلية, وكذلك الفيلت والبيرسول؟ ولماذا لم تعد المضادات الحيوية قادرة على قتل بعض الباكتيريا الموجودة فى المستشفيات؟ ولماذا تبحث شركات الأدوية عن مضاد حيوى جديد كل عدة سنوات أو تطويره بهندسة الجينات؟ أليس وجود مضاد حيوى واحد يكفى؟ وهل نتذكر فى أوائل الستينات, أيام المهندس سيد مرعى وزير الزراعة, عندما حدثت كارثة إنتشار دودة القطن وإتلافها للمحصول, بسبب عدم فاعلية المبيد الحشرى التوكسافين. وظن الجميع أن الغش فى المبيدات هو السبب. لكن الغش التجارى برئ من هذه التهمة. ولم يتنبه أحدا للتفسير الذى تقدمه نظرية دارون وطروحاتها فى هذا الخصوص.

ما هو سر خلق الزهور والفواكه؟ بالطبع لم تخلق لكى يشمها الدكتور عبد الصبور وحده. ولم توجد لكى نقطفها ونضعها فى فازات فى الصالون. والفاكة لم تخلق لكى يشتريها الدكتور زغلول بالقفص. لأن الزهور والفاكهة خلقت من أجل الحشرات والحيوانات. وسوف تستمر بنا أو بدوننا, كما كانت مستمرة قبلنا ملايين السنيين. ولكن بإختفاء الفراشات والحشرات, سوف تختفى الفاكهة والخضروات. وبإختفاء الطيور والحيوانات, التى تأكل الفاكهة وتقوم بنقل بذورها إلى آفاق بعيدة, سوف تختفى الأشجار والثمار. فلولا وجود حيوان الخرتيت فى جزيرة سوماطرة لإنقرضت أشجار المانجو؟ لأن الحيوان يبتلع الثمرة بكاملها, فتنجو البذرة بغلافها السميك من عصارات الهضم فى الأمعاء, ليلقيها الخرتيت مع إخراجه فى مكان بعيد عن الشجرة. ولولا وجود الخرتيت, لسقطت الثمار, لكى تتلفها الحشرات التى تنتظر عادة بلهفة تحت الشجرة. والبذور التى تنجوا من فتك الحشرات, تنموا تحت الشجرة الأم, فتشاركها الغذاء والماء والضياء, مما قد يتسبب فى قتل الأم والأبناء.

لماذا خُلقت الزهور التى تعتمد على الفراشات لنقل حبوب اللقاح وبدونها تنقرض, ولماذا تتفتح أثناء النهار وتغمض أثناء الليل, ولماذا لها ألوان جذابة تختلف عن لون الأوراق, ولها أريج عاطر؟ ولماذا الزهور التى تعتمد على الخفافيش تتفتح أثناء الليل وتغمض أثاء النهار؟ والزهور التى تحتاج إلى الذباب لنقل حبوب لقاحها رائحتها كريهة تشبه الجيفة النتنة؟ ولمذا لون الفاكهة الناضجة يختلف عن لون أوراق الشجرة وطعمها حلو المذاق, بينما الفاكهة النية لونها مثل لون ورق الشجر وطعمها مر المذاق؟ ولماذا الذكور فى الطيور شكلها أجمل وألوانها زاهية, بينما الإناث أقل جمالا وألوانها باهتة, أليس المفروض هو العكس؟

لماذا توجد بعض زهور الأوركيد ولها رحيق على عمق 16 بوصة داخل الزهرة, ويوجد معها فراشات لها لسان طوله 16 بوصة أيضا, وأيهما وجد أولا؟ إذا إنقرض إحدهما تبعه الآخر. ولماذا تنتج بعض النباتات السم الزعاف فى أوراقها وسيقانها, فى نفس الوقت الذى توجد فيه حيوانات لديها مناعة ضد هذا السم؟ وإذا كانت الحياة قد ظهرت منذ 3.8 بليون سنة على سطح الأرض, فلماذا تأخر خلق آدم وحواء بلايين السنيين.

لماذا ديك الدجاج له عرف أحمر قانى وما فائدته, وما فائدة ذيل الطاووس؟ أليس ذيل الطاووس يعتبر عائقا للحركة ويستهلك جزءا كبيرا من غذائه اليومى؟ ولماذا تتناطح الكباش, وتتقاتل الذكور, ويقتل الأسد أشبال غيره, ويقتل الدب أولاده, وتقتل أنثى العنكبوت الذكر بعد الوصال؟ وما قصة التهجين وخلق سلالات جديدة من الحمام والكلاب والخيول والمحاصيل؟ كل هذه الأسئلة وغيرها تجيب عليها نظرية التطور بإجابات رصينة ومقنعة.

عندما وضعت أسماك الجوبى الصغيرة مع أسماك كبيرة مفترسة فى بحيرة محدودة المساحة بحيث لم تتمكن الأسماك الصغيرة من الهروب, كان دفاعها من أجل البقاء هو زيادة النسل والبلوغ المبكر,( وربما يفسر هذا زيادة النسل عند الفلسطينيين). وعند عزل الأسماك الصغيرة عن الأسماك المفترسة الكبيرة وشعورها بالأمان لعدة سنوات قليلة, وجد أن نسلها قد قل, ومدة سن البلوغ لها قد طالت بنسب محسوسة. وهذا بالضبط ما تقوله نظرية التطور. عمليات خلق وإنقراض مستمرة بسبب تغير البيئة والمناخ. خلق أنواع جديدة قادرة على الحياة, وإنقراض أنواع تالدة غير قادرة على المواءمة للظروف الجديدة. وهذا حدث فى الماضى ويحدث كل يوم وفى كل مكان على سطح الكرة الأرضية. ولا يحتاج إلى إذن الدكتور عبد الصبور أو الدكتور زغلول. وبالطبع يصعب تلخيص هذه النظرية العظيمة فى مقال واحد, ولكننى أردت فتح شهية القارئ, حتى يتنبه إلى أهم نظرية لها تأثير مباشر بالنسبة لوجود ومصير الإنسان. لأنها تخص حياته وأمنه وغذائه وملبسه وبيئته ومستقبله ومستقبل أولاده.

منذ لحظة نشر نظرية أصل الأنواع لدارون عام 1859م وإلى الآن, والأفكار الأساسية لهذه النظرية تقوم بإثارة إعتراضات مكثفة فى جميع المحافل, تتراوح مابين اتهامات شرسة من المعارضين, وإخلاص شاطح من المؤيدين, يعادل فى غيرته الغيرة الدينية. نظرية دارون قد أسيئ تفسيرها بالأصدقاء والأعداء على السواء. ولقد شهر بها الخصوم فى رسوم الكاريكاتير, وجعلوا لها ندا فى المدارس, "علم الخلق" الذى ما هو إلا خليط من عقائد شبه علمية تعتمد على التزوير والتلفيق والتمنى.

المعارضون الذين يعارضونها بمرارة شديدة محقون فى شئ واحد: هو أنها تمزق نسيج أفكارهم ومسلماتهم الأساسية. وليس كل العلماء والفلاسفة ملحدون. الكثير منهم يؤمن بالخالق, ويعلنون أن إيمانهم هذا لا يتعارض مع أفكار دارون, ويمكن أن يتعايش معها فى سلام ووآم.

فى عام 1543م, إفترض كوبرنيق أن الأرض ليست هى مركز الكون, وإنما تدور فى الواقع حول الشمس. أخذت هذه الفكرة قرنا من الزمان لكى ترسخ فى أذهان الناس. وبالرغم من مناداة رجل الدين الغيور "فيليب ميلانكثون" أمراء المسيحية لإسكات هذا الرجل المعتوه, إلا أن العالم بصفة خاصة لم يهتاج أو يهتز. هذه الأفكار العلمية الثورية, كان لها دوى فى أرجاء العالم كله. كِتاب جاليليو عن نظام الكون لم يُنشر إلا فى عام 1632م عندما لم تعد مركزية الأرض موضع جدل العلماء. وبالرغم من ذلك, قوبلت أفكار جاليليو برفض شديد من الكنيسة الكاثوليكية هز العالم فى حينه, ولم يزل رجع صداه يسمع حتى اليوم. وبالرغم من ملحمة الرفض تلك, أصبحت فكرة أن الأرض ليست هى مكز الكون تقبع فى عقول الناس, وكل تلميذ فى مدارسنا اليوم يقبل هذه المعلومة بغير خوف أو وَجَلْ وبدون إدرار للدموع.

مع الوقت, أفكار دارون الثورية هذه سوف تحتل مكانا آمنا فى عقل وقلب كل إنسان متعلم على وجه الأرض. لكن اليوم, وبعد إنقضاء مايقرب من قرن ونصف من وفاة دارون, لا زلنا لم نعِ نتائج هذه النظرية المحيرة للعقول. وبالرغم من أن شرح دارون لنظريته كان عظيما, وأن تأثيرها القوى كان واضحا للعلماء والمفكرين الذين عاصروه, إلا أنه كانت هناك فجوات كبيرة فى النظرية فى البداية, لم تبدأ فى التلاشى إلا حديثا.

أساسيات أفكار دارون الحديثة تبنى الآن على نظرية ال "دى إن ايه", التى لا جدال فى صحتها بين العلماء, والتى تفسر الخلق والتطور. ونظرية دارون يذداد رسوخها يوما بعد يوم بين العلماء. وهى تفسر الآن الحقائق الجيولوجية وعلوم الغلاف الجوى وعلوم البيئة والعلوم الزراعية والميكروسكوبية وهندسة الجينات. هذه النظرية توحد العلوم البيولوجية وتاريخ كوكبنا الأرضى فى قصة واحدة رائعة. تؤيدها ملايين الحقائق والشواهد الراسخة, من كل فرع من فروع المعرفة الحديثة. إحتمال أننا يوما ما سوف نكتشف ما يجعلنا نثبت خطأ هذه النظرية, هو نفس إحتمال إكتشافنا خطأ دوران الأرض حول الشمس, وعدولنا عن نظرية كوبرنيق.

وإذا كان من الواجب أن نعطى جائزة لأحسن فكرة أتى بها إنسان, فسوف نعطى هذه الجائزة إلى دارون بدون تردد, قبل نيوتن وأينشتين وأى شخص آخر. لأن فكرة التطور وحدت عن طريق الإختيار الطبيعى, الحياة والمعنى والغرض والزمان والمكان والسبب والمسبب وقوانين الطبيعة فى وحدة واحدة. وهى الآن تستخدم فى دراسة الإقتصاد والعلوم السياسية والفلسفة والعلوم الإجتماعية واللغات والآداب والتاريخ والتاريخ الطبيعى وفروع أخرى كثيرة من فروع المعرفة. ولكنها ليست فكرة علمية رائعة فقط, إنما هى أيضا فكرة خطرة.

كتّاب نظرية التطور غالبا ما يزيلون الغموض الذى يقود إلى الصدام بين العلم والدين. لكن الحمقى يندفعون, كما يقول "الكساندر بوب", إلى الدرب الذى تتجنبه الملائكة. وماذا لو وجدنا أن الرأى المنتصر يتعضد بالرأى المخالف؟ أليس من المؤسف أن نرفض هذه الفرصة لتقوية إيماننا على أسس سليمة, بدلا من القناعة بإيمان هش مريض نحرص على عدم تصويبه, وليس له إلا مصدرا واحدا من التأويل؟

إننا نعتبر من ليست له دراية بأدب شكسبير أو موسيقى موزارت غير مثقف, ولكننا نغض الطرف لسبب ما عمن يفتقر إلى معرفة العلوم الحديثة, وخصوصا علم الحياة, ولا نفترض وجوبها كشرط لازم وضرورى للفلاسفة والكتاب والمفكرين والباحثين ورجال الدين. حبنا للحقيقة, هو بالتأكيد عنصر أساسى لمعنى حياتنا. وإيجاد معنى لحياتنا بخداع أنفسنا هى فكرة يائسة عدمية تصيبنا بالغثيان. الحقيقة تزداد تألقا بالبحث وحب الإستطلاع. وهما هبتان من الله يؤكدهما القرآن الكريم. فقدناهما بعد قفل باب الإجتهاد منذ قرون عديدة, وحمايته بحراس غلاظ أشداء, لا يثقون فى العقل ولا يؤمنون بالعلم. فالمعنى الوحيد للحياة التى تستحق أن تعاش, هو المعنى الذى نستطيع فحصه والإقتناع به.


zakariael@att.net
 

 

.....................................................................................

 


 

 
 



مطبوعة تصدر
 عن المركز الأمريكى
 للنشر الالكترونى

 رئيس التحرير : غريب المنسى

مدير التحرير : مسعد غنيم

 

الأعمدة الثابته

 

 
      صفحة الحوادث    
  من الشرق والغرب 
مختارات المراقب العام

 

موضوعات مهمة  جدا


اعرف بلدك
الصراع الطائفى فى مصر
  نصوص معاهدة السلام  

 

منوعات


رؤساء مصر
من نحن
حقوق النشر
 هيئة التحرير
خريطة الموقع


الصفحة الرئيسية