| | | | علم الرياضيات ورحلة البحث عن الحقيقة ...............................................................
بقلم محمد زكريا توفيق ..........................
"ربما أكون مخطئا فى الإعتقاد فى كتابة هذه السطور. وأنا مخطئ بالتأكيد فى الإعتقاد بأن الشمس سوف تشرق غدا. ولكن كيف أكون مخطئا فى الإعتقاد بأن زوايا المثلث تساوى 180 درجة" اسبينوزا
يدرس الطلبة فى مدارسنا فرعا من فروع الرياضيات يسمى بالهندسة المستوية أو بالهندسة الفراغية. هذا العلم نشأ وترعرع فى مدينة الإسكندرية, وبالتحديد داخل مكتبتها الشهيرة قبل ميلاد المسيح. على يد عبقرى زمانه إقليدس. العالم والفيلسوف الشهير فى ذلك الوقت. ولذلك تسمى فى بعض الأحيان بالهندسة الإقليدية, نسبة إلى إقليدس هذا.
هذه الهندسة تبدأ بخمس بديهيات. هى:
1- من نقطتين معلومتين, يمر مستقيم واحد
2- الخط المستقيم لا نهاية له
3- من نقطة معلومة, يمكن رسم قوس دائرة واحد
4- كل الزوايا القائمة متطابقة
5- من نقطة معلومة, يمكن رسم مستقيم واحد يوازى مستقيما معلوما
هذه البديهيات نفترض صحتها بدون برهان. وقد إعتبر إقليدس هذه البديهيات حقائق. واعتقد أنها واضحة جدا للجميع ولا يوجد هناك داع لإثبات صحتها. ومن هذه البديهيات الخمسة, إستنتج إقليدس نظريات. ومن النظريات إشتق نظريات أخرى. وفى النهاية بنى هذا الصرح الكبير. وظلت هذه الهندسة حتى القرن التاسع عشر, تأخذ مكانها الرفيع بين علماء الرياضيات والفلاسفة. وكانت تعتبر أوثق فروع المعرفة. وكانت باقى فروع الرياضيات, تأخذ مكانها المرموق لمجرد إتصالها بهذه الهندسة. ولم تكن هناك حاجة لتسميتها هندسة إقليدية, لأنه لم يكن هناك غيرها. الهندسة ببساطة هى هندسة واحدة تدرس خواص الخطوط فى الفراغ المحيط بها. وهى مضبوطة ومعروفة للإنسان بالتأكيد.
لكن دوام الحال من المحال. وتأتى الرياح دائما بما لا تشتهى السفن. ففى القرن التاسع عشر, بدأ العلماء يتساءلون عن مدى صحة هذه البديهيات الخمسة. وإذا كانت صحيحة, لماذا لا يوجد لها برهان. وحاول العلماء بجهود جبارة برهان بديهية واحدة منها, ولكنهم عجزوا تماما. وحاولوا إستخدام البديهيات الأربعة الأول فى إثبات البديهية الخامسة, ولكنهم فشلوا أيضا.
هذه المحاولات المستميته, قد أوصلت العلماء إلى نتيجة كانت غائبة عنهم فى البداية. ماذا يحدث لو رفضنا البديهية الخامسة هذه. واستخدمنا البديهيات الأربع الأول فقط. هل نصل إلى تعارض منطقى أم لا؟ إذا وصلنا إلى تعارض منطقى, هذا يعنى أن البديهية الخامسة, والتى أسقطناها من إعتبارنا من قبل, ضرورية. وبذلك نثبت صحتها.
لكن ما حدث كان عكس المتوقع. لم يصل العلماء إلى أى تعارض. وإنما توصلوا إلى نوع جديد من الهندسة يختلف عن هندسة إقليدس. ومن ثم أصبحت الإجابة على تساؤل اسبينوزا, بأن مجموع زوايا المثلث ليس من الضرورى أن تكون 180 درجة. ومن ثم, تم إكتشاف هندسات أخرى غير الهندسة الوحيدة المعروفة. منها هندسة ريمان والهندسة التوافقية والهندسة المتجانسة وهندسة القطوع وهندسة ديكارت والهندسة التفاضلية وغيرها.
ثم تلا الإعصار الأول, إعصار آخر أشد ضراوة. وهو إكتشاف الرياضيات التحليلية والمنحنيات التى تملأ الفراغ. هذه الإكتشافات أدت إلى نظريات جديدة. عصفت بثقة علماء الرياضيات فى الهندسة الإقليدية. لكن فقدان الثقة فى هذه الهندسة بالنسبة للفلاسفة, كان شيئا غير محتمل. فهذا يعنى فقدان الثقة فى المعرفة الإنسانية كلها.
واجه علماء الرياضيات فى القرن التاسع عشر بقيادة ديدكن و ويرستراس هذا التحدى. وقاموا بالتحول من الهندسة إلى الحساب كأساس للرياضيات. واستخدموا نظام المجموعات (Set System), لتقسيم الأعداد إلى أعداد صحيحة وكسور, وأعداد حقيقية وأخرى تخيلية. وتبنى كانتور فكرة المجموعات هذه. وكون منها نظرية المجموعات (Set Theory), كأساس للرياضيات الحديثة.
يبدو لأول وهلة أن نظرية المجموعات تنطبق تماما مع علم المنطق. علم المنطق هو قوانين العلة والمعلول والتعارض والإستنتاج. علم معقولية الحجج والتفكير السليم. ولقد كان الإعتقاد فى ذلك الوقت أن الحقيقة خالدة وأبدية. ويمكن الوصول إليها عن طريق الإستنتاج والتحليل والمنطق. لهذا, ظهرت محاولات لتحويل علوم الرياضيات إلى علم المنطق. أى محاولات لإستخدام نفس قواعد المنطق لبناء صرح الرياضيات من أساسه.
قاد برتراند راسل والفريد نورث وايتهد عملية تحويل الرياضيات إلى منطق. واستخدما فى ذلك نظرية المجموعات هذه. وبعد جهد متواصل إستمر أكثر من عشرين عاما, نجدهما فى كتابيهما مبادئ الرياضيات, قد نجحا فى إثبات أن 1 + 1 = 2 بعد 362 صفحة من القوانين والنظريات المنطقية المعقدة. ولقد كان هذا العمل الجبار, يهدف إلى بناء صرح واحد من الرياضيات. يمكن عن طريقه الوصول إلى كل الحقائق والنظريات الرياضية. وبذلك يمكن الإستغناء عن باقى فروع الرياضيات.
ولكن بعد هذا الجهد الجبار وعلى غير المتوقع, إكتشف برتراند راسل وجود تعارض منطقى. هذا التعارض ناتج من تعريف المجموعة التى تحتوى على نفسها كعنصر من عناصرها. فمثلا, هناك مجموعة تتكون من الحروف الأبجدية. ا, ب, ت, ... ى. الحرف ب هو أحد عناصرها. فإذا أضفنا إلى هذه المجموعة عنصرا جديدا هو عبارة عن مجموعة الحروف الأبجدية نفسها, أصبحت المجموعة تحتوى على نفسها كعنصر.
أرسل برتراند راسل خطابا إلى جتلوب فريج, وكان أيضا على وشك نشر كتابا له عن الحساب مستخدما نظرية المجموعات. أوضح فيه أن إستخدام المنطق ونظرية المجموعات كأساس للرياضيات, يعتبر عملا غير مضمون وغير موثوق به. ويقود إلى تعارض لم يحدث من قبل فى الهندسة الإقليدية أو الحساب.
من هنا ظهرت أزمة شك فى وجود أساس ثابت وصلب للعلوم الرياضية فى الربع الأول من القرن العشرين. استمرت هذه الأزمة بالرغم من قيام عدة محاولات لتعديل نظرية المجموعات, أو لإعادة تعريفها. حتى تستطيع التغلب على التعارض المنطقى الذى إكتشفه برتراند راسل.
إلا أن هذه المحاولات باءت كلها بالفشل. لأن الأمور تعقدت وإبتعدت الرموز المستخدمة عن المنطق بمعناه العام الواضح. وهنا كتب برتراند راسل:
"إننى أريد الحقيقة المجردة التى تقبل الشك. بنفس الطريقة التى يطلب بها الناس الإيمان. لقد اعتقدت أن الحقيقة المجردة سوف أجدها فى علوم الرياضيات. لكننى اكتشفت أن الرياضيات مليئة بالقصور. فإذا كانت الحقيقة يمكن إكتشافها عن طريق الرياضيات, فإن ذلك سوف يكون عن طريق نوع جديد من الرياضيات. يبنى على أساس صلب. وبينما العمل نحو هذا الهدف على أشده, كنت دائما أتذكر قصة الفيل والسلحفاء. لقد صنعت فيلا تستطيع أن تعتمد عليه كل الرياضيات. لكننى وجدت أن هذا الفيل يتأرجح. لذلك سندته بسلحفاء حتى لا يسقط. لكن السلحفاء نفسها غير مستقرة مثل الفيل. وبعد أكثر من عشرين عاما من الجهد الشاق, وصلت إلى النتيجة المرة. وهى أننى لا أستطيع أن أفعل شيئا يجعل الرياضيات حقائق لا يقربها الشك."
بعد محاولات المنطقيين بقيادة برتراند راسل فى بناء أصول الرياضيات الحديثة, يأتى دور البنائين بقيادة بروير عالم الطوبولوجيا. موقف بروير يستند إلى الأعداد الطبيعية, 1 2 3 ... الأعداد الطبيعية هذه ندرك صحتها بداهة. ولا تحتاج إلى برهان. ولا بد أن تكون نقطة البدء وأساس أية علوم رياضية. وهاجم بروير الرياضيات الكلاسيكية. وأثبت أن هناك نظريات رياضية كثيرة غير صحيحة. فمثلا الأعداد الحقيقية, إما أن تكون موجبة, أو سالبة, أو صفرا. لكن بروير أثبت وجود عددا حقيقيا, ليس موجبا أو سالبا أو صفرا.
إتهم العلماء بروير بأنه يغالى كثيرا فى الهجوم على الرياضيات الكلاسيكية. وتصدر هلبرت للدفاع عنها. وتقدم ببرنامج يتكون من ثلاث نقاط. يمكن عن طريقه ضمان عدم تعارض الرياضيات الكلاسيكية. لكن فى صيف عام 1930م. أثبت جودل بالدليل القاطع, أن برنامج هلبرت هذا لا يمكن تحقيقه. وأثبت أيضا أنه لم يوجد فى الماضى أو الحاضر. ولن يوجد فى المستقبل أى برنامج أو نظام (System) كامل, يمكن إعتباره أساسا آمنا للرياضيات. أى أن برتراند راسل كان يحاول المستحيل.
فى عام 1934م, ظهرت ثورة فى فلسفة العلوم. عندما اقترح كارل بوير أنه ليس من الممكن أو من الضرورى إثبات صحة القوانين أو النظريات العلمية عن طريق الإستنتاج والإستنباط المنطقى. أى أنه يقول أن النظريات لا تستنتج. ولكن تكتشف كفروض وتخمينات. لذلك تخضع للتجربة لإثبات صحتها. النظرية التى يثبت صحتها بالتجربة, يمكن القول بأنها صالحة حاليا. ولا يعنى هذا أنها حقيقة مؤكدة.
فى عام 1976م, نُشِر للفيلسوف الرياضى لاكاتوس كتابا بعد وفاته. جاء فيه أن علوم الرياضيات مثل علوم التاريخ الطبيعى, ومثل الكائنات الحية. تولد وتتغير وتتطور وتنقرض. تتطور وتتقدم عن طريق تصحيح النظريات التى لا تخلو من الغموض أو الخطأ.
وبالرغم من هذا, فعلم الرياضيات ينشر تحت لوائه 200,000 بحث ونظرية جديدة كل عام. والحاصل على شهادة الدكتوراة فى الرياضيات اليوم لا يستطيع الإلمام إلا بنسبة أقل من 4% من أساسيات هذا العلم. ورحم الله الأيام التى كان فيها الرجل الواحد يستطيع الإلمام بكل علوم الفلسفة والطب والأدب واللغة والرياضيات والحكمة الموجودة فى عصره.
إذا كان الأمر كذلك بالنسبة لأوثق العلوم. فما بالك بالعلوم الأخرى. فهل العقل عاجز عن الوصول إلى الحقيقة المطلقة. مذهب عدم اليقين لهيزنبرج يقول بأن الحقيقة الكاملة غير ممكنة, ولكن جزء من الحقيقة فقط هو الذى يمكن معرفته وإدراكه. فماذا يتبقى لنا الآن؟ سوى الحقيقة النسبية. التى تتغير وتتبدل وتتأثر بحواسنا وعواطفنا. والتى تشكلها رغباتنا وميولنا. وأما الحقيقة المطلقة فهى من نصيب رجال الدين والمفسرين.
zakariael@att.net
| | ..................................................................................... | |
| | | | |
|
|