مطبوعة الكترونية عربية مهتمة بموضوع المواطنة وتداول السلطة القانونى وحرية التعبير  فى العالم العربى  .. تصدر من الولايات المتحدة الأمريكية عن المركز الأمريكى للنشر الالكترونى .. والأراء الواردة تعبر عن وجهة نظر أصحابها.
............................................................................................................................................................

 
 

 أزمة العقل فى بلادنا
...............................................................

 بقلم: محمد زكريا توفيق
................................


فى حديث للدكتور أحمد الطيب رئيس جامعة الأزهر فى القناة الفضائية المصرية, ذكر فيه بمرارة شديدة سوء المستوى العلمى لخريجى جامعة الأزهر. بالرغم من كونها أكبر جامعة مصرية. بل ربما من أكبر جامعات العالم. ولها سمعة طيبة فى كل أنحاء المعمورة. حيث تشرئب لها الأعناق وتصبوا لها النفوس, طلبا للعلوم الدينية الأصيلة المشهورة عنها.

ويرجع ضعف المستوى, إلى قلة الأموال المخصصة للجامعة, والبيروقراطية القاتلة داخلها. فسيادته لا يستطيع صرف فاتورة شراء صنبور مياة بغير موافقة مشيخة الأزهر, ثم رئيس الوزراء. ناهيك عن تعديل المنهج وهيئة التدريس واللوائح الإدارية. فهو أيضا لا يستطيع مجرد إقتراح تعديلها أو المساس بها. وهو عالم فاضل, سبق أن درس فى جامعة السربون, وتبوأ منصب مفتى الديار المصرية.

كما ذكر سيادته, أن نصيب الجامعة, التى يبلغ عدد طلبتها ما يقرب من نصف مليون طالب, لا يسمح بإرسال بعثات إلى الخارج إلا فى حدود طالبين أو ثلاثة كل عام. وأن مستوى الخريجين فى اللغات الأجنبية ضعيف جدا إلى حد القلق. وأن هناك مجموعة كبيرة من المدرسين تقاوم التغيير وتأبى الإصلاح وتتقن الإتهامات. وتبغى بقاء الحال على ما هو علية. وعلى المتضرر اللجوء إلى القضاء.

المشكلة ليست جامعة الأزهر, أو رئيسها أو حتى الحكومة. المشكلة هى أزمة العقل فى بلادنا. ومنذ أن طلقنا العقل بالثلاثة, وقفلنا باب الإجتهاد بالضبة والمفتاح. واتهمنا كل من يحاول فتح الباب بالكفر والهرطقة. ونحن حالنا يصعب على الكافر. ولا يسر عدو ولا حبيب. بل يجعل العدو فى بعض الأحيان يرق لحالنا وينعم علينا ببعض الفتات المسمى بالمعونات. ضعف وهوان وهزائم, وإحتلال تلو إحتلال. وعقول عظيمة لا تستغل أفضل إستغلال. وعقول غبية تحكم وتسطر. وعقول أغبى منها تفتى وتراقب وتضلل. تخاف التغيير وتعشق التخلف. وعقول غائبة عن الوعى. لا تهتم إلا بكرة القدم ومسلسلات الفضائيات. لها قدرة عجيبة على الصبر وتجرع الذل.

لا أريد أن أوضح للقارئ العزيز ما معنى نصف مليون خريج جامعى على أسوأ ما يكون المستوى المهنى والعلمى. تلقى فى سوق العمل للشعب البائس الذى تحتاج مشاكله المعقدة لأفضل العقول. السلعة الرديئة يمكن التخلص منها, والعوض على الله فى ثمنها. لكن المدرس الردئ, أو الطبيب الذى لم يمسك مشرط, أو يحضر محاضرة واحدة أثناء دراسته الجامعية. أو المهندس الذى يصب أعمدة فى الدور الثانى ليست لها أساس فى الدور الأول (وهذا ما حدث بالفعل فى شاليه فى الساحل الشمالى يملكه صديق لى). كل هؤلاء سوف يستمرون فى صب سمومهم فى المجتمع طوال عمرهم الوظيفى. وهذا يوضح مدى التخريب الذى تسببه العقول الفاسدة فى مجتمع يتشوق للفلاح والإصلاح.

يلخص الأستاذ طارق حجى, فى مقال له رفضت جريدة الأهرام نشره, سجون العقل العربى فى ثلاث نقاط هى:

1- قيد التفسير الماضوى المتحجر المناقض لحقائق العلم والتقدم

2- ثقافة منبتة الصلة بالعلم والعالم المعاصر, وبرامج تعليمية لا ترسخ قيم المدنية والتقدم

3- رفض المعاصرة والتقدم على أنها غزو ثقافى خطرا على موروثه الحضارى

منذ أكثر من سنة, إضطررت للبقاء فى مصر مدة ثمانية شهور, لمراقبة بناء مسكنى بأحد المدن الجديدة. أثناء هذه المدة, توطدت علاقتى بعمال البناء والخفير القائم على حراسة المبنى. أحد عمال الطلاء كان خريج كلية تجارة. معظم العمال كانوا أميين لا يعرفون القراءة أو الكتابة. أو كما نقول بالعامية "يادوب يعرف يقرأ ويكتب". لكن الذى لفت نظرى أكثر من غيره, هو خفير الحراسة. فهو شاب فى العشرينات , قمة فى الذكاء والأمانة والإخلاص والأدب. لا يستطيع قراءة الجرائد, لكنه يستطيع قراءة المصحف. مع أن كلمات المصحف أصعب بكثير من مفردات الجرائد اليومية. ويقدر أيضا على عمل حسابات معقدة تستلزم الضرب والقسمة بدقة شديدة, بالرغم من جهله بجدول الضرب. كيف يستطيع ذلك؟ لا أدرى.

الشئ الغريب الثانى, هو أن ثقافتة وكل ما يعرفه عن الدنيا والدين, مصدره شيخ الجامع. تفسيره للخير والشر, والسبب والمسبب والصح والخطأ, والحلال والحرام. كل شئ وأى شئ, يفسر فى ضوء ما يقوله له شيخ الجامع. كم تبلغ نسبة الأمية فى مصر اليوم؟ حوالى 40 أو 50%. كل هؤلاء ليس لهم مصدر ثقافى سوى شيخ الجامع. لا يسمعون الأغانى والموسيقى. فقط محطة القرآن الكريم والبرامج الدينية فى القنوات الفضائية, إذا كان فى إستطاعتهم مشاهدتها. فهناك من يقول لهم أن المعازف حرام, والصور حرام, والسينما حرام, وأشياء كثيرة حرام تتعلق بالملبس والزينة. حتى أصبحنا نفوق اليهود فى المحرمات والممنوعات.

ماذا يقول خطيب المسجد فى الأرياف على المنبر؟ غير قصص من القرون الوسطى, لم تعد تصلح فى زماننا هذا. وحكايات عن عذاب القبر والثعبان الأقرع وأهوال يوم القيامة. لا تهدف إلا لبث الرعب فى قلوب الناس. بما فيهم من نساء وأطفال وشباب صغار السن. أو قصص معادة ومحفوظة ولم يعد لها التأثير المطلوب فى عقول ونفوس المصليين. سمعوها من قبل ألف مرة. فخطبة يوم الجمعة لم يتغير مضمونها منذ أكثر من 1400 سنة. كما أن حالة أئمة المساجد المالية يرثى لها. فبعضهم يتقاضى 5 جنيهات مصرية فى الخطبة, وآخرين 10 جنيهات أو 20 جنيها, حسب كفاءت الخطيب ومؤهلاته. فى زمن يزيد فيه ثمن كيلو اللحمة العجالى على الخمسين جنيها.

ما من منزل دخلته فى مصر إلا وقد خلا من الكتب الثقافية. وحتى كتب وزارة الثقافة ومكتبة الأسرة وسلسلة كتب التنوير العظيمة, التى يبلغ ثمن الكتاب منها أقل من ثمن نسخة واحدة من جريدة يومية. لا يوجد لها أثر فى البيوت التى دخلتها. فقط الكتب الدينية. تفاسير للقرآن الكريم والأحاديث النبوية. وسلسلة الشيخ الشعراوى. وكتب عن عذاب القبر, والآيات المنجيات, والأدعية المجابة. وكتب عن الجن. كيف تتقى شرهم وتتزوج منهم. والمساجد أيضا, ليس بها سوى الكتب الدينية والتفاسير الفقهية. وكأن الكتب العلمية والأدبية محرمة على المساجد. فلا يوجد بها كتاب عن الفلك أو الكيمياء أو الفيزياء أو علم النبات أو الحيوان أو الرياضيات أو علم النفس. بالرغم من وجود آيات كثيرة فى القرآن الكريم تحث على طلب العلم والتفكير. آية من كل ثمانية تحث على التفكر والتبصر وإعمال العقل. مما جعل المرحوم عباس العقاد يقول: إن التفكير فريضة إسلامية, وواجب على كل مسلم.

القرآن الكريم يحث على العلم والقراءة. "إقرأ بإسم ربك...". ونجد آيات مثل: "أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت. وإلى السماء كيف رفعت...". ألا يعنى هذا دعوة إلى دراسة علم الحيوان والفلك. أم هى آيات موجهة للكفار ونحن معفون منها. وكأن الغرض من التفكير هو الوصول إلى الإيمان فقط. وما دمنا قد آمنا فلا داعى لإعمال العقل بعد ذلك.

وما رأيك فى الآية التى تقول: "سنريهم آياتنا فى الآفاق وفى أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق". أليست هذه دعوة لدراسة علم النفس. والتى تقول: "أو لم ينظروا فى ملكوت السموات والأرض وما خلق الله من شئ...", وهى آية تحث على النظر فى جميع الموجودات, كما يقول إبن رشد. وهناك نص صريح على وجوب إستعمال القياس العقلى فى التفكير وهى الآية: "فاعتبروا يا أولى الأبصار". والحديث الشريف يقول: "اعقلوا عن ربكم وتواصوا بالعقل تعرفوا ما أمرتم به وما نهيتم عنه. واعلموا أنه ينجدكم عند ربكم...".

لا أدرى لماذا لا تكون المساجد والكنائس دور عبادة ومراكز ثقافة فى نفس الوقت. تحوى المكتبات العامة والكمبيوتر وآلات العرض. وتقام بها المحاضرات والندوات والدروس الثقافية. تدرس فيها أصول الدين من فقه وشريعة. وأيضا تاريخ الفكر الإنسانى ومدارسه المختلفة. فقد بدأ الأزهر هكذا عندما أنشأه الفاطميون. دار علم وثقافة ودين. كانت تدرس فيه العلوم والفلسفة بجانب الفقه والمذاهب الأربعة. وكانت مصر الفرعونية أيام عظمتها وحضارتها الماضية, لا تفرق بين علم ودين. وكان الكهنة هم علمائها ومفكريها ومصدر إلهامها. الأديان يمكن أن تتحول إلى مراكز إلهام وحضارة أيضا دون تعصب. فالمسرح نبع من المعبد. والموسيقى الكلاسيكية نبعت من الكنائس. وأصول الموسيقى العربية العريقة تطورت على أيدى المشايخ والإنشاد الدينى. وأم كلثوم ومحمد عبد الوهاب خير دليل على ذلك. وفن العمارة سواء فى المساجد أو الكنائس أو معابد قدماء المصريين والأهرامات, كان سببه الحمية الدينية والعقيدة الإيمانية.

المشكلة الدينية ليست فى العقيدة نفسها. وإنما فى التفسير السيئ والإفتاء الردئ والتعصب والنصب وفتاوى التحريم والتكفير, التى لا أنزل الله بها من سلطان. والتى تسخر الدين لخدمة أسباب سياسية وشخصية, للتنفيث عن عقد نفسية, وفرض عادات صحراوية قبلية قديمة. وتأتى المشكلة أيضا, من تحويل الدين من قوة دافعة للتقدم والرقى البشرى, إلى قوة طاردة لكل ما هو أصيل وجميل فى الفكر الإنسانى. قوة طاردة للثقافة والعقلانية والحداثة والفنون والموسيقى والمسرح والعلوم والآداب والفلسفة. ولا أدرى ماذا يتبقى للإنسان بعد ذلك؟ سوى الغيبوبة والبحلقة فى السقف وإنتظار الموت.

لم تكن مصر كذلك فى الماضى القريب. فقد كان جدى رحمه الله فى الخمسينات يتبادل معى عندما يرانى كتب الدكتور أحمد أمين والمازنى ومحمود تيمور. وكنت أهتز وأنا طفل طربا عند سماعى أغنية سلو كؤوس الطلا لأم كلثوم, بالرغم من عدم فهمى معنى كلماتها. وكنت أرى الفلاحين يلتفون حول أجهزة الراديو القليلة فى الريف, لسماع عبد الوهاب يشدو بأغنية همسة حائرة, أو أم كلثوم وهى تقول "ريم على القاع بين البان والعلم", وهم لا يدرون ما هو الريم أو البان أو العلم. وكانت المناهج الدراسية فى المدارس الحكومية يضعها خيرة عقول مصر من مفكرين. بهدف سامى نبيل, يبغى تحرير عقل الإنسان المصرى, بعد أن تحرر وطنه من ربقة الإستعمار. والبرامج الإذاعية من الراديو, يضعها محترفون أكفاء بلغوا بها آيات الرقى والروعة. فماذا حدث لنا؟ وما سبب أزمة العقل فى بلادنا؟

أعتقد أن أزمة العقل فى بلادنا سببها الفهم الخاطئ للدين, وسوء التعليم. أضف إلى ذلك ضحالة المادة الصحفية وسوء برامج القنوات الفضائية. فلم تعد أجهزة الإعلام أدوات تثقيف كما كانت. وتحولت إلى أدوات ترفيه تبحث عن الإثارة لجذب المشاهد طلبا للإعلانات. معظمها ماتشات كورة وبرامج رخيصة التكلفة, تعتمد على إستضافة شخصيات مغمورة. لا يخرج المشاهد من متابعة الحوار فيها بشئ ذى قيمة. تلمس ضحالة السائل والمسئول ومعد البرنامج, وتفاهة الزمن الذى نعيش فيه. مما يجعلك تلعن أبو الواسطة والفساد. اللذين تسببا فى تعين مذيعين ومذيعات ومقدمى برامج بهذا المستوى الردئ.

كل المشاكل بدأت مع وفود العائدين من دول النفط. النقاب وتحريم المعازف والصور وفائدة البنوك ولبس الحرير والذهب. الفكر الوهابى فى أقصاه. وفكر أبى الأعلى المودودى وسيد قطب فى أدناه. أو بمعنى آخر. تحكيم النص والفهم الخاص له على حساب العقل. رفض الخلاف والتعددية والنقاش وقبول الآخر. وطرح مفهوم الحاكمية. والمطالبة بتطبيق أشد الأنظمة الإجتماعية والسياسية رجعية وتخلفا. مما جعل الإنسان يفقد الثقة فى نفسه وقدراته, فيركن إلى التوكل والسلبية. ولماذا أجتهد وشيخ الجامع يقول, "لا إجتهاد فيما فيه نص". والدين نقل لا عقل.

لكن الكلمات يتغير مدلولها مع المكان والزمان. لذلك النص يحتمل التأويل والإجتهاد. والأحاديث نقلت بمعناها لا بألفاظها. ودخلها تزييف وانتحال. وكما يقول حسن حنفى, "النص القرآنى نص لغوى. لاتمنع طبيعته الإلهية أن يدرس ويحلل بمنهج بشرى. وإلا تحول إلى نص مستغلق على الفهم." وهو رأى يتفق مع رأى المعتزلة.

الرازى يقول: إن البارى أعطانا العقل وحبانا به لننال ونبلغ به المنافع العاجلة. وإنه أعظم نعم الله عندنا وأنفع الأشياء لنا وأجداها علينا.

ويرى الفارابى أن الدين والفلسفة لا تتناقضان. وليس بينهما تعارض. وذلك لأنهما تتفرعان من أصل واحد وهو العقل الفعال.

ودعى المعرى إلى تحكيم العقل فى كل شئ وإلى طاعته. ففى ذلك الرحمة والخير. وفى رأيه أن الخير لا يكون خيرا حقيقيا الا إذا كان خاضعا لحكم العقل.

وقد بلغ إيمان ابن طفيل بالعقل درجة جعلته يقول: إن العقل يستطيع بالإستقراء والتأمل أن يدرك الحقائق العليا إدراكا تاما.

وابن رشد كان يتقيد بالعقل ولا يسير إلا على هداه. حتى إنه دعا إلى تأويل الإجماع إذا كان الإجماع يخالف العقل.

وقد آمن علماء المسلمين إبان النهضة الإسلامية بسلطان العقل. فإذا تعارض دليل النقل ودليل العقل, أوجبوا تأويل دليل النقل بما يوافق دليل العقل. أو عملوا بدليل العقل. وإذا تعارض حديث مع العقل, إعتبروا الحديث مزورا وغير صحيح.

وأخضعوا الأدب والتشريع للعقل. وساروا فى أساليبهم وفى معالجتهم القضايا على أساس العقل والمنطق. لم يعبأوا بالعراقيل والتقاليد والعوائق. ولا بقداسة وسلطة الماضى. فطهروا الفلك من أدران التنجيم. وصححوا الكثير من الآراء التى جاء بها فلاسفة اليونان. وأطاحوا بالخرافات التى تسود بعض فروع المعرفة مثل تحويل النحاس إلى ذهب وغيرها.

يقول الدكتور عمر فروخ فى كتابه "عبقرية العرب": أن نظرية ابن حزم فى المعرفة جاءت قبل نظرية الغربيين بسبعة قرون ونصف قرن. حيث يرى ابن حزم أن المعرفة تتكون من الحواس والعقل والبرهان. ويرى ابن حزم أن الغرض من الشريعة والفلسفة هو إصلاح النفس.

ونجد الغزالى فى تهافت الفلاسفة, يصل إلى أقصى حدود الشك. فيسبق هيوم زعيم فلاسفة الشكيين بسبعة قرون فى الرد على نظرية العلة والمعلول. وبالرغم من محاولاته إخضاع العلم والعقل للوحى والدين. نجد أنه يرى أن العقل هو منبع العلم ومطلعه وأساسه.

وابن باجه بنى فلسفته العقلية على الرياضيات والطبيعيات. وهذا ما أراد "كانت" أن يسير عليه فى فلسفته. ويرى بعض الباحثين, كما يقول قدرى حافظ طوقان فى كتابه "مقام العقل عند العرب", أن ابن باجه خلع عن مجموع الفلسفات الإسلامية سيطرة الجدل. ثم خلع عليها لباس العلم الصحيح وسيرها فى طريق جديد. ويقول الدكتور فروخ, أنه أول من فصل بين الدين والفلسفة.

ونجد ابن طفيل يقوم بنقد بطليموس القلوذى صاحب كتاب المجسطى. ونقد فلسفة الفارابى وابن سينا وابن رشد والغزالى. وكان كثيرا من الأحيان صائبا فى نقده. مما يدل على إستقلال الفكر والبصيرة النافذة. وكتابه حي بن يقظان, من أروع الكتب وأحسن ما تفتخر به الفلسفة الإسلامية.

وابن خلدون يرى أن الأقيسة المنطقية لا تتفق مع طبيعة الأشياء المحسوسة. وهويدعو إلى بحث ما تؤدى إليه التجربة الحسية.

ومن أجمل ما قرأت, قول القاضى عبد الرحيم البستانى الذى يدل على الإيمان بالتغير والتقدم والتطور:

"لا يكتب إنسان كتابا فى يومه, الا قال فى غده: لوغير هذا لكان أحسن. ولو زيد هذا لكان يستحسن. ولو قدم هذا لكان أفضل. ولوترك هذا لكن أجمل. وهذا من أعظم العبر. ودليل على استيلاء النقص على جملة البشر."

ولنسمع شهادة الدكتور لويس برنارد أستاذ التاريخ بجامعة لندن حيث يقول:

"إن أوروبا تحمل دينا مزدوجا للمسلمين. فقد حافظوا على الميراث الفكرى والعلمى الذى خلفه اليونان, وتوسعوا فيه ونقلوه إلى أوروبا. وعلموا أوروبا طريقة جديدة للبحث المستقل والمعرفة عن طريق التجربة." وكان لهذا الفضل الكبير فى القضاء على العصور الوسطى والإيذان بعصر النهضة الأوروبية.

ويعترف جستاف لوبون بأن المسلمين أول من آمن بحرية الفكر والتسامح الدينى.

وقد إطلع بيكون على فلسفة ابن رشد ومؤلفاته ودرسها دراسة عميقة. وكان معجبا بإبن رشد إعجابا شديدا. وقد إعترف فى كتاباته بأن ابن رشد قد صحح كثيرا من أغلاط الفكر. وأضاف إلى تراث العقول ثروة لا يستغنى عنها.

ويقول الأستاذ ليبرى: "لولا إنقاذ المسلمين لكنوز اليونان الفكرية وصيانتهم لها. ولولا تسامحهم وطريقتهم فى تقديم العقل على النقل, لتأخرت نهضة أوروبا الفكرية عدة قرون."

أما بالنسبة للتعليم, فأنت لاتدرى مدى الخواء والهيافة والسطحية التى آل إليها شبابنا وأولادنا وبناتنا, سواء كانوا طلبة المدارس الحكومية أو الأجنبية. فلاهم يعلمون من هم, ولا إلى أين هم ذاهبون. ولا كيف كانوا أو أصبحوا أو أمسوا. لا يقرأون ولا حتى الجرائد اليومية, ولا يسمعون ولا يشاهدون إلا التلوث السمعى والبصرى الموجود فى الفضائيات. ولا يهتمون إلا بملابسهم الخارجية والسيارة والمبيل. فتيان كالنخل, وما أدراك ما الدخل. أرض بلقع, وبحار تئن فيها الرياح, ضاع فيها المجداف والملاح. ثم نتساءل, لماذا التطرف؟ ولماذا المخدرات؟


أذكر أن معلم الجيل الأستاذ أحمد لطفى السيد كان يعارض سياسة التعليم المزدوج, المتمثل فى المدارس الدينية والمدارس المدنية. بحجة أن هذا يخلق إنشطارا فى بنية المجتمع المصرى وشخصيته. وكان من رأيه أن التعليم الدينى يجب أن يكون مواد دراسية عن طريق المدارس الحكومية العامة والجامعات. ويكون متاحا للجميع, مسلم أو مسيحى, حتى يظل النسيج الوطنى متماسكا. وقد كنت ألاحظ فعلا أثناء دراستى الإعدادية والثانوية, أن مدرس اللغة العربية والدين فى أيامنا, كانت تختلف شخصيته ولبسه وسلوكه وطريقة تدريسه عن باقى المدرسين. لا لشئ سوى إختلاف الخلفية التعليمية لكل منهما.

ما هو الهدف من الخطة التعليمية فى مصر, ومن هو المسئول عنها, وأين دور مجلس الشعب, ولماذا لا يسخن وينفعل ويصاب بالهياج العصبى كما فعل بالنسبة لتصريحات وزير الثقافة عن موضوع الحجاب؟ هل الهدف من التعليم هو بناء مدارس وتوفير مكان لكل طالب فقط؟ أم تربية الطالب بدنيا وعقليا وخلقيا؟ أم كل هذا؟ وإذا كان الهدف هو التربية, فعلى أى منهج؟ هل نريد من أولادنا أن يكونوا أبطالا, أو عباقرة, أو نساك زاهدين, أو بنى آدمين؟ أم الهدف هو تدمير أجيالا وتحويلها إلى غثاء سيل, حتى يسهل حكمها, أم ماذا بالضبط؟

التعليم فى بلادنا يعتمد على الحفظ والتسميع بدون فهم. إجهاد للذاكرة, وشلل للقدرة التفكيرية, وقتل لملكات العقل التحليلية. ولقد كنت اتساءل فى صباى عن جدوى تدريس نظرية فيثاغورث وما شابهها من نظريات فى الهندسة المستوية(الإقليدية) فى سن مبكرة. ويأتى الجواب لأن تدريب التلاميذ فى سن مبكرة على نظريات الهندسة المستوية وعلى حل تمارينها, هو خير وسيلة لتدريب العقول على التفكير المنطقى. إذا لم يكن تفكيرك فى تسلسل منطقى ومنظم, فلن تستطيع برهان شئ, أو حل أى تمرين هندسى, أو كسب أى قضية, أو الوصول إلى أى حقيقة.

تدريب العقول منذ نعومة أظافرها على التفكير المنطقى, هو الذى سوف ينهض بشعوبنا ويحل مشاكلنا الإجتماعية والسياسية والإقتصادية. الهدف بناء عقول قادرة, وليست عقول حافظة لمعلومات مكدسة لا يربطها رابط. عقول فاهمة, وليست عقول تحمل شهادات وأجازات بدون فهم. مثل الحمار الذى يحمل أسفارا, ولكنه لايعلم ما بها من معرفة. ويا ريت يلغوا الشهادات بالمرة. حتى لا يطلب العلم إلا من يريده حقا.

معظم المدرسين غير أكفاء لهذه المهنة الجليلة. فمنهم من يقوم بصب المواد فى عقول الطلبة صبا. وكأنك تصب سائل فى قمع دون روية ودون مراعات درجة إستيعاب كل طالب على حدة. ومنهم من يقف حجر عثرة فى طريق الفهم والتحصيل. ومنهم من يسبب بأسلوبه وغبائه كره الطلبة لمادته ولعملية التعليم برمتها. ومنهم من يحول الفصل إلى مجموعة متطرفين, وثانى يعرض على طلبتة أفلام جنسية أثناء الدروس الخصوصية, كما جاء فى صحافتنا مؤخرا. وثالث ينهال على تلميذه ضربا حتى يرديه قتيلا. فهل ننتبه لدور المعلم فى تشكيل عقول أولادنا.

هل نعلم أولادنا القدرة على النقد؟ وإبداء الرأى والتساؤل؟ والقدرة على التمييز بين الحقائق والخرافات؟ ومعرفة أى ريح تدفع شراع المركب إلى الأمام؟ وهل نضع أمامهم المواضيع والقضايا بأوجهها المختلفلة كما هى. حتى يختاروا بأنفسهم إذا إستطاعوا؟ وإن لم يستطيعوا, هل نعلمهم القدرة على الشك؟ لأن الأغبياء فقط هم الواثقون والمتأكدون والمدافعون حتى الموت عن أول فكرة أو قضية تواجههم فى حياتهم. وكما قال دانتى:" الشك يسرنى كما تسرنى المعرفة".

من الممكن أن يكون الدين, هو حجر الأساس فى مشروع للنهضة. لكن بعد فهم سليم له وتأويله تأويلا ينفى عنه ما علق به من خرافات وتعصب. وإستبقاء ما يتضمنه من عقلانية وقبول للآخر. فى هذه الحالة, يكون الدين قوة دافعة نحو العدل والحرية والتقدم والحداثة. لكن الخطاب الدينى المعاصر عندنا, هو المسئول إلى حد بعيد عن حالة التخلف التى يعانيها العالم الإسلامى منذ توقف الإجتهاد, وشاع التمسك بالتقليد والنقل.

والتعليم فى بلادنا كارثة الكوارث. لأنه يضخ فى المجتمع عمالة غير صالحة وخرجين غير أكفاء. سواء علميا أو مهنيا. ولا يهتم بتربية أو إعداد. فضلا على أنه لا يبنى عقولا مفكرة. فاهمة أو ناقدة. وماذا يكون تأثير هذا على مستقبل أمة؟ التقدم له أسبابه, والتخلف له أسبابه أيضا. ولننظر كيف تبنى الحضارات, وماهى نوعية الفرد فيها وأسلوب تعليمهم. وإذا كان التعليم فاسدا, والخطاب الدينى فاسدا, فماذا نتوقع أن يكون عليه العقل فى بلادنا؟ وأى مستقبل نأمل فيه ونرنوا إليه؟

لقد أسمعت لو ناديت حيا---ولكن لا حياة لمن تنادى

ولو نار نفخت بها أضاءت---ولكن أنت تنفخ فى رماد
 

 

.....................................................................................

 


 

 
 



مطبوعة تصدر
 عن المركز الأمريكى
 للنشر الالكترونى

 رئيس التحرير : غريب المنسى

مدير التحرير : مسعد غنيم

 

الأعمدة الثابته

 

 
      صفحة الحوادث    
  من الشرق والغرب 
مختارات المراقب العام

 

موضوعات مهمة  جدا


اعرف بلدك
الصراع الطائفى فى مصر
  نصوص معاهدة السلام  

 

منوعات


رؤساء مصر
من نحن
حقوق النشر
 هيئة التحرير
خريطة الموقع


الصفحة الرئيسية