نظرية التطور ونظرية الخلق
...............................................................
بقلم: محمد زكريا توفيق
...........................
منذ آلاف السنين, والأديان المختلفة تفسر ما جرى ويجرى فى هذا الكون وفقا لكتبها المقدسة ومعتقداتها الروحية. قبولها أو رفضها لتفسيرات الظواهر الطبيعية, كان يتم حسب التوافق أو التعارض مع فهم العقيدة. فمثلا هناك من كان ولازال يرفض كروية الأرض ودورانها حول الشمس. ولازال الكل يرفض, وخصوصا فى بلادنا, نظرية التطور لدارون, وبالأخص الدكتور زغلول النجار والدكتور عبد الصبور شاهين. لا من منظور علمى, ولكن من منطلق عقائدى بحت. أبطال مركزية الأرض وتسطيحها هؤلاء, قد أطلوا علينا بعلم جديد يسمى عندهم علم الإنجيل. الإسم الرسمى لهذه الجمعية هو: جمعية "العلم الإنجيلى" للدفاع عن تسطيح الأرض. ظهرت فى إنجلترا فى القرن التاسع عشر. وهى جمعية شبيهة بجماعة التفسير العلمى للقرآن فى بلادنا.
شن علماء "العلم الإنجيلى" الحرب على العلوم العلمانية وعلوم الكفار. وهم فى دفاعهم عن تسطيح الأرض, يستخدمون كل ما فى مقدورهم من حيل وحجج وبراهين, بما فيها قطع الرؤوس ونصب المشانق وإقامة المحارق ودق الخوازيق فى الميادين العامة. بالطبع لا ننسى الإتهام بالكفر والهرطقة والتجديف وكل ما فى الجعبة من أسلحة فتاكة. لكنهم أصيبوا بأول نكسة. عندما لم يعد أحد ينكر كروية الأرض. فامتثلوا لإرادة الرحمن, وربطوا الأحزمة مجبرين. وتركوا الأرض تدور حول الشمس بسرعة 107 ألف كيلومتر فى الساعة, مرة كل عام. وتأكدنا اليوم أنه لا هناك فلطحة ولا يحزنون. ولكن كرة مثل العجّورة أو البطيخة الشلين.
الرياح دائما تأتى بما لا تشتهى السفن. وهبّ الإعصار الثانى. وبدأت الأخبار المفزعة تهطل كالمطر. أولا, الأرض عجوز شمطاء عمرها 4.4 بليون سنة. وليست شابة عذراء عمرها 6000 سنة فقط كما يدعى علماء الخلق. والحياة فى صورها الأولى, ظهرت عليها منذ بلايين السنين. ثانيا, أتى علينا السيد شالز دارون عام 1859م بكم هائل من الدلائل والبراهين. التى تثبت أن الحياة على سطح الأرض, لم تخلق فجأة كما يظنون. وليست ثابتة كما يدعون. وإنما هى فى تطور مستمر بسبب تغير البيئة والمناخ, وعوامل التعرية والرياح. وهذا يعنى أن عملية الخلق لم تتوقف, وإنما مستمرة. حدثت وتحدث فى كل وقت, وفى كل لحظة. خلق أنواع جديدة, وإنقراض أنواع تالدة. لا تستطيع التأقلم والتكيف بالنسبة للتحديات الخطيرة.
"ليس هناك أى إحتمال لتعارض الحقائق العلمية مع الإنجيل". كتب هنرى موريس عام 1974م, أشهر المدافعين عن نظرية الخلق. فهو يرى أن نظرية الخلق, مبنية أساسا على عقيدة إيمانية بحتة, تقول: أن كلمات الله لابد أن تكون صحيحة. (إذا لم تكن كلمات الرب صحيحة, فما هو الصحيح إذن؟). كل شئ, وكل ظاهرة يصادفها الإنسان, يجب أن تفسر بما لا يتعارض مع كلمات الرب, المكتوبة فى كتبنا المقدسة, والمحفوظة بالروح القدس. النظريات العلمية لا تختلف عن التجارب التى يمر بها الإنسان. فهى أيضا لا بد أن تتفق مع ما نجده فى كتبنا المقدسة. وإذا كان هناك خلافا. فهو أحد أمرين: إما أن يكون وهما. أو يكون خطأ فى التفسير. فإذا كان خطأ فى التفسير, فيرجع هذا إلى فعل الشيطان. الذى كرس حياته لتضليل البشرية وغوايتها. (العلوم إما أن تكون وهما, أو فعل الشيطان)
الصراع بين الفهم الخاطئ للظواهر الطبيعية (العلم), والفهم الصحيح وفقا لما تقوله الكتب المقدسة (الإيمان), هو صراع بين الخير والشر. الخير يمثله الرب وملائكته, والشر يمثله إبليس اللعين, وكذلك العلماء والفلاسفة الملحدين. وهو صراع بين أبيض وأسود. فلا توجد ألوان رمادية بالنسبة للخير والشر. فإما أنت من حزب الله, أو من حزب الشيطان (جورج دبليو بوش, من ليس معنا يكون ضدنا). وإذا كانت الكتب المقدسة غير صحيحة, فكيف نستطيع أن ننقذ أرواحنا. فى هذه الحالة سوف نصبح ملعونين.
المسيحيون الأصوليون أمثال جورج دبليو بوش وشركاه. ومن قبلهم دونالد ريجن الرئيس الأمريكى الأسبق. يقسّمون العالم إلى أبيض وأسود. المعركة بين الخير والشر, معركة حتمية. الإيمان بكلمات الرب بدون سؤال, تقود إلى الخلاص المجيد. والتشكيك أو التساؤل فى آيات الكتاب المقدس تقود إلى الخزى الأبدى.
نظرية الخلق الإلهى, وفقا لهنرى موريس, تتلخص فى أربع نقاط:
- كل شئ خلق فى ستة أيام, واليوم 24 ساعة مما تعدون
- كل شئ ملعون. لذلك نجد كل شئ يتآكل ويموت (انتروبيا)
- فيضان نوح غمر الكرة الأرضية من أقصاها إلى أقصاها
- برج بابل كان السبب فى تشتت الناس إلى ثقافات ولغات مختلفة
ومع سقوط برج بابل, جاء التعدد والتشتت. وجاءت رؤوس الشياطين. الشرك والمادية والفحش والكفر وغيرها من الموبقات. وجاء الأسوأ من كل هذا. نظرية التطور التى ألفها إبليس نفسه. كما قال هنرى موريس عام 1975م. وفى نفس العام, كتب لا هاى أحد رواد نظرية الخلق:
"نظرية التطور, هى الإطار الفلسفى لكل الفكر العلمانى الحديث. من تعليم إلى علم البيولوجيا, ومن علم النفس إلى علم الإجتماع. فهى منبر للإشتراكية والشيوعية والمدافعين عن حقوق الإنسان والحتميين. كل هؤلاء يعتبرون الإنسان حيوانا. لذلك فهم يذكون السلوك الحيوانى والروح الحيوانية فى البشر. مثل حرية الحب, ومبدأ الأخلاق الوضعى, والمخدرات والطلاق والإجهاض وأشياء شريرة أخرى. أخلاق (يوك), تدمر الأمل فى عالم أفضل. وتؤدى إلى عبودية الملايين من البشر."
المدافعون عن نظرية الخلق, يبدأون بنسخة الملك جيمس من الإنجيل. خلق الله الكون فى ستة أيام. واليوم 24 ساعة. خلال الأيام الستة هذه, ومنذ حوالى 6000 سنة, خلق الله كل الكائنات الحية. وبعد عدة قرون, أرسل الله الفيضان ليغمر كل أرجاء الكرة الأرضية بما فيها القطبين. وقام نوح بإنقاذ زوجين من كل نوع من هذه الحيوانات معه فى الفلك.
باقى الحيوانات ماذا حدث لها؟ جرت هذه الحيوانات مذعورة هربا من الماء إلى الأماكن المرتفعة والجبال. لكن أدركتها المياة على أى حال وأغرقتها. وهذا هو الهدف من الفيضان. إغراق كل شئ فيما عدا ما يختاره نوح بنفسه. بالطبع الحيوانات الذكية والسريعة مثل الثدييات بلغت الأماكن العالية. والحيوانات الغبية والبطيئة مثل الزواحف والأسماك إنحصرت فى الأماكن المنخفضة. وهذا يفسر وجود العظام المتحجرة فى طبقات مختلفة من القشرة الأرضية. كل نوع من المخلوقات يختلف عن الآخر وهذه هى الحالة التى خلقها الله بدون تغيير حتى الآن.
تشكك توماس ريد الإسكتلندى فى أصول الفلسفات الأوربية السائدة فى ذلك الوقت. فقد شجب الفيلسوف الإنجليزى هيوم آراء من سبقوه. والفيلسوف لوك هاجم أفكار هوبز وفلاسفة القرن السابع عشر. وإذا كان الأمر كذلك بين الفلاسفة والمفكرين. إذن, أين الحقيقة؟ لذلك نجد توماس ريد, يبحث خارج نطاق المنطق والأسباب والبراهين. أو بمعنى أصح, خارج الفلسفة. فيتبع أسلوب فرانسيس بيكن فى الإعتماد على التجربة والمشاهدة فقط. بدلا من المنطق والأسباب.
نأخذ النتائج المستمدة من التجارب والمشاهدة الدقيقة. أى من الواقع. فهى الأساس الذى يجب أن تبنى عليه النظريات العلمية. أسلوب التجربة والمشاهدة هذا, بدا لريد أكثر تأكيدا من الأسلوب الميتافيزيقى المتبع. وقد وجد ريد تأييدا من مجموعة من العلماء وأصدقائه المقربين فى إنجلترا. وفلسفته التى تدعوا إلى عدم التفلسف تعتمد على الإحساس بالفطرة والواقعية. ومن هنا جاءت جذور الفلسفة الواقعية.
عن طريق التجربة والمشاهدة, كان يأمل ريد فى إكتشاف المبادئ الأولية والقوانين العلمية التى تنظم هذا العالم والمجتمعات البشرية. نبدأ فى العمل الجاد. وأثاء العمل , سوف يتبين لنا الأخطاء والمزايا والحقائق والقوانين التى تحكم هذا الكون والمجتمع.
أصبحت نظرية توماس ريد مشهورة فى أسكتلندا. وبالأخص بين المسيحيين البروتستانت (البريسبيتاريان) المهاجرين إلى الولايات المتحدة. وكلمة بريسبيتاريان تعنى الشيوخ أو الحكماء الذين كانو يرعون شئون الكنيسة. وبدأ الأمريكان البريسبيتاريان يطبقون أفكار ريد (الواقعية), ويعملون بكل جهدهم. وأثناء العمل الشاق, كانوا يراقبون مشاريعهم وأنشطتهم الإقتصادية. ذلك لإصلاحها وتعديلها وتحسينها. مما أدى إلى إزدهار التجارة والصناعة فى الولايات المتحدة بين المسيحيين البريسبيتاريان. ومن ثم, نما الإقتصاد الأمريكى فى بداية القرن التاسع عشر. ولزيادة الربح, بدأت الصناعة تتخلص من التكلفة الزائدة فى التغليف والتعبئة وكل شئ غير لازم وغير ضرورى. وبدأت البيوت والأساس والديكورات تتجه إلى البساطة والإقتصاد فى تكلفة السلعة.
لكن أوروبا ظلت على النظام القديم فى الصناعة والتجارة. الإهتمام بالتفاصيل والفخامة والحرفية المكلفة. وبالتالى زيادة التكلفة. مما يجل غالبية السلع غير منافسة من حيث السعر, وفى غير متناول الجميع. النظام الأمريكى فى الإنتاج أصبح أقرب إلى الناس والديموقراطية من النظام الأوروبى. وخلال عقود قليلة, أتقن النظام الأمريكى الإنتاج الضخم وميكنته. ونما الإقتصاد بطريقة سريعة وعظيمة.
فى عام 1837م, بدأ المسيحيون الأصوليون والمحافظون فى السيطرة على البريسبيتاريان. وخلال مطبوعاتهم وجامعتهم(جامعة برينستون), ربطت العلوم بالعقيدة المسيحية والتفسير الحرفى للإنجيل. خلق الله الكون, وخلق الإنسان, وهداه لمعرفة تاريخ هذا الكون عن طريق آيات الإنجيل, وليس العلم والبحث والتحرى. والخلاص يكون بالإيمان بالسيد المسيح والمعجزات التى ذكرت فى الإنجيل. وإذا تعارضت آيات الإنجيل مع العلم الحيث, فعلينا أن نقبل ما جاء فى الإنجيل بدون تردد أو مناقشة. لأن إيماننا بالعلم الحديث فى هذه الحالة, يقودنا إلى الكفر. وبالكفر نحرم من الخلاص. وتحل علينا اللعنة.
فى النصف الأخير من القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين, ظهرت نظريات علمية جديدة. هذه النظريات الجديدة, قلبت المفاهيم العلمية الكلاسيكية السائدة وجعلت كل العلماء فى حيرة من أمرهم. الهندسات الغير إقليدية, والكهرباء والطبيعة المزدوجة للضوء والإلكترون والمادة ومضاضات المادة والميكانيكا الكمية, وبالطبع نظرية دارون التى تتعارض مع التفسير الحرفى للعهد القديم.
مع النظريات العلمية الحديثة, أعلن علماء اللاهوت الألمان وبلاد أخرى أوروبية, أن الكتاب المقدس, وخصوصا القصص التاريخية به. ليست هى كلمات الرب, ولكن عبارة عن مجموعة مؤلفات من عصور مختلفة من التاريخ العبرى, متأثرة بالفكر الوثنى.
بالطبع مثل هذا النقد, غير مقبول من المسيحيين الأصوليين. ويعتبر هجوما واضحا على عقيدتهم. المؤمنون رأوا أن أملهم فى الخلاص أصبح الآن مهددا من رجال اللاهوت الألمان ومن علماء غيرهم. هذا بالإضافة إلى العلمانيين والإشتراكيين والوطنيين. الذين يحاولون تحجيم سلطة الكنيسة وجال الدين ونشر الفكر العلمانى.
فى عام 1910م, اصدرت الجمعية العامة للمسيحيين البريسبيتاريان, قائمة بمبادئ خمسة. إعتبرتها القاعدة الصلبة للديانة المسيحية البروتستانتينية. وهى الإيمان ب:
1- معجزات السيد المسيح
2- مولده من السيدة العذراء
3- صلب السيد المسيح للتكفير عن الخطية الكبرى
4- قيامة السيد المسيح
5- الإنجيل هو كلام الرب الحرفى
المبدأ الأخير له تداعيات أكثر من مسألة الخلاص والإيمان. فإذا كان الكتاب المقدس هو كلام الرب بدون شك. فمعنا ذلك أن قصة الخلق التى جاءت فى العهد القديم, وكذلك مئات الصفحات التى تروى القصص التاريخية, والمعارك وقصص الحب, وغيرها من التشبيهات الأدبية, كلها حقيقية بالضبط. وهى لا تمثل بلاغة أو كناية أو أستعاره أو تشبيه أو تورية أو خلافه. يد الله فوق يد الجماعة تعنى يد الله فوق يد الجماعة. ومفيش كلام ثانى. الآية تفسر حرفيا كما جاءت بالكتاب المقدس. هذا التمسك بالتفسير الحرفى, قد فتح غطاء صندوق "بنادورا", الذى لا يجب أن يفتح.
معظم المسيحيين اليوم تفرق بين التعاليم الخلقية والروحانية من جهة, والقصص الرمزية والتاريخية فى الكتاب المقدس من جهة أخرى. القصص التاريخية والعبرية والهيلينية المجمعة عبر القرون بالكتاب المقدس, ينظر إليها على أنها مجرد أدبيات بهدف التعليم والتهذيب لا يجب أن تؤخذ على أنها قد حدثت بجد حرفيا.
علماء لاهوت كثيرين, يقبلون نظرية التطور. ويبنون عليها دراساتهم اللاهوتية. أشهر هؤلاء هواليسوعى بيير تيلهارد دى شاردن. الذى يقول أن التطور هو الآلية التى يستخدمها الرب فى الخلق. واليسوعى الألمانى كارل راهنر يصر على أن التطور هو عمل الرب فى تجديد الخلق. والكاثوليك, منهم من يقبل نظرية التطور ويصدر دوائر المعارف التى تدعم آراءهم هذه. وعلماء اللاهوت البروتستانت, منهم أيضا من يرى التطور على أنه دليل على قدرة الخالق ووجوده. وكذلك مئات العلماء الأمريكيين, لا يقبلون فكرة الخلق كما جاءت فى الكتاب المقدس. فهى بالنسبة لهم مجرد خيال أدبى لعملية الخلق.
فى أوائل القرن العشرين, بدأت المدارس الحكومية فى الولايات المتحدة تدريس نظرية التطور لدارون. لكنها قوبلت بمعارضة شديدة من المسيحيين المعارضين لنظرية التطور فى 20 ولاية أمريكية. وقام المعارضون بضغوط كبيرة على السياسيين لوقف تدريس هذه النظرية فى المدارس. وأثمرت جهودهم فى بعض الولايات, منها: أوكلاهوما وفلوريدا وميسيسبى ونورث كارولينا وكينتاكى وأركانساس وتنسى. ولاية تينسى كانت مسرحا للجدل القانونى حول شرعية نظرية التطور.
فى عام 1925م, مرر المشرعون بولاية تنسى قانونا يمنع تدريس نظرية التطور لدارون فى المدارس الثانوية الحكومية. ويمنع أيضا تدريس أى نظرية فى الخلق, تتعارض مع قصة الخلق كما يرويها الكتاب المقدس. أو تدريس أى شئ يشير إلى أن الإنسان قد تطور من مخلوقات أدنى منه.
إتحاد الحريات المدنية الأمريكى, وجد أن قانون بتلر, الذى بمقتضاه يمنع تدريس نظرية التطور فى هذه الولاية, هو قانون غير دستورى. ووجد أنه مخالف أيضا لمبدأ العلمانية وفصل الدين عن الدولة. وقام الإتحاد بتشجيع المدرسين وتحريضهم على خرق قانون المنع هذا. ووعدهم بتبنى الدفاع عنهم فى حالة محاكمتهم بخرق قانون الولاية.
سرعان ما تم القبض على جون سكوب المدرس بمدينة دايتون بولاية تنسى. وقدم للمحاكمة بتهمة تدريس نظرية التطور فى الفصل. وكان يمثل الإدعاء, المدعى العام. يساعده ثلاثة محامين. أحدهم هو وليام براين السياسى المشهور والخطيب اللوزعى. براين يعتبر أصولى مسيحى متعصب. يؤمن بالتفسير الحرفى للكتاب المقدس. ومعارض شرس لنظرية التطور. وكانت هذه فرصته لتعرية نظرية التطور والإنتصار عليها.
وكان محامى المدرس المتهم هو كليرانس دارو. وهو يعتبر ندا لبراين فى قدراته القانونية وشهرته ومكانته فى المجتمع. وقد كان متخصصا فى الدفاع عن العمال والنقابات العمالية. المتهمون بجرائم تشمل القتل والنسف بالديناميت للدور الصحفية وغيرها. ثم ترك دارو هذه القضايا, وتفرغ لمناهضة عقوبة الإعدام والمطالبة بإلغائها.
قبل بدء المحاكمة بعدة أسابيع, كانت مدينة دايتون تسبح فى سيل من البشر من جميع البلاد. الشارع الذى ينزل به دايتون, كان مزينا بالأعلام والملصقات والمعلقات واليفط والإعلانات التى تبين صورة الإنجيل وصور للقرود, وجمل كتابية مثل: "رجلك العجوز قرد". وكان فى الشارع قرود حية وشمبانزى أحضرت لهذه المناسبة. وكان المسيحيون الإنجيليون والمحافظون الأصوليون من عمال المناجم وفلاحين وغيرهم من الفضوليين يملأون الشوارع والحارات. وكانت الباعة تقدم لهم عصير الليمون وسندوتشات الوجبات السريعة. كانت المحاكمة بمثابة عيد قومى أو مولد السيد البدوى فى الليلة الكبيرة. وكانت توجد أيضا الصحافة والمراسلون الأجانب وكتاب الأعمدة والمقالات, وعمال شركة التلغراف. وكانت أول محاكمة تذاع على الهواء بالراديو.
بدأت المحاكمة فى 10 يوليو 1925م, فى دار قضاء تتسع ل 700 مشاهد. لكن كان عدد المتواجدين يزيد على 900 مشاهد, شغلوا كل فراغ ممكن بين الصفوف. وكانت الحرارة شديدة داخل القاعة, والرطوبة عالية والجو خانق. ونظرا لعدم وجود أجهزة تكييف فى القاعة, أمر القاضى بنقل المحكمة إلى الهواء الطلق. وإذا بعدد المشاهدين يرتفع إلى 5000 مشاهد.
بدأ براين ممثل الإتهام بكلمة الإفتتاح:
"إذا كسبت نظرية التطور هذه القضية, فمعنا هذا أن المسيحية قد إنتهت". ثم ذكر أن المدرس سكوب, قد إعترف بالفعل بجريمته. وأنه قام بتدريس نظرية دارون فى الفصل. وأحضر 7 من الطلبة شهود إثبات. ذكروا أن المدرس قام بالفعل بتدريس التطور لهم من كتاب دارون.
توقع دارو ممثل الدفاع خسارة هذه القضية. لكنه كان يأمل أن يستأنف لدى المحكمة العليا. على أمل أن تجد المحكمة العليا قانون الحظر هذا مخالفا للدستور الأمريكى. وفى بداية دفاعه, قال دارو:
"ممثل الإدعاء قد فتح الباب على مصراعيه للتعصب الذى كان يسيطر على العقول فى القرون الوسطى". ثم طلب شهادة المختصين. وطلب أيضا شهادة براين نفسه كشاهد نفى. وكان فى مقدور براين الرفض, لكن كبرياؤه وثقته فى نفسه جعلته يقبل مبارزة دارو.
إستمرت المناظرة ساعتين. هاجم دارو براين وإتهمه أنه يفسر الكتاب المقدس حرفيا. وأنه غير ملم بالقضايا العلمية التى تؤهله للحكم على نظرية دارون وإبداء رأيه فيها. مما سبب له الحرج أمام المشاهدين. وجعله جديرا بالشفقة والرثاء. وقد وصفه بعض المراسلين بأنه بدا أثناء المناظرة كالمحارب الثمل.
فى نهاية دفاعه, طلب دارو من المحكمة بطريقة غير مباشرة إدانة موكله. آملا أن يصل الموضوع إلى المحكمة العليا حتى يمكن إلغاء القانون برمته.
لكن جاء قرار المحلفين بالإكتفاء بتغريم المدرس غرامة مالية قدرها 100 دولار. وهو قرار لا يسمح بالإستئناف, وفى نفس الوقت لم يُبرئ سكوب المدرس. وبذلك ظل قانون حظر تدريس نظرية التطور 42 سنة أخرى. وفى عام 1960م, بدأت المدارس الحكومية فى تدريس التطور. وفى عام 1968م, إعتبرت المحكمة العليا قانون منع تدريس نظرية التطور لدارون فى المدارس الحكومية, مخالف للدستور الأمريكى وقامت بإلغائه نهائيا.
بعد حكم المحكمة العليا بالسماح بتدريس التطور فى المدارس الحكومية, لجأ المسيحيون الأصوليون, الذين لم يرقهم قرار المحكمة, إلى أساليب أخرى. وبقيادة معهد أبحاث نظرية الخلق فى مدينة ساندياجو بولاية كاليفورنيا, بدأت محاولات إغراء هيئة إدارة المدارس, لكى تسمح بتدريس نظرية الخلق بجانب نظرية التطور. وقاموا بتأليف الكتب والنظريات التى تفسر الخلق المباشر والفورى بدون الإشارة لقدرة الرب أو المعجزات. أو ذكر كلمة المخلص أو الشيطان فى كتبهم. حتى تأخذ الشكل العلمى. وجاءوا بنظرية الخلق العلمى بديلا لنظرية التطور لدارون. لتفسير نشأت الحياة وتعدد الأنواع ووجود البقايا المتحجرة من المخلوقات القديمة فى طبقات مختلفة من القشرة الأرضية. وطالبوا بأن يكون الخيار للطلبة فى دراسة أى النظريتين.
لكن حكم المحكمة العليا ظل يحمى نظرية التطور بحجة أنها نظرية علمية وليست دين. بينما نظرية الخلق عقيدة دينية وليست علما بأى حال من الأحوال.
إلى أن نصل إلى عام 2005م فى ولاية بنسلفانيا, نجد أن الأصوليين ينجحون فى عصر الرئيس جورج دبليو بوش, راعى حمى المسيحية الأصولية, فى جعل مجلس إدارة المدارس يصوت فى صالح السماح بتدريس نظرية الخلق إلى جانب نظرية التطور فى المدارس الحكومية فى الولاية. إلا أن المدرسين فى الولاية رفضوا تدريس نظرية الخلق. بحجة أنها نظرية غير علمية, ولا يمكن أن تقارن أو تكون بديلا عن نظرية التطور لدارون.
نظرية التطور البيولوجى لدارون, لم تحظ بقلب وعقل الشعب الأمريكى حتى الآن. إحصائيات إستطلاع الرأى منذ منتصف الثمانينات, تشير إلى أن الأمريكيين الذين يقبلون نظرية التطور, لا يزيدون عن 40% من مجموع الشعب الأمريكى. وهذه النسبة تقل كثيرا عن مثيلاتها فى الدول الأوروبية واليابان. لأن طبيعة الشعب الأمريكى, شعب متدين. ومن أكثر الشعوب مواظبة على حضور قداس يوم الأحد فى الكنائس. ويرجع أيضا إلى نظام التعليم, والهوس الذى يعترى المعارضين ونفوذهم المالى والسياسى الكبيرين. فهم ينفقون على الدعاية والإصدارات وأجهزة الإعلام بلايين الدولارات. للتأثير على الرأى العام لصالحهم. ويتمتعون بحماية الحزب الجمهورى عندما يكون فى السلطة.
الدين لا يصلح أن يكون بديلا عن العلم. لأنه مبنى أساسا على الإيمان. وبالطبع لا يقبل النقد الموضوعى أو إحتمال الخطأ. لذلك نجد المحكمة الفدرالية الأمريكية تقرر أن نظرية الخلق المبنية على ما جاء فى العهد القديم, لا يمكن تدريسها فى المدارس الحكومية الأمريكية كبديل لنظرية التطور فى العلوم البيولوجية لدارون. لكن قصص الخلق هذه وفكرة التصميم الذكى التى يذكيها رجال الدين, يمكن تدريسها ضمن علوم الفلسفة والدين والتاريخ. لأن الدين يختلف عن العلم. ولابد أن نفهم الفرق بينهما يا أولى الألباب.
جمعيات الخلق العلمى تبذل جهودا خارقة لفرض فكرها الضيق على المجتمع الأمريكى. وهم من الناحية المالية أغنياء جدا ومنظمين جدا. ولهم نفوذ سياسى جبار. يستغلون حاجة الأنسان للأمن والبساطة. فيذكون أفكارهم فى الكنائس. مغلفة بحمى الرب وحماية الملائكة. والإنسان البسيط لا يستطيع أن يقاوم هذا الإغراء. فالخلاص للمؤمنين, والوعيد للكفار المارقين.
دستور الولايات المتحدة ليس دستورا دينيا. وإنما هو دستور علمانى قلبا وقالبا. يحفظ لكل فرد الحق فى أن يمارس الشعائر الدينية والروحية التى يرتضيها. مادامت لا تضر بالآخرين. وأى مجموعة دينية تحاول صبغ قوانين الدولة بعقيدتها, هو خروج عن مبادئ الدستور الأمريكى الذى وضعه الآباء المؤسسون. جمعيات الخلق العلمى, مثلها مثل كل الجماعات الدينية, تريد خلاص أرواحنا وإدخالنا الجنة على حساب الحقيقة والحق. لكن هذا يشكل خطرا على كيان الدولة العلمانى.
بدلا من أن يصحح العلم فهمنا للدين وحقيقته. وهى كلها مفاهيم مغلوطة ومزورة. يحاول رجال الدين التدخل فى شئون العلم, وتغيير وتشويه أصوله. فى ضوء فهمهم وتفسيراتهم البائسة للعقيدة. كارثة كبرى بكل المعايير. لكن ما الدليل على صدق رجال الدين؟ فتاريخهم أسود حزين بلا إشراق.
لقد قاموا على مر الأزمان, بتزوير الأديان وتخريبها قلبا وقالبا. وجعلوها أساليب للسلطة والثروة والإستبداد. ودمروا بسببها شعوبا وقبائل. ونزحوا بإسمها ثروات بلاد آمنة, بعد أن إستعبدوا سكانها. قتلوا ملايين لا تحصى ولا تعد من البشر بإسم الفتح والهداية والرشاد. ونصبوا المحارق والمقاصل والمشانق والخوازيق للعباد. كله بإسم الدين والرب المعبود. وقتلوا التقدم والحضارة. وأخروا البلاد.
قتلوا العلماء وشردوهم ودمروا منازلهم. حرقوا الكتب والمكتبات فرادا وجماعات. والعالمة المصرية هباتيا ومكتبة الإسكندرية, شواهد على ذلك. وغيرها لا يعد. خيرة ما أنجبته البشرية من عقول وكنوز. كلها راحت ضحايا بريئة. ذبحت قرابين للتعصب والغباء. حجروا على العقل والفكر. وإشتغلوا بالدجل والنصب. حاربوا الصدق والحقيقة. ودعموا عتاة الإجرام وطغاة الحكام. خدعوا الإبرياء وباعوهم الوهم وسلبوهم الفهم. وحولوهم إلى مسخ مشوهة. مخلوقات متعصبة لا عقل لها ولا إرادة. هل تريدون أمثلة. لا أعتقد أنكم فى حاجة إلى أمثلة. فجيلنا هذا لديه ما يكفيه. نظرة واحدة إلى بلادنا لكى نرى كيف يلطخ النفط الوجوه واللحى. ومأساة فلسطين, أليست بسبب الدين؟ والعراق وأفغانستان, كلها بادية للعيان.