مصر والديموقراطية
...............................................................
بقلم : محمد زكريا توفيق
............................
يرجع تاريخ الديموقراطية فى مصر إلى الحملة الفرنسية بقيادة نابليون بونابرت فى أواخر القرن الثامن عشر. فبعد هزيمة المماليك, كان نابليون يحث المصريين على حكم أنفسهم وممارسة الديموقراطية, والأخذ بتعاليم الثورة الفرنسية. وكان يتودد لزعماء ومشايخ القاهرة, ويدعوهم إلى مقره لمشاركتهم الطعام, ليجد كل منهم بجواره نسخة من القرآن الكريم, ونسخة مترجمة من كتاب توماس بينيه "حقوق الإنسان". لكن مشايخ القاهرة – الشرقاوى والسادات والفيومى وغيرهم – لم يفهموا ما عناه نابليون. وعندما حانت لهم الفرصة لحكم أنفسهم بعد مغادرة الحملة الفرنسية, لم يختاروا النظام الديموقراطى كوسيلة للحكم, وإنما إختاروا محمد على الألبانى حاكما مطلقا لمصر.
الديموقراطية الغربية فى ذلك الوقت, كانت نظاما جديدا وغريبا على الشعب المصرى. وأى نظام سياسى لا يكون نظاما ثابتا ومستقرا إلا إذا كان مطلبا شعبيا, ويستند على أفكار راسخة وعميقة لدى الغالبية العظمى من الناس.
فى المائتى سنة الأخيرة منذ الحملة الفرنسية إلى وقتنا الراهن, قامت عدة محاولات لإدخال النظام الديموقراطى فى مصر, سواء على أيدى أبنائها أو عن طريق الحكام الأجانب, لكن بدون نجاح يستحق الذكر. ولكن لماذا؟
الديموقراطية لم تنجح فى مصر لسبب بسيط. لأنها لم تصل إلى قلب الشعب المصرى. عامة الناس لا تفهم معناها. أو تفهم معناها, ولكن لا تؤمن بها وتشك فى جدواها وتخشى خطرها على قيمه ومثله. لأن مفهوم الديموقراطية يرتبط بمفهوم الحرية, والحرية يرتبط مفهومها بحرية الفسق والفجور. وتاريخ مصر الحديث, لم ينصف الديموقراطية كثيرا. فثوبها الناصع لم يره إلا ملطخا بالخداع والتزوير. وبدلا من أن تكون الديموقراطية نظاما لحكم الشعب بالشعب لمصلحة الشعب والتداول السلمى للسلطة, أصبحت أداة يستخدمها الحكام لتذوير إرادة الشعب, وكبت حرياته وتكبيل إرادته. أى صارت الديموقراطية فى مصر نظاما مقننا لحكم الشعب بفئة معينة لمصلحة مجموعة خاصة. ومما يزيد من صعوبة المشكلة, أن النظام الديموقراطى الغربى دائما يقارن بنظام البيعة والشورى فى الإسلام.
مفهوم الديموقراطية الغربية أعم وأشمل من مفهوم الشورى. لأنها لا تنحصر فقط فى طريقة إختيار الحاكم وتكوين مجلس إستشارى له, بل تشمل نواحى عديدة مثل فصل السلطات وحقوق الإنسان وإطلاق الحريات والمعارضة وتداول السلطة وخلافه. إلا أن إقحام كلمة إسلام فى المقارنة, يجعل بريق الديموقراطية لا يلفت الأنظار. وكما يقول رجال الدين عندنا: "يعنى إيه ديموقراطية غربية, ما إحنا عندنا نظام الشورى".
السبب الثانى لفشل الديموقراطية فى مصر, هو إرتباطها بالنظام الإقتصادى. لأن أى نظام سياسى لا يصلح لأى نظام إقتصادى. النظام الإقتصادى الذى ينادى بالمساواة وعدالة توزيع الثروة, غالبا ما يصاحبه نظام سياسى دكتاتورى لازم لفرض عدالة التوزيع بالقوة. والنظام الرأسمالى الذى يؤمن بحرية رأس المال والذى تدعمة الطبقة البرجوازية القوية, يلزمه نظام ديموقراطى يكفل له هذه الحرية. والنظام الإقطاعى ينتج عنه حكم الطبقة الأرستقراطية. كما أن السوق الإحتكارية تتطلب نظام حكم فاسد مستبد. أى أن النظام الإقتصادى والنظام السياسى يسيران جنبا إلى جنب. وبمجرد النظر إلى النظام الإقتصادى السائد فى مصر, يمكنك التنبؤ بنجاح الديموقراطية أو فشلها.
أول مجلس نيابى منتخب كان فى عهد إسماعيل باشا, عندما أنشأ مجلس شورى النواب سنة 1866م. حقا سبق مجلس شورى النواب مجالس أخرى مثل مجلس المشورة فى عهد محمد على, والمجلس الخصوصى ومجلس الأحكام فى عصر كل من محمد على وعباس الأول وسعيد, ولكن هذه المجالس كانت بمثابة مجالس حكومية للنظر فى شئون الحكومة الكبرى, وسن اللوائح والقوانين, وإصدار التعليمات للمصالح الحكومية.
عندما أقر مجلس شورى النواب دستور سنة 1879م بفضل شريف باشا رئيس الوزراء فى ذلك الوقت, باتت سلطة مجلس النواب مثل سلطة البرلمانات الحديثة التى من حقها إقرار القوانين وإقرار الميزانية, وجعل الوزارة مسئولة أمام المجلس. إلا أن حق الإنتخاب كان محصورا فى العمد والمشايخ, مما جعل معظم أعضاء المجلس من العمد والمشايخ وليسوا من عامة الشعب. وقد كان يسمى مجلس الأعيان.
بعد صدور دستور سنة 1879م ودستور 1882م ودستور 1923م على غرار النمط الأوروبى, إعتقد المصريون أن الديموقراطية سوف تنجح فى مصر مثل نجاحها فى أوروبا. لكن تطبيق الديموقراطية فى مصر كان فشلا ذريعا.
فى أعقاب ثورة سنة 1919م وصعود نجم سعد زغلول, أخذت الطبقة الأرستقراطية المصرية, والتى كانت وراء صدور الدساتير السابقة, فى تنظيم صفوفها للوقوف فى وجه سعد زغلول وأنشأت حزب الأحرار الدستوريين. فى أول إنتخابات بعد إلغاء الوصاية والإعتراف بمصر كدولة مستقلة, إكتسح حزب الوفد الإنتخابات ووجد بعض الوزراء وأبطال الدستور والإستقلال أنفسهم يسقطون فى الإنتخابات بالرغم من وضعهم الإجتماعى وثقافتهم العالية, أمام فلاحين وفديين أنصاف متعلمين أو مشايخ أو مدرسين فى مدارس التعليم الإلزامى.
هنا تنبهت الطبقة الأرستقراطية إلى خطورة الأمر. وخشيت من الثورة الإجتماعية. فالديموقراطية والإنتخابات الحرة فى ذلك الوقت, كانت تعنى حرمان الطبقة الأرستقراطية من الحكم, وبالتالى تعريض مصالحها للخطر. وكان الحل إما فى يد الملك, الذى كانت سلطاته تسمح بحل البرلمان وإنتخابات جديدة فى ظل حكومة مؤقتة, أو فى يد الإنجليز الذين لم يكن يسعدهم بقاء حكومة الوفد فى الحكم مدة طويلة, نظرا لموقف الوفد المتشدد من موضوعى الجلاء والسودان. لذلك وجدنا حكومة سعد زغلول فى سنة 1924م, تجبر على الإستقالة فى أعقاب حادث مقتل السردار قائد الجيش المصرى, وهى لم يمض عليها فى الحكم أكثر من عام واحد. ليقوم زيور باشا, وهو رجل الأحرار الدستوريين أو الطبقة الأرستقراطية بتشكيل الوزارة الجديدة.
وعندما إستنفذت حكومة زيور باشا كل السبل للبقاء فى الحكم بدون مساندة البرلمان, كان السبيل الوحيد لإستمرار هذا الوضع هو تزوير الإنتخابات الجديدة حتى يشغل حزب الأحرار الدستوريين وباقى أحزاب الأقليات أغلبية المقاعد بالبرلمان. ولكن عند إنعقاد أول جلسة للبرلمان, غيرت بعض أحزاب الأقليات موقعها, وإنضمت إلى حزب الوفد لكى يشكل الحكومة مرة ثانية. وإذا بالملك فؤاد, بإيعاز من حزب الأحرار الدستوريين, يقوم بحل البرلمان فى اليوم الأول لإنعقاده. يعنى أفلام سينما وليست ديموقراطية.
منذ ذلك الحين, ونظام الحكم الديموقراطى فى مصر يتبع نمطا واحدا لا يتغير. إنتخابات شبه حرة تأتى بحكومة وفدية, لتصطدم مع الإنجليز ثم تجبر على الإستقالة أو تحل بمرسوم ملكى. لكى تأتى حكومة جديدة غير وفدية, تعطل الدستور أو تغير بنوده لتحكم بصورة مطلقة, إلى أن تصطدم هى الأخرى مع الإنجليزأو الملك, ليعاد إجراء إنتخابات جديدة تأتى بالوفد مرة أخرى, وهكذا. إلى أن نصل إلى حكومة صدقى باشا التى عملت على إلغاء دستور سنة 1923م ليحل محله دستور جديد يعطى الملك سلطات طاغية, ويعدل فى نظام الإنتخابات لكى يحصل حزب صدقى باشا الجديد حزب الشعب على الأغلبية البرلمانية. وكان من رأى صدقى باشا أن الإنتخابات ليست حقا من حقوق المواطن, وإنما تكليفا له. هذا التكليف, لا يجب أن يمنح الا لمن يستحقه ويحسن الإختيار. وغالبية الشعب المصرى لا تستطيع حسن الإختيار طالما هى أمية واقعة تحت تأثير شخصية قوية مثل شخصية سعد زغلول. يعنى تبرير فلسفى للتزوير.
كل مرة يحرم فيها حزب الوفد من جنى ثمار إنتصاراته, كان رد فعله هو مقاطعة الإنتخابات التى يجريها معارضوه. ومعارضة أى نتائج تصل إليها الحكومة مع الإنجليز فى مفاوضات الجلاء. وتشجيع الإضرابات وأعمال العنف والشغب ضد الحكومات المعارضة’ وكان وجود الإنجليز يمنع الوفد من القيام بثورة للإطاحة بهذا الفساد السياسى.
بالرغم من أن الشغب والعنف نجحا فى إعادة دستور سنة 1923م, الا أنها أنهكت قوى حزب الوفد الذى ظل مبعدا عن السلطة مدة 7 سنوات خارت فيها قواه, وإختلت ميزانيته وضعفت ثقته فى جماهيره. لذلك نجده يهادن الإنجليز ويوقع معاهدة سنة 1936م لكى يتفرغ لمناورات الملك. هذه المعاهدة, بالرغم من أنها قد أعطت مصر إستقلالا أكثر, إلا أنها سمحت بإحتلال الإنجليز لمدن القنال بصفة رسمية لمدة 20 سنة, كما أنها لم تعترف صراحة بوحدة مصر والسودان كما كان يأمل كل المصريين فى ذلك الوقت. لذلك أعتبرت معاهدة سنة 1936م خيانة للقضية المصرية, وخصوصا عندما وجد المصريون البلاد لا تزال محتلة بالإنجليز فى كل مكان بعد توقيع المعاهدة.
عند ذلك بدأ المصريون يفقدون الثقة فى الديموقراطية, وخصوصا فى تلك الفترة التى ظهرت فيها النازية فى ألمانيا, والفاشية فى إيطاليا, والشيوعية فى روسيا. فنجد الوفد مثلا يشكل جمعية القمصان الزرق. وحزب آخر يشكل جمعية القمصان الخضر, تقليدا للنازية والفاشية, لممارسة أعمال الشغب. ونجد أيضا الملك فاروق بإيعاز من الشيخ المراغى وتشجيعا من على ماهر, يحاول التقرب إلى الإسلام وتنصيب نفسه خليفة للمسلمين. ونجد الوفد وهو حامى الدستور وبطل الإستقلال, يقبل العودة إلى الحكم فى ظل بنادق ودبابات جيش الإحتلال البريطانى فى فبراير سنة 1942م.
الحالة السياسية والإقتصادية والإجتماعية فى مصر فى الفترة التى أعقبت ثورة سنة 1919م وحتى قيام ثورة سنة 1952م, كانت فى خدمة طبقة كبار ملاك الأراضى الزراعية. حيث كان المجتمع يتكون من عدة طبقات. طبقة ملاك الأراضى, والطبقة البرجوازية, وطبقة الموظفين, وطبقة العمال وطبقة الفلاحين. الطبقة البرجوازية كان معظمها أجانب تعتمد على الخارج لحماية مصالحها. لذلك لم تكن فى حاجة إلى أن تشكل قوة ضغط داخلية متحدية طبقة ملاك الأراضى, كما حدث بالنسبة للطبقة البرجوازية فى أوروبا إبان الثورة الصناعية. وطبقة الموظفين لم تكن لها مصالح تتعارض مع طبقة ملاك الأراضى. كبار الموظفين كان هدفهم المشاركة فى الحكم ليس بهدف تحقيق مصالح طبقتهم, وإنما لكى يتحولوا هم أنفسهم إلى طبقة ملاك الأراضى الزراعية عندما تحين الفرصة.
كانت المساحة المزوعة فى ذلك الوقت ستة ونصف مليون فدان. خمسة أسباع هذه المساحة كان مملوكا لحوالى 160 ألف مالك. وبدلا من زيادة الضرائب التصاعدية على كبار الملاك لتحسين أحوال الفلاحين الذين كانوا يشكلون الغالبية العظمى من تعداد السكان, نجد كل الحكومات المتعاقبة قد فعلت العكس تماما. أى قامت بخفض الضرائب على كبار ملاك الأراضى الزراعية إلى أن بلغت 1%, بينما بلغت الضرائب على الطبقات الفقيرة 10% من الدخل القومى. وإذا أضفنا إلى هذا زيادة السكان وإنخفاض الدخل بالنسبة للفرد عاما بعد عام دون تدخل الحكومات المتعاقبة, مما تسبب فى زيادة الضغط على الوادى وزيادة البؤس بين الطبقات الفقيرة. ولكى تحمى طبقة ملاك الأراضى نفسها من الفلاحين, أصدرت قانونا يجرم تكوين إتحادات للفلاحين لحماية مصالحهم. أما العمال, فكان مسموحا لهم بتكوين إتحادات ونقابات لهم. لكن البطاله الهائلة بينهم وإنتهازية وفساد قادتهم, أنهكت قوى الإتحادات العمالية, وحصرت جهودهم فى قضايا فردية.
ومن ثم نجد أن الطبقات الفقيرة فى المجتمع المصرى لم تجد من يمثلها أو يدافع عنها. وكانت تعبر عن غضبها من حين لآخر بإستخدام العنف كما حدث بالنسبة لثورة سنة 1919م. حيث كان غضبها موجها ضد الإحتلال البريطاني. ولو وجه هذا الغضب الوجهة الصحيحة, لأدى إلى ثورة إجتماعية, كما حدث بالنسبة للثورة الفرنسية. أضف إلى ذلك كله ظروف الكساد العالمى وإنخفاض أسعار القطن التى أدت إلى زيادة كبيرة فى البطالة بين صغار الموظفين.
سوء الحالة الإقتصادية والإجتماعية واليأس من تطبيق الديموقراطية الصحيحة وظروف الإحتلال, كل ذلك ساعد على إنتشار جماعة الإخوان المسلمين بقيادة الشيخ حسن البنا, والتى أعطت المصريين وخصوصا الطبقات الفقيرة أملا جديدا وبديلا آخر للديموقراطية الغربية. التى فشلت فشلا ذريعا فى تحقيق العدالة الإجتماعية وتوزيع الثروة توزيعا عادلا بين عامة الشعب.
هذه هى قصة الديموقراطية فى مصر. وهى قصة حزينة بكل المقاييس, وملحمة أخرى باكية من ملاحم الشعب المصرى, وصفحة من نضاله ضد الظلم والقهر والطغيان لم يكتب لها النجاح. فهل حالنا وأوضاعنا السياسية والإجتماعية والإقتصادية الآن تختلف كثيرا عما كنا عليه قبل ثورة سنة 1952م؟ وهل هناك أمل فى ديموقراطية حقيقية من أجل حياة أفضل ومكان لائق تحت الشمس؟
zakariael@att.net
06/11/2014
مصرنا ©