الخرافات و التفكير العلمى
...............................................................
بقلم: محمد زكريا توفيق
...........................
كنت فى شبابى أزور أحد الأصدقاء. وكان يسكن فى شقة صغيرة تقع فى سطح أحد العمارات بحى شبرا بالقاهرة. وعندما غادرت فى وقت متأخر من ليالى الشتاء, كان على أن أهبط سلم العمارة ذات الخمس طوابق . ووجدت نور السلم لا يعمل. فقررت ترك باب السطوح مفتوحا حتى يعطينى الضوء القادم من السطح بعض الضوء. وتحسست طريقى هابطا السلالم وأنا أهتدى بحاجز السلم الحديدى(الدرابزون).
وما أن وصلت حتى الدور الثالث, حتى شعرت بصوت أقدام تصعد نحوى. فأمعنت النظر, ولكن الظلام كان دامسا والخطوات تقترب صاعدة نحوى. فأشعلت عود ثقاب, وقد كنت وقتها أدخن. ولكن الهواء القادم من باب السلم كان يطفئ أعواد الثقاب كلما أشعلتها. وعندما أشعلت عودين معا, إستطعت أن أتبين ملامح القادم نحوى فى الظلام. وجدت ويا لهول ما رأيت, ماردا طويل القامة وبدون رأس, قادما نحوى. وكلما أمعنت النظر, لم أجد سوى الحقيقة المرعبة. مارد يصعد نحوى, جسم وأكتاف فقط ولكن بدون رأس. ولك أن تتخيل عزيزى القارئ مدى الرعب الذى تعرضت له فى هذه الليلة. فأخذت أبسمل وأحوقل, وأقرأ وأنا أتلعثم آية الكرسى بصوت عال, مع إشعال أعواد الكبريت بطرقة هستيرية. وبعد فترة صمت وتردد, وجدت الشبح يهبط السلم بسرعة ثم إختفى فى الظلام. ثم وصلت إلى الشارع أتصبب عرقا, وشعر رأسى واقف مثل الإبر, وأنا لم أصدق النجاة.
فى اليوم التالى, أخبرت صديقى بما حدث, فوجدته يضحك ضحكات هستيرية. وعندما سألته: لماذا تضحك, ألا تصدقنى؟ أجاب: "لأننى كنت عند المكوجى وأخبرنى أن صبيه هو أيضا قد رأى عفريتا على سلالم العمارة أثناء الليل." وعندما سألته, هل رأى هو الآخر شبحا بدون رأس؟ أجاب: كلا لقد رأى عفريتا يبرطم بكلمات غريبة ويشعل أعواد الثقاب.
لقد إتضح أن صبى المكوجى كان يحمل بالطو لتوصيله إلى أحد سكان العمارة فى هذا الوقت المتأخر من الليل. وخوفا من أن يصل البالطو إلى الأرض, كان صبى المكوجى يرفعه بيده ويختفى خلفه. وبالطبع فى الظلام, لم أر الصبى. ولكننى رأيت المارد مقطوع الرأس.
الإيمان بالعفاريت والقوى الخارقة للطبيعة ليس جديدا علينا. لأن معظم تاريخنا المدون, يشير إلى وجود ظواهر غير مفهومة فى الماضى, كانت تفسر بوجود قوى خارقة للطبيعة. وهى الطريقة الوحيدة التى تمكننا من تفسير هذه الظواهر. فالميكروبات والفيروسات والباكتيريا لم تكن معروفة حينئذن. وإذا مات رجل ذو صحة جيدة فجأة, فعقل الإنسان لم يكن فى مقدوره تفسير سبب الموت هذا. وقد كان يرجع سبب الموت فى كثير من الحالات إلى وجود السحر, أو الحسد, أو العين, أو الجان, أو الشياطين.
السرطان والجلطة والذبحة الصدرية وأمراض الدم والأمراض النفسية والميكروبات, لم تكن أمراضا يعرفها جدودنا. وهى لم تعرف إلا فى تاريخنا الحديث. وكان مجرد إقتراب شخص ما, من أو السير أمام, منزل المتوفى بمرض من هذه الأمراض بساعات قليلة, كفيل بإتهامه بممارسة السحر والشعوذة أو الحسد. وكثير من الأبرياء لاقوا حتفهم حرقا فى العصور الوسطى فى أوروبا بسبب إتهامهم بالسحر وتعرضهم لظروف وملابسات عديدة مثل هذه.
هذه الطريقة التى كان يفكر بها الناس فى القرون الوسطى فى أوروبا. وهذه هى طريقتهم فى ربط الأحداث بعضها ببعض. وقد كان هذا هو أسلوبهم فى إسناد السبب إلى المسبب. وكثير من المتهمين بممارسة السحر كانوا نساءا عجائز مساكين. سلوكهن وهيأتهن بحكم السن, أو بسبب تعرضهن لأمراض نفسية أو عضوية, تثير الريبة والشك.
نعم, لقد إنحدار الفكر الإنسانى إلى هذا الدرك الأسفل. ونحن اليوم نجد صعوبة كبيرة فى تبرير هذا السلوك المخزى. وكانت أكثر المبيعات من الكتب المتداولة فى هذا الوقت, هى الكتب التى ترشد القارئ إلى طرق الوقاية والتخلص من الساحرات. وكانت توضح العلامات التى تظهر على وجوه وهيئة السحرة والساحرات. لذلك كانت الناس تراقب بعضها البعض وخصوصا النساء. يبحث كل منهم عن صيد أو فريسة يريد التخلص منها وإتقاء شرها. وأفضل من وصف تأثير هذا الهوس على العقل الأوروبى, هما ويل وأريل دورانت صاحبا موسوعة تاريخ الحضارة الجزء الثامن:
"فى عام 1609م, كان وباء الخوف من الساحرات يكتسح جنوب فرنسا. مئات من الناس كانوا يعتقدون أنهم ملبوسون بالشياطين. بعضهم كانوا يتوهمون أنهم قد سخطوا كلابا, فيقومون بالنباح. وشكلت لجنة من قبل البرلمان لمحاكمة المشتبه فيهم. عرفت طريقة لتحديد المكان الذى تدخل منه الشيطان إلى جسم المتهم أو المتهمة. وهى أن تعصب عينى المتهمة, وتغرز الإبر فى جسدها. وأى مكان فى جسدها لا تشعر به بالألم, يكون هو المكان الذى دخل منه الشيطان.
كان المتهمون ينفون التهمة عن أنفسهم بإتهام بعضهم البعض. ثمانية منهن أقرت المحكمة جريمتهن. هرب خمسة منهن وثلاثة تم إعدامهن حرقا. الجمهور المشاهد, فيما بعد, أقسموا أنهم قد رأوا الشياطين تهرب فى صورة ضفادع تقفذ من رؤوس المتهمين.
فى لورين, تم إعدام 800 ساحر وساحرة حرقا. بسبب تهمة ممارسة السحر خلال مدة 16 سنة. وفى ستراسبرج, تم إعدام 134 خلال أربعة أيام (أكتوبر 1582). وفى لورين, تم إعدام 62 خلال 10 سنوات (1562-1572م). وفى بيرن, تم حرق 300 متهم فى العشر سنين الأخيرة من القرن السادس عشر. و240 فى العشر سنين الأولى من القرن السابع عشر.
فى ألمانيا, كان الكاثوليك والبروتستانت يتنافسا فى إرسال الساحرات إلى المحرقة. والشئ الذى لا يصدقه عقل, أن رئيس أساقفه ترير, كان قد أعدم 120 متهما حرقا عام 1596م, بتهمة أنهم قد تسببوا فى برودة الجو لمدة طويلة. وحينما حل وباء بالماشية عام 1598م بضاحية شونجو, أرجع هذا الوباء إلى فعل الساحرات. لذلك قررت قنصلية بافاريان فى ميونخ تشديد العقوبة. وتبعا لذلك تم حرق 63 متهما, وتغريم أهاليهم مصاريف المحاكمة. وفى هينبرج بالنمسا, تم إعام 80 بسبب الشعوذة خلال سنتين, 1617-1618م. وفى المدة من 1627-1629م, أمر أسقف ورزبرج بإعدم 900 ساحرة حرقا.
وفى عام 1572 فى ساكسون, صدر قرار بحرق الساحرات حتى وإن لم يقمن بفعل أى شئ ضار (يعنى بدون تهمة). وفى إلنجن, تم إعدام 1500 ساحرة عام 1590. وفى إلوانجن, أعدم 167 عام 1612م, وفى وسترستيتن, أعدم 300 فى مدة عامين. وكذلك 300 فى أسنابروك عام 1588م, و300 فى نوردلنجن عام 1590م. ويقدر علماء التاريخ الألمان أن الذين تم إعدامهم بتهمة السحر والشعوذة فى ألمانيا وحدها فى القرن السابع عشر يبلغ 100,000 برئ."
ونجد عقولا علمية مثل بويل صاحب قوانين الغازات المشهور, يطلب سؤال عمال المناجم عن الشاطين اللذين يرونها فى أعماق المناجم. وكان رجال الدين, الذين يبدون شكهم فى مقدرة الساحرات على فعل الشر, تقوم الكنيسة بإتهامهم بالهرطقة. وتذكرهم بآيات سفر الخروج التى تطلب الموت للساحرات. جنون الخوف من الساحرات إستمر حتى عصر جاليليو وكبلر. وإستمر لمدة 100 عام بعد كرستوفر كولومبس مكتشف أمريكا. إلى أن نصل إلى ما يعرف بعصر التعقل وإستخدام المخ.
فى الولايات المتحدة فى مدينة سالم بولاية ماساشوست, عشرات من النساء صغيرات السن المصابات بالهيستيريا, وقفن أما المحلفين, ليعترفن بأن سبب أمراضهن, يرجع إلى فعل النساء العجائز الساحرات. هن أصلا مريضات بالهستيريا. وزادت حالاتهن سوءا بسبب الرعب وتعرضهن للإتهام والقبض عليهن.
النساء الصغيرات تصرخن ويشرن بأصابعهن إلى العجائز فى قفص الإتهام ويهتفن: ساحرات, ساحرات, ساحرات. وفى نهاية المحاكمة, غالبا ما تعترف النساء العجائز بالتهمة الموجهة إليهن, ثم يجهشن فى البكاء والنحيب. ويتوسلن ويطلبن العفو والمغفرة. لكن المحلفين تدينهم ويحكم عليهم بالموت حرقا. آخر ساحرة ماتت فى مدينة سالم كانت عام 1693م.
الخلط العقلى والأمراض النفسية, كانت تفسر على أنها لبس وسحر وعمولات وحسد وما شابه. ولعدة قرون, كان إفتراض وجود القوى الشريرة والقوى الغير طبيعية هذه, تفسر كل ما يتعلق بمشاكل وإنفعالات الإنسان, الخاصة بالحب والكره والرغبة. ليس هذا فقط, وإنما تفسر أيضا الأمراض والإطرابات العقلية والعصبية, والمجاعات والعواصف والقحط والرياح وكل شئ لا يعرف الإنسان سببه.
وحتى اليوم نجد صدى هذا فى بلادنا فى صورة الزار والرقية والشبة والفسوخة والآيات المنجيات والزواج من الجن وتسخير الجن وعمل الأحجبة للوقاية ورش الماء على الأرض فى مواقع التعثر, والبخور والخرزة الزرقاء والخمسة وخميسة وتحضير الأرواح والمندل والفال والتشاؤم والنظرة والعين وخلافه.
تقدم العلوم كما نعرفه اليوم كان مكبلا بالإعتقاد فى الخرافات والسحر والعفاريت. الخوف والإيمان الأعمى بنصوص كتبنا السماوية بدون فهم, وضعت غشاوة على بصائرنا. فأصبحنا لا نرى ما حولنا, وجعلتنا نتخيل أشياءا غير موجودة. وهذا لم يساعدنا كثيرا فى فهم قوانين الطبيعة من حولنا. فقد ظلت علوم الطب الحديثة محظورة فى أوروبا. وكانت الكنيسة الكاثوليكية تمنع تشريح الجثث لمعرفة كيف يعمل جسم الإنسان. فما هى القوى التى تشكل إيماننا بهذه الخرافات. وكم منها قد تكون بسبب الصدفه أو الفهم الخاطئ للدين وللظواهر الطبيعية. وما مدى تأثير إيماننا بالخرافات على درجة إدراكنا للحقيقة؟ العلوم نفسها قد إنبثقت من مخلفات السحر والأساطير. ولكى نفهم الجانب النفسى وراء إيماننا بالخرافات, يجب أن نبحث عدة ظواهر نصادفها كل يوم ولا نجد تفسيرا لها.
كلنا يعلم قصة الخليفة عمر وسارية الجبل. حينما صرخ وهو على المنبر: يا سارية الجبل, يا سارية الجبل. فسمعه سارية وهو يقاتل فى الشام, وتنبه لأهمية إحتلال الجبل على سير المعركة. وقصص كثيرة شبيهة بهذه, تدل على وجود التخاطب من بعد. وهو ما يعرف ب "إى إس بى". وكلنا قد مر بتجارب مشابهة. مثل الإحساس بقدوم شخص ما, أو تجد الذى أمامك ينطق جملة كانت على لسانك. أو توارد الخواطر. فربما نفكر فى صديق على بعد منا, وفجأة نسمع جرس التليفون لنجده على نهاية الخط. وكذلك قصص التنبأ بالمستقبل. أو الأحلام التى تتحقق بالنص أو بشئ مشابه لرموزها.
عندما تخرجت من الجامعة, وكنت أبحث عن وظيفة تناسب مؤهلى, رأيت فى المنام فى أحد الليالى أننى أقوم بغسل سمكتين كبيرتين فى حوض مطبخ منزلنا. وبعدها بعدة ليالى قليلة, رأيت فى المنام أيضا أننى أقف فى نفس المكان بالمطبخ وأقوم بغسل حبتين كبيرتين من ثمار المانجو. وعندما طلبت تفسير ذلك ممن هم أكبر منى سنا ولهم خبرة بتفسير الأحلام, قيل لى أن هذا خير إنشاء الله. وبعدها بأيام قليلة, جاءنى خطابان. الأول يفيد أننى قد قبلت فى وظيفة بأحد المؤسسات الحكومية. والثانى يفيد القبول بشركة مصر للطيران. ولقد تعرضت خلال حياتى لعدة أحلام شبيهة بهذه, كانت تصدق بدقة عجيبة.
عندما تكتشف شركات إنتاج الأدوية عقارا جديدا وتريد تجربة فاعليته فى علاج مرض معين. تختار ثلاث عينات عشوائية من المرضى. تعطى المجموعة الأول الدواء الجديد. وتعطى المجموعة الثانية دواء مزيف (فشنك) يسمى "بلاسيبو", هو عبارة عن ماء وسكر. والمجموعة الثالثة لا تأخذ دواءا على الإطلاق. ثم تقارن نتائج المجموعات الثلاث. الغريب فى الأمر أن الدواء المزيف هذا, وجد أن له تأثير فعال فى علاج المرض, مثل الدواء الجديد ولكن بنسب متفاوته. وهذا ما يعرف بالعلاج بالإيحاء.
ووجد أن بعض الناس تتماثل للشفاء بمجرد أخذ ميعاد لرؤية الطبيب. أو قبل أن تتعاطى الدواء. لذلك ثقة المريض فى الدكتور المعالج هامة جدا, وتمثل جزءا كبيرا من العلاج. وهذا ما يفسر لنا نجاح العلاج بالرقية والأدعية والأحجبة والشبة والفسوخة فى بعض الأحيان. وهذا ما يجعل الداجالين يستمرون فى العلاج بالدجل حتى الآن. لأن علاجهم يأتى فى بعض الأحيان بالنجاح. والسبب يرجع إلى الإيحاء لاغير. ولقد إعترف لى طبيب متخصص فى علاج الحساسية هنا فى نيويورك أنه كان يعالج فى بعض الأحيان مرضاه بحقن ماء مقطر بعد إيهامهم أنه دواء جديد. وكان يحصل على نتائج جيدة.
ماذا يحدث هنا؟ وكيف يعمل مخ الإنسان؟ وهل هناك قوى خفية سحرية تخبرنا بالمستقبل, وتشفينا من المرض بدون دواء؟ وهل إعتقادنا بوجود هذه القوى يعوق تقدمنا العلمى؟ الأطفال تعتقد أن كل شئ تراه له روح وينبض بالحياة. فمثلا عندما يقع طفل من على الكرسى, نقوم بضرب الكرسى أمام الطفل عقابا له على فعلته فيقتنع الطفل ويكف عن البكاء. وأجدانا القدماء كانوا يصنعون التماثيل, وهم يعتقدون أن بها أرواح تمثل الآلهة. ونحن نعتقد فى الأحجبة والتمائم التى لها قوة سحرية تمنع عنا الشر, وتحمينا من مفعول السحر. ونعتقد فى المشايخ والأولياء بأن لهم القدرة على الشفاء وفعل المعجزات. ولا تزال الفلاحين تؤمن بأن الأحجبة ولبس الملابس الداخلية بالمقلوب تبطل عمل السحر. والخرزة الزرقاء تبطل عمل العين والحسد. وفردة الصندل القديمة المعلقة على باب المنزل لها مفعول السحر فى الحماية من الشر والعين الدارجة. ورجل الأرنب تجلب السعد وحسن الطالع.
الحسد فى حد ذاته مشكلة كبيرة فى مجتمعاتنا الشرقية. وما من أسرة أعرفها أو إنسان أتحدث إليه إلا وجدت أنه مؤمن إيمانا عميقا بالحسد وتأثير العين. وتبريره لهذا السلوك أن الحسد جاء فى القرآن الكريم. وأن العين فلقت الحجر وعملت كيت وكيت. وبسرعة وبدون تفكير, يذكر المؤمن بالحسد سورتى الناس والفلق فى القرآن الكريم. وهو لا يعلم شيئا عن تفسيرهما الصحيح.
لكن الإمام محمد عبده فى تفسير جزء عمه يقول بخصوص الحسد:
"الحاسد هو الذى يتمنى زوال نعمة محسوده, ولا يرضى أن تتجدد له نعمة." أما السحر فيقول الإمام محمد عبده أيضا: "أنه جاء ذكر السحر فى القرآن فى مواضع مختلفة, وليس من الواجب أن نفهم منه ما يفهم هؤلاء العميان. فإن السحر فى اللغة معناه صرف الشئ عن حقيقته."
وهذا يعنى, يا سيدى, أن مفهومنا للحسد بمعنى النظرة والعين, وكذلك إعتقادنا فى السحر بمعنى إستخدام الجان والعفاريت والقوى الخفية, خاطئ من أساسه بسبب عدم فهمنا لمعانى القرآن وأصول اللغة العربية.
فى الستينات ذهب الأستاذ أنيس منصور إلى أندونيسيا وجاء منها بهوجة تحضير الأرواح بإستخدام السلة. ثم تطور إلى إستخدام الفنجال. ولم يسلم منزل منها أو أسرة. فالكل قد إنتابته نوبة تحضير الأرواح هذه. محاولا إستحضار أرواح موتاه وسؤالهم: هل هم فى الجنة أم فى النار؟ أو سؤال الأرواح عن المستقبل والمخبى. وقد سمعنا أن مسئولين كبار كانت تحضر الأرواح لسؤالها, متى ننتصر على إسرائيل(محمد حسنين هيكل فى الأهرام فى السبعينات)؟ وكان ضباط الشرطة والمباحث فى ذلك الوقت, تبحث عن المسروقات والجناة بسؤال الأرواح, وهذا ما قد شاهدته بنفسى. وقد إزدهرت جمعية تحضير الأرواح التى كانت يرأسها الأستاذ فهمى أبو الخير ثم الكتور على عبد الجليل راضى فى ذلك الوقت.
أما تجربتى الشخصية بالنسبة لموضوع تحضير الأرواح هذا, فتتلخص فى أننى كنت أعتقد فى صحتها فى البداية. لكننى لاحظت عندما كنت أحمل السلة مع رفاقى ونحضر روح أحد الموتى. ثم نسأله عن أشياء لا يعرفها غيرنا, كانت تجيب الأرواح بدقة وصواب مذهل. وعندما نسأل الروح عن أشياء لا أحد من حاملى السلة يعرفها, كانت تخفق فى الإجابة. وحيث أننى قد وهبنى الله عقلا تحليليا, ولا أدرى هل هذه نعمة أم نقمة؟ لكننى أحمد الله على كل حال. حاولت ربط الإجابات الصحيحة التى أعرفها ولا يعرفها غيرى بحركة السلة. فوجدت أننى من حيث لا أدرى أقوم بتحريك السلة لا شعوريا. ووجدت أن عقلى الباطن هو الذى يحرك السلة وليست الأرواح. فالأرواح قد صعدت إلى بارئها ولا تريد أن تعود إلى عالمنا الأرضى هذا. لا بسلة أو فنجان أو خلافه.
وكل ما يحدث من ملابسات تفهم وتفسر, بسبب جهلنا, على أنها العين والنظرة, يمكن تفسيرها علميا:
أولا: العين جهاز إستقبال وليست جهاز إرسال. بمعنى لا شئ يخرج من العين لكى يمكن أن يكون له تأثير فى الشئ المرئى أو الشخص المحسود.
ثانيا: إذا رأت إمرأة مجموعة من الفراريج مثلا. ثم أصاب الفراريج مرض قضى عليها جميعا. فتكون التهمة أنها قد حسدت الفراريج. وأن عينها زرقاء, ويقاطعها الجميع. ولا يرحب بها أحد فى منزله بعد ذلك. لكن العلم يجد تفسيرا لذلك. وهو أن المرأة كانت تحمل ميكروبات أو بكتيريا ضارة على ملابسها. هذه الميكروبات لا تصيب الإنسان حاملها. ربما بسبب المناعة. لكنها تقتل الدجاج. وكذلك إذا رأت إمرأة طفلا أو شخصا ما, ثم مرض بعد ذلك. يتم إتهامها بالحسد. ولكن السبب الحقيقى هو ما تحمله من جراثيم لا نراها.
ثالثا: أخبرنى صديق لى أن أحد الزميلات فى العمل عينها زرقاء, ولاحظت أنه يتجنبها بإستمرار. وعندما سألته عما حدث. قال بأنه قد إشترى كمية كيسا من ثمار المانجو بسعر رخيص جدا. ولكن السيدة طلبت منه رؤية المناجو حتى تشترى مثلها. وفى اليوم التالى وجد صديقنا كل ثمار المانجو قد دب فيها العفن ولم تعد تصلح للأكل. وعندما حاولت إقناعه بأن السيدة بريئة من هذه التهمة. وأنه قد إشترى المانجو رخيصة السعر لأنها كانت مصابة بالباكتيريا والعفن, ولكن لم تظهر بوادر المرض عليها بعد إلا فى اليوم التالى. لكن الزميل لم يقتنع, وظل مؤمنا بأن السيدة شريرة. وحمدت الله على أننا لسنا فى القرون الوسطى فى أوروبا, وإلا كانت السيدة فى المحرقة بتهمة مزاولة السحر وإفساد كيس المناجو.
عندما تنزل إلى البدروم المظلم أو بير السلم, فإنك قد تشعر بشئ غريب موجود معك يلمس جسدك وتحس به. وقد كان فى الماضى هذا الإحساس دليلا مؤكدا على وجود "بسم الله الرحمن الرحيم", وربنا يجعل كلامنا خفيف عليهم. ولكن ثبت علميا أن هذا الإحساس يرجع إلى وجود موجات صوتية لا تسمعها الأذن لأنها خارج النطاق السمعى لموجات الصوت. موجات الصوت هذه طويلة. يقاس طولها بالمترات. تأتى وتستقر فى الأماكن المنخفضة. وأجسامنا تشعر بها. مثل ضربات الطبل والإيقاع الغليظ. تشعر بها أجسمنا أيضا. وحيث أننا لا نعلم شيئا عن وجود موجات الصوت هذه, لذلك إعتقدنا أن الأماكن المنخفضة الرطبة المظلمة مسكونة وبها عفاريت. الجهل مصيبة وربنا ما يحكم علينا بيه.
بالنسبة لتوارد الخواطر والإتصال من بعد. فهناك أبحاث تجرى بهذا الخصوص لاتزال فى مهدها. وكل ما نعرفه أن عقل الإنسان هو معجزة المعجزات. عقل الإنسان فى المتوسط يتكون من 100 بليون خلية (نيرون) فى المتوسط. كل خلية تعمل عمل كمبيوتر مستقل. وتنتقل المعلومات بين خلايا المخ ومنها إلى العضلات بطرقتين. طريقة كيميائية وطريقة كهربائية. الكهرباء تتولد بالتفاعلات الكيميائية مثل البطريات السائلة الموجودة فى السيارات.
فى الواقع مخ الإنسان به كهرباء تكفى لصعق فيل ضخم. وهناك نوع من سمك الثعابين بأمريكا الجنوبية يقتل فريسته بالكهرباء. يجمع كهرباء المخ ويفرغها مرة واحدة فى فريسته ليصيبها بالشلل. المهم أن عقل الإنسان يعمل بالكهرباء. والكهرباء تُولد مجال وموجات كهرومغناطيسية. الموجات الكهرومغناطيسية, ومنها الضوء والأشعة السينية وموجات الراديو, تسير بسرعة الضوء وتستطيع أن تدور حول الكرة الأرضية سبع مرات فى الثانية الواحدة. فلماذا لا تتوارد الخواطر بفعل هذه الموجات التى يصدرها المخ أثناء التفكير. أليس هذا التفسير أفضل من الإعتقاد بالعفاريت والسحر والحسد والشعوزة وخلافه. وبالنسبة لمعرفة المستقبل, ربما تكون المسألة توارد خواطر أيضا. لا أكثر ولا أقل. نعرف بالأحداث فور وقوعها, وقبل أن تصلنا أخبارها بالبريد.
وأما البخت وقراءة الفنجان, فهى قراءة للعقل الباطن, يقوم بها قارئ الفنجان. فالتأمل فى الخطوط والرسوم الموجودة فى قاع الفنجان تعطى العقل الباطن فرصة للتعبير عن نفسه وعما يعرفه ولا يستطيع أن يترجمه إلى لغة العقل الواعى. وهذا يحدث أثناء النوم أيضا فى الأحلام حينما يحاول العقل الباطن إرسال معلومات إلى العقل الواعى باللغة الوحيدة التى يعرفها وهى لغة الرموز والصور, ومن هنا تحدث الإحلام.
علم التنجيم كان يسيطر على علم الفلك. وأول من فصل علم التنجيم عن علم الفلك هم علماء الإسكندرية ومنهم بطليموس القلوذى وكتابه المجسطى. ثم تناوله العرب وجعلوا من علم الفلك علما مستقلا وطهروه من خرافات التنجيم. لكن الفلك فى أوروبا لم يتبلور كعلم إلا على أيدى كبلر وكوبرنيق وبرونو وجاليليو.
هل حركة النجوم والكواكب تؤثر فى حياتنا ومستقبلنا؟ ربما. وقد يكون التأثير صغيرا جدا بحيث لا يذكر. فحركة القمر تؤثر على المد والجزر. وعلى الدورة الشهرية للنساء. ولكن أكثر من ذلك لا أعتقد. لكن ما هى حكاية قراءة البخت والطالع المنشورة فى كل الجرائد والصحف والمجلات؟ دجل ونصب وصدفة وكلام عام يفهم كما يريد القارئ, لا أكثر ولا أقل.
الإعتقاد وحده, مهما كان مغريا, لا يكفى كأسلوب للتقدم الحضارى. التقدم بصفة عامة يلزمه العلم. والعلم يطلب الدليل المادى. مثل القاضى فى المحكمة, فهو أيضا يطلب الدليل المادى. حتى لا يظلم بريئا أو يبرئ مجرما. ولا يأخذ بالإعتقاد أو الشك, أو بمقولة ربما أو ما شابه. وحتى شهود العيان, تؤخذ بكل حذر. فهى فى حد ذاتها لا تصلح بديلا وعوضا عن الدليل مادى.
العلوم هى طريقة إختبار الحقائق بحواسنا. وهى تختلف عن السحر فى أنها تتعامل مع قراءات وبيانات يمكن قياسها ويمكن إنتاجها والتنبؤ بها وتكرارها. العلماء يعرفون أنهم عندما يعلنون عن تجربة أو نظرية جديدة, يتلقفها عشرات العلماء الآخرين, لفحصها بدقة, لمعرفة أوجه النقص والخطأ فيها. هذا الفحص الدقيق يؤكد صحة الصحيح, ويكشف عورة الإستنتاجات الخاطئة. وأى نظرية خاطئة, لا تستمر طويلا ولا يجب. وهذا يمنع العلوم من أن تصبح مثل السياسة والدين. يؤمن بها الناس إيمانا أعمى بدون تفكير وتستمر وهى خاطئة آلاف السنين. الإيمان والثقة, ليسا لهما علاقة بالحقائق العلمية. فحقيقة أن "الماء يغلى فى درجة مائة مئوية" على سطح الأرض, لم تبن على الظن والإعتقاد.
تقدم العلوم كما نعرفه اليوم, كان مكبلا بالإعتقاد فى الخرافات والسحر والعفاريت. الخوف والإيمان الأعمى والحرفى بنصوص كتبنا السماوية بدون فهم, وضعت غشاوة على بصائرنا. وجعلتنا نرى أشياءا غير موجودة, ونغفل رؤية أشياءا فى منتهى الوضوح حولنا.
يعتبر إسحق نيوتن من أهم علماء الفيزياء والرياضيات الذين إكتشفوا قوانين الجاذبية والضوء ونظريات التفاضل والتكامل فى الرياضيات. قال يوما أننى وصلت إلى هذه الإكتشافات, لأننى أقف على أكتاف عمالقة سبقونى. أى أنه كان يستفيد من نظريات العلماء الذين سبقوه ومنهم جاليليو وعلماء الإغريق والعرب مثل الحسن بن الهيثم وأبحاثه فى البصريات. ميزة العلوم عن السحر والغيبيات, هو أن معلومات العلوم متراكمة ويكمل بعضها البعض. لا مكان فيها للتعارض أو للتزوير أو الشطحات. كل إكتشاف جديد أو نظرية جديدة تؤدى إلى تساؤلات وإجابات أكثر. وبالتالى إلى معرفة أعم وأشمل. إختراع الميكروسكوب فتح الأبواب على عالم جديد لدراسة بيولوجيا الخلية. وهذا أدى بدوره إلى عوالم أخرى من المعرفة فى دراسة الأمراض وإكتشاف علاجات ناجعة لها.
نظرية التطور لدارون نظرية علمية تفسر أشياءا لم نجد لها تفسيرا من قبل. البيانات والمعلومات التى نجمعها كل يوم سواء كانت فى مجال عالم الحفريات أو النباتات أو الحيوانات أو هندسة الجينات, لا نستطيع أن نجد لها تفسيرا أفضل من نظرية التطور. فمثلا, نظرية لامارك للتطور, لا ينتج عنها تنبؤات صحيحة, لذلك سقطت. والكتب السماوية إذا إستخدمت بديلا للعلوم لا تستطيع أن تبرر وجود الحفريات فى الصخور, وتسلسل وجودها الزمنى والمنطقى قبل ظهور الإنسان بملايين السنين. وهذا ما ينكره رجال الدين مثل الدكتور زغلول النجار للأسف. فهو يقول أن الحفريات من فعل الغرب الكافر لتضليلنا وإضعاف إيماننا. طبعا كلام بطيخ . كما أن الدكتور زغلول لا يستطيع أن يفسر لنا سبب وجود ثديين للرجل, ووجود أصابع رجليه والزائدة الدودية. لكن كل إكتشاف جديد يجد مكانا له وتفسيرا مقنعا فى نظرية دارون بدون تعارض.
الكتب الدينية ببساطة ليس كتب علمية. وإنما هى كتب إرشاد وهداية, وأسلوب حياة وعمل. أما العلوم ومنها نظرية التطور, فهى تفسر أشياء كثيرة. منها سبب وجود الموت مثلا. فهو ميكانيزم ضرورى للحياة. ولولاه لأكل الناس بعضم البعض. وبتنا نسير فوق أجسام الناس من الزحام. وأكلنا الطين وسففنا التراب إن كان يكفى. ولكن الكبرياء وإنتفاخ الأنا عند الإنسان, هو الذى يجعلنا لا نرى كيف تعمل الطبيعة لما فيه خيرنا.
العلوم هى أملنا الوحيد لكى نحيا حياة كريمة تستحق أن تعاش. بعد أن زور المأجورين من رجال الدين تاريخنا وأدياننا. فالعلوم تحمينا من الجهل والنصابين والمزورين الذين يطلبون منا أن نلغى عقولنا ونغمض عيوننا ونصم آذاننا عن الحقائق حولنا. السحر والشعوذة والدجل والحسد وغيرها, هى قوى غير طبيعية لا توجد إلا فى عقولنا. مثل الغول والعنقاء والخل الوفى. وكذلك الدائرة والخط المستقيم والقوانين العلمية. هى أيضا لا توجد إلا فى عقولنا. ولكن لا أثر لها فى أرض الواقع. نحن الذين قد إخترعناها لكى نفسر بها كيف تعمل الأشياء. فهل يمكن أن نثق فى العلم كملاذ أخير؟.