هل نحن أحرار فى بلادنا؟
...............................................................
بقلم: محمد زكريا توفيق
...........................
هل يولد الإنسان حرا كما يعتقد بعض الناس؟ أم تولد معنا دوافع غريزية لا حيلة لنا فيها؟ دوافع عدوانية غير سوية نرثها أبا عن جد. تدفعنا إلى قتل أنفسنا أو قتل بعضنا البعض. أو تعذيب رفاقنا فى السجون والمعتقلات. وتجعل الحكام يحتكرون السلطة والثروة. والدول القوية تشن الحروب على الدول الضعيفة لنهب ثرواتها وقتل نسائها وأطفالها.
سيجماند فرويد يجد صعوبة فى تفسير مذابح الحرب العالمية الأولى. لذلك فهو يفترض وجود غريزة الرغبة فى الموت داخل عقل الإنسان. وبسبب قيام الحرب العالمية الثانية وضرب اليابان بالقنابل الذرية, يعتقد كلا من كونارد كورنز وروبرت آردرى أن الإنسان ينحدر من سلالة قاتلة من القرود.
بينما هناك آخرون يختلفون فى هذا الرأى. ولا يعتقدون أن العنف فى الإنسان غريزى وإنما هو مكتسب. فمثلا جان جاك روسو, يعارض بشدة ويقول أن الإنسان طيب وخير بالمولد. ولكن فساده يأتى من المجتمع الذى يعيش فيه. فنحن نولد بطبيعتنا أبرياء عطوفين شرفاء لا نعرف الكذب. لكن بغبائنا والتربية الخاطئة والحكومات الفاسدة, نخلق الجحيم على الأرض. أما الآخرين مثل برندت وميد وواتسن وسكنر, فيقولون أن الإنسان يولد على الفطرة. لاهو شرير ولا هو طيب. وكما تشكله يتشكل.
بالنسبة لباقى المخلوقات التى تعيش فى جماعات, الحيوان الأكثر شراسة وعدوانية داخل المجموعة, هو أكثرهم وصولا للطعام, وأنجحهم فى الإستئثار بالإناث والإنجاب. لكن فى عصرنا هذا عصر التكنولوجيا والضغط على الزراير, فرصة الإنسان المسالم والمرأة الضعيفة لا تقل فى النجاح عن الإنسان العدوانى. فالعلم والمعرفة فى هذا العصر أهم من القوة الغاشمة. بالرغم من أن النساء لاتزال تفضل الرجل القوى عريض المنكبين عن الرجل الذكى المثقف. وهذا يتضح فى هيام المرأة الغير ناضجة بأبطال كرة القدم وضباط الجيش والشرطة.
القوة الغاشمة والتهديد بإستخدام العنف وإثارة الخوف بين أفراد المجتمع, تعطى المعتدى بعض المزايا. فهى تجعله ينفرد بالولائم والمغانم والثروة والإناث. وهذا ما تفعله الحكومات والسياسيون بالضبط. فلكسب التأييد الشعبى, يلجأ الحكام إلى أسلوب التخويف والتحذير من خطر ما. الإرهاب مثلا كما هو الحال بالنسبة للمحافظين الجدد فى الولايات المتحدة الأمريكية. والتخويف من خطر سيطرة الإسلاميين على الحكم, كما هو الحال عندنا. مما يدفع المواطنين إلى الإلتفاف حول الحكومة طلبا للحماية.
أُلقيت كمية كبيرة من الموز إلى مجموعة من القرود تعيش فى مكان منعزل. فجاء كبيرهم القرد القوى المفترى, وإستأثر بالكمية كلها. وهذا ما فعله عيدى أمين سابقا بالثروة فى أوغندا. وما يفعله أمراء البترول والحكام عندنا بثروة شعوبنا. لكن كمية الموز كانت كبيرة ولا يقدر قرد واحد على حمايتها بمفرده. فجاء قرد ثانى وغافله ثم إختطف صباع موز وفر هاربا. وعندما رآه يجرى وفى يده شئ أصفر, ترك ما لديه وطمع فى صباع الموز المسروق وجرى خلفه. حينئذن, وجد قرد ثالث كومة الموز بدون حراسة, فإنقض عليها كالصاعقة يحاول أن يحمل ما يستطيع حمله بسرعة قبل أن يحضر القرد المفترى. فمسك بكل يد كمية من الموز, ووضع بعضها فى فمه وتحت إبطيه وجرى بما حمل وهو ينظر خلفه. وحينما أدركه القرد المسيطر وهو يصرخ ويزمجر غاضبا , حرر إحدى يديه, وربت على رأس القرد المفترى ولسان حاله يقول: لم الغضب. إهدأ فلديك كمية كبيرة تكفيك ولا تستطيع أن تأكلها كلها وحدك. لكن المفترى لم يقتنع, وهجم عليه وهويصرخ ويكشر عن أنيابه. مما حدا به إلى ترك ما حمل ولاذ بالفرار.
هناك نواعان من إستخدام العنف عند الحيوانات التى تعيش فى مجتمعات. النوع الأول هو عنف يقوم بين مجتمع وآخر. حروب وأسر وسبى وإستيلاء ودفاع عن أوطان وممتلكات وخلافه. والنوع الثانى يكون بين أفراد المجتمع الواحد لتحديد الترتيب الإجتماعى للأفراد. كل واحد لازم يعرف حدوده. وإنت عارف بتكلم مين.
إذا وضعت مجموعة من الفراريج فى حيز ضيق. فإنها تقوم على الفور بالهجوم على بعضها بالنقر ونتف الريش وفقع الأعين وإسالة الدماء فى معركة حامية الوطيس. ويستمر الحال على هذا المنوال حتى يتحدد المركز الإجتماعى المناسب لكل فروج. أو بالبلدى المريح, كل واحد يعرف مقامه. فنجد فى النهاية الفروج المفترى صاحب السلطة المطلقة. قد يكون أقرعا أو أعورا, لكنه يستطيع نقر كل الفراريج ولا يستطيع أن يقترب منه فروج آخر. يليه الفروج الثانى فى سلم السلطة, وهو الفروج الذى يمكنه نقر باقى الدجاج فيما عدا الفروج الأول. وهكذا إلى أن نصل إلى الفروج المسكين, الذى تقوم كل الدواجن بنقره, دون أن يكون فى مقدوره نقر أحد.
والمثل الشعبى يقول:"ما يقعد على القور الاّ الفرخ الأعور". والعور هنا لا يعنى الضعف والعجز, إنما يرمز للقوة والجبروت ودلالة على خوض الحروب الطاحنة فى سبيل السلطة, مثل موشى ديان.
هذه المعركة ضرورية لإستقرار الأمن الإجتماعى بين الدواجن, متى عرف كل منهم وضعه المناسب بين الرفاق. فالدواجن لا تعرف الديموقراطية, وليس لديها ميثاق إجتماعى وحقوق دواجن شبيه بحقوق الإنسان. لكن الإنسان المتحضر, وجد بديلا لنظام نقر الدواجن هذا, وأطلق عليه إسم الديموقراطية.
فهل يختلف نظام الحكم فى بلادنا كثيرا عن نظام نقر الدواجن؟ وهل نحن إلا ناقر أو منقور. وهل الفرخ المسكين الذى يُضرب من الجميع يختلف كثيرا عن الشعب المسكين الواقف فى طوابير العيش. ومتى نرتقى فى سلم التطور إلى شئ أفضل, ونحكم بنظام لا يشبه نقر الدواجن؟
هذا القانون يسرى بين الحيوانات الأخرى التى تعيش فى جماعات. فالأبقار والكباش والماعز عندما توضع مع بعضها يحدث لها نفس الشئ. ويحدث أيضا بالنسبة للإنسان إذا لم يقيد بالحضارة والقوانين. ولقد وجد أن الأطفال الأكثر عدوانية تكون فرصتهم فى النجاح الإجتماعى أكثر من غيرهم. والأطفال الخجولة المستكينة, تكون فى قاع المجتمع فى الكبر.
الكل يعلم أنه لكى تعيش حرا, يجب أن تتحرر بلدك من كل مظاهر الإستبداد. فى الماضى كان يعنى هذا هو التحرر من إستبداد الحاكم أو الأمير. الذى كان يحكم بالحق الإلهى أو الوراثة, ويرسل المعارضين إلى السجن أو حبل المشنقة بسبب آرائهم ومعارضتهم له. لكننا نعلم الآن أن الحرية بالنسبة للفرد, هى أكثر من مجرد أن يكون خارج أسوار السجون والمعتقلات.
على سبيل المثال, الأقليات وأحزاب المعارضة قد تكون فى مأمن من السجن والإعتقال. لكنها بالتأكيد لا تحيا حياة طبيعية داخل أوطانها. فهى تتعرض إلى مضايقات وتفرقة فى المعاملة بسبب الدين أو الأصل أو الرأى. وهذا ما نراه بالنسبة لطلب الوظائف وشغل المناصب الكبيرة والتحايل والتخطى فى الترقى الوظيفى. ونراه واضحا وجليا فى عدم السماح للأقليات بحرية بناء دور العبادة أو الإعتراف بديانتها وتسجيلها فى البطاقة الشخصية. لا لشئ سوى لأنها تختلف عن دياناتنا ومعتقداتنا. هذا مجتمع لا يمكن أن نسميه مجتمع ينعم بالحرية الفردية.
قد يكون التعصب والتمييز بسبب آخر غير الدين. وأذكر فى شبابى أن تقدمت للدراسات العليا فى معهد التخطيط القومى بالدقى وقد كان فى بداية إنشائه. وكان القبول بدون إمتحان قدرات بشرط الحصول على بكالوريوس علوم أو هندسة بتقدير جيد. وعند إعلان أسماء المقبولين بالمعهد, وجدت جميع الطلبة المقبولين كلهم وبدون إستثناء من خريجى جامعة القاهرة. ولا واحد, وأنا منهم, من جامعة عين شمس أو الإسكندرية أو أسيوط. وقد إتضح أن إدارة المعهد كلها من جامعة القاهرة وأرادت المجاملة. ليس هنا مسلم وقبطى فى القصة, وإنما جامعة مصرية حكومية وجامعات أخرى مصرية حكومية. وهذه هى للأسف طبيعة مجتمعاتنا المريضة نفسيا. ونحن هنا لا نتخير عن أولاد عمومتنا العربان. فلهم باع طويل وأصل ثابت فى قضايا التفرفة والتمييز العنصرى هذه.
هناك ثلاث مستويات للحرية الفردية. الحرية الأولى هى التحرر من إستعباد سلطة الحاكم. والثانية هى أن تعيش فى أمن وسط الناس دون الخوف من أن يتحرش بك أحد أويستخدم القوة ضدك بلطجى. والحرية الثالثة تتمثل فى التحرر من سطوة الرأى العام والمجتمع المبرمج. فماذا يعنى هذا؟
يعنى هذا أن تعيش فى حرية وأمان حتى ولو كان لك رأى مخالف. فالناس تشكل ضغط كبير على من يخالفهم فى الرأى. إمرأة سافرة فى مجتمع كله محجبات, أو العكس. والشخص المخالف قد يشعر بالوحدة والعزلة وقد تكون هذه العزلة أشد من عزلة السجن والمعتقل. هذا الشخص لم يرتكب جريمة مخلة بالشرف. وقد تجده طيبا ومسالما ويمشى جنب الحائط. ويقابلك بإبتسامه ويقول لك حين يقابلك فى الطريق: صباح الخير. لكنه لايشعر بالحرية حينما يتلقى النقد وسهام المجتمع. الأمر الذى يحد من سلوكه ونشاطه إن كان طبيبا أوصحفيا مثلا. خوفا من الرأى العام والفكر السائد فى المجتمع. وقد وجد سالمون آش عام 1956م, أن 70% ممن يختلفون مع الرأى العام لا يستطيعون البوح بما يشعرون به خوفا من أن يظهروا بالمظهر المخالف.
جون ستيوارت مل فى كتابه "عن الحرية", وهو من أوائل المطالبين بإتساع نطاق الحرية بحيث تشمل حرية إبداء الرأى مهما كان سخيفا, يقول أن الرأى لا يجب أن يصادر بقرار الأغلبية. مصادرة الرأى الآخر تعنى أن الرأى السائد معصوم من الخطأ. فكل فرد له الحق فى التعبير عن رأيه أو غضبه أو معتقداته بدون الخوف من الرقابة أو الحكومة أو الرأى العام. فلا أحد فينا يعلم الحقيقة. ويكذب من يقول عكس ذلك. بإستثناء رجال الدين. فهم وحدهم الذين يملكون نصاب الحقيقة المطلقة كما يقول الدكتور مراد وهبة. لذلك هم أشد الناس خطرا على الفكر وحرية الرأى.
ليست هناك فكرة أو رأى يجب أن تسود, وتجُب باقى الآراء دون غيرها. وما نعتقد أنه صواب اليوم, قد يأتى فى المستقبل من يسفهه ويثبت خطأه. لم تعد الأرض هى مركز الكون. وقد كان هذا الإعتقاد سائدا آلاف السنين. وهى ليست مسطحة. وقد كان هذا الإعتقاد أيضا سائدا آلاف السنين. والعناصر الكيميائية لم تعد أربعة: الماء والهواء والنار والتراب. كما كان يعتقد أجدادنا. وقد كنا نؤمن بالآلهة رع وأوزوريس وست ونفتيس وحورس وغيرهم. والآن نؤمن بغير ذلك.
بسبب الفيزياء الحديثة, تبين أن كل معلوماتنا خاطئة. فمفهومنا للزمن قد تغير, وأصبح نسبى وليس مطلق. والفراغ أصبح يطوى ويتشكل وينحنى وينفرد كثوب القماش حسب كمية المادة الموجوده به. والطاقة لم تعد سيل مستمر منهمر, وإنما هى تسير فى تدفقات متقطعة مثل نقط المطر (كوانتا). والضوء لم يعد موجات فقط أو كرات فقط (فوتونات). وإنما هو كلاهما فى نفس الوقت. والإلكترون لم يعد كرة تدور حول النواة كما كنا نعتقد منذ منذ عهد قريب, وإنما هو سحابة لا نستطيع تحديد كنهها بالضبط فى وقت ما. فمعرفة سرعة الإلكترون تخفى عنا معرفة مكانه, ومعرفة مكانه تخفى عنا معرفة سرعته. وكأن الحقيقة تأبى أن تظهر لنا كاملة. وهذا ما يسمى بمبدأ عدم اليقين لهيزنبرج. فالحقيقة نسبية وتتغير كل يوم, بل كل ثانية, مثل أسعار الأوراق المالية بالبورصة.
ونحن الآن لازلنا نثق فى حكامنا, ونعتقد بأن للإنسان قرين. ونؤمن بالجان والمارد والعفاريت والشياطين والجنية وأمنا الغولة وأبو رجل مسلوخه والشاطر حسن. ولا زلنا نؤمن بالعين والحسد والفال والرقية وبول الإبل. وقد يأتى زمان تصبح هذه المعتقدات من الخرافات. ومين يقدر يقول للسلطان أنت عريان.
الرئيس الراحل عبد الناصر كان يعتقد بصحة الحل الإشتراكى إلي الدرجة التى جعلته يطلق عليه صفة الحتمية. حتمية الحل الإشتراكى. حاجة كدة زى القدر المكتوب. وكان يمنع أى رأى مخالف, ويضع صاحبه فى السجن. والآن حكومتنا الرشيدة تؤمن بحتمية الحل الرأسمالى. برضه قدرنا. وتبنت رأسمالية بشعة ليست موجودة فى أى بلد أوروبى أو أمريكا فى وقتنا الحاضر. تؤمن بالإحتكار وببيع أرض الوطن والبنوك وأصوله الثابته للأجانب. وتستخدم القبضة الحديدية وقانون الطوارئ لفرض رأيها بالقوة. وتضع المخالفين فى الرأى فى السجون والمعتقلات.
الرأى يجب أن يكون حرا حتى لو كان مخالفا لأفكارنا ومعتقداتنا. وإذا إتفقت البشرية كلها على رأى واحد, فيما عدا شخص واحد. فحق هذا الشخص فى إبداء رأيه يعادل حق الأغلبية فى إبداء رأيها. اليس هذا هو العدل. وليس هناك رأى معصوم من الخطأ. فنحن نحكم على الأشياء ونبدى رأينا فيها وفقا لقدراتنا العقلية وثقافتنا وتاريخنا وشجاعتنا وتربيتنا وظروف العصر الذى نعيش فيه. وهى أمور تتغير من جيل إلى جيل. ويتغر تبعا لذلك حكمنا على الأشياء. فهل آراؤنا وأحكامنا فى شبابنا مثلها فى صبانا أو شيخوختنا.
الحقيقة لها عدة جوانب ووجوه. ومن يراها من جانب واحد كمن لم يرها. وقصة العميان الخمسة توضح ذلك:
كان هناك مجموعة دراويش عميان تسير فى الطريق. فوجدوا أمامهم فيل ضخم الجسم يسد الطريق. حاول العميان معرفة هذا الشئ الذى يمنعهم من مواصلة السير, بإستخدام أسلوب اللمس والتحسيس. فمد أولهم يده فوقعت على خرطوم الفيل. فقال: إحذروا يا قوم. هذا ثعبان كبير. وتحسس الثانى فوقعت يده على رجل الفيل. فقال: لا, نحن فى معبد كبير. وها أنا بجوار أحد أعمدته. أما الثالث فقد إصطدم ببطن الفيل وقال: كلا, بل هو جدار عظيم. ومسك الرابع بذيل الفيل ليعلن على الملأ, أنه ما هو إلا حبل مجدول. وعثر الخامس على ناب الفيل فقال: لا هذا ولا ذاك. إنه رمح عظيم.
يقول أفلاطون منذ أكثر من 2300 سنة, أننا فى كهف مظلم نرى الحقيقة من خلال الظلال التى تتركها عل الحائط أمامنا. أفلاطون يصف بوضوح عدم قدرتنا على رؤية ما هو أبعد من كهف عاداتنا وتقاليدنا, وقدرة حواسنا وما تعودنا عليه. نرى ونفهم فقط القصص والأسطير التى إخترعناها لنفسير بها الحقيقة. ونمررها من جيل إلى جيل على أنها هى الحقيقة نفسها.
آراؤنا ومعتقداتنا وأفكارنا تتكون فى ظل التكيف والقيود والبرمجة التى تتعرض لها مجتمعاتنا. وفى الغالب تكون غير سليمة وغير سوية. تأثير هذه البرمجة على عقل الفرد تكون أكثر خطرا من التهديد بالسجن أو التعذيب.
من قبل لم يكن أحد يناقش هذه المواضيع. ولكن مع إنتشار الدعاية الإنتخابية والدعاية للترويج للسلع والمنتجات الإستهلاكية, بدأت التساؤلات عن مدى تأثير الدعاية, ومشاهدة العنف والجنس فى المحطات التليفزيونية على إخيارات الناس وسلوكها.
أثناء عرض فيلم لورانس والعرب. لاحظت دور السينما كثرة مبيعات المياة الغازية خلال العرض. وتبين أن مناظر الصحراء القاحلة كانت توحى إلى المشاهد حاجته إلى الماء. فيذهب لكى يبحث عنه بشراء المشروبات المثلجة. وقد كانت شركات الدعاية هنا فى الولايات المتحدة تقوم بوضع صور لمنتجاتها, صورة زجاجة كوكاكولا مثلا, بين مشاهد الفيلم المعروض. وكانت عين المشاهد تلتقطها وترسلها إلى عقله الباطن. ولكنه لا يراها بعقله الواعى, لأنها تأتى وتختفى بسرعة كبيرة تقدر بجزء من ثلاثين جزء من الثانية. وبتكرار عرض زجاجة الكوكاكولا بهذه الطريقة, لا تؤثر فى إستمرارية الفيلم. وإنما تجعل المشاهد لديه رغبة شديدة فى شرب زجاجة كوكاكولا. وعندما تنبهت الحكومة الأمريكية إلى هذا الأمر, أصدرت قانونا يمنع إستخدام مثل هذه الأساليب فى الدعاية لأنها تؤثر على إرادة الناس دون علمهم.
إلا أن أسلوب شركات الدعاية لم يتوقف عند هذا الحد. فهم يقومون الآن بربط المنتج بالرغبة الكامنة فى الموت أو الرغبة الجنسية الكامنة فى العقل الباطن للمشاهد. فتجد مثلا صور النساء فى أوضاع جنسية مثيرة, أو كلمة جنس مكتوبة بطريقة غير مباشرة أو إيحاءات مثل وجود أشياء مستديرة وأخرى مستطيلة تمثل أعضاء أنوثة وذكورة. أو زجاجة مفتوحة بجوارها بريمة أو شفاه مفتوحة بجوارها صباع روج. أو قطار يدخل نفقا مثلا. هذه أشياء لا تلاحظها سوى العين المدربة. ولكن أعيننا تلتقطها على الدوام وترسلها إلى العقل الباطن لكى يحل رموزها ويربطها بالمنتج المصاحب لها وبرغباتنا الكامنة. وأغانى الفيديو كليب كلها عرى وإيحاءات جنسية بهذا الشكل. وبالطبع هذا موضوع كبير يحتاج إلى مقال مستقل.
سيطرة الحكومة ورجال الدين والآن شركات الدعاية, على عقول الناس لا تبقى لهم من الحريات شئ يذكر. ولا يكفى لكى نكون أحرارا لكى نكون فى مأمن من بطش الحكومة. وكيف نكون أحرارا ونحن لا ندرى أو نعى شيئا من تجاربنا وتجارب طفولتنا السابقة.
لو نشأ أولادنا فى دول أخرى وفى زمن آخر وبين عائلات أخرى تدين بأديان أخرى. لكانت قيمهم ومعتقداتهم ودينهم يختلف عن ما هم عليه الآن. والأدهى من ذلك أنهم سوف تكون درجة إيمانهم بالدين الجديد بنفس الشدة التى يؤمنون بها بدينهم الحالى. ولو عرضنا عليهم ديننا وقيمنا التى نؤمن بها الآن, فسوف بالتأكيد يرفضونها.
هل من الممكن أن نكون أحرارا مع التربية والبرمجة فى الصغر. ويقول سكنر أننا لن نتحرر تحررا كاملا من البرمجة فى الصغر. الحرية الكاملة بالنسبة لسكنر ما هى إلا وهم. والسؤال ليس: هل نحن أحرار؟ وإنما كيف نكون أحرارا؟ وكيف نعد مجتمعاتنا للإستفادة من ذلك؟
فى عام 1776م كتب توماس جيفيرسون فى إعلان الإستقلال الأمريكى أن "كل الناس خلقت متساوية". وبالرغم من ذلك كان لديه جيش من العبيد تعمل بمزرعته. ولم يتم تحريرهم إلا بعد وفاته. وكذلك الحال كان بالنسبة لجورج واشنجطون ومعظم أبطال الإستقلال والدستور الأمريكى.
لعشرات القرون, كان مفهوم الحق الإلهى للملك يتسبب فى الإستخدام السيئ للسلطة. القوى يحكم الضعيف. الجيش المدجج بالسلاح يحكم الشعب الأعزل منذ عام 1952م حتى الآن. وأصبح الآن حكم الجيش حقا مكتسبا سوف يستمر حتى يقضى الله أمرا كان مفعولا. وليست هناك أية بادرة فى الأفق تشير من قريب أو بعيد إلى تحرر الشعب من قبضة الجيش.
الموز بالنسبة للقرود يمثل الحق الإلهى الذى يملكه الأقوى فى عالم القرود والمجتمعات المتخلفة التى تشبه مجتمعاتنا. وكيف نقوم بتوزيع الموز على باقى القرود بالعدل. ومن له الحق فى الحكم وتوزيع الثروة. وأى قوة تلزمه. ومن يراقب هذه القوة.
كتب اللورد آكتون فى نهاية القرن التاسع عشر: "القوة مفسدة, والقوة المطلقة فساد مطلق". ولكى تتجنب ذلك, قامت الدول المتقدمة بفصل السلطات الثلاثة. السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية والسلطة القضائية. السلطات الثلاث تكون ما يعرف بالحكومة. كل منها يراقب الآخر إلى حد ما. هذه المراقبة نجحت فى إجبار الرئيس الأمريكى السابق نيكسون على الإستقالة. عندما تعدى سلطاته وحاول التجسس على الحزب الديموقاطى المعارض. لكن بلادنا لا تعرف شيئا إسمه فصل السلطات. فالسلطة التنفيذية عندنا هى الحزب الوطنى وهى السلطة التشريعية. السلطة القضائية تتبع وزير العدل وهو يمثل السلطة التنفيذية. فأى فصل للسلطات. هذا ما يعرف بالديكتاتورية المقننة. وكما كان يقول المرحوم الرئيس السادات: "والله أفرمهم, وكله بالقانون". وما هو موقع قانون الطوارئ من الإعراب. هل لمحاربة الإرهاب, والله الإرهاب أرحم من هذه الأوضاع التى تباع فيها أوطاننا, ويمثلنا بالمجالس النيابية تجار مخدرات وقتلة محترفين. وهذا ما لا يقبله عرف ولا دين.
من له الحق فى وضع القوانين؟ وإذا كان حكم الأغلبية مطلق, فمن يمنع الأغلبية من تمرير قوانين تضر بمصالح الأقليات. ومن يمنع الأغلبية من تكوين دكتاتورية الرأى العام؟ فديموقراطية أثينا وحكم الأغلبية هى التى أرسلت سقراط إلى الموت.
لقد كان رائعا من واضعى الدستور الأمريكى أن تعترف بدكتاتورية الأغلبية, وتحمى الشعب الأمريكى من نفسه وتجنبه عثرات السلطة المطلقة. لذلك كانت وثيقة الحق المدنى الأمريكية, تؤكد حرية التعبير وحرية ممارسة الأديان. ونحن المسلمون هنا فى الولايات المتحدة أول من يستفيد من هذا الحق. هذه صمامات أمان موضوعة فى الدستور الأمريكى بحكمة وعناية وبعد نظر منذ أكثر من 200 سنة. وعقبالنا يارب. فالمتهم برئ حتى تثبت إدانته. وحرية التعبير مكفوله وحق من حقوق المواطن الأمريكى وليست منه أو إحسان. فهل نحن أحرار فى بلادنا؟ سأترك الإجابه على هذا السؤال لك عزيزى القارئ.
zakariael@att.net