مطبوعة الكترونية عربية مهتمة بموضوع المواطنة وتداول السلطة القانونى وحرية التعبير  فى العالم العربى  .. تصدر من الولايات المتحدة الأمريكية عن المركز الأمريكى للنشر الالكترونى .. والأراء الواردة تعبر عن وجهة نظر أصحابها.
............................................................................................................................................................

 
 

 طه حسين والشعر الجاهلى
...............................................................

 طه حسين

بقلم: محمد زكريا توفيق
............................

ولد طه حسين (1889 – 1973م) فى قرية صغيرة فى صعيد مصر. وبالرغم من فقده لبصره فى سن مبكرة, إلا أن هذا لم يمنعه من مواصلة تعليمه, وحصوله على أعلا الدرجات العلمية. فبعد مرحلة الكتّاب, إلتحق بالأزهر فى سن الثالثة عشر ليقضى به عشر سنوات. ألم خلالها بقواعد وآداب اللغة العربية إلماما كاملا. ودرس فيها أصول الفقه والتاريخ الإسلامى دراسة مستوفية. وكان على إتصال أثناء دراسته بفكر الإمام محمد عبده. إذ كان يحضر بعض محاضراته عن الإسلام والفلسفة الإسلامية. وكان يطالع مقالات للكتاب الإسلاميين المعتدلين والصحفيين اللبنانيين وكتاب جريدة الجريدة وخصوصا أحمد لطفى السيد.

ثم إنتقل للدراسة بالجامعة المصرية وكانت حديثة العهد. يقوم بالتدريس بها أساتذة أوروبيين مثل ليتمان وبالينو وسانتلانا. مما أضاف بعدا جديدا لثقافته الدينية والعربية. وحصل من الجامعة المصرية على أجازة الدكتوراة فى أدب أبى العلاء المعرى.

فى عام 1915م, ذهب طه حسين إلى فرنسا ليقضى بها أربعة أعوام. إطلع خلالها على أدب أناضول فرانس وكومتيه ورينان. وكان يواظب على حضور محاضرات درخيم. وخلال فترة البعثة هذه, تزوج من فتاة فرنسية كانت هى نور عينيه. وفى نهاية البعثة حصل على أجازة الدكتوراه من جامعة السربون فى أعمال إبن خلدون. ومنذ عودته إلى مصر عام 1919م, ولمدة ثلاثين عاما متواصلة, كان الدكتور طه حسين فى مركز الحركة الأدبية والأكادمية فى مصر.

عمل أستاذا وعميدا لكلية الآداب جامعة فؤاد الأول (القاهرة حاليا), وجامعة الإسكندرية, ووزيرا للمعارف (1950 – 1952م). وكانت خيرة إنتاجه الفكرى والأدبى فى فترة العشرينيات والثلاثينيات. متمثلة فى العديد من المقالات الصحفية والروايات الأدبية ودراسات فى التاريخ الإسلامى. وكتاب عن حياته (الأيام) ينتقد فيه التعليم. ومجموعة دراسات إجتماعية وسياسية ترجمت معظمها إلى عدة لغات أجنبية. إستحق بسببها لقب عميد الأدب العربى بجدارة. إلا أنه قد مر خلال فترة نشاطه الفكرى هذا بأزمتين حادتين. تركا فى نفسه أثرا بالغا. الأولى عام 1926م, عندما نشر كتابه "فى الشعر الجاهلى", والثانية عام 1938م عندما نشر كتابه "مستقبل الثقافة فى مصر".

جاء فى كتاب "فى الشعر الجاهلى" لطه حسين أن الأدب العربى فى الخمسين سنة الأخيرة قد إنحدر وأصابه المسخ والتشويه, بسبب مجموعة إحتكرت اللغة العربية وآدابها بحكم القانون. وهذا أمر ليس خليق بأمة كالأمة المصرية, كانت منذ عرفها التاريخ ملجأ الأدب وموئل الحضارة. عصمت الأدب اليونانى من الضياع. وحمت الأدب العربى من سطوة العجمة وبأس الترك والتتر.

الأدب العربى, يجب أن يُعتمد فى درسه على إتقان اللغات السامية وآدابها. وعلى إتقان اللغتين اليونانية واللاتينية وآدابهما. بالإضافة إلى تفهم التوراة والإنجيل والقرآن. إذ كيف السبيل إلى درس الأدب العربى, إذا لم نقم بدراسة هذه الموضوعات كلها. فهل نظن أن من شيوخ الأدب فى مصر, من قرأ إلياذة هوميروس وينادة فرجيل؟ لقد كان الجاحظ أديبا لأنه كان مثقفا قبل أن يكون لغويا أو بيانيا أو كاتبا. وكان يتقن فلسفة اليونان وعلومهم وسياسة الفرس وحكمة الهنود. وكان على علم بالتاريخ وتقويم البلدان. ولو عاش الجاحظ فى هذا العصر, لحاول إتقان الفلسفة الألمانية والفرنسية. وهذا ما يفعله بالضبط أستاذ الأدب الإنجليزى أو الفرنسى اليوم. يكفى أن تنظر فى أدب أبى العلاء المعرى لترى أننا فى حاجة إلى علوم الدين الإسلامى كلها. وإلى النصرانية واليهودية ومذاهب الهند فى الديانات. وهذا لكى نفهم شعر أبى العلاء. فالأدب لا يمكن أن يثمر إلا إذا إعتمد على علوم تعينه, وعلى ثقافة تغنيه.

اللغة العربية لغة مقدسة, لأنها لغة القرآن الكريم والدين. ولأنها مقدسة, لا تخضع للبحث العلمى الصحيح الذى قد يستلزم النقد والتكذيب والإنكار والشك على أقل تقدير. أما طه حسين, فيريد أن يكون تدريس اللغة العربية وآدابها, شأن العلوم التى ظفرت بحريتها من قبل. فدراسة الأدب العربى اليوم, تقتصر على مدح أهل السنة, وذم المعتزلة والشيعة والخوارج والكفار. وليس فى ذلك شأن ولا منفعة, ولا غاية علمية بالنسبة لأدب اللغة العربية. فالأدب العربى
شئ, والتبشير بالإسلام شئ آخر. فمثلا إذا أمرت السلطة السياسية الكتاب والمؤرخين أن تكون كتاباتهم ودراساتهم مقصورة على تأييد السلطة السياسية, أليس الكتاب جميعا, إن كانوا خليقين بهذا الإسم, يؤثرون أن يبيعوا الفول والكراث, على أن يكونوا أدوات فى أيدى الساسة, يفسدون بهم العلم والأخلاق.

لقد أغلق أنصار القديم على أنفسهم فى الأدب باب الإجتهاد. كما أغلقه الفقهاء فى الفقه, والمتكلمون فى الكلام. فما زال العرب ينقسمون إلى بائدة وباقية, وإلى عاربة ومستعربة. ومازال أولائك من جرهم, وهؤلاء من ولد إسماعيل. ومازال إمرء القيس صاحب "قفا نبك...", وطرفة صاحب "لخولة أطلال...", وعمر بن كلثوم "ألا هبى...".

لكننى, والكلام هنا لطه حسين, شككت فى قيمة الأدب الجاهلى, والححت فى الشك. وإنتهيت إلى أن الكثرة المطلقة مما نسميه أدبا جاهليا, ليس من الجاهلية فى شئ. إنما هى منحولة بعد ظهور الإسلام. فهى إسلامية تمثل حياة المسلمين وميولهم وأهوائهم, أكثر مما تمثل حياة الجاهليين. وما بقى من الأدب الجاهلى الصحيح قليل جدا, لا يمثل شيئا, ولا يدل على شئ, ولا ينبغى الإعتماد عليه فى إستخراج الصورة الأدبية الصحيحة لهذا العصر الجاهلى. فالشعر الذى ينسب إلى إمرء القيس أو إلى الأعشى أو إلى غيرهما من الشعراء الجاهليين, لا يمكن من الوجهة اللغوية والفنية أن يكون لهؤلاء الشعراء. ولا أن يكون قد قبل وأذيع قبل أن يظهر القرآن. لذلك لا ينبغى أن يستشهد بهذا الشعر على تفسير القرآن وتأويل الحديث. وإنما ينبغى أن يستشهد بالقرآن والحديث على تفسير هذا الشعر وتأويله. فحياة العرب الجاهليين, ظاهرة فى شعر الفرزدق وجرير وذى الرمة والأخطل والراعى أكثر من ظهورها فى هذا الشعر, الذى ينسب إلى طرفة وعنترة وبشر بن أبى خازم.

أما سبل نحل الشعر الجاهلى, كما سردها طه حسين, فهى سياسية ودينية. فبعد هجرة الرسول إلى المدينة, نشأت عداوة بين مكة والمدينة. إصطبغت بالدم يوم إنتصر الأنصار فى بدر, ويوم إنتصرت قريش فى أحد. فوقف شعراء الأنصار وشعراء قريش, يتهاجون ويتجادلون ويتناضلون. يدافع كل فريق عن أحسابه وأنسابه, ويشيد بذكرى قومه. وبعد فتح مكة بقليل, وبعد أن توحدت قريش مع الأنصار, توفى الرسول ولم يضع قاعدة للخلافة, ولا دستورا للحكم لهذه الأمة التى جمعها بعد فرقة. فعادت هذه الضغائن إلى الظهور. وإستيقظت الفتنة بعد نومها. وزال الرماد الذى كان يخفى الأحقاد. فإختلف المهاجرون من قريش مع الأنصار فى الخلافة. أين تكون ولمن تكون. وكاد الأمر يفسد بين الفريقين. لولا حزم نفر من قريش وقوة قريش المادية. فأذعن الأنصار. وقبلوا أن تخرج الإمارة إلى قريش. إلا سعد بن عبادة الأنصارى, الذى أبى أن يبايع أبا بكر, وأن يبايع عمر. وظل يمثل المعارضة. قوى الشكيمة, ماضى العزيمة. حتى قُتل غيلة فى بعض أسفاره. وزعم الرواة أن قتله الجن. ولما قُتل عمر وإنتهت الخلافة إلى عثمان, أصبحت الخلافة فى بنى أمية. وإشتدت عصبية الأمويين. وإشتدت العصبيات الأخرى بين العرب. وبعد مقتل عثمان وإفتراق المسلمين, إنتهى الأمركله لبنى أمية, بعد تلك الفتن والحروب. فالعصبية وما يتصل بها من المنافع السياسية, قد كانت من أهم الأسباب التى حملت العرب على نحل الشعر للجاهليين. فإبن سلام يعترف بأن أهل العلم قادرون على أن يميزوا الشعر الذى ينحله الرواة فى سهولة. لكنهم يجدون مشقة وعسرا فى تمييز الشعر الذى ينحله العرب أنفسهم.

لم تكن العواطف والمنافع الدينية أقل من العواطف والمنافع السياسية أثرا فى تكلف الشعر ونحله. وإضافته إلى الجاهليين. فكان هذا النحل فى بعض أطواره, يقصد به إثبات صحة وصدق النبى. وكل ما يتصل ببعثته من أخبار وقصص. تروى لتقنع العامة بأن علماء العرب وكهانهم وأخبار اليهود ورهبان النصارى, كانوا ينتظرون بعثة نبى عربى, يخرج من قريش أو مكة.

كما كان هناك لونا آخر من الشعر المنحول. نسب إلى الجاهليين من عرب الجن. فالأمة العربية لم تكن أمة من الناس فقط. وإنما كانت هناك أمة أخرى من الجن. تحيا حياة الأمة الإنسية. وكانت تقول الشعر. وأنطقوا الجن بضروب من الشعر وفنون من السجع. ووضعوا على النبى نفسه أحاديث, لم يكن بد منها, لتأويل آيات القرآن على النحو الذى يريدونه ويقصدون إليه. وفى طبقات الشعراء لإبن سلام, نجده يثبت أن الشعر الذى يلجأ إليه القصاص لتفسير ما جاء بالقرآن الكريم من أخبار الأمم القديمة البائدة لعاد وثمود ومن إليهم, هو شعر منحول وضعه إبن إسحق الذى لم يكتف بذلك. وإنما نسب الشعر إلى آدم نفسه, حين زعم بأنه رثى هابيل حين قتله أخوه قابيل.

وسبب آخر لنحل الشعر, ظهر عندما إتصلت الحياة العلمية عند العرب بالأمم المغلوبة والموالى. فأرادوا أن يدرسوا القرآن درسا لغويا, ويثبتوا صحة ألفاظه العربية ومعانيه. فحرصوا على أن يستشهدوا على كل كلمة من كلمات القرآن بشئ من شعر العرب. يثبت أن هذه الكلمة القرآنية عربية لا سبيل إلى الشك فى عربيتها.

وكانت هناك أيضا خصومات بين العلماء. كان لها تأثير غير قليل فى مكانة العالم وشهرته ورأى الناس فيه. فإستشهدوا بشعر الجاهليين على كل شئ. فالمعتزلة مثلا, يثبتون مذاهبهم بشعر الجاهليين. إلا أن هذا الشعر الجاهلى المنحول, إستغله بعض المستشرقين للنيل من الإسلام. فيزعم "كليمان هوار" فى فصل طويل نشر فى المجلة الأسيوية عام 1904م, أنه قد إستكشف مصدرا جديدا من مصادر القرآن الكريم. وهو شعر أمية بن أبى الصلت. وأن الرسول قد إستعان به فى نظم القرآن الكريم.

أما طه حسين, فهو يرتاب فى شعر أمية بن أبى الصلت. ويقول أنه حتى إذا جاء فى شعر أمية أخبارا وردت فى القرآن. كأخبار ثمود وصالح والناقة والصيحة. فمن الذى زعم أن ما جاء بالقرآن الكريم من أخبار, كان مجهولا قبل أن يجئ به القرآن؟ ومن الذى يستطيع أن ينكر, أن كثيرا من القصص القرآنى كان معروفا بعضه عند اليهود, وبعضه عند النصارى, وبعضه عند العرب أنفسهم. أما شعر أمية بن أبى الصلت, إنما نحل نحلا. نحله المسلمون ليثبتوا أن للإسلام قدمه وسابقه فى البلاد العربية. ومن هنا لا نستطيع أن نقبل ما يضاف إلى هؤلاء الشعراء والمتحنفين. إلا مع شئ من الإحتياط والشك غير قليل. فالقرآن الكريم وحده هو النص العربى القديم, الذى يستطيع المؤرخ أن يطمئن إلى صحته. ويعتبره مشخصا للعصر الذى تلى فيه.

أثار كتاب طه حسين "فى الشعر الجاهلى" معارضة شديدة. لأنه يقدم أسلوبا نقديا جديدا للغة العربية وآدابها. يخالف الأسلوب النقدى القديم المتوارث. هذه المعارضة, قادها رجال الأزهر. وإتهم طه حسين فى إيمانه. وسحب الكتاب من الأسواق لتعديل بعض أجزائه. وقامت وزارة إسماعيل صدقى باشا عام 1932م بفصله من الجامعة كرئيس لكلية الآداب. فاحتج على ذلك رئيس الجامعة أحمد لطفى السيد, وقدم إستقالته. ولم يعد طه حسين إلى منصبه, إلا عندما تقلد الوفد الحكم عام 1936م.

وهكذا يتكرر فصل جديد مأساوى فى ملحمة تاريخ البشرية. حينما يصطدم الجديد بالقديم. والعلم بالمتوارث. فكل ما نعرف هو الصحيح واليقين. ومالا نعرف هو الخطأ البين. وكلما قلّت معارفنا, كلما زادت ثقتنا فيما نعلمه. وزادت ضراوتنا فى الحفاظ على هذا القليل. فالعقل جريمة وإستخدام الفكر خطيئة. إذا حاولا أن يصححا أفكارنا ومفاهيمنا الخاطئة. هذا بالرغم من تعاليم الإسلام الواضحة, التى تأمرنا بوجوب إستخدام العقل والفكر فى كل الأمور. وكما يقول العقاد: "وجوب إستخدام العقل فى الإسلام فريضة واجبة".

zakariael@att.net

06/11/2014

 

.....................................................................................

 


 

 
 



مطبوعة تصدر
 عن المركز الأمريكى
 للنشر الالكترونى

 رئيس التحرير : غريب المنسى

مدير التحرير : مسعد غنيم

 

الأعمدة الثابته

 

 
      صفحة الحوادث    
  من الشرق والغرب 
مختارات المراقب العام

 

موضوعات مهمة  جدا


اعرف بلدك
الصراع الطائفى فى مصر
  نصوص معاهدة السلام  

 

منوعات


رؤساء مصر
من نحن
حقوق النشر
 هيئة التحرير
خريطة الموقع


الصفحة الرئيسية