مطبوعة الكترونية عربية مهتمة بموضوع المواطنة وتداول السلطة القانونى وحرية التعبير  فى العالم العربى  .. تصدر من الولايات المتحدة الأمريكية عن المركز الأمريكى للنشر الالكترونى .. والأراء الواردة تعبر عن وجهة نظر أصحابها.
............................................................................................................................................................

 
 

 تأملات فى الدين والتدين
...............................................................

 

محمد زكريا توفيق

 

بقلم : محمد زكريا توفيق
...............................

قوة العقيدة الدينية الجبارة والميل للتدين, تقبع دفينة فى العقل الباطن للإنسان, ولا يستطيع مغالبتها أو الهرب منها أو التحكم فيها بسهولة. الدين والتدين هما الشغل الشاغل لكل جماعة إنسانية. وعصب الحياة والسلوك الإجتماعي فى بلادنا, وبقية بلاد العالم. بدأ من إنسان الغابة, وحتى أرقى المجتمعات الحديثة.

لن يختفى الدين من حياتنا فى الأمد القريب. وسوف يستمر معنا لمدة طويلة تأتى. وسوف يظل يمثل قوة جبارة للمجتمعات على إختلاف أشكالها وألوانها. فقر العلوم الروحى ورغبة الإنسان فى الخلود, والخوف من المجهول ومن المرض والموت والظلم, يجعل حاجة الإنسان للدين كبيرة وأكيدة. فالعلوم بمفردها لا تصلح أن تكون بديلة ولا تستطيع أن تغنى عنه. العلوم لا تعرف شيئا عن الحق والعدل. ولا تستطيع أن تفسر لماذا نحن هنا, والحكمة من وجود هذا الكون.

طقوس الإنسان الدينية غارقة فى القدم. نراها على جدران معابد قدماء المصريين. ونجدها فى قبور إنسان نندرثال فى العراق منذ 60 ألف عام. حيث كان يقوم بدفن موتاه فى وضع القرفصاء, ورؤسهم متجه إلى مشرق الشمس, وأجسامهم مغطاة بسبع أنواع من الزهور.

منذ ذلك الوقت وحتى الآن, بلغ عدد الأديان المختلفة التى ظهرت بين الجنس البشرى ما يزيد على 100 ألف دين. فما رأيك إذا أصر كل منهم على أنه هو الصواب والدين الحق الوحيد, والباقى فالصو وأى كلام. وإذا إفترضنا أن أحدهم فعلا هو الصح والحق المبين, فماذا يكون وضع باقى الأديان فى هذه الحالة؟ الموضوع جد وخطير ولا يجب أن يؤخذ ببساطة.

المتشككون يعتقدون أن الدين ما هو إلا محض خيال. الثقافة والعلم كفيلان بالحد من سيطرته وتحجيم مؤسساته ومنظماته. أو القضاء عليه كنوع من الدجل والوهم. ولكن هذا أبعد ما يكون عن الواقع. فالعلوم اليوم, كما هو الشاهد, لم تؤد إلى هدم الدين. بل بالعكس, تستخدم لخدمته وإنتشاره. الميكروفونات تعتلى كل المآذن. وخطبة الجمعة تذاع بالراديو والفديو إلى جميع أنحاء العالم. وكل القناوات الفضائية لا تخلوا من الدعوة والدعاة. والإنترنت تزدحم بالموضوعات الدينية, على كل لون وبكل اللغات. وجامعة الأزهر بدلا من أن تكون مؤسسة علمية تطوع وتحدث الخطاب الدينى, كما أراد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر, أصبحت الآن مؤسسة دينية تطوع العلم لخدمة الدين. ونجد أكثر الدول فى التقدم العلمى والتكنولوجيا, الولايات المتحدة مثلا, هى أكثر الدول تدينا. وشعبها هو أكثر الشعوب مواظبة على حضور قداس الأحد فى الكنائس.

أيام مجد الإتحاد السوفيتى ومحاربته الرسمية للأديان, كان عدد الملتزمين من المسيحيين الأرثوذكس والمسلمين واليهود يتزايد بإستمرار. وكان عدد المؤمنين بدينهم يزيد على ثلاثة أضعاف عدد أعضاء الحزب الشيوعى. ولم تفلح محاولات علماء الإجتماع لإيجاد حلول علمية لظاهرة التدين هذه. فقد إقترح أحدهم عمل دين بديل يكون فيه المجتمع مكان الرب, والعلماء مكان الأنبياء, والنظريات العلمية مكان الآيات والأحاديث. بحيث يربى النشء منذ الطفولة على هذا الدين الجديد, فيبعدهم عند الكبر عن الأديان الأخرى. وآخر يقترح المزج أو التوفيق بين العلم والدين. ولكنها إقتراحات حظها من النجاح قليل, لأن الناس تريد التدين, وتفضل الإيمان والإعتقاد على المعرفة والفهم.

إسحق نيوتن عالم الرياضيات والفيزياء المشهور, كان إيمانه عميقا بالمسيحية. وكان يقول أن الله قد أعطى الإنسان كتابين. أحدهما الكتاب المقدس. والآخر كتاب حى, هو الطبيعة وقوانينها. وكانت له جهودا كبيرة فى الكتابة الدينية وشرح الإنجيل والعهد القديم.

أما الآن, فالإيمان عند العلماء قد إنحصر فى جزئيات الذرة الصغير وأوتارها وتردداتها المتناهية فى الصغر. وما وراء المجرات البعيدة, وداخل الثقوب السوداء, وما قبل الإنفجار العظيم. أى أن الدين عند العلماء يبدأ عندما ينتهى العلم ويعجز الفهم. ونجد الفيلسوف وايتهد يتبنى فكرة الخلق المستمر. خلق فى الماضى وخلق فى الحاضر والمستقبل. فالخالق عند وايتهد, لا يأتى بالمعجزات التى تخرق المألوف, كالصعود إلى السماء والسير فوق سطح الماء, ولكنه موجود فى كل قوانين الطبيعية. فهو الذى يسير الجزئيات داخل الذرة, والذرات داخل الجينات. وهو الذى يخلق العقل من المادة ويوجه الإلكترون ويحدد مساراته حول النواة.

ليس هذا فقط, وإنما الدين نفسه أصبح يفحص تحت المجهر. وأصبح الدين والتدين موضوعا علم النفس وعلم الإجتماع وحتى علم البيولوجيا وعلاقته بعوامل الوراثة. فهل يعنى هذا أن الدين والتدين تقابله صعوبات فى عصر العلم والتكنولوجيا؟

منذ مدة طويلة, حضر إلى منزلى فى مدينة نيويورك مندوب شركة تأمين لعمل بوليصة لأحد أطفالى. وعندما علم مندوب الشركة أننى مصرى وكان هو باكستانى الجنسية, أخذ فى الحديث عن الهجرة للولايات المتحدة والمشاكل التى تعترض المهاجرين. ثم تطرق الموضوع إلى الدين والتدين. ثم تحدث عن ديانته وهى الأحمدية. وعندما علم بفضولى لمعرفة طبيعة هذه الديانة, أحضر لى فيما بعد كتابهم المقدس وهو يشبه القرآن الكريم من حيث الشكل. ولكنه يختلف عنه فى أنه مكتوب بلغتين. اللغة العربية وأخرى أردية بحروف عربية. وبه صورة لنبيهم ميرزا أحمد. وعلمت من الكتاب وحديث مندوب الشركة الباكستانى أنهم يعتقدون أن نبيهم هو المسيح المنتظر. وأن جبريل قد نزل عليه بهذه الآيات. وأن الوحى لم ينقطع ونزوله مستمر. وآيات الكتاب غامضة تحتاج إلى شرح. وبعضها يدعوا إلى فعل الخير والبعد عن الشر, كدأب كل الكتب الدينية. وبه قصائد طويلة من الشعر شبيهة بشعر التصوف وحكم وأمثال. وآية تقول ما معناه أنكم لو كنتم تشكون فى الأمر فأتوا بآية مثله. ثم علمت أن هذه الديانة محظورة فى باكستان ومعظم دول العالم الإسلامى. المتدينون بها لا يزيد عددهم عن 2 مليون نسمة على ما أذكر. وهم يؤمنون بجزء من القرآن ولكن لا يؤمنون بالملائكة والشياطين ومعظم الأحاديث النبوية. والغريب فى الأمر أن أحد المؤمنين بهذه الديانة هو الدكتور عبد السلام, العالم الباكستانى الكبير والحاصل على جائزة نوبيل فى الفيزياء عام 1979م. فكيف يؤمن عقل مثل عقل الدكتور عبد السلام, بديانة لا يعترف بها العالم الإسلامى ويعتبرها من التراهات والممنوعات؟

منذ مدة أيضا, أعطانى أحد الأصدقاء شريط فيديوعن مناظرة فى أحد الجامعات الأمريكية بين ثلاثة من العلماء. أحدهم يمثل الدين الإسلامى والثانى يمثل الدين المسيحى والثالث يمثل الدين اليهودى. وكان مسموحا فى المناظرة بحرية النقد بدون حدود. إنتظرت حتى خلد أولادى وزوجتى للنوم, ثم وضعت الشريط فى جهاز الفيدو وعملت كوبا من الشاى وأخذت أتابع الماظرة بكل إهتمام وفضول. وقلت فى نفسى لا بد أن تكون المناظرة تليق بالمراكز الأكاديمية للمشتركين فيها. وتوقعت أن يكون الحوار أفضل من حوار رجال الدين, الذين يعتمدون على إيمانهم ومعتقداتهم فقط فى الحوار. لكن للأسف خاب أملى ووجدت الآتى:

عند مهاجمة الأديان الأخرى, يكون الأسلوب المتبع أسلوبا علميا ومنطقيا بكل المعايير. علم ورياضة وإحصاء وما شابه. وعندما يدافع المحاور عن دينه هو, يكون الدفاع بدون أى منطق أو علم. دفاع إيمانى بحت وكلام بطيخ. هذا بالنسبة لكل المشتركين فى المناظرة بدون إستثناء. تلفيق وتزوير وإستشهاد بآيات وأقوال وقصص وحكايات لا يمكن إثباتها أو تكذيبها. وتساءلت هل يمكن أن يكون للإنسان عقلين. عقل منطقى علمى, وعقل إيمانى غيبى؟ أو هل هناك بؤرة إيمانية داخل عقل الإنسان ترسل فى الوقت المناسب إشارات لوقف التفكير المنطقى عندما يتعرض الأمر لمسألة إيمانية؟

إستيقظت من نومى يوما علي صوت شيخين يقدمان برنامجا تلفزيونيا من أحد برامج القناوات الفضائية الدينية الصباحية. وأذكر من البرنامج القصة التالية بالتقريب لأننى لا أذكر التفاصيل الآن:

ذهبت إمرأة عجوز تستجدى إحسانا من أحد البيوت. وعندما رفض صاحب الدار إعطاءها شيئا تسد به رمقها, غضبت وقالت: " والله ما دمت لم تلبى طلبى, لأفرق بينك وبين زوجك. ما رأيك فى أنك وزوجك أخوين فى الرضاعة. وأنا أرضعتكما بنفسى." ثم إنصرفت. ظن الرجل أن المرأة تكذب وتقول ذلك بسبب غضبها. لكنه ساوره الشك والقلق. ومن ثم ذهب إلى الرسول يطلب المشورة. وبعد عرض ما حدث بأمانة, جاء رد الرسول بأنه مادامت المرأة قد قالت فقد فعلت. أى أن الرجل وزوجته أخوين فى الرضاعة. ولم يجد الرجل بدا من تطليق زوجته.

لا أدرى مدى صحة هذه القصة. ومغزاها وأهميتها فى وقتنا الراهن. ولماذا تذيعها القناة الفضائية. وهل كان الرسول يعرف المرأة العجوز معرفة جيدة ويعلم أنها لا تكذب؟ وهل هى حالة خاصة لا يجب أن تعمم أم لا؟ العجيب والملفت للنظر, أن الشيخين رواة القصة فى البرنامج, وهذا ما يهمنا هنا, كانا سعيدين بهذا الحكم سعادة غريبة. كأنهما قد إكتشفا سرا من أسرار الكون أو نظرية علمية جديدة. ولم يظهر عليهما أى شك فى صحة القصة, ولم يناقشا تداعياتها على كيان الأسرة والمجتمع الإسلامى. لكن هذه القصة ظلت تورقنى مدة طويلة.

كيف يقبل أستاذ جامعى له أبحاثه ورسائله العلمية أن يجلس القرفصاء أما شاب لا يزيد عمره عن 20 ربيعا, ويقبل منه فتاوى مثل الموسيقى حرام والصور حرام ونقل الأعضاء لإنقاذ المرضى حرام, وعدم لبس النقاب والنظر بعين واحد حرام. لا بنص آية أو حديث صحيح, ولكن بتفسير بشرى من مجتهدين مثلى ومثلك؟ وماذ يدور داخل عقولنا عندما ندخل المساجد؟

بعض الناس تشذ عن هذه القاعدة. منهم الفلاسفة والمفكرين. فالتفكير العقلانى فى أمور الدين بدون تحيز يحتاج إلى إرادة حديدية لا تتوافر عند كل الناس. ولكن ماذا وجد العلماء والفلاسفة؟ هل إتفقوا على شئ؟ أبدا. بعضهم يؤمن إيمانا عميقا. وبعضهم لايؤمن ويعتقد أن الدين ما هو إلا وهم وخيال. منهم فولتير وسيجماند فرويد ودارون وفيرباخ وماركس وبرتراند راسل وسارتر.

يقول سيجماند فرويد أن الدين مجرد وهم. وكتابه عن سيكلوجية الدين يسمى "مستقبل الوهم". جاء فيه أن الدين للضعفاء والمساكين. يحتاجه الناس الذين يعانون من قسوة الحياة. وهو يؤكد مقولة أن الدين أفيون الشعوب. لا يستطيع الهرب من سلطته ومن أوهامه إلا من تعود مواجهة صعوبات الحياة بشجاعة وبإسلوب علمى دون خداع. أو من له القدرة ويستطيع تحويل الوهم والخيال إلى أعمال فنية (الفنانون ليسوا دراويش).

قصص الأنبياء والعهد القديم لا يقرأها الفلاسفة كما نقرأها نحن المؤمنون بها. وإنما يقرأونها بعين فاحصة ناقدة, وهو الأمر الذى لم نجرؤ عليه بعد.

فمثلا: عندما رأى سيدنا إبراهيم فى المنام أنه يذبح إبنه إسماعيل, أو إسحق كما جاء فى العهد القديم. أخذ سيدنا إبراهيم إبنه, بدون إخبار زوجته, وسار به ثلاثة أيام. عاقدا العزم على تنفيذ الأمر الإلهى. وعندما وصل إلى مكان المذبح, أخرج سكينه الحاد بنصله اللامع, وهم بتنفيذ الأمر الإلهى. حينئذن, ظهر ملاك الرب ليوقف عملية الذبح هذه. ولكى يفدى الطفل بكبش عظيم. ويعود سيدنا إبراهيم سعيدا لأهله مع ولده سالما حاملا لحم الضحية على كتفه. بعد نجاحه فى الإمتحان ورضاء الرب عليه.

لكن الفيلسوف سورين كيركجارد, تحت إسم مستعار "جوهانز سيلينتو" ومؤلف كتاب "الخوف والرعب", يجد مشكلة فى قصة النبى إبراهيم هذه. فهو يتساءل. من أعطى النبى إبراهيم القدرة على رفع يده وبها السكين لكى يذبح فلذة كبده. وكيف قويت إرادته وروحه على ذلك. ولماذا لم يغمى عليه أو يصب بالدوار, أو يضعف بصره حتى لا يستطيع رؤية إبنه أمامه؟ ومن أدراه أن هذا أمر إلهى. أليس من الممكن أن يكون الشيطان هو صاحب الفكرة. وأراد أن يورط النبي إبراهيم فى الأمر؟ أو يكون الأمر هو مجرد إختبار, لمعرفة مدى حفاظه على قوانين الرب التى تمنع القتل لأى سبب. حتى لو كان الأمر قادما من مجرد رؤيا فى منام أو هاتف من بعيد.

المشكلة أن كيركجارد ينظر إلى القصة من المنظور الإنسانى البحت, لا المنظور الدينى. فإبراهيم عنده إنسان عادى وليس نبى. وهو يتساءل, ماذا يكون عليه الحال لو أن إبراهيم كان قد أخطأ فى تلقى الرسالة, سواء كانت بالرؤيا أو بالوحى. الكل يقول أن إبراهيم نبى عظيم لأنه كان مستعدا للتضحية بولده, وأعز ما يملك إرضاءا للرب. لكن كيركجارد يعتبر أن القصة فيها جريمة الشروع فى القتل مع سبق الإصرار والترصد. وهو يتساءل ماذا يكون حكم القاضى فى وقتنا الراهن على رجل متهم فى الشروع فى قتل إبنه, إذا كان دفاعه الوحيد هو: "لقد أمرنى الرب بفعل ذلك". وهذا ما كان يقوله "إبن سام" سفاح بروكلين بالولايات المتحدة فى السبعينيات. "كانت الأصوات تأتينى من الرب بقتل هؤلاء."

ماذا نستخلص من كل هذا؟ الإيمان بوجود خالق لهذا الكون شئ, والتدين بدين معين شئ آخر. بالنسبة للإيمان بصفة عامة, فمن حق كل إنسان أن يؤمن بما يرى أنه الحق. ومن حقه أن يتدين بالدين الذى يراه ويعتقد أنه أفضلها. فكل إنسان مسئول عن نفسه وهذا عدل. أما الإجابة عن السؤال: هل هذا الكون الذى نعرفه له خالق أم لا؟ فلا يستطيع أحد الإجابة عليه خارج نطاق الدين والإيمان. نصف الفلاسفة والعلماء تؤمن بأن للكون خالق. والنصف الآخر يؤمن بعكس ذلك. ورجال الدين والمشايخ تقسم بالطلاق أن ديننا هو الصح, وأن باقى الأديان محرفة. والشيعة والمسيحيون واليهود وكل الملل ترى نفس الشئ بالنسبة لدينها. كل دين عزيز على أهله. وفيه ناس تقدم على الإنتحار عندما يخسر ناديها مباراة كرة قدم.

يقول العلماء أنه لو جلست بلايين قرود الشمبانزى على آلات كاتبة وظلت تضغط على مفاتيح الحروف. فإنها سوف تنتج عشوائيا كل التراث الإنسانى من فكر وأدب وشعر ومسرحيات شيكسبير وخلافه. لكن حجم الكون والزمن الذى خلق فيه, لا يكفيان لكتابة سطر واحد فى كتاب بطريقة عشوائية بدون عقل. وهذا يبين مدى سخافة هذا الرأى. فالسطر مكون من 65 حرف فى المتوسط. وعدد المفاتيح فى الآلة الكاتبة 50 مفتاح. وكتابة سطر واحد من كتاب ما عشوائيا تبلغ عشرة مرفوعة إلى أس 110. وهو رقم من الكبر يعادل 1000 ضعف عدد الذبذبات فى جميع الذرات التى توجد فى هذا الكون منذ الإنفجار العظيم حتى الآن. وحتى دارون نفسه لم يقل أن الحياة والتطور تحدث عشوائيا بطريقة محضة. لكنها تتأثر بعوامل الإختيار الطبيعى مع جزء بسيط عشوائى يتمثل فى تأثر الجينات بالأشعة الكونية التى تسقط على الأرض من السماء, والأخطاء التى تنتج من نسخ الجينات.

عندما تلقى الرياح بفرع شجرة فى الهواء. هل هذا عمل عشوائى. أم الرياح تسير وفقا لمخطط ترسمه درجات الحرارة والضغط الجوى. وهل نحن فقط الأحياء أم كل شئ حولنا حى بطريقته الخاصة. حتى الأحجار, تجد منها المغناطيسى والمشع والصحيح الجسم والذى يصيبه الوهن. ومنها الذى يكبر مع مرور الوقت (الزلط) ومنها الذى يمرض (أحجار المبانى القديمة) من التلوث وعادم السيارات فى المدن الكبيرة. وحتى الذرات تختار موقعها داخل البلورات بإنتظام. والإلكترون, وجد أن له إرادة تحدد مساره عند المرور من فتحة صغيرة.

إننا نجد أنه عندما يقطع الفرع الرئيسى لشجرة الصنوبر مثلا, تقرر الفروع الباقية أيهما يحل محل الفرع المقطوع. ونجد الأسد يدافع عن عرينه والأم عن أولادها بحيث تستطيع صد عدو تبلغ قوته عشرة أضعاف قوتها. وقد رأى شهود عيان ثعبانا طوله 5 أقدام يحاول أن يبتلع فأرا صغيرا من فئران الغيطان, والفأر يصرخ صرخاته الأخيرة. وفى ثوانى جاءت فأرة آخرى تبدو أنها رفيقة الفأر الأول. وإندفعت كالسهم دون خوف أو وجل نحو ذيل الثعبان لتعضه بكل قوتها. وتحت تأثير الألم, لم يجد الثعبان بدا من تحرير فمه للدفاع عن نفسه. فلفظ الفأر الأول, ولاذا كلاهما بالنجاة. فهل ننكر أن الحيوانات لها عالمها الأخلاقى هى الأخرى. تحنو على بعضها إلى الدرجة التى تجعل الفأرة تعرض حياتها للخطر لإنقاذ رفيقها.

أذكر فى طفولتى أن أعطانى أحد الجيران عصفورا صغيرا ألهو به كان قد سقط من العش. وعندما رآنى والدى ألعب بالعصفور, نهرنى وأمرنى بإطلاق صراحه. وبعد أن فعلت, وقف العصفور الصغير بجوار الحائط وحيدا حائرا لا يدرى ماذا يفعل. فلا أب ولا أم ولا عش. ولم يكن يجيد الطيران, قمة المأساة. وبعد فترة صغيرة, جاء عصفور آخر. وظل يطير ويحوم حول العصفير الصغير وهو يطلق أصواتا حادة وسريعة كأنه يبلغه رسالة عاجلة, أو يوجه إليه تعليمات معينة. ثم هبط إلى جواره وأخذ يرفرف بجناحية كأنه يعلمه الطريقة الصحيحة لإستخدام الجناحين فى الطيران. لا أذكر ماذا حدث بعد ذلك, ولكننى لا أستطيع أن أنسى هذا المشهد.

وجد أن القرود عنما يختطف الموت أحدها, تلتف حوله فى شبه دائرة وتولى وجوهها نحو شمس المغيب فى صمت. كأنها تظهر حزنها الدفين لحدث الموت الذى لا تفهم معناه. فلا شك أن المخلوقات تحنوا على بعضها وتتعاون فى وقت الحاجة ووقت الشدة. فهل عوامل التطور وحدها تستطيع أن تفعل ذلك. أم أن هناك قوى روحية خفية تسير هذا الكون؟

ما هى بيضة الطائر؟ هى إسطوانة "سي دى". هى أغنية مكتوبة بلغة كيميائية داخل الجينات. هى رسم هندسى تفصيلى لبناء العش. وكذلك خريطة لنجوم السماء, لكى تهدى الطيور التى تهاجر وتطير بالليل. هى وصفة لعمل كائن حى قادر على الطيران. وكما يقول جبران: "إن فى التمر نواة حفظت سر النخيل"

ما هى موجة البحر؟ وأين تذهب عندما تتوقف الريح؟ إنها تذهب تاركة ماء البحر كما هو. لا زيادة ولا نقصان. فهل هى روح أم شبح؟ إنها طاقة وليست مادة. وأين تذهب عقدة الحبل عندما تحل؟ فهل هى أيضا روح أم شبح أم طاقة؟ وهل تختلف الخلية الحية عن عقدة الحبل؟ وهل تختلف الذرة عن عقدة الحبل. وهل تختلف الشمس أو النجوم أو الكون كله عن عقدة الحبل؟

هل تعلم أن المسلم والقبطى أقارب(مفاجأة دى). إذا رجعنا إلى الخلف فقط عشرات الأجيال. وهل تعلم أننا لو رجعنا إلى زمن أبعد, سوف نجد أن كل الجنس البشرى أقارب. وأننا نمت بصلة القرابة إلى القرود. ثم لو رجعنا أكثر فسوف نجد أننا أقارب كل الثدييات. ثم كل الحشرات. وأيضا تربطنا قرابة بالنباتات. وإذا عدنا إلى الوراء فى الزمن, أكثر وأكثر ستجد أننا وتراب الأرض إخوة وأخوات. كلنا صنعنا داخل نجم توفاه الله منذ زمن فات, ونثر ترابه فى الفضاء. وإذا فكرنا فى الأمر, سوف نجد أننا نمت بصلة القرابة لكل هذا الكون الذى ننتمى إليه.

قد نسأل أنفسنا كيف بدأت الحياة؟ هل بدأت كخلية وحيدة فى المستنقعات؟ أم كفيروس أتى إلينا من المجرات؟ أم بدأت كصخرة أم داخل النجوم؟ هذا يتوقف على ماذا نعنى بالحياة. فالحياة بمعناها العام توجد فى كل مكان. الحياة والمخلوقات الدقيقة توجد فى البحار وفى قاع المحيطات والأنهار والصحراء وعلى سطح الأرض وفى التراب الذى يعلق بأحذيتنا وفى قمم الجبال وفى الهواء وفى السحب وفى قطرات المطر وداخل أجسامنا وعلى جفون وخدود الحسان. تعيش مخلوقات تأكل وتتنفس وتتكاثر وتموت.


الأحجار هى بلورات. فهل يمكن أن نعتبرها أيضا مخلوقات حية؟ هى أيضا تتحرك, وتسافر, وتأكل وتنمو وتضمد جروحها وتتوالد. وهذا أيضا ينطبق على الأنهار والكثبان الرملية والجبال والجزر والسحب والبراكين والبرك والعواصف. وحتى النار. كلها أشياء تولد وتعيش وتأكل وتتوالد وتموت. وهذا يتوقف بالطبع على مفهوم الحياة. فهل نستبعد أن تكون أمنا الأرض نفسها كوكبا حيا. ونحن عقلها المفكر. وبنظرة أعم وأشمل, لماذ لا نعتبر أن الكون كله ينبض بالحياة, ونحن ذرات فيه.

ونرجع إلى السؤال الأصلى. من الذى يدير هذا الكون؟ هل هناك خطة وراء جمال الزهور وتغريد البلابل؟ ومن الذى أوجد العين لترى الضوء أول مرة عند بدأ التطور. ومن الذى خلق فى الأسماك الأولية مثانة هوائية. كأنه يتنبأ بأنها سوف تتحول إلى رئة تصلح للحياة على سطح الأرض خارج الماء. ومن أي شئ بدأ العقل يتكون فى المخلوقات الأولية؟ وهل يمكن أن يوجد العقل بطريقة لا عقل فيها؟

هل العلم لديه إجابة؟ وهل يمكن أن يكون الكون كله قد خلق نفسه بنفسه؟ الأديان تقدم إجابة وإجابات. ولكنها لا تشبع فضول العقل الفاحص المدقق. وتثير من الشك أكثر مما تجلى من غموض. لذلك تلجأ إلى الثواب والعقاب لإكمال ما يعوزها من منطق. ويترك الإنسان وحيدا لا يدرى أين يذهب. هل يذهب مع رجال الدين ويلتقط أول ديانة تقابله ويتمسك بها بيديه وأسنانه ويضحى بماله وعياله وحياته فى سبيلها؟ وهذا ما يفعله معظم الناس. أم يظل يبحث ويقرأ ويسأل, إلى أن ينتهى به العمر قبل أن يصل إلى إجابة مؤكدة؟ وهذا ما يفعل بعض الناس.

والبعض الآخر, يأخذ بنصيحة باسكال. وهى أنه من الأفيد الإيمان بالله. لأن الفائدة تكون عظيمة فى حالة وجوده, والضرر قليل فى حالة عدم وجوده. أما الكفر بالله. فالضرر يكون لا نهائى فى حالة وجوده والفائدة تكون قليلة فى حالة عدم وجوده. لكن هذا ليس إيمنا رصينا. بل ليس إيمانا على الإطلاق. لأن الإيمان المبنى على مبدأ "إذ ربما" ليس إيمانا بالمرة, ولكنه أسلوب المقامرة والتجارة, أكثر منه أسلوب إيمان. وإذا سألتنى ما رأيك؟ سوف أجيب: لا تضع وقتك. وإستفتى قلبك. وإفعل الخير, وتجنب فعل الشر. ولن تكون نادما مهما كان دينك أو عقيدتك.


zakariael@att.net

06/11/2014

 

.....................................................................................

 


 

 
 



مطبوعة تصدر
 عن المركز الأمريكى
 للنشر الالكترونى

 رئيس التحرير : غريب المنسى

مدير التحرير : مسعد غنيم

 

الأعمدة الثابته

 

 
      صفحة الحوادث    
  من الشرق والغرب 
مختارات المراقب العام

 

موضوعات مهمة  جدا


اعرف بلدك
الصراع الطائفى فى مصر
  نصوص معاهدة السلام  

 

منوعات


رؤساء مصر
من نحن
حقوق النشر
 هيئة التحرير
خريطة الموقع


الصفحة الرئيسية