مطبوعة الكترونية عربية مهتمة بموضوع المواطنة وتداول السلطة القانونى وحرية التعبير  فى العالم العربى  .. تصدر من الولايات المتحدة الأمريكية عن المركز الأمريكى للنشر الالكترونى .. والأراء الواردة تعبر عن وجهة نظر أصحابها.
............................................................................................................................................................

 
 

 عالم المخلوقات الصغيرة
...............................................................


بقلم: محمد زكريا توفيق
...............................



من أين يأتى الأكسوجين الذى نتنفسه وتتنفسه باقى المخلوقات على سطح الأرض؟ هل يأتى كله من النباتات والأشجار فى الغابات والحقول؟ الإجابة: لا. لأن كمية هذا الأكسوجين لا تكفى. إذن من أين يأتى معظم الأكسوجين الذى نحتاجة لإستمرار الحياة؟ يأتى من مخلوقات دقيقة لا ترى بالعين المجردة معظمها وحيد الخلية تعيش فى المحيطات وتسمى بالألجا أو العوالق (بلانتون). ونحن مدينون لها بأرواحنا.

كيف تتولد السحب التى تحجب عنا الأشعة الفوق بنفسجية القاتلة, والتى تمدنا بالمياة العذبة للشرب والزراعة؟ الإجابة هى أيضا المخلوقات الدقيقة المسماة بالعوالق. فنحن لا نستطيع أن نعيش بدونها, بينما هى بالتأكيد تستطيع أن تحيا وتستمر بدوننا. وهذه قصة العولق ومعظم المخلوقات الصغيرة التى تعيش معنا ولا نعرف عنها شيئا. وكما قلت فى مقال سابق, أننا لا يجب أن نكون فى معزل عما يدور حولنا من إكتشافات حديثة. ولا يجب أن تكون لغة العلم حاجزا يمنعنا من معرفة أنفسنا والعالم الذى نعيش فيه.

كان هناك تاجر أقمشة هولندى له هواية غريبة. وهى عمل ميكروسكوبات عن طريق صقل عدسات زجاجية محدبة ووضعها فى أنابيب نحاسية. ثم إستخدامها للنظر فى مكونات مياة البرك والمستنقعات. وفى عام 1674م أرسل تاجر الأقمشة هذا, وإسمه ليوينهوك, إلى الجمعية الملكية بلندن خطابا جاء فيه:

"لقد شاهدت تحت الميكرسكوب حيوانات صغيرة جدا. منها المستدير والبيضاوى الشكل. بعضها له مخالب وذيول. تندفع بسرعة سابحة فى الماء فى كل إتجاه. حجمها بالنسبة لحجم العتة أو السوسة, مثل حجم النحلة إلى حجم الحصان. وطول بعضها يقل عن سمك شعرة فى رجل برغوث."

لقد إكتشف التاجر الهولندى لأول مرة المخلوقات الدقيقة التى لا ترى بالعين المجردة والتى تعيش فى البرك والمستنقعات والبحار والأنهار والمحيطات والمعروفة حاليا بالعوالق(بلانكتون). بعضها ينتمى إلى المملكة الحيوانية والبعض الآخر ينتمى إلى المملكة النباتية ويقوم بالتمثيل الضوئى للحصول على الغذاء (الألجا).

العوالق الحيوانية لها أشكال كثيرة منها الكروى الشكل والذى يقفذ كالبرغوث, ومنها البيضاوى الشكل الذى يسبح كالثعبان. وبعضها له إبرتان, واحدة فى أوله والأخرى فى نهايته. ومخلوقات إذا خرجت من الماء تنفجر إلى ثلاث أو أربع مخلوقات حية, كل منها على شكل كرة.

إكتشف التاجر الهولندى ليوينهوك أيضا مخلوقات تعيش فى ماء المطر, الفرد منها على شكل مجموعة كرات صغيرة, يتراوح عددها من خمسة إلى ثمانية, تلتصق مع بعضها بحبل ينتهى بكرة صغيرة مشابهة. هذا المخلوق إسمه العلمى (فوريتسيلا). له قرنان هما فى الواقع عينان فى حركة دائمة مثل حركة أذنى الحصان. وشاهد التاجر أيضا باكتيريا على شكل خيط أو أنبوب له أهداب يبلغ عددها عشرات الألوف. تسبح ببطء كالثعبان إلى الأمام وإلى الخلف.

وعندما أخذ التاجر الهولندى فضلات طعام من بين أسنانه لفحصها, كتب للجمعية الملكية بلندن:

" لقد وجدت بها أعدادا مهولة من المخلوقات الدقيقة تتحرك برشاقة. تنثنى كى تدفع نفسها إلى الأمام. وهى من الصغر بحيث يمكن وضع الملايين منها فى كرة فى حجم حبة رمل واحدة."

ولكن ماذا يقول العلم الحديث عن هذه المخلوقات؟ العلم الحديث يقول الآتى:

فى كل سنتيمتر مكعب من الغلاف الجوى, يوجد على الأقل عشرات من المخلوقات الدقيقة هذه. أما فى المدن حيث يزيد التلوث بالدخان والأتربة, فيصل العدد إلى الملايين فى السنتيمتر المكعب الواحد. وهى عبارة عن مخلوقات صغيرة ونبات الألجا وحيد الخلية وهذا يمثل نسبة كبيرة. والباقى فطريات مثل عفن الخبز والباكتيريا وحبوب لقاح وبذور دقيقة. وكل ذرة غبار بها مخلوقات ميكروبية. حتى السحب بها مخلوقات دقيقة تعيش وتتنفس وتسبح وتطفو وتتناسل. معظمها لا يتعدى طوله عن جزء من 500 جزء من البوصة, ولها مئات من الأشكال المختلفة.

الأكسوجين الذى نتنفسه يأتى 80% منه من العوالق النباتية المسماه بالألجا والتى تعيش فى المحيطات. والباقى 20% يأتى من الغابات والنباتات فى الحقول وحشائش الأرض. وبدون الأحياء الدقيقة لا نستطيع البقاء على سطح هذه الأرض. وقد قدر حجم ما تنتجه هذه المخلوقات التى لا ترى بالعين المجردة فى العام الواحد من الأكسوجين ب 330 بليون طن.

فى دراسة حديثة لمنظمة الفضاء ناسا الأمريكية عن العوالق وتأثيرها على الغلاف الجوى, جاء فيها ما يلى:

أثناء فصل الصيف, وعندما تضرب الشمس بأشعتها الحارقة الطبقات العليا من مياة المحيطات, تحاول العوالق حماية نفسها (وهذا ما تقوله نظرية التطور). بأن تنتج مادة كيميائية (DMSP) حتى تقوى من السطح الخارجى للعوالق. مثل تأثير الشمس الحارقة على جلد سكان الشعوب التى تعيش فى المناطق الإستوائية حيث تصبغ جلدها باللون الأسود. هذه المادة التى تفرزها العوالق تتحلل بفعل البكتيريا والماء وتتحول إلى مادة كيميائية أخرى تسمى (DMS).

هذه المادة الكيميائية الجديدة تتحلل فى الهواء مرة ثانية إلى جزئيات صغيرة جدا تشبه ذرات الغبار. حجمها مناسب لقطرات الماء لكى تتكثف فوقها. وهذه بداية تكوين السحب. أى أن العوالق تتسبب بطريقة مباشرة فى تكوين السحب وزيادتها. وبالطبع زيادة السحب تعنى الإقلال من أشعة الشمس المباشرة على سطح المحيط. وبالتالى تكون أقل خطرا على حياة العوالق الدقيقة. وتعكس السحب الكثيرة الأشعة الفوق بنفسجية الضارة إلى الفضاء الخارجى بعيدا عن سطح الأرض.

معظم عالم الميكروبات يتكون من ذات الخلية الواحدة, الأميبا والباراميسيا وهو مخلوق يشبه الخف, والكلادوسيران الذى له منقار يشبه منقار الطائر. والثاتشليوسز الذى له أنف يشبه أنف حيوان آكل النمل. واليونوتوسز الذى يشبه شكل الأوزة. والأستراكودز الذى يشبه شكل القلب. والنيماتودز الذى يشبه شكل الدودة. بالإضافة إلى عوالق البحر والسماء التى يبلغ سمكها 0.01 بوصة. ومن المخلوقات وحيدة الخلية أيضا, الألجا والفطر (خميرة البيرة), والعوالق الصغيرة التى يبلغ قطرها جزء من خمسة آلاف جزء من البوصة. ويوجد أيضا نباتات يصل قطرها جزء من 25 ألف جزء من البوصة. وكذلك الفيروسات التى يصل قطرها جزء من مليون جزء من البوصة.

هذه المخلوقات تعيش معنا وموجودة فى كل مكان. على الأرض وتحت الأرض وفى المحيطات وفى السماء وعلى قمم الجبال. وتبلغ من الكثرة بحيث قدر أن مجموع كتلتها يزيد عن 20 ضعف مجموع كتل باقى المخلوقات على سطح الأرض.

الباراميسيوم, بالرغم من أنه يتكون من خلية واحدة. لكنه يقوم بأشياء عجيبة. طوله خمس بوصة. يسبح فى الطين وبين الحشائش. وعند الجفاف, ينام فى التراب. شكله مثل الخف. ويتحرك بالإنزلاق إلى الأمام. له آلاف الأهداب. هذه الأهداب تنتظم فى مجموعات كل منها يتكون من 10 أهداب. تجدف هذه الأهداب وبعضها يدفع الغذاء إلى الفم الذى يشبه القمع فيندفع إليه مثل إندفاع الماء فى البالوعة. وإذا أراد هذا المخلوق الحركة إلى الخلف فإنه يغير إتجاه التجديف.

الباراميسيوم له نواه, محاطة بباقى الخلية. يدخل الغذاء عن طريق فمه وبعد الهضم, يخرج ما تبقى من الغذاء من فتحة بجسم المخلوق. يتنفس الأكسوجين بالإمتصاص من السطح. ويطرد ثانى أكسيد الكربون والنيتروجين. يدافع عن نفسه برشق حراب سامة فى إتجاه العدو. له ثمان أنواع من الجنس. الإنسان له نوعان فقط (ذكر وأنثى).

نوع آخر من المخلوقات ذات أهداب يسمى ديدينيوم. هو حيوان مفترس متخصص فى إفتراس الباراميسيوم. له شكل بيضاوى وحزامان من الأهداب حول جسده. وله أنف يستطيع أن يثقب به جسد الضحية. وعندما يجد فريسته, يثقب جسد الضحية بأنفه ويلتصق بالفريسة. ثم يبدأ فى إمتصاص ما بجسد الفريسة من سوائل حتى لوكانت أضعاف حجمه. هذا المخلوق المفترس, يتغذى على 12 ضحية فى اليوم الواحد.

يلتصق السكتورين بجسم صلب ثم يمد من جسده المستدير عشرات المجسات التى تشبه أذرع الأخطبوت, وينتظر مرور فريسته. وعندما تقع الضحية بين هذه المجسات وحتى لوكانت 10 أضعاف حجمه, فإن المجسات تثقب جسد الضحية وتبدأ فى شفط محتوياتها فى وقت يقل عن 15 دقيقة. ولكبر حجم الفريسة, ينتفخ حجم الحيوان المفترس ويتغير شكله الأصلى.

الأميبا مخلوق مكون من خلية واحدة. تعيش تقريبا فى كل مكان. فى المحيطات والصحارى وداخل أجسامنا وأجسام الحيوانات وعلى الأرض وفى السماء وعلى قمم الجبال وفى الكهوف وفى السحب. أهم جزء فى تركيبة جسمها هى المركز, والذى يعرف بالنواة. والنواة محاطة بسائل هلامى (جلى) يتكون معظمه من بروتين وسكر ونشا ودهون. إسمه العلمى سيتوبلازم. ومغلف بغشاء شفاف رقيق جدا. تمشى الأميبا على أرجل مؤقتة تبرز من جسدها. وتأكل بفم مؤقت أيضا. وقد يكون الفم هو الأرجل فى نفس الوقت. تحضن فريستها وتلتف حولها ثم تبتلعها.

حيوان آخر من الخلوقات الصغيرة يختلف تماما يسمى الروتيفاير. يتكون من مئات الخلايا بالرغم من صغر حجمه بالنسبة للباراميسيا. له عدة رؤوس وكل رأس بها أهداب تدور. (يعنى قصص الدعبوس أبو سبع روس الموجودة فى الأساطير القديمة لم يكن كلها خرف). خلاياه تقوم بوظائف العيون والمخ والعضلات والأعصاب. ويوجد منه أنواع كثيرة. بعضها يطفو على السطح كالفقاعات, وبعضها مثل الديدان. والبعض الآخر يأخذ شكل السيدة العجوز التى تلبس بالطو فرو وجيبة لها أهداب ممشطة. وتبدو كالأرامل أمام دور السينما فى إنتظار التاكسى فى ليلة ممطرة. هذه المخلوقات هى فى الواقع إناث. أما الذكور فهى صغيرة الحجم نسبيا وعددها أقل بكثير من عدد الإناث. لها القدرة على التقوقع داخل حوصلة مقفولة فى إنتظار فرصة أخرى أفضل للحياة. وهى ميزة كبيرة بالنسبة لتطور المخلوقات. وهذا يذكرنى بنوع من السمك يضع نفسه فى كيس به ماء ويدفن نفسه تحت رمال الصحراء فى إنتظار هطول المطر من جديد (أى والله هذا يحدث. فالحياة مليئة بالعجائب والغرائب). ويذكرنى أيضا بالمليونير الأمريكى المشهور "والت ديزنى" الذى طلب من الأطباء أن تقوم بتجميد جسمانه قبل وفاته مباشرة ووضعه فى ثلاجة حتى يأتى الوقت المناسب, بعد أن يكون قد تم إكتشاف علاجا لمرضه القاتل. وهذا ما قد تم بالفعل ولكن بعد وفاته, فجسمانه يرقد الآن مجمدا فى مكان ما فى إنتظار التقدم العلمى.

تحوصل الروتيفاير يجعله ينتشر بسهولة على أرجل الطير وعلى ذرات الغبار التى تحملها الرياح فى كل مكان. ولذلك تجده فى كل القارات والمحيطات والصحراء وعلى قمم الجبال وحتى القطبين. وعندما يخرج من حالة التحوصل, فإنه يزحف مثل الديدان مستخدما نهايتيه كأرجل. وينتقل عبر الماء بالتجديف بأهدابه التى توجد فى رؤوسه العديدة. ويثبت أقدامه فى أى شئ صلب بإستخدام مادة لاصقة تفرزها غدة بجسمه. وإذا وجد شيئا يصلح كغذاء, فإنه يبتلعه ويقوم بمضغه بعضلات تعمل كالأسنان. حيوان غريب فى كل شئ, وإذا وجدنا حيوانا يعيش فى المريخ فلن يكون أغرب منه.

عدد المخلوقات الصغيرة هذه يزيد على عدد النجوم الموجودة فى كل المجرات فى هذا الكون الذى نعرفه. والذى يبلغ عددها 50 ألف بليون بليون نجم (خمسة وأمامها 22 صفر). وهى تنقسم إلى مملكتين. مملكة حيوانية وأخرى نباتية. النوع النباتى, منها الدياتون الصغير جدا والذى يظهر تحت المجهر فى أشكال مختلفة. ومنها الكروى والمثلث والذى على شكل ماسة أو قارب به مئات الثقوب. وتمتاز بأنها تقوم بعملية التمثيل الضوئى مثل النباتات والأشجار الكبيرة.

أما النوع الحيوانى, فبعضها يسبح بسرعة 500 قدم فى الساعة. وبعضها ينام خلال فصل الشتاء فى المناطق الباردة. بعضها فى شكل براميل الطرشى لكنها تأكل وتتنفس. تسحب الماء من فتحة فى الرأس وتخرج من فتحة فى الذيل. بعضها يعيش فى صدفة. وبعضها فى شكل جرس له أذرع تتغذى على حيوانات أخرى صغيرة, بعد حقنها بالسم ثم هضمها بإستخدام الأذرع.

بعض الحيوانات الصغيرة إسمه أويكوبليرا فى شكل الحيوان المنوى. ينصب مصيدة لصيد غذائه من الباكتيريا. مصيدة من الدقة والكفاءة تفوق كل المصايد التى صنعها الإنسان. فهو يصنع خيمة شفافة بها فتحات وبداخلها شباك على هيئة أقماع, مثل جوبيا السمك. ويدخل هو نفسه داخل الخيمة ويضع فمه أسفل القمع ويحرك ذيله لعمل تيار من الماء يجذب معه الباكتيريا التى تتجمع وينتهى بها الأمر إلى فمه بدون مشقة.

التربة الزراعية أيضا بها مخلوقات عجيبة وبدونها لا تسمى تربة. ففى كل قدم مكعب من التربة يعيش 40 الف حيوان صغير على الأقل. تشمل 25 الف سوسة أو عتة. والباقى نمل وخنافس وعناكب وحشرات. أما المخلوقات الصغيرة التى لا ترى بالعين المجردة, فعددها بالبلايين. حشود من المخلوقات تزحف فى الظلام وتبحث عن مخلوقات أصغر منها لكى تفترسها. عالم ملئ بالخطر والفخاخ والمصايد. سلاحة الخلسة والمباغتة والقتال الشرس لأجل البقاء. حيوانات تحفرالتربة بحثا عن ديدان, وديدان تفترس ديدان. وديدان ليست كديدان الأرض المعروفة, ولكنها أصغر منها آلاف المرات. فى شكل خيوط أو خطاف أو ثعبان السمك. تعيش على إمتصاص العصارة من جذور النباتات والأشجار, أوتبتلع باكتيريا أو ديدان أصغر منها. البوصة المربعة من التربة تحتوى على 10 آلاف منها. وهناك نوعا من الفطر يتغذى على هذه الديدان. يقوم بعمل فخاخ من عقد لزجة. إذا مرت منها الديدان فإنه يشعر بها عن طريق شعيرات حساسة. فيقوم بإحكام العقد عليها, وتتحول العقد إلى جهاز هضمى تنبت منه شعيرات دقيقة تخترق جسد الديدان لتمتص عصارتها من الداخل. حرب وقتال وصيد وقنص وغدر وقتل. يحدث فى التربة وعلى أوراق الخص والجرجير وثمار الطماطم والخيار, وفى الطمى الذى يعلق بالأحذية. وحتى جفون النساء الجميلات تعيش مخلوقات فى شكل التماسيح (ديمودكس).

فى العالم القديم كان الإعتقاد السائد أن الأمراض عقاب إلهى بسبب خطايا البشر. وكان العلاج بالطبع هو المزيد من الجرعة الدينية لإسترضاء الآلهة الغاضبة. لكن الميكروبات التى كانت تجتاح العالم القديم هى نفسها الميكروبات الموجودة الآن. والجدرى جاء من الصين وإنتقل إلى الهند ثم الشرق الأوسط ومصر. ولقد أصيب به الملك رمسيس الخامس. الوباء الذى إجتاح أثينا عام 430 قبل الميلاد وصفه ثيوسيدس بما يشبه الجدرى. وقد يكون هو الوباء الذى أنهى الحرب البيلوبونية. وهو الذى أصاب جيوش قرطاجة عندما كانت تحاصر سيراكوزا عام 396 قبل الميلاد.

الطاعون الذى أوقف جيش نابليون على أعتاب فلسطين فى نهاية القرن الثامن عشر, هو مرض آخر عانت منه البشرية. فمن قبل أوقف الطاعون جيوش فارس عام 479 قبل الميلاد. وهو الذى أصاب مصر عام 540م. ثم إنتقل إلى فلسطين ثم بيزنطة. وكان حصاده 10 آلاف نفس كل يوم. ثم ظهر فى آسيا الصغرى عام 1204م مما أوقف الحرب الصليبية الرابعة. وفى عام 1348م قضى هذا الوباء على نصف سكان أوروبا(50 مليون وفاة).

أمراض أخرى منها التيفود والإلتهاب السحائى والإنتراكس والحمة القرمزية والحمة الصفراء والملاريا والكوليرا والسل والإنفلونزا والدفتيريا والحصبة والجذام والسيلان والسفليس وداء الكلب والإيدز والكبد الوبائى وإنفلونزا الطيور...إلخ . كلها أمراض بسبب ميكروبات تهاجم وتعيش فى جسد الإنسان مسببة أمراضا قاتلة.

هذه الميكروبات تأتى فجأة وتختفى فجأة. وتطور نفسها لأنها هى أيضا تريد الإستمرار فى الحياة. وهى تسبب 75% من مجموع الأمراض التى تصيب الإنسان. وتهاجم أيضا الحيوان والنبات ومنها ميكروب التبغ وميكروب البطاطس الذى سبب مجاعة فى إيرلندا عام 1840م.

من رواد دراسة الميكروبات وعلاقتها بأمراض الإنسان العالم الفرنسى لويس باستير. قام باستير بدراسة التخمر الكحوللى فى عام 1857م. وقد لاحظ أثناء دراسته أن الخمائر تسلك سلوك الأحياء الدقيقة. وليست مجرد كيمياء. وتوصل إلى أن سبب التخمر بالنسبة لعجين الخبز والعنب والجبن هى مخلوقات دقيقة حية. ومن ثم توصل إلى بسترة اللبن (كلمة مشتقة من إسمه) عن طريق غليه ثم تبريده عدة مرات. وفى عام 1860م, أصبح الإعتقاد بأن المخلوقات الدقيقة ممكن أن تقتل الإنسان وحتى الفيل إذا لوثت دمه. ومن ثم بدأ الجراحون فى إستخدام المطهرات للجروح, مما أنقذ أرواح الملايين.

حتى عام 1887م لم يتمكن أحد من رؤية الميكروبات متناهية الصغر والمعروفة بالميكرسكوبات. ولكن الإحساس بوجودها كان قويا. وفى عام 1931م جاءت أول الدلائل التى تشير بأن الفيروسات هى عبارة عن جزيئات صغيرة جدا صلبة. وفى عام 1935م, نجح الكيمائى الأمريكى مندل ستانلى فى عزل الفيروس الذى يصيب أوراق التبغ فى أنابيب إختبار على شكل بلورات تشبه بلورات السكر الأبيض المطحونة. وقد كان غريبا بالنسبة للعلماء فى ذلك الوقت أن مادة كيميائية ميتة محضرة منذ عدة سنوات, تكون قادرة على التوالد وعمل نسخ من نفسها بمجرد ملامستها لآوراق نبات التبغ وإتلافها. وقد وجد أن هذه الفيروسات تتكون من 95% بروتين و 5% حامض نووى مثل الموجود فى نواة الخلية.

الفيروسات هى أصغر الأحياء القادرة على التوالد وعمل نسخ من نفسها. وبإكتشافها, تم ملء الفجوة بين المواد الكيميائية والخلية الحية. المعروف الآن أن الفيروس هو عبارة عن جين يحمل عامل وراثة. إسطوانة سى دى عليها برنامج كمبيوتر. وله غلاف, ويتجول فى هذا الكون. قلبه مكون من الحامض النووى المعروف ب "دى إن إيه", أو من أحد مشتقاته "آر إن إيه". ويحمل الصفات الوراثية مغلفة بمادة البروتين. وهو يشبه فى ذلك الحيوان المنوى. إلا أن الحيوان المنوى يبحث عن بويضة بعينها لتكوين جنين. أما الفيروس فهو يبحث عن خلية حية لعمل نسخ عديدة من نفسه. وهو لا يستطيع أن يكون مخلوقا مستقلا بذاته.

معظم الوقت يرقد الفيروس كبلورة صغيرة جدا بدون حياة على صخرة مثلا لعدة قرون أو لآلاف السنين. لكنه ليس مثل الصخور. لأنه يستطيع أن يستيقظ فى أية لحظة. وكل ما يحتاجه هو الدفئ والرطوبة التى توفرها له الخلية الحية. وعندما يجدها, يخترق جدارها ويصنع نماذج طبق الأصل من نفسه بالمئات فى خلال ساعة واحدة. وقد يستمر فى الإنتشار حتى يقتل عشرات الملايين فى سنة واحدة. وما مرض الأيدز والكبد الوبائى وإنفلونزا الطيور إلا أنواعا مختلفة من هذه الفيروسات.

حجم الفيروس صغير جدا, وهذا ما يجعله يستطيع التسلل وإختراق الخلية. فيروس شلل الأطفال صغير الحجم لدرجة أنه يمكن وضع بليون بليون فيروس منه داخل كرة بنج بنج.

لقد إستغرق فحص طبيعة الفيروسات المكتشفة قرابة 30 سنة. بإستخدام الميكرسكوب الإلكترونى وأشعة إكس وطرق أخرى معقدة. ووجد أن أبسط الفيروسات مكون من نواة بها حامض نووى "آر إن إيه". يليه فيروس شلل الأطفال المعروف بجمال شكله بالرغم من خطورة تأثيره. فجسمه فى شكل كروى له 12 سطح متساوى المساحة. مثل كرة المرايا التى تعلق فى صالات الدسكو. والفيروس الذى يصيب الفئران له 20 سطح مثلث. وفيروس أوراق التبغ, يشبه الأنبوبة الطويلة بها 2130 بذرة. وفيروس الإنفلونزا, يشبه فى شكله العنكبوت. وفيروس الباكتيريا (تى 4) يشبه البعوضة وجسده فى شكل سداسى وله 6 أرجل ومنقار لثقب الباكتيريا. (بلورات الثلج لها شكل سداسى أيضا ولكن كل بلورة تختلف عن الأخرى فى بالرغم من أن أعدادها من الكثرة لا تعد ولا تحصى)

عندما يهاجم الفيروس الباكتيريا, هذا الهجوم يمثل جريمة إغتصاب وجريمة قتل وإنتحار. لأن الفيروس يحقن جيناته التى تندمج مع جينات الباكتيريا. وينتحر الفيروس وتموت الباكتيريا نتيجة لذلك. وبعد 20 دقيقة, تخرج إلى الحياة مئات الفيروسات الجديدة. صورة طبق الأصل من الفيروس الأصلى. هى أولاد غير شرعية لعملية إغتصاب وقتل.

هناك نوع واحد من الباكتيريا تعيش فى الطين, أمدتها عوامل التطور بسلاح يجعلها قادرة على مقاومة الفيروسات. فهى تقتلها بالسم الذى تنتجه إنزيماتها. وبعض الفيروسات يصيب زهور الزنبق فتعدل جيناتها وتجعلها أكثر جمالا وروعة. ونوع آخر من الفيروسات تحد من تكاثر الأرانب فى إستراليا وتحمى إقتصاد البلاد. لكن أكبر فائدة تأتى من الفيروسات هو إستخدامها فى دراسة وتحليل شفرة الجينات وفك ألغاز تركيبة الخلية الحية. ولأن الفيروس هو أبسط المخلوقات التى تتوالد وتكرر نفسها, لذلك أمكن إستخدامها فى الهندسة الوراثية وتغيير بعض الصفات الوراثية للخلية. فالعلماء الآن تستطيع أن تحول فيروس قاتل إلى فيروس غير قاتل بمجرد تعديل بسيط فى تركيبة جيناته. كما أن الفيروسات يمكن أن تكون الأمل فى القضاء عل مرض السرطان اللعين إذا تمكنا من إنتاج فيروس يدمر الخلية السرطانية فقط ويترك الخلية السليمة بدون تغيير. كما أنه يمكن إستخدام الفيروسات فى تعديل جينات النباتات, فتصبح أكثر قدرة على مقاومة الأمراض وأكثر إنتاجا للمحاصيل. وفى نفس الوقت إذا أسئ إستخدامها, يمكن أن تصبح أسلحة دمار شامل فى الحروب.

دراسة المخلوقات الدقيقة ليست ترفا, بقدر ما هى ضرورة للنهوض بشعوبنا وتقدمها. ولا يمكن أن نظل نلهث خلف الأمم المتقدمة علميا ونكتفى بفتاتها. أموال البترول يجب أن يوجه جزءا منها إلى الأبحاث العلمية. ولا يعقل أن تكون إسرائيل وهى الدولة التى تعيش على الإعانات, متقدمة علميا وتسبق كل الدول العربية مجتمعة فى كل فروع المعرفة. هذا عار وطعن لكبريائنا. وما الفائدة من كل أموال البترول إذا لم توفر لنا السبق فى هذه الميادين. وياريت نعتنى بشبابنا قدر عنايتنا بالخيول والصقور. التقدم العلمى أصبح الآن مسألة حياة أو موت. وما موقف رجال الدين فى بلادنا؟ أليس من واجبهم أن يدلوا بدلوهم ويحثوا قادتنا ومن بيدهم مصيرنا, كى ينفقوا على البحث العلمى والتعليم الجيد. بدلا من خطب الوعظ والإرشاد التى مللناها, والتى لم تتغير منذ آلاف السنين.

لى رجاء عزيزى القارئ, فعندما تطلب إبنتك أو إبنك مبيل جديد أو محمول أحدث طراز. فإقنعه بإستخدام القديم, وإعطه جهاز ميكرسكوب أو تليسكوب. فبلادنا فى أمس الحاجة إلى عقول تفكر وتتساءل وتبحث. تحلل كل جملة لتعرف معناها, وتقلب كل صخرة لترى ما تحتها. لأن حب البحث والمعرفة يأتى فى سن مبكرة. والعوض على الله فى الأجيال التى راحت ضحية, بسبب ظلم القادة وغباء أدعياء الدين. وإلى اللقاء فى مقال آخر لمعرفة أسرار هذا الكون العجيب الذى نعيش فيه.

zakariael@att.net

 

.....................................................................................

 


 

 
 



مطبوعة تصدر
 عن المركز الأمريكى
 للنشر الالكترونى

 رئيس التحرير : غريب المنسى

مدير التحرير : مسعد غنيم

 

الأعمدة الثابته

 

 
      صفحة الحوادث    
  من الشرق والغرب 
مختارات المراقب العام

 

موضوعات مهمة  جدا


اعرف بلدك
الصراع الطائفى فى مصر
  نصوص معاهدة السلام  

 

منوعات


رؤساء مصر
من نحن
حقوق النشر
 هيئة التحرير
خريطة الموقع


الصفحة الرئيسية