التاريخ المصري القديم - تحتمس الثالث
| |
توفيق | |
بقلم : محمد زكريا توفيق
......................
حتشبسوت (1498-1483ق م)، التي ورثت قوة الشخصية والذكاء والشجاعة عن جدتها "أحوتب"، أصبحت الوصي الشرعي على الطفل الملك تحتمس الثالث. أمرت بحلق شعر رأسه، ألبسته الجلباب الأبيض، وأرسلته إلى كهنة آمون، لكي يتعلم أصول الدين والحكمة وأسرار العلوم، وتفرغت هي للحكم.
حكمت البلاد باسم تحتمس الثالث 7 سنوات، وباسمها كملكة متوجة 15 سنة. فهي الأحق، لأن أبوها ملك وأمها ملكة، وأرملة ملك. لذلك، من ناحية الدماء الملكية، لا يستطيع أن ينافسها تحتمس الثالث، في النقاء والقداسة.
بينما كان تحتمس الثالث، يتعبد مع الكهنة في الكرنك، مر الموكب الرهيب للإله آمون ، من فناء المعبد، احتفالا بأحد الأعياد. الكهنة يحملون الأعلام والمباخر، يسيرون أمام التمثال الذهبي للإله، المحمول على الأعناق. عامة الشعب تقف على الجانبين يشاهدون الموكب بانبهار.
كان تحتمس الثالث، يقف وهو صبي، وسط الجماهير الغفيرة يشاهد هو أيضا الموكب في خشوع. فجأة، توقف الموكب عن السير، ووقف أمام تحتمس الثالث، لا يستطيع الحركة.
حينئذ، خر الكهنة كلهم ساجدين أمام الصبي تحتمس الثالث. هذا الحادث، يبين لنا، أن كهنة آمون، كانوا يعدون تحتمس الثالث كملك وفرعون مصر القادم.
ربما لم يكونوا سعداء بحتشبسوت كملكة أنثى للبلاد. فالكهنة ورجال الدين في كل العصور، لا يحبون التجديد، ويميلون إلى الحفاظ على التقاليد الراسخة.
أثناء موقعة "ماجدو"، بعد تولي تحتمس الثالث بعامين، أثبت الملك شجاعة فائقة. بعد تجربة الهكسوس وحروب التحرير، أصبح الجهاد والشجاعة والتضحية بالنفس في الحرب من أجل الوطن، من البطولات التي يطلبها الشباب، ويفخر بها الأهل، ويتحدث بها الركبان.
لم يعد السلام والسكينة، عشق المصريين في الماضي، من الفضائل التي يربى عليها النشء. وكما يقول زهير بن أبي سلمى:
"مَنْ لَـمْ يَـذُدْ عَنْ حَوْضِهِ بِسِلاحِهِ --- يُـهَدَّمْ وَمَنْ لا يَظْلِمِ الـنَّاسَ يُظْلَمِ"
فرسان الجيش، باتت لهم منزلة خاصة في المجتمع المصري. العربة الحربية، السلاح الجديد في الجيش المصري، خفيفة الوزن، سريعة الحركة، سهلة المناورة، يجرها اثنان من الخيول. صنعت هكذا، لكي تتغلب على عربات الأعداء الثقيلة البطيئة والتي تجرها عدة أحصنة.
تصنع من ثلاثة أنواع من الأخشاب. يركبها رامي النبال مع السائق. هي السلاح الرئيس في المعركة. لكن للأسف، كانت تتحطم بكثرة أثناء المعارك.
المشاة، هم الجزء الأكبر من الجيش. يتحركون بسرعة 15 ميل في اليوم الواحد. كل منهم، يحمل درعا مستديرا من الخشب أو البرنز، وسيفا أو رمحا. هم من عامة الشعب غالبا. الرماة، يكونون الجزء الثالث من الجيش. الملك، يقود في المقدمة في عربته الحربية.
أثناء حكم حتشبسوت، انفصلت فلسطين وسوريا عن الامبراطورية المصرية. لذلك، قرر تحتمس الثالث، بعد أن صار ملكا، أن يفعل شيئا لاسترجاعهما. كان أمامه أن يختار طريقا من بين ثلاث طرق للهجوم. اختار تحتمس طريق الوادي الضيق المحفوف بالمخاطر. على عكس نصيحة قواده.
لكي يعبر الوادي الضيق، كان يسير الرجل خلف الرجل، والحصان خلف الحصان. لقد فعل ذلك نابليون بونابرت تماما، عام 1800م، عندما غزا إيطاليا عن طريق مضيق "سانت برنارد" في جبال الألب، لكي يفاجئ الجيش النمساوي الأكثر عددا، ويستعيد منه السيطرة على إيطاليا.
فاجأ تحتمس الأعداء، الذين لم يتوقعوا قدومه من هذا الطريق، ففروا هاربين. انشغال الجنود المصريين بجني الغنائم والأسلاب، جعل الفارين يتحصنون داخل أسوار مدينة "ماجدو"، 30 ميل جنوب شرق حيفا. الحصار استمر 7 شهور. أثناء الحصار، اخترع المصريون ما يشبه الدبابة. هدموا بها الأسوار وسقطت ماجدو في أيديهم.
لم يتوقف تحتمس الثالث عند ماجدو. واصل حملاته في سوريا والمنطقة لمدة 20 سنة. فتح 350 مدينة، في فترة حكمه، وقهر الشرق الأدنى، من الفرات حتى بلاد النوبة، خلال 17 حملة عسكرية.
قاد مستعمراته من مصر، و أعطى لكل منها حكما ذاتيا. الادارة في عهده كانت قوية. كان معاونيه و كبار الموظفين ذو كفاءة عالية. قام بأربعة حملات في آسيا، ليدحر تحالف ملك سوريا و ملك قادش. وأربعة حملات أخرى ليهيمن على المواني الفينيقية.
هزم تحتمس الثالث الميتانيين و طردهم بعد نهر الفرات، ليعيد رسم حدود مملكة تحتمس الاول بعد أول حملتين. للسيطر على آسيا، سيطر على قادش. هو الأول بعد تحتمس الأول، الذي يعبر نهر الفرات، أثناء حربه مع الميتانيين.
المصريون يؤمنون بالبعث والحياة الأخرى. الموت خارج الأراضي المصرية، قد يعوق طلب الخلود. فضلا عن كون الديانة المصرية في عمقها، لا تشجع على الاحتلال وإقامة مستعمرات استيطانية خارج مصر.
لذلك، كانوا يكتفون بولاء هذه البلاد لهم، أو إخضاعها لحكمهم، تحت امرة حاكم مصري، أو حاكم موال من هذه البلاد. لهذا، كان الجيش المصري، خارج الأراضي المصرية، دائم الحركة، في شبه حرب مستمرة.
كان المصريون يأخذون أبناء أمراء بلاد الفتوحات، يرسلونهم إلى مصر، ويقومون بتدريبهم وتعليمهم وتثقيفهم. وكانوا يختارون من بينهم، الخلفاء على مواطنيهم. لذلك كان الأمراء عادة راضين عن الحكم المصري لهم.
هذه سياسة حكيمة، قلت بسببها الحروب التي كانت تنشأ أحيانا بين الطوائف و المقاطعات المختلفة في بلاد الشام وفلسطين. فازدهرت التجارة والصناعة وتبادل المنتجات والمواد الأولية فيما بينهم ومع مصر .
انشأ تحتمس الثالث أسطولا بحريا قويا، سيطر به على الكثير من جزر البحر المتوسط مثل قبرص. وبسط نفوذه على الساحل الشرقي للمتوسط. كان يحمل المراكب على الحمير والبغال لكي يحاصر بها جيش الأعداء من الخلف.
فهو أول من أقام امبراطورية كبيرة، امتدت من شمال الفرات، حتى الشلال الرابع جنوبا. كتب عنه مؤرخ قديم بأنه، لا توجد قوة في الأرض تستطيع أن تواجه الجيش المصري، بقيادة تحتمس الثالث. فهو أبو الامبراطوريات، ونابليون الشرق. يعد من العبقريات العسكرية.
تدرس خططه، في العديد من الكليات والمعاهد العسكرية. اهتم بالجيش وجعله نظاميا. أتقن المصريون في عهده، صناعة النبال والأسهم، التي أصبحت ذات نفاذية خارقة، يعترف بها مؤرخو أيامنا هذه.
هو أول من قسّم الجيش إلى قلب وجناحين. استعانت الامبراطورية البريطانية، بالعديد من خططه في معاركها. خاصة ما قام به اللورد اللنبي في معاركه مع الدولة العثمانية، في الحرب العالمية الأولى.
تمثال تحتمس الثالث، به ملامح من عمته حتشبسوت، وخصوصا الأنف.
في معبد الكرنك، نجد على الجدران سجل محفور عن أنواع النباتات، جمعها تحتمس الثالث أثناء حملته على سوريا. هذا ما فعله الاسكندر الأكبر فيما بعد، فقد كان يجمع عينات من النباتات من البلاد التي يغزوها، ويرسلها إلى أستاذه "أرسطو".
وكان نابليون ومن معه من العلماء، يجمعون عينات من النباتات والحيوانات التي يجدونها في مصر. قاموا بتسجيها في كتابهم الهام "وصف مصر". على الجدران أيضا، كان تحتمس الثالث يسجل انتصاراته الحربية.
بعد فترة من حكمة، بدأ تحتمس الثالث في طمس اسم حتشبسوت من كل السجلات. يبدو أن الأمر لم يكن مجرد انتقام، بقدر ما هو رجوع للتقاليد التي تطلب من الفرعون أن يكون رجلا.
في بداية القرن العشرين، وجد اللصوص قبر ثلاث أميرات سوريات من حريم تحتمس الثالث. حلي الرأس الذهبية الخاصة بهم، موجودة حاليا في متحف المتروبوليتان بمدينة نيويورك. بينما كان تحتمس يحارب في سوريا، كان يقوم في نفس الوقت بالزواج الدبلوماسي.
قبر تحتمس الثالث، في الخلف من وادي الملوك، فريد في نوعه. القبر في مكان بعيد مرتفع، ربما لإخفائه عن أعين اللصوص. العمال اكتشفوا ممرا ينخفض إلى عمق 100 قدم في الجبل. غرفة الدفن محفورة على شكل الخرتوش الملكي الذي تكتب فيه أسماء الملوك. ربما لحماية القبر بالقوة السحرية.
التابوت أيضا في شكل الخرتوش. الرسوم على الجدران عبارة عن تعاويز دينية، مرسومة كأنها ملصقة على أوراق البردي. تحتمس الثالث، هو الأول الذي كتب "كتاب الموتى" الخاص به على جدران القبر، لا على أوراق البردي. الدرجات الموصله للقبر، ألغيت بعد ذلك، لتضليل اللصوص.
"أمينحتب الثاني" (1453-1419ق م)، ابن وخليفة تحتمس الثالث، حكم 30 سنة. رجل عسكري مثل والده. بعد حملته على بلاد النوبة، نجد 7 أمراء نوبيين معلقين من أرجلهم قتلى على صواري سفينته. 6 منهم، تم تعليقهم على جدران الكرنك. قبره في وادي الملوك، دفن فيه أيضا الملوك، أمينحتب الثالث وتحتمس الرابع، وآخرين.
تحتمس الرابع (1419-1386ق م)، حكم 30 سنة. ستيلا الأحلام الموجوده بين مخالب أبي الهول، تخبرنا عن ضعف الحكم. الستيلا (اللوح)، تقول أن أبا الهول، جاء لتحتمس الرابع في الحلم ليخبره، أنه إذا أمكنه إزاحة الأتربه حول أبي الهول، فسوف يصبح فرعونا لمصر. ربما يعني هذا أن تحتمس الرابع، لم يكن الوريث الشرعي.
هناك مسلة، في الأصل تخص والده تحتمس الثالث، نصبت وهي لم تكتمل في معبد الكرنك لمدة 35 سنة. مسلة وحيدة، مع أن المسلات تقطع أزواجا، لكي توضع في مداخل المعابد. هي الآن في روما، ارتفاعها 105 قدم، أعلى مسلة في العالم.
"أمينحتب الثالث" (1386-1349ق م)، الذي يعني اسمه "رضاء آمون"، حكم أكثر من 30 سنة. مما يدل على استقرار الحكم. في ذلك الوقت، كان يوجد عاصمتان لمصر. طيبة (الأقصر حاليا)، العاصمة الدينية في الجنوب. منف، العاصمة السياسية، في الشمال.
الملك كان يقضي وقته بين العاصمتين. أمينحتب الثالث كان يستخدم الجعارين كرسائل تلغراف. على قاعدة الجعران، كان يكتب الرسالة بالهيروغليفية. هي أول رسائل تلغراف في التاريخ. تنبئ عن أحداث هامة في مصر، مثل زواج الملك بعد سنتين من حكمه، أو حضور الملكة "تي" من السفر، إلخ.
الملكة "تي"، زوجة أمينحتب الثالث، من عامة الشعب. لكنها من عائلة مرموقة. والدها كان ضابطا بالجيش المصري، أخوها كان وزير شئون الدلتا، في عهد زوجها.
الجعران الخاص بصيد الثيران البرية، يقول أن أمينحتب الثالث، قام باصطياد 56 ثورا في يوم واحد. الجعران الخاص بصيد الأسود، يزعم أن الملك قد اصطاد 102 أسدا في 10 سنوات. النوبة كانت تحت الحكم المصري، وربما كان الملك يقود جماعة للصيد، وليس بمفرده.
في مدينة طيبة، حفر أمينحتب الثالث بحيرة صناعية، بطول ميل، لزوجته الملكة "تي". تطفو على سطحها بقاربها، "أتن اللامع"، في ضوء البدر، مع ضيوفها وخدمها.
كان أمينحتب الثالث دبلوماسيا، أكثر منه غازيا. له زيجات كثيرة. معظمها، نتيجة تحالفات دبلوماسية. لقد تزوج أمينحتب أميرة "ميتانية"، منطقة شمال العراق وسوريا وجنوب تركيا حاليا. لكن الملكة "تي"، لازالت في الصورة.
ثروة مصر كانت هائلة في ذلك الوقت. أتت من مصادر أخرى بجانب الحملات العسكرية. الذهب كان يأتي من وادي الحمامات، بين قفط والقصير، وبلاد النوبة.
التجارة الدولية، ساهمت كثيرا في ثراء مصر. العمارة في مدينة طيبة، جاءت نتيجة مشاريع البناء التي قام بها أمينحتب الثالث. هو الذي خصص معبد الأقصر للإله آمون. المهندس الذي بناه هو "أمينحتب-بن-حابو". تم تأليهه فيما بعد.
معبد الأقصر في طيبة.
قصر "مالكاتا" على الضفة الغربية للنيل، بناه الملك من الطمي، ونقش حيطانه بالرسوم. المصريون كانوا يبنون بيوت السكن في الدنيا الفانية من الطمي، وقبورهم ومعابدهم من الحجر. القصر به العديد من الغرف. تسع الأولاد والزوجات. تهدم معظمه، ولم يتبق منه إلا القليل.
القصر له اسم آخر، هو "قرص الشمس المبهر لكل البلاد". هذا يبين لنا أهمية قرص الشمس في هذا الوقت، الذي سوف تزداد أهميته في المستقبل القريب.
في أيامه الأخيرة، انتقل أمينحتب الثالث إلى طيبة، لكي يعيش في قصره. عادة، يعيش الفرعون في مدينة منف. ثم أصبحت طيبة مدينة هامة، العاصمة الدينية ومسكن الملك. ومن هنا يتبين لنا أهمية الدين في حياة المصريين.
المعبد الجنائزي، يختلف عن مكان الدفن، لا وجود له الآن، كان يوجد في مدخله، تمثالان عملاقان. هما تمثالي ممنون. ارتفاع كل منهما 60 قدما. (ممنون اسم يوناني). أحد التمثالين كان مشروخا، تصفر فيه الرياح عندما يتمدد الشرخ مع شمس الصباح. عندما عولج الشرخ، لم يعد التمثال يتكلم كما كان في الماضي.
قبر أمينحتب الثالث، هو الأول في وادي الملوك. المومياء الخاصة به، تبين مشاكل في الأسنان واللثة في سنواته الأخيرة.
ولقصة التاريخ المصري القديم بقية، فإلى اللقاء إن شاء الله.
zakariael@att.net
06/11/2014