مطبوعة الكترونية عربية مهتمة بموضوع المواطنة وتداول السلطة القانونى وحرية التعبير  فى العالم العربى  .. تصدر من الولايات المتحدة الأمريكية عن المركز الأمريكى للنشر الالكترونى .. والأراء الواردة تعبر عن وجهة نظر أصحابها.
............................................................................................................................................................

 
 

 نظرية التطور والجنس
...............................................................

بقلم: محمد زكريا توفيق
...........................


لا بد من إحياء عصر النهضة من جديد. ولا بد للعقل العربى أن يتحرر من قيوده وأغلاله. ولا بد من فحص التراث وتنقيته من شوائبه وتطهيره من العفن الكامن فى نسيجه وداخل طياته. ولا بد من إحياء الفكر المستنير الذى حمله رواد النهضة الإسلامية أمثال الكندى والفارابى والرازى وإبن سينا وإبن رشد وبن خلدون والخوارزمى والحسن بن الهيثم وغيرهم من عباقرة الإسلام وأعلام حضارته. فلن نخسر شيئا إن فعلنا ذلك. فلم يعد لدينا شئ يمكن أن نخسرة سوى تخلفنا وإنحطاطنا الحضارى والفكرى. أمامنا معركة شرسة وعنيفة ضد غيلان التخلف والغباء. الذين تدعمهم ثروات البترول بغير حدود. وأنظمة إستبداد وجدت فى التخلف الفكرى والحضارى لشعوبها ضمانها الوحيد فى البقاء والإستمرار. وقوى إستعمارية شرسة لا تبغى سوى مص دماء شعوبنا. لذلك نجد أن مناوءة السلطة المدججة بالسلاح والمرصعة بأجهزة التعذيب الجهنمية, والممسكة برقاب شعوبها, والناشبة أظافرها فى أجساد مواطنيها, لن تجدى مع غياب العقل العربى وتخلفه الفكرى.

الحل إذن هو يقظة شعوبنا أولا وأخيرا. وهذه وظيفة الكتاب والمفكرين. إحياء عصر النهضة من جديد هو الأمل الوحيد أمامنا الآن. وعلينا أن نترك خلافاتنا, ولا نقبل إلا الأصيل والجيد فى كل شئ. الأصيل والجيد الذى يتفق مع آدميتنا وكرامتنا. ويجب أن نرفض الردئ والخسيس والرخيص فى كل الأمور, مهما كانت النتائج. وحتى لا نتوه كما تاه غيرنا, يجب أن يكون العقل هادينا ورائدنا. فعلينا أن نعيد قراءة تاريخنا المزور, ونعيد كتابته. ونعيد فهم ديننا المشوه بفتاوى الأغبياء والنصابين والمرتزقة. وعلينا الإستفادة بأحدث ما أنتجته العقول من فكر وعلم وثقافة. فقد كنا أمة عظيمة, وسنصبح أمة عظيمة, بمشيئة الله, رغم أنف الجميع.

لذلك قررت أن أشرح للسادة القراء أحدث ما وصل إليه العلم بطريقة مبسطة, لعلى أفتح شهيته للقراءة وطلب المزيد. فلا يمكن أن نكون فى معزل عما يجرى فى العالم اليوم. ولا يجب أن تكون لغة العلم حاجزا يمنعنا من فهم ما يجرى حولنا من قضايا هامة وخطيرة. ولا يجب أن تنحصر ثقافتنا فى بول الإبل وأخبار حنظلة, وتاريخ داعس والغبراء وحرب البسوس. وهنا أبدأ بمقال مبسط فى نظرية التطور سوف أتبعه بمقالات أخرى وفى موضوعات علمية أخرى إن شاء الله.

وجدت الحياة على سطح الأرض قبل أن يوجد الجنس. فمنذ 3.5 بليون سنة كانت الأحياء الدقيقة توجد بكثرة. منها نبات الألجا. وهو الريم الأخضر الذى يوجد فى قاع الترع والبحيرات. هذا النبات لا يزال يعيش حتى الآن ويتكاثر بدون جنس, ولا يهرم أو يموت بأمراض الشيخوخة. النبات ينشطر إلى أجزاء وكل جزء ينمو ويصبح نباتا كاملا. ولا داعى للغيرة ولا لوجود ضرة أو حماوات أو حمل ووجع دماغ. وكذلك الباكتيريا تتكاثر بالإنقسام وبدون الحاجة إلى زوج وزوجة.

فى عالم الحيوان وإن كان وجودها نادرا, توجد الإناث التى تتكاثر بدون الحاجة إلى الذكور. مثل السحالى ذات الذيل الذى يشبه السوط. بيض هذه السحالى لا يحتاج إلى الحيوانات المنوية لكى تخصب. البيضة ببساطة تقوم من نفسها بالإنقسام المتواصل حتى يتكون الجنين. هذه السحالى تنجب فقط الإناث التى تأتى صورة طبق الأصل من أمهاتها.

نشوء الجنس بين الذكور والإناث شئ محير. لماذا يحمل ذكر الطاووس هذا الذيل الرائع بألوانه المختلفة؟ ولماذا لا تملك الأنثى ذيلا يضاهى ذيل الذكر؟ ولماذا يقدم ذكر العنكبوت, أحمر الظهر والذى يعيش فى أستراليا, على الإنتحار, بأن يلقى بنفسه بين أرجلها لكى تحقنه بسمها المميت لتلتهمه كوجبة غذائية أثناء عملية الوصال؟ ولماذا توجد فى عشوش النمل الشغالات التى لاتنجب, والتى ليس لها وظيفة سوى خدمة الملكة التى تخصب وتضع البيض؟ لمذا تكون الحيوانات المنوية عند الذكور صغيرة جدا وسريعة الحركة, بينما البويضة عند الإناث كبيرة جدا نسبيا, وساكنةغير قادرة على الحركة؟ ولماذا هناك ذكور وأناث على الإطلاق؟

قد يبدو أن الجنس غير ضرورى ويتعارض مع نظرية التطور. وقد يبدو أيضا أن التكاثر عن طريق الجنس ليس أفضل الطرق. السحالى وحيدة الجنس, كل منها تستطيع إنجاب سحلية أخرى. بينما السحالى ثنائية الجنس, الأناث فقط هى التى تستطيع ذلك. وإذا تواجدت السحالى أحادية الجنس مع السحالى ثنائية الجنس فى مكان واحد, فإن أحادية الجنس, بعد فترة وجيزة, سوف يصبح تعدادها أضعافا مضاعفة بالنسبة للنوع الآخر من السحالى. كما أن الجنس يؤدى إلى التنافس بين الذكور للفوز بالأنثى, وهذا مما لا شك فيه, يبدد طاقة الحيوانات ويعرضها للخطر. كما نراه فى تناطح الكباش, ونقيق الضفادع وصرير الهوام طوال الليل. ونشاهده فى حجم ذيل الطاووس الكبير الذى يستهلك جزءا كبيرا من غذائه اليومى. حتى بالنسبة للإنسان, نجد التنافس بين الذكور لنيل الأنثى هو سبب معظم الكوارث والمشاكل والعنف والحروب والأمراض النفسية التى عانت وتعانى منها البشرية إلى اليوم. وبالرغم من ذلك فكل الشواهد تدل على أن الجنس باق ومستمر ولن يختفى بعوامل التطور مستقبلا.

التكاثر بدون تزاوج ليس أفضل الطرق للتكاثر. ولنفترض أن الإنسان أحادى الجنس ويتكاثر بدون تزاوج. فى هذه الحالة سوف يصبح كل منا صورة بالكربون من الآخر. ولكن ما الضرر فى ذلك؟ الضرر هو أن قدرتنا على مقاومة الأمراض سوف تصبح واحدة. ويكفى وباء واحدا لإبادة الجنس البشرى كله من على سطح الأرض. وستكون أفكارنا واحدة أيضا. إذا عبد فرد منا الأصنام , فسيعبد الجميع الأصنام. وإذا إعتقد أحدنا أن الطبيخ الحامض يشفى الجرب, فإن هذا الإعتقاد سيظل سائدا طالما وجد الجنس البشرى على سطح الأرض. اى أن الأفكار سوف تتجمد والعقول سوف تتحجر. (بالرغم من أنها قد تحجرت فعلا فى بلادنا ولكن لأسباب أخرى)

تخيل بركة ماء يعيش فيها نوع واحد من الأسماك أحادية الجنس والتى تتكاثر بدون ذكور. كل سمكة فى هذه البركة سوف تكون صورة صبق الأصل من أمها. نفس الشكل, ونفس تركيبة الجينات, ونفس القدرة على مقاومة الأمراض والطفيليات. والآن نفترض أن البركة تلوثت بنوع من المكروبات أو الطفيليات التى تتكاثر بمعدل أكبر من تكاثر الأسماك. ستكون النتيجة هو إما فناء كل أسماك البركة, لأن الأسماك لها نفس درجة المقاومة, وإما نجاتها كلها إذا كان هذا الفيروس أو الطفيل من الممكن مقاومته. ولأن الفيروسات والطفيليات تتشكل وتتغير تركيبة جيناتها بإستمرار, حتى تستطيع الإستفادة من ضحيتها, تكون مسألة وقت فقط قبل أن يأتى مكروب أو طفيل ينجح فى مهاجمة هذه الأسماك والقضاء عليها كلها.

إمتزاج جينات الأب وجينات الأم ينتج عنه أجيالا تختلف عن آبائها وأمهاتها. هذا الإختلاف يجعل بعض هذة الأسماك قادرة على مقاومة هذا النوع من الفيروسات أو ذاك, فى الوقت الذى يهلك فيه الآخرون. وبذلك تستمر الحياه.

التنافس بين ذكور الحيوانات للحصول على الأنثى كان معروفا لدى علماء الكائنات الحية فى عصر دارون. هذا التنافس يمكن تفسيره فى ضوء نظرية التطور بدون مشقة. إذا تنافس ذكران من الكباش, فالمنتصر الأقوى ذو الجمجمة الأكبر والأصلب, هو الذى سوف يفوز بالإناث. ومن ثم ينتقل كبر وصلابة الجمجمة إلى الجيل التالى. قد تظهر نتوءات فى الجباه, نتيجة هذا التناطح, تتطور بمرور الوقت إلى قرون, كما هو الحال فى كباش اليوم.

لكن دارون يتساءل عما تفعله الإناث أثناء هذا التناطح. هل هن ببساطة يقمن بالإنتظار فى هدوء لكى يطئهن الكبش المنتصر؟ هذا الإنتظار الهادئ قد يروق لكتاب الروايات الرومانسية, ولكن دارون يجد أنها مشكلة, من وجهة نظر نظرية التطور, بالنسبة للإناث التى يتجنبها الذكر المنتصر. لكن المرأة بذكائها حلت هذه المشكلة بالكوافير والميكاب والكعب العالى. لكى تظهر كل منهن فى صورة فريدة من الحسن والدلال, وبذلك تلفت نظر الرجل المنتصر والمنهك. (فى الواقع هو منهك ولكن غير منتصر)

الطاووس بذيله الرائع وألوانه الزاهية يسبب أيضا مشلة بالنسبة لنظرية التطور. وقد قال دارون يوما أنه كلما ينظر إلى ذيل الطاووس, يصاب بالدوار, لأنه كان يعتقد فى البداية أن هذا الذيل لا يتواءم مع نظريته. ذيل الطاووس الكبير الذى يشبه المروحة, والمزين بالأشكال والدوائر والألوان المختلفة, لا يفيده فى الصراع مع الذكور الأخرى من أجل الإناث. فى الواقع, يعتبر عبئ كبير على ذكر الطاووس. الإناث تعيش بدونه ولا تحتاجه. هذا الذيل يستهلك جزءا كبيرا من غذائه اليومى. كما أنه يعوق حركتة أثناء الهرب من الثعالب والجوارح الأخرى. وبالرغم من ذلك, فإن ذكر الطاووس لايزال له هذا الذيل الجميل الرائع, الذى يتجدد, عندما يسقط الريش القديم فى نهاية كل عام. لكن دارون وجد تفسيرا فيما بعد لوجود مثل هذا الذيل أسماه بالإختيار الجنسى.

أثناء موسم التزاوج, تتجمع ذكور الطاووس فى مجموعات. ثم تقوم بالغناء أو الصراخ إن صحت التسمية, للفت نظر وجذب الإناث إليها. وحينما تظهر أنثى وتقترب من المجموعة, تقوم الذكور بفرد ذيولها فى إستعراض خلاب. بينما تقوم الأنثى بفحص وتفقد وتقييم كل طائر حسب حجم وألوان وشدة لمعان ذيله. وإذا وجدت الأنثى الذيل المنشود, وراقها وأعجبت به كل الإعجاب, سمحت لصاحبه بوصالها. هل الأنثى تختار الأجمل, أم الأكبر والأزهى ألوانا؟ هذا السؤال لم يجبه دارون. ولكنه يفسر أن إخيار الأنثى هو السبب فى إستمرار الذيول الكبيرة والجميلة, وإختفاء الذيول الصغيرة والقبيحة مع مرور الزمن بالنسبة للطاووس. هذا التفسير, ثبتت صحته بالتجارب المعملية فى العشرين سنة الأخيرة. أى أن إختيار الأنثى له فعله ومكانته فى نظرية التطور, وهذا هو السبب الرئيس فى تطور ذيل الطاووس إلى ما نشاهده اليوم. وقد ثبت أيضا أن الدوائر التى تشبه العيون والتى تزين ذيل الطاووس الذكر, إذا قل عددها عن 130 دائرة فى الذيل الواحد, فإن الأنثى تصرف النظر عن هذا الذكر الفقير فى عدد الدوائر, ونادرا ما تختاره. وهى تفضل صاحب الذيل الأكثر عددا والذى تزيد دوائر الزينة فيه عن 150 دائرة. وكذلك حواء تختار صاحب الملايين وتصرف النظر عن المكافح المناضل الذى لا يملك شروى نقير.

وجد العلماء أيضا أن الأنثى تلعب دورا كبيرا فى إختيارها للذكر, بالنسبة لحيوانات كثيرة بجانب الطاووس. فمثلا الدجاجات يفضلن الديوك ذوات العرف الكبير الأحمر. سمك السرتيل, الذى يعيش فى أنهار أمريكا, تفضل الأنثى الذكر طويل الذيل. فى عالم الحشرات, أنثى صرار الليل, تميل إلى الذكور الأعلى والأكثر تعقيدا فى صريرها الليلى. وحيث أن هذه الظواهر وراثية, لذلك فإن الإختيار الجنسى يكون عاملا كبيرا من عوامل التطور بالنسبة لهذه المخلوقات. الطاووس الذكر صغير الذيل لن يجد الأنثى التى تختاره, ومن ثم سوف ينقرض وتبقى الطواويس كبيرة الذيل فقط بين الذكور.

فرصة الأنثى فى الإنجاب أقل من الذكر. لذلك جعلتها عوامل التطور أكثر حرصا فى إختيار شريكها من بين الذكور. إنها تبحث عن الشريك الذى تدمج جيناتها مع جيناته لتكوين النسل الجديد. وهذا يعنى أنها تبحث عن أفضل الجينات الموجودة أمامها. وحيث أن أنثى الحيوانات ليس لديها معمل لتحليل الجينات لكى تختار أفضلها, لذا فهى تحكم على الذكور التى أمامها بالطريقة الوحيدة التى تعرفها. وهى الحكم على شكل الذكر, وسلوكه وقوة صوته. ونحن أيضا نفعل نفس الشئ عندما نبحث عن شريك للحياة الزوجية. نبحث عن الشكل والطول والعرض والثروة والطباع. ولا نلتفت للجينات والعوامل الوراثية (أمراض السكر والقلب وخلافه). وهل الأنثى هى فقط التى تختار دائما فى عالم الحيونات؟

السمك الأنبوبى المعروف بأبى زمارة, تقوم الأنثى بوضع البيض فى كيس داخل جسم الذكر. وبذلك تصبح الذكور حوامل. ولعدة أسابيع يقوم الذكر بحمل البيض, وإمداده بالغذاء والأكسوجين من جسده. ونظرا لأن الأنثى تنتج من البيض ما يكفى عدة ذكور, لذلك تكون المنافسة, فى موسم التزاوج, كبيرة بين الإناث للحصول على الذكور. ونتيجة لذلك تكون الذكور هى التى تقوم بإختيار الأنثى. وهى فى الغالب تختار الأنثى الأكبر حجما.

سبب وجود البويضة والحيوان المنوى هو بالطبع الحاجة لوجود الجنس. البويضة كبيرة الحجم جدا نسبيا, وثابتة فى مكانها, بينما الحيوان المنوى صغير جدا, وله ذيل طويل يساعده على سباحة المسافات الطويلة (عبور المانش). وعند الإخصاب, تسمح البويضة للحامض النووى (دى إن إيه) فقط من الحيوان المنوى بالدخول والإمتزاج بنواتها.

البويضة والحيوان المنوى يشبهان غريبان يبحثان عن بعضهما فى غابة كبيرة أثناء الليل. فرصتهما فى التلاقى تكاد تكون معدومة إذا قاما كلاهما بالبحث عن الآخر فى نفس الوقت. ولكن الفرصة تكون أكبر إذا ثبت أحدهما فى مكانه, وأخذ فى النداء على رفيقه فى هذا الظلام الدامس. بالنسبة للإنسان يكون النداء بالصوت الجهورى (يا حسن يا متولى). أما بالنسبة للبويضة فهى التى تقوم بالنداء, ليس بالصوت, ولكن بإنتاج مادة الفيرمون ذات الرائحة النفاذة والتى لا يخطئها الحيوان المنوى. وبالطبع فرصة اللقاء تكون أكبر وأكبر إذا كان من يقوم بالبحث ليلا أكثر من شخص واحد. فما بالك بمئات الألوف أو الملايين من الحيوانات المنوية التى تقوم بالبحث عن البويضة فى نفس الوقت. الحيوان المنوى يبحث عن البويضة حتى يجدها أو يموت. النجاح أو الموت مثل الأسلوب الكماكازى اليابانى فى الحرب. والبويضة تستقبل الحيوان المنوى أو تموت. فالطبيعة تأبى الفراغ.

بالنسبة لحجم البويضة الكبير نسبيا له عدة فوائد. الحجم الكبير يساعد على إنتاج كميات أكبر من الفيرمون لكى تهتدى الحيوانات المنوية برائحته. كما ان حجم البويضة يسمح بإختزان الغذاء اللازم لإنقسامها المتوالى عند الإخصاب. وبذلك لايحتاج الحيوان المنوى أن يحمل معه كميات كبيرة من الغذاء مما يعوق حركته فى البحث عن البويضة أثناء رحلتة المضنية.

الرجل يمكنه أن ينتج فى حياته من الحيوانات المنوية مايكفى لإخصاب كل نساء الكرة الأرضية مرات عديدة. ولكن المرأة تنتج بويضة واحدة كل شهر. تحمل المرأة الجنين داخلها, وتتعرض حياتها للخطر عند الولادة, ويستهلك العناية بطفلها جزءا كبيرا من طاقتها. بينما الرجل, كما هو الحال بالنسبة لباقى الحيوانات, يتنافس على الأنثى. حاجة الإناث لذكر واحد, الأقوى فى هذه الحالة, يخلق بين الذكور العنف والصراع. ذكور الفقمة أو عجل البحر التى تعيش فى البحار الشمالية, تتصادم أجسادها, التى يبلغ كلا منها مايزيد على 2000 رطل, لكى يفوز أحدها وحده بالحريم, والتى يبلغ عددها العشرات. كباش القطب الشمالى تتناطح بعنف لدرجة أن واحدا من كل عشرة منها ينفق بسبب هذا التناطح. وحتى الخنافس والذباب, تتقاتل ذكورها للفوز بالأنثى.

الإخلاص والوفاء فى عالم الحيوانات غير معروف. غالبية الطيورلا تعرف تعدد الزوجات. تعيش الأنثى مع نفس الذكر مدة طويلة قد تزيد على العام, وقد تبغ طول العمر. يقوم الذكر والأنثى سويا ببناء العش, ورعاية الصغار وإمدادهم بالدفئ والغذاء. عدم تعدد الزوجات بالنسبة للطيور يعتبر ضرورى للحياة. رعاية الصغار تحتاج إلى تعاون الجنسين. وتعدد الزوجات لايسمح بذلك. بالرغم من ذلك فالخيانه الزوجية موجوده بين الطيور وبكثرة. وقد تصل فى كثير من الحالات إلى 55 بالمائة. فإذا مر ضيف عابر, ووجدت الأنثى أن ذيله أطول وأكثر لمعانا من الزوج المرافق لها, فلا مانع من وصال هذا الضيف, وبعدها يذهب إلى حال سبيله وينسى الموضوع. تاركا الزوج المسكين يقوم بواجبات الأبوه نحو صغارا ليسوا من صلبه.

يلقى العنكبوت أحمر الظهر, الذى يعيش فى أستراليا, بنفسه بين أرجل الأنثى لجماعها. فتقوم هى أثناء الجماع بحقنه بسمها وألتهامه ببطء. عملية الجماع وإلتهام الذكر تستغرق النصف ساعة تقريبا. لا تقوم الأنثى بإلتهام الذكر إلا إذا كانت جائعة. أما إذا لم تكن جائعة, فعملية الجماع تستغرق 11 دقيقة فقط. عدد الحيوانات المنوية التى يضعها الذكر فى جسد الأنثى تبلغ النصف بالنسبة للحالة التى تقوم فيها الأنثى بإلتهام الذكر. وبذلك تكون تضحية الذكر بنفسه لها ميزة بالنسبة للمرحوم. إذ تجعل فرصته فى تخصيب الأنثى أكبر من الذكر الذى تكتب له النجاة. وخصوصا إذا علمنا أن الأنثى لا تميل إلى لقاء ذكر آخر بعد هذه الوليمة العظيمة التى يتخللها الجماع.

للأم دور فى تحديد حجم ونوع الجنين. نوع من البط تضع أنثاه بيضة أكبر إذا كان الذكر أكثر سيطرة على باقى السرب. ونوع آخر من الطيور المغردة, يعيش الذكر مع الأنثى كزوجين فى أحد جزر المحيط الهندى على مساحة محدودة من الأرض. الإناث الصغار عادة لا يتركن أبويهما عندما يكبرن. وهو الحال بالنسبة لبناتنا فى منطقة الشرق الأوسط. ليس هناك مشكلة إذا كان الغذاء وفير ويكفى الجميع. ولكن المشكلة تكون عندما يشح الغذاء ولا يكفى الجميع. وجد العلماء أنه إذا كان الغذاء وفيرا بالنسبة لهذا الطير الشادى, فإن الأنثى تضع بيضة واحدة ذكر لكل ستة بيضات أناث. أما إذا شح الغذاء, فيحدث العكس. تضع الأنثى بيضة واحدة أنثى لكل ستة بيضات ذكور.

المنطق هنا واضح, من وجهة نظر نظرية التطور. عندما يشح الغذاء, يكون من الأفضل الإتيان بالذكور التى سرعان ما تكبر وتغادر, ليبحث كل منها عن وليف لتكوين أسرة بعيدا عن هذا المكان. فإذا نجحت الذكور فى ذلك, كان بها. أما إذا فشلوا ولم يستطيعوا إيجاد مكان آخر, فإنهم قد يموتون جوعا. وهو ثمن يستحق دفعه فى سبيل بقاء النوع. وعندما يكون الغذاء وفيرا, فمن الأفضل أن تضع الأنثى الإناث. لأنهن يساعدن أبويهما, فى العناية بالعش, والدفاع عن حوض المكان الذى يعيشون فيه. كيف تتحكم أنثى هذا العندليب المغرد فى نوعية أطفالها؟ لا أحد يعرف حتى الآن.

عندما يولد الحيوان, إما أن يجد نفسه عضوا فى عائلة كبيرة, وإما أن يجد نفسه وحيدا يتيما. بالنسبة لذبابة مايو, يموت الأبوين قبل أن يفقس البيض. بالنسبة للدب الأسود, تعتنى الأم بطفلها لمدة سنة, ولكن الأب لا يقدم أى مساعدة فى العناية بالطفل. ذكر العصفور, يبذل كل جهده بجانب الأم فى العناية بالصغار حتى تتعلم الطيران وتغادر العش. الفيل يعيش مع أبيه وأمه وإخوته وأخواته وأعمامه وعماته وأخواله وخالاته وجده وجدته عشرات السنين.

الطيور ذات الصدر الأبيض والتى تتغذى على النحل, تعيش فى جماعات تبلغ 300 طائر. تبنى هذه الطيور عشها بالطمى على هيئة ثقوب تشبه الشقق فى العمارات الكبيرة. الطيور البالغة يعيش كل زوجين منها مع بعضهما داخل العش الكبير. عندما تكبر الأولاد فإنها تبقى مع والديها للمساعدة فى تربية باقى الصغار. وفى بعض الأحيان يقوم هؤلاء الأولاد بمساعدة الجيران.

الطيور ذات الصدر الأبيض, لا تعيش مع أبويها فقط. وإنما تعيش فى عائلات قد تصل العائلة إلى 17 فردا, تشمل الأب والأم, الجد والجدة, العم والخال, العمة والخالة, الأخ والأخت وأبنائهما. ليس هذا فقط, ولكن يقوم الأفراد بزيارة أقاربهم الذين يسكنون فى عش بعيد. ويقومون بمساعدتهم إذا دعت الحاجة إلى ذلك. هذه الطيور لا تساعد الغرباء, وإنما الأقارب الذين يحملون جينات مشابهة لجيناتها. مساعدة الطيور لأقاربها يضاعف من إنتاجية العش. وإذا إستقل أحد الأبناء لتكوين أسرة جديدة بعيدا عن العش الأصلى, فإن الأب يقوم بزيارة إبنه زيارة عائلية مرات عديدة إلى الدرجة التى تغرى الإبن على العودة إلى عش والديه للإستمرار فى مساعدة ورعاية أخواته.

العناية بالأطفال قد تكون لها أهمية إخيار الزوجة أو الزوج. ما الفائدة من جماع ذكر الخنافس لآلاف الإناث, إذا ماتت أطفاله خلال أسبوع من الفقس. أنواع كثيرة من عالم الحيوان, الأم والأب يعملان سويا للعناية بالأطفال حتى تكبر. ذكور الطيور تشارك الأنثى فى العناية بالصغار حتى وإن كانت الزوجة غير وفية.

هناك أنواع أخرى من الحيوانات, منها الأسود والدببه والفيران والدلفين وقرد اللنغور الأسيوى. الذكر ليس يهمل فقط الأطفال, وإنما قد يقتلهم فى بعض الأحيان. الأسود تعيش فى مجموعات مع أطفالها, قد يزيد عدد الأناث البالغة فيها عن الدستة, وعدد الذكور البالغة قد يصل إلى أربعة. عندما تصل صغار الأسود الذكور إلى سن البلوغ, تقوم الذكور كبيرة السن بطردها من المجموعة. تهيم الذكور حديثة البلوغ على وجهها باحثة عن مجموعة أخرى تكون فيها الذكور كبيرة السن ضعيفة لا تقدر على مقاومتهم. فإذا وجد هؤلاء الشبان بغيتهم, قاموا بطرد الذكور الكبيرة الضعيفة من القطيع وحلوا مكانهم. هنا تكون الخطورة الكبيرة على الأطفال. لأنها إن وجدت, يقوم الذكور الشبان الغازية بتمزيقهم إربا. فكل أربعة أطفال تولد للأسود, يموت أحدهم هذه الميتة البشعة بمخالب الذكور الغزاة.

هذه قسوة فظيعة بمعايرنا الخلقية, ولكنه منطق التطور فى إحدى صوره. هدف ذكر الأسود هو أخذ مجوعة من الأناث فى حوزته لإنجاب أطفال من صلبه. حضانة الأم لأطفال من ذكر آخر قد تمنع الأم من وصال الذكر الجديد الغازى, أو تأجل هذا الوصال عدة شهور حتى يأتى موسم التزاوج. أثناء هذا الإنتظار, قد يأتى غازى آخر فيقوم بطرده قبل أن يجامع الأنثى. لذلك فهو ليس لديه وقت يضيعه فى الإنتظار إذا كان الهدف هو إخصاب الأنثى بجيناته لا بجينات غيره.

أناث الأسود لا يقفن مكتوفى الأيدى, بل يفعلن ما فى وسعهن لحماية أطفالهن من هذا الغازى المفترى. زئير الغزاه يجعلهن يتجمعن ويقفن صفا واحدا, والأطفال من خلفهن, فى وجه الذكور المعتدية لمنعهم بالقوة من الإقتراب من الأطفال. وكلما زاد عدد الإناث فى المجموعة, كلما زادت فرصة الأطفال فى النجاة. وربما يفسر هذا حاجة أناث الأسود للعيش فى ظل نظام الحريم الجماعى بدلا من العيش الإنفرادى.

لكن للأسف لاينجح دفاع النساء عن أطفالهن فى كل مرة. وعندما يقتل الأسد الغازى أطفال الأنثى, تتغير هرمونات جسدها وتصبح مستعدة للوصال. يقوم هذا الغازى الجديد قاتل الأطفال بجماع اللبؤة مايقرب من مئة مرة فى اليوم. بعد يوم أو يومين يصبح منهك القوى جدا. يأتى بعد ذلك ذكر آخر غازى أقل درجة فى الهيمنة من الذكر الأول المنهك, ليقوم هو الآخر بمواصلة جماع اللبؤة لمدة يوم أو يومين أخرين. تقوم الأنثى بالوضع بعد أربعة شهور لتستمر الدورة.

الإيثار ومساعدة الغير لاتوجد الا فى أنواع قليلة من الحيوانات. منها الخفاش الذى يعيش على الدماء. هذا الخفاش يقضى الليل فى البحث عن ضحية يمص دمها. وعندما يفشل فى الحصول على غذائه, فإنه يعود إلى كهفه ليستجدى الدماء من خفاش آخرلا ينتمى إليه بصلة القرابة ويكون قد أسعده الحظ فى الحصول على غذائه اليومى. مساعدة الغرباء المتبادلة من نفس الجنس قد تساعد فرص إستمرار الحياة, أكثر من السلوك الأنانى بين نفس الجنس. الخفاش ماص الدماء يستهلك غذائة بسرعة كبيرة, وإذا لم يحصل على الغذاء فى خلال يومين أو ثلاثة فإنه يهلك جوعا. التبرع بالدم إلى خفاش غريب يعتبر تضحية بدون شك, ولكنه فى نفس الوقت بوليصة تأمين. وهذا هو الحال بالنسبة لسكان الصحراء. فالكرم يعتبر بوليصة تأمين ضد الموت جوعا.

قرود الشمبانزى تتعاون مع بعضها البعض, وتقدم المساعدة إلى غير الأقارب منها, وحتى تقوم بالتضحية لمساعدتهم. إنها تكون مجموعات للصيد الجماعى. الإيثار المتبادل قد يساعد الشمبانزى على ترسيخ الوضع الإجتماعى. فمثلا قد يتعاون ذكران منهم ويتحالفان على إقصاء زعيمهم المسيطر. إنهم لا يقدمون خدماتهم بطريقة عمياء, ولكنهم يسجلون خدماتهم, ويقطعونها مستقبلا عن الأفراد الذين يدركون عدم وفائهم وخيانتهم لهم. وربما يقومون بمعاقبتهم نظير هذه الخيانة.

فى عالم الشمبانزى, الذكور وليس الإناث هم المستفيدون من الإيثار المتبادل بينهم. الذكور تقضى كل حياتها فى المجتمع الذى ولدوا فيه, بينما الإناث ترحل عند سن البلوغ إلى مجتمع آخر للتزاوج. ترعى الإناث أطفالهن. ولأن طفل الشمبانزى يحتاج إلى أربع سنوات رعاية من والدته, لذلك فأناث الشمبانزى تقضى 70 فى المئة من حياتها بعد سن البلوغ فى خدمة أطفالها. بذلك تكون مشغولة معظم الوقت عن باقى أفراد المجتمع الشمبانزى.

الأناث ليس لديهن الفرصة لتكوين تحالفات والإستفادة من الإيثار المتبادل مثل الذكور, لأنهن مشغولات بتربية أولادهن. لذلك فلا يستطعن تقلد مناصب رفيعة فى السلم الإجتماعى. وإذا قدم الطعام لمجموعة من الشمبانزى, فالذكور تأكل أولا حتى تشبع, ثم تأتى الإناث بعد ذلك. ذكور الشمبانزى تستخدم العنف ضد الإناث. إنهم يقومون بضربهن وإرغامهن على ممارسة الجنس. وإذا ظهرت أنثى غريبة على المجموعة ومعها طفل, فقد تقوم الذكور بقتل الطفل.

أناث الشمبانزى, كما هو الحال بالنسبة لأنواع أخرى من الحيوانات, يقمن بالدفاع عن أطفالهن, وبالبحث عن أزواج أفضل. أنثى الشمبانزى قد تستخدم الجنس كسلاح للدفاع عن أطفالها. إذ كلما إقترب منها ذكر تخاف غدره, فإنها تعرض نفسها عليه, لإفساد غريزة قتل الأطفال الكامنه داخله.


وإلى اللقاء فى مقال آخر عن نظرية التطور. هذه النظرية العظيمة التى تعمق فهمنا لأنفسنا والعالم الذى نعيش فيه.


06/11/2014

 zakariael@att.net

 

.....................................................................................

 


 

 
 



مطبوعة تصدر
 عن المركز الأمريكى
 للنشر الالكترونى

 رئيس التحرير : غريب المنسى

مدير التحرير : مسعد غنيم

 

الأعمدة الثابته

 

 
      صفحة الحوادث    
  من الشرق والغرب 
مختارات المراقب العام

 

موضوعات مهمة  جدا


اعرف بلدك
الصراع الطائفى فى مصر
  نصوص معاهدة السلام  

 

منوعات


رؤساء مصر
من نحن
حقوق النشر
 هيئة التحرير
خريطة الموقع


الصفحة الرئيسية