لماذا أشعر بالقلق من حكم الإخوان؟
| |
مرسي | |
بقلم: محمد زكريا توفيق
.........................
القلق الذي أقصده هو الغثيان والمغص المصحوب بالقئ ووجع البطن. السبب؟ هو وضع بلادنا وما آلت إليه ثورتنا المجيدة، على أيدي الإسلاميين، من إخوان وسلفيين وجهاديين. فالثورة، قد توفاها الله وتغمدها بواسع رحمته، فاللهم ارزق أهلها وذويها الصبر والسلوان، وأجرهم في مصيبتهم.اللهم اغفر للفقيدة وارحمها برحمتك الواسعة, وعافها واعف عنها واكرم نزلها ووسع مدخلها واغسلها بالماء و الثلج والبرد، ونقها من الخطايا، كما تنقي الثوب الأبيض من الدنس.
بدأ المرض يغزو جسد المسكينة عندما ترأس المستشار البشري اللجنة الخماسية لتعديل دستور 71. ثلاثة من أعضاء اللجنة لهم ميول إسلامية. رئيس اللجنة، طارق البشري، مؤلف كتاب "الدولة والكنيسة" الذي أثار جدلا كبيرا لدى أقباط مصر.
أحد أعضاء اللجنة، صبحي صالح، إخوانجي حتى النخاع يؤمن بوجوب زواج الإخواني من الإخوانية، ومؤلف كتاب العلمانيون في قفص الاتهام. ثالثهم، عاطف البنا، يؤمن بشرعية الإخوان السياسية والقانونية بالرغم من كونها جماعة دينية سرية غامضة تقوم على مبدأ السمع والطاعة، مثل الحزب النازي أو الجماعة الماسونية.
هم قانونيون ودستوريون كبار لا يشق لهم غبار، على عينا وراسنا، لكن ليسوا مفكرين أو فلاسفة، يمكن مقارنتهم برفاعة الطهطاوي أو بعلي باشا مبارك أو بقاسم أمين أو أحمد لطفي السيد أو طه حسين أو السنهوري باشا، إلخ. وبالطبع لا تقترب أفكارهم من قريب أو بعيد من أفكار مفكري عصر الأنوار أمثال فولتير و"منتسكو" و"توماس بين" و"جان جاك رسو" و"كوندورسييه".
هذا ليس عيبا فيهم، فكل منهم نتاج ثقافة عصره، وكل لما خلق له. لكنها مشكلة الذين قاموا باختارهم، عن قصد أو جهل لهذه المهمة الجليلة في هذا الوقت الفارق من تاريخنا المعاصر.
نفهم الآن، لماذا كان الإصرار على تعديل الدستور والإنتخابات أولا، بدلا من احتضان الثورة والبداية بدستور عصري جديد، على "مية بيضة" كما يقول العامة. يجنب البلد غدر الزمان وعبث الصبيان، وويلات الصراعات الدينية والطائفية التي تلوح في الأفق، ويضعها على الطريق المستقيم نحو مستقبل باهر وأمل زاهر. قبل أن يشتد عود جماعة الإخوان والسلفيين، وقبل أن يتملكوا مفاصل الدولة وأجهزتها وباقي جسدها المريض الهزيل.
المجلس العسكري ليس بريئا، بالرغم من تقلد قادتة النياشين وخروجه الآمن، من تهمة خيانة الثورة . التي كانت أمل كل المصريين والغلابة المساكين من سكان العشوائيات والمعدمين من الجنسين.
المجلس ليس خاليا من سبة تسليم الدولة المصرية، تسليم مفتاح، لجماعة سرية غامضة، وسلفيين لا يؤمنون بوطن ولا بثقافة أو حضارة، يمكن أن تنتشل دولتنا وآدميتنا من الوحل والطين.
لكن لماذا فعل المجلس ذلك؟ قد يكون لأن المجلس مخترق من أعوان الإخوان والسلفيين، أو لأن هذا هو الثمن الفادح للخروج الآمن، أو لضغوط خارجية، أو لكل هذه الأسباب مجتمعة.
الآن نجد الإخوان تتربع على قمة الدولة برئاسة الدكتور مرسي. ونجد رئيس الوزراء الملتحي يقول " أنا لست واحدا منهم (وشرف لى ان اكون منهم)". مجلس الشورى، ومجلس الشعب المنحل، ولجنة تشكيل الدستور، والجيش وأجهزة المخابرات والحكومة تسيطر عليها جماعة الإخوان بدون رحمة أو هوادة.
الكل يسارع على قدم وساق للمجاملة والعمل على أخونة الدولة وأفغنتها. طلب اعفاء اللحية في الشرطة، وفصل رؤساء تحرير، والحجاب في القنوات الفضائية وقص شعر الأطفال في المدارس لفرض التحجب، وغدا يرش ماء النار على الوجوه لنفس الغرض. وحتى اللجنة التأسيسة تجامل. فرئيس الجمهورية في الدستور المقترح لا يشترط أن يكون أبناؤه غير حاملي جنسيات أخرى.
للإخوان، فوق هذا، حزبهم وجمعيتهم ومليشياتهم ومشروعهم للنهضة. ولا أدري أي نهضة يتحدثون عنها، إذا كان رائد نهضتهم زوجته منقبة؟ إلا إذا كانوا يعنون نهضة تجارة الشنطة وتوظيف الأموال. النهضة هي نهضة فكرية قبل أن تكون اجتماعية أو اقتصادية. لها عناصرها وعواملها الغير متوافرة لديهم.
الرئيس مرسي يجمع الآن بين يديه الكريمتين، السلطتين التشريعية والتنفيذية، وفوقهما السلطة الدينية. هذا لم يتأت لحاكم من قبله قط، منذ العصر الجليدي، أو على الأقل منذ بداية التاريخ المدون، حتى الآن. أي أنه إذا أراد أن يصبح قيصرا أو أغسطسا أو نيرونا لمصر، فلن يستطيع أن يمنعه أحد. وكما يقول طرفة بن العبد:
خلا لك الجو فبيضي واصفري
ونقري ما شئت أن تنقري
قد رحل الصياد عنك فابشري
ورفع الفخ فماذا تحذري
المشكل هي أن الإخوان ليس لديهم فكر فلسفي يوافق العصر الذي نعيش فيه. أفكارهم كلها دوجماتية قديمة، هي أفكار ابن تيمية والمودودي والبنا وقطب. موقفهم من قضايا إنسانية معاصرة غير واضحة يشوبها الغمام والشك.
كما أشكك في موقف قادة الإخوان من قضايا مثل صوت المرأة والفنون التشكيلية وصناعة التماثيل وفرض الحجاب، ولا أسمع منهم ما يطمئن. فلقد جاء في جريدة الدعوة عدد مايو 1977 ما يلي:
«صوت المرأة كان ومازال من المفاتن التى تجذب الرجل وتثير غرائزه والأذن تعشق قبل العين أحياناً، وكل فعل يؤدى إلى طمع الذى فى قلبه مرض يعتبر حراماً سداً للذرائع ولهذا فإن غناء المرأة حرام»
وفي عدد يناير عام 1981م جاء ما يلي:
"حرم الإسلام على المسلم أن يشتغل بصناعة التماثيل، أو أن يجمل بها بيته أو مكتبه أو فى أى مكان يحل فيه، وقد أجاز العلماء رسم اللوحات للنباتات وكل شىء لا روح فيه، فإن رسم شخص صورة لما فيه روح يعذبه الله حتى ينفخ فيها الروح، وليس بنافخ فيها أبداً. أما عن الصور الفوتوغرافية فهى جائزة إذا لم تكن كاملة وقد يراها البعض مكروهة، لكنها تقبل بحكم الضرورة كصورة البطاقات الشخصية، أما التماثيل فإن فكرة تخليد من يسمون بالعظماء بإقامة تماثيل لهم فهي فكرة غريبة تسربت إلينا عن طريق الاستعمار، وهى رجوع إلى الوراء، وعودة إلى الوثنية ونكسة للبشرية، ولا ينبغي أن يخضع أى بلد إسلامي لهذا الضلال وأن يغير حكم الله فى حرمة إقامة التماثيل لضررها البالغ وخطرها الشديد على العقيدة وعلى الخلق القويم، وما خلد سيد الخلق (ص) ولا أصحابه، ولا أئمة الإسلام بهذه الصورة الحجرية، بل خلدوا فى القلب والفكر بما عملوا من خير".
هذا يفسر لنا تقارب فكر الإخوان مع فكر السلفيين بالرغم من ادعائهم للحداثة ومدنية الدولة. هذا الفكر في مصر يرضي أمريكا واسرائيل والسعودية. لأنه وصفة صحيحة مجربة للتخلف وسيادة الجهل وابتذال العلم وتغييب العقل. وهذا يصب في خدمة المصالح الإمبريالية الجديدة. ويضمن استقرار الحكم الرجعي في السعودية وباقي الدول العربية.
المساواة التامة بين البشر غير واضحة لديهم. المسلم الرجل عندهم، أفضل من المرأة، وأفضل من المسيحي ألف مرة، أو ممن يتدين بأي دين آخر. بل المسلم الباكستاني أو الفلسطيني أهم وأفضل عندهم من المصري المسيحي. وهم أيضا لا يؤمنون بأي حق لمعتنقي الأديان الأخرى، الشيعة والبهائية وغيرها، في ممارسة شعائرهم الدينية بحرية وسلام.
في حديث لأحد أعضاء لجنة تأسيس الدستور، في برنامج العاشرة مساء للأستاذ وائل الإبراشي بتاريخ 16-9-2012، قال بصراحة، وهو إخوانجي أصيل شكلا وموضوعا، أختير بعناية لكي يكتب لنا دستور الثورة، أنه لا يمانع من زواج طفلة صغيرة لا تزال تلعب بعرائسها من كهل. قد يكون عجوزا مريض نفسيا، تخلعت أسنانه وخف عقله وتساقط شعره ولازم السعال والهرش وآلام المفاصل جسده.
الإخوان والسلفيون لا يجدون غضاضة في زواج طفلة عمرها تسع سنوات من شيخ بلغ من العمر أرزله. بحجة أن الطفلة قد تبلغ مبكرا، وغير مهم تعليمها ونضجها العقلي والاجتماعي، ولا يهم التناسب الفكري بين الطفلة الساذجة الأمية والشيخ المغتصب.
لا يبالون بما يؤول إليه المجتمع، عندما يترك الكهل الصبية وأطفالها، سواء كان هذا بعد أن يملها، أو لكي يذهب إلى مثواه ملبيا النداء الأخير. لكن بعد أن يكون قد أكمل جريمته بإحكام، مع سبق الإصرار والترصد. وبعد أن يكون قد سلب الطفلة طفولتها وحقها في التعليم، ونزعها من دفئ وحنان أبويها وأخواتها. وكله بالقانون وحماية الدستور المقترح.
هل هناك وسيلة أخرى في هذه الحالة، متاحة للطفلة المسكينة، أو ما تبقي منها كطفلة، لكي تقيم بها أودها وتطعم من خلالها عيالها، سوى بيعها لجسدها؟ هل الدين في عرفنا يعني أن نغيب عقولنا ونلغي ضمائرنا ونقتل داخلنا كل ما هو جميل ونبيل. الحق والصدق والرحمة والشفقة والإنسانية، لكي نثبت طاعتنا العمياء لنصوصنا وتأويلاتنا؟
إنهم يبغون سحب كل مكتسبات المرأة التي نالتها خلال فترة كفاحها المرير لكي تتخلص من ظلم الرجل واستعباده لها. لا يمانعون في عودة نظام السبايا والجواري والقنان والرقيق والعبيد. لا لشئ سوى لأنها أمور كانت موجودة أيام الرسول.
ومادامت موجودة أيام الرسول، فهي واجبة اليوم، حتى لو كانت تخالف المواثيق الدولية وحقوق الإنسان والضمير والمنطق والأخلاق وكل المقاييس والمعايير والأعراف النبيلة التي ارتأتها وارتضتها البشرية على مدى تاريخها الطويل.
المادة ال 24 أو ال52 من الدستور المقترح تقول:
" التربية الدينية واللغة العربية مادتان أساسيتان فى مناهج التعليم بجميع أنواعه ومراحلة. وتعمل الدولة على تعريب العلوم والمعارف تمهيداٌ لتعريب التعليم في كل مراحله، وتلتزم الجامعات بتدريس القيم والأخلاق اللازمة للتخصصات المختلفة."
يقول الأستاذ محمد سلماوي في مقاله الهام بالمصري اليوم: قال لى الروائى الكازاخي الشهير نور على أوراز: "لم نكن نتعلم فى المدارس أى لغة إلا الروسية، لذلك فإن جيلي لا يعرف من الآداب العالمية إلا ما تمت ترجمته إلى الروسية، ولما كانت الترجمة فى روسيا السوفيتية محكومة بنظرة أيديولوجية معينة فقد كان اختيار ما يتم ترجمته من الكتب عملية انتقائية إلى حد بعيد".
بالنسبة لتدريس الدين في المدارس الحكومية، على أي مذهب؟ الوهابي أم الإخوانجي أم السلفي أم مذهب أحد مشايخ الصوفية؟ وبالنسبة لتعريب التعليم في كل مراحله، لنا أن نتخيل الضرر الناجم عن إصرار إخواننا بتوع التأسيسية على أن تكون مواد الدراسة الجامعية كلها باللغة العربية. أفهم أن تدرس العلوم بلغة أهلها إلى جانب دراسة اللغة العربية كلغة، مثلها مثل بقية اللغات.
لكن أن نجعل اللغة العربية لغة مقدسة ونفرضها كلغة علم، ندرس بها الطب والرياضيات والكمبيوتر والهندسة الوراثية والفانتوثانية، فمن سيقوم بترجمة كل هذه المعارف التي تصدرها الجامعات ومعاهد الأبحاث والمجلات العلمية في جميع أنحاء العالم، والتي يبلغ عددها الآلاف في اليوم الواحد.
بالنسبة لالتزام الجامعات بتدريس القيم والأخلاق في الجامعات والمعاهد العليا، أي أخلاق؟ أخلاق أرسطو أم كانط أم أخلاق بن لادن وطمس معالم المرأة بالنقاب وإلقاء ماء النار على الوجوه لفرض الحجاب، أم أخلاق الكفيل وجلد المرأة 500 جلدة لأنها ضبطت في مكتبها وهي تجالس رجلا بدون محرم؟
بالطبع ال 100 يوم غير كافية للحكم على حكم الإخوان. لكن "الجواب يبان من عنوانه" كما يقول المثل الشعبي. أولا عدد الأيام الغير كاف يدل على سذاجة التقدير أو ديماجوجية الفكر على أحسن تقدير.
الغريب هو التبرير الذي نسمعه من جماعة الإخوان لفشل مشروع المئة يوم وسخافة مشروع النهضة . فلا نجد شجاعة أدبية ولا شفافية ولا صدق ولا اعتراف بسوء التقدير وعدم علميته، وكأن الهدف منه كان مجرد خداع الجماهير . خصوصا البسطاء منهم للنجاح في الإنتخابات.
نجد أيضا تخبط قرارات الرئيس مرسي، بالإفراج في هذا الوقت الحرج عن عتاة الإجرام والتطرف الإسلاميين. كما نجد التخبط في اعتداؤه على السلطة القضائية. فهو يقوم بتخطي اختصاصاته. مرة يحاول إعادة مجلس الشعب المنحل، ومرة أخرى يحاول إقالة أو ازاحة النائب العام . في كلتا الحالتين، هو اعتداء صارخ على القانون والدستور الذي أقسم الرئيس على احترامه والتزم بعدم الخروج عليه.
كنا نأمل ونعتقد بأن الرئيس مرسي عندما ينجح في انتخابات الرئاسة، سيرتفع إلى مستوى المسؤولية ويصبح رئيسا لكل المصريين. لكن الأيام تتوالى تباعا لتؤكد خيبة أملنا جميعا، في إصرار الرئيس على أن يكون حاكما لجماعة لا رئيسا لدولة.
الإخوان جماعة محظورة ليست لها كوادر تتمتع بالخبرة أو بالفكر اللازم لحكم بلد كبير مثل مصر، وخصوصا في ظروف كالتي نمر بها. كل خبرة الإخوان قانونية بحكم القضايا والإعتقالات والأحكام التي كابدوها خلال تاريخهم الطويل المرير. معظمهم محامون وخبراء قانون يجيدون التلاعب بأحكامه وتفسيره لأغراضهم ونواياهم. لكن لن تجد بينهم فلاسفة ومفكرين.
مشكلتهم أنهم لا يستطيعون الخروج من عباءة الإخوان، من يفعل ذلك يصبح عدوا للجماعة. هذا ما حدث للدكتور عبد المنعم أبو الفتوح وغيره. الإلتزام التام والسمع والطاعة هي سمة خطيرة من سمات الأحزاب النازية أو الجمعيات الماسونية.
إذا قمت برسم دائرة على الأرض ووقفت بداخلها، فأنت بذلك تكون قد قسمت سطح الكرة الأرضية إلى جزئين. ما بداخل الدائرة وما بخارجها. وتكون قد خلقت مفهوم نحن وهم. بالرغم من أن الدائرة ما هي إلا وهم، لا توجد إلا في عقولنا، مثل الغول والعنقاء والخل الوفي. كذلك الخط المستقيم وكل القوانين والنظريات الرياضية والفزيائية والعلمية. كلها من اختراع العقل ولا توجد في الطبيعة.
كنت أنتظر من الرئيس مرسي أن يكون رئيسا للكل. يحتضن كل المصريين ويبحث عن الكفاءات والكوادر بينهم أينما يكونوا، في الداخل أو الخارج، في الحزب أو في المعارضة، بين المصريين أو غير المصريين إن لم يجد.
مشكلة الرئيس مرسى الحقيقية هي أنه لا يستطيع التخلص من التزامه قبل الجماعة. تمسكه بالجماعة أعماه عن كل كفاءات مصر وعباقرتها في كل المجالات. أفراد الجماعة وأولاد عمومتهم السلفيين تتكاثر على الرئيس مرسي تكاثر الأكلة الجياع على قصعة الثريد. فتحجب عنه الرؤية ولا يرى غيرهم.
كنت أنتظر من الرئيس مرسي فور توليه سدة الحكم أن يسارع بالإشراف على عمل دستور عصري حديث يليق بمصر، لا دستور يرضي به جماعته ورؤسائها أصحاب "طظ" في مصر، أو يكسب به ود السلفيين والجهاديين الذين لا يؤمنون بوطن أو بأي قيم أو حقوق إنسانية نبيلة.
كنت أتـوقع من الرئيس مرسي أن يبدأ من حيث ينتهي العالم اليوم، أي من القيم والحقوق الإنسانية النبيلة التي ثبت صحتها وجدواها وأقرها العلماء والفلاسفة قديما وحديثا وجربتها معظم شعوب الأرض بنجاح بالغ. لا أن يبدأ من القرن السابع ويرفض أن يغادره إلى رحاب أوسع وأفسح.
اختلاف الأديان وتنوع العادات والأفكار لا يعتبر ضعفا للدولة. إنما قوة وصلابة. هذا ما يفعلة المهندسون في صناعة السبائك المختلفة. الحديد يزداد صلابة (الصلب)، إذا أضيفت له نسبة من الكربون. الحديد الخالي من الكربون مرن، لا يصلح لصناعات كثيرة.
كذلك الشعوب التي تختلط فيها الأجناس والعادات والأديان، تكون أكثر حضارة وقوة وتقدم. دول المهجر مثل أمريكا وكندا وأستراليا خير دليل على ذلك. هذا يحدث بالطبع إذا توفرت حرية الأديان والمساواة في الحقوق والواجبات.
لذلك لا يجب أن تكون مصر دولة دينية بأي حال من الأحوال. شعب متدين نعم، لكن دولة دينية لا وألف لا. الأزهر لا يجب أن يخرج عن كونه مؤسسة تقوم بالدراسات والأبحاث الدينية وما شابه، وكذلك الكنيسة.
لا يجب أن يتدخل رجل الدين ليحدد ما يجب أن نفكر فيه، أو في الصحافة والتأليف، أو الفنون بكل أشكالها، أو حرية الرأي والبحث العلمي والطب، أو حتى لباس المرأة والرجل. الدين لا يجب أن يدرس بالمدارس الحكومية. مكانه البيت والجامع والكنيسة والمدارس الخاصة، لا المدارس الحكومية والجامعات والمعاهد الحكومية.
كما أن رجل الدين لا يجب أن يتدخل لكي يفرض علينا آراءه بالقوة. أو يفرض علينا بندا في الدستور غير أخلاقي. يتحول بمقتضاه قطاعا كبيرا من المصريين إلى درجة ثانية أو ثالثة من المواطنيين، ويفتح علينا صندوق "بندورا"، ليشتت جهودنا في الدفاع والهجوم والنزاع والصراع بين مسلمين ومسيحيين إلى أبد الآبدين، هذا شئ لا نقدر عليه ولا يجب أن يكون.
يقسم أفلاطون نظم الحكم إلى نظامين: نظام يكون فيه القانون هو السيد. ونظام تكون فيه القوة هي السيد. يأتي أرسطو بعده، لكي يُعّرف الدستور بأنه مجموعة القوانين التي تمنح السلطة لأفراد الحكومة المشكلة وفقا للدستور. ثم يشير أرسطو إلى الرجال الذين يقومون بتأسيس دول دستورية، بأنهم أعظم الواهبين والمانحين.
ماذا كان يعني أرسطو عندما يقول أن "سولون" في أثينا، و"ليكورجوس" في اسبرطة هم أول من أسسوا دولا؟ وماذا كان يعني بوصفهم أعظم الواهبين والمانحين؟
بالنسبة لأرسطو، نظم الحكم الدكتاتورية والأبوية، لا ينتج عنها دولا. الدولة لا تتكون إلا إذا كانت الحكومة دستورية. أي عندما يظهر الدستور، ويُفعّل وتلتزم به الحكومة. فيه دستور، فيه دولة. مافيش دستور مافيش دولة. كده ببساطة شديدة.
لهذا اعتقد أرسطو أن "سولون" في أثينا و"ليكورجوس" في اسبرطة، هم أول من أسسوا دولا، بوضعهم دساتير لمدنهم. بقيام الدولة والدستور والحكومة الدستورية، يظهر المواطن والمواطنة للوجود. قبل ذلك، ما كان فيه مواطنة ولا يحزنون.
اختراع الإغريق للدستور يعتبر أعظم تقدم في تاريخ البشرية. اختراع يقف في عظمته جنبا إلى جنب مع اكتشاف النار واختراع العجلة وترويض الحيوانات واتقان الزراعة. قبل اختراع الدستور، كانت الناس تحكم، كرعايا أو كعبيد. لكن لا يوجد مواطنين في أي دولة من الدول.
لكن ما هو الدستور؟ هل يمكن أن آتي بصفحة من دليل تليفونات، أو كلام زغلول النجار، أو مجموعة قوانين كيفما تكون غير متكاملة وغير متجانسة، وأقول هذا هو الدستور؟ الدستور الذي يحولنا من مجرد رعايا وعبيد، إلى مواطنين محترمين، يجب أن يحمل في طياته ما يحافظ على حقوقنا كبني آدمين.
إذن، الدستور وسيلة وليس غاية. نبدأ بالأهداف التي نبغيها لكي نكون مواطنين صالحين، ثم نطلب الدستور الذي يحمي ويصون هذه الأهداف. الأهداف تختلف من شعب إلى شعب، ومن زمن إلى زمن، ومن مواطن إلى آخر، لكن هناك أهدافا عامة أساسية لا يمكن بدونها أن نكون بني آدمين أو مواطنين صالحين. منها المساواة وحقوق الإنسان الطبيعية وحق الإنسان في طلب السعادة وحقه في التعبير عن رأيه.
ماذا نعني بالمساواة بين المواطنين؟ المساواة تعني أن لا أحد من المواطنين، له ميزة طبيعية بالمولد، تجعله أكثر أو أقل من الباقين. كلنا ننتمي إلى نوع واحد من البشر يسمى "هومو سيبين". لا فرق بين رجل وامرأة، أو بين أبيض واسمر، أو بين مسلم ومسيحي، أو بين مدني وعسكري، أو بين أهلاوي وزمالكاوي.
نفس عدد الجينات، وعدد الكروموزومات الثلاثة والعشرين. الاختلاف فقط عن باقي الحيوانات والمخلوقات. أما بالنسبة للبشر، فكلنا متساوين. أو كلنا في الهم سويا. التباين يكون فقط بسبب النشأة والتربية والتعليم. هي كلها أشياء مكتسبة وليست طبيعية. لذلك، كل منا له شخصيته وكيانه الخاص به، الذي لا يشاركه فيه أحد.
إذا كانت الجينات والكروموزومات، تساوي بيننا وتوحدنا جميعا تحت علم واحد، فعلينا ألا ننكر هذا ونحترم هذه الحقيقة العلمية التي لا يقربها الشك. العكس غلط وخاطئ وقميئ ولا يقبله العقل. العلم والفلسفة والأخلاق كلها تثبت أننا متساوون ولا فضل لمسلم على مسيحي أو لرجل على إمرأة إلا بالعمل والإخلاص للوطن.
لا فرق في القدرة الذهنية بين المرأة والرجل. أنظروا إلى أوائل الثانوية العامة. جلهم من البنات. من قال أن المرأة لا تصلح أن تكون عالمة ذرة، ماري كوري وعايدة نوداك وليز ميتنر وسميرة موسى، وغيرهن كثيرات ،أساتذة جامعات في أوروبا وأمريكا وباقي أنحاء العالم.
فمن قال أن المرأة لا تصلح أن تكون فيلسوفة، هيباتيا من الزمن القديم، وسيمون بوفوار وهانا أرندت وغيرهن كثيرات من الزمن الحديث، ومن قال أن المرأة لا تصلح قاضية، تهاني الجبالي ورشا محفوظ وجيهان البطوطي وغادة ممدوح وغيرهن كثيرات.
نحن كجنس بشري متساوون كأفراد. لذلك، يجب أن نكون متساوين في الحقوق والواجبات، متساوين في الفرص المتاحة، متساوين أمام القضاء، متساوين في المعاملة، متساوين في حق التعليم، في الفرص الاقتصادية، متساوين كمواطنين لهم حق الاقتراع والمشاركة في الحكم.
إذا لم يتحقق ذلك، يكون من المستحيل التطلع إلى مساواة سياسية واقتصادية يكفلها الدستور. منذ 220 سنة، كانت هذه المطالب مع مطلب الحرية، هي أسلحة الثورة الفرنسية التي ساعدت على نجاحها.
الحقوق الطبيعية لا يمكن سلبها من الناس. لأنها جزء من طبيعتهم الإنسانية. لذلك يجب حمايتها بكل السبل. أول واجبات الحكومة، هو حماية حقوق الإنسان الطبيعية. تدمير هذه الحقوق أو إهمالها، يعتبر ظلما، هو من شيم نظم الحكم الإستبدادية. هذا هو الفرق بين حكومة استبدادية جاءت بالقوة، وحكومة جاءت بالقانون.
هناك حق آخر من حقوق الإنسان إلى جانب حقوقه الطبيعية. هو حقه في الحياة كما يريد، وحقه في طلب السعادة كما ينشدها. كل إنسان يبغي السعادة لنفسه. هذه حقيقة واضحة. السعادة تختلف عن الثروة أو السلطة أو المجد أو الشهرة، في أنها غاية وليست وسيلة. الناس تبغي السعادة لكي تعيش سعيدة. إنما تطلب الثروة لغاية. أي لكي تعيش سعيدة. السعادة في الدنيا والآخرة هي غاية ما يرجوه كل منا.
السعادة، فضلا عن كونها هدفا في حد ذاته، هي شئ جميل كامل. بعكس الثروة أو السلطة أو العلم أو الشهرة أوغيرها. لأننا عندما نحصل علي الثروة مثلا، نريد معها أشياء أخري مثل السلطة والشهرة. لكن، عندما نصل إلى السعادة، لا نريد معها شيئا أخر.
السعادة من الناحية السيكلوجية، هي لحظة تحقيق هدف ما، كنا نأمله ونتوق إليه. الحياة السعيدة حسب تعريف القدماء، هي الحياة التي تلتزم بالقيم والآخلاق وتطلب العلم والحكمة. وهما في الواقع، شئ واحد. لأن الرجل صاحب العلم والأخلاق، يشعر دخليا أنه يحقق الهدف الذي يصبو إليه كل لحظة تمر به وبذلك يحى حياة سعيدة.
الحكومة ليس من واجبها أن تسعد فئة من الناس على حساب فئة أخرى. الفقراء على حساب الأغنياء، كما كان الحال في عصر المد الإشتراكي، أو الأغنياء على حساب الفقراء كما كان الحال في عهد مبارك والعهد الحالي. إنما وظيفة الحكومة، أن تخلق المجال الذي يسعد فيه الجميع دون أن يعتدي أيا منهم على حقوق الآخر.
لكل هذا أشعر بالقلق والخوف على مستقبل هذا البلد العظيم، الذي لا يزال يتعثر ويبحث عن أول الخيط والبداية الصحيحة للنهضة والتقدم، بعد أن خانه من خان، وغدر به من غدر، وخدعه من خدع. وبعد أن خذله من وثق بهم وافترض فيهم الإخلاص، وبعد أن تخلى عنه حراسه. فتكالبت عليه غيلان التخلف وعتاة الرجعية وأساطين الإنحطاط.
zakariael@att.net