مطبوعة الكترونية عربية مهتمة بموضوع المواطنة وتداول السلطة القانونى وحرية التعبير  فى العالم العربى  .. تصدر من الولايات المتحدة الأمريكية عن المركز الأمريكى للنشر الالكترونى .. والأراء الواردة تعبر عن وجهة نظر أصحابها.
............................................................................................................................................................

 
 

 ما يقوله العلم عن نشأة الحياة

 

 نشأة الحياة

 

بقلم: محمد زكريا توفيق
............................

هذه قصة الخلق ونشأة الحياة كما ترويها الكتب العلمية ونظرية التطور. سأترك للقارئ العزيز مطلق الحرية لكي يحكم بنفسه على مدى سفهها أو معقوليتها. وعليه أن يختار بينها وبين نظرية الخلق كما ترويها كتبنا السماوية. وهي قصة نعرفها جميعا، فلا داعي لتكرارها هنا. عليه أن يختار أحدهما أو كلاهما، إذا كان في مقدوره التوفيق بينهما. بعض الناس تستطيع.

قصة نشأة الحياة في العلوم تبدأ كالآتي:

عمر الأرض يقدر ب 4.6 بليون سنة. أول حياة بدائية (بكتيريا), ظهرت بعد بليون سنة تقريبا من خلق الأرض. هل الحياة إنتاج أرضي بحت, أم منحة من السماء جاءت إلينا عن طريق الشهب والنيازك؟



لا نعرف بالتأكيد. إذا كانت قد هبطت علينا من السماء, فلا بد أن تكون قد أتت من كوكب آخر يشبه الأرض إلى حد كبير في تكوينه ودرجة حرارته. لكننا هنا في هذا الاستطلاع سوف نفترض أن الحياة بدأت على سطح الأرض من نفسها.

نظرية التطور لداروين تفسر لنا سبب وجودنا هنا، وتساعدنا في حل الغاز ملحمة الخلق هذه. وهو التفسير المنطقي الوحيد، خارج نطاق الأديان وخارج ما يقوله الدكتور زغلول النجار وكبار مشايخنا الكرام.

لذلك، سأحاول هنا شرح نظرية بداية نشأة الحياة كما جاءت في كتب التطور بأسلوب مبسط, مبتعداً عن التعريفات العلمية بقدر الامكان, مبتدأً بحالة الجو وسطح الكرة الأرضية قبل حدوث التطور نفسه.

في البداية، كانت البساطة. وكما تقول صباح في أحد أغانيها، يا عيني على البساطة. حتى البساطة, من الصعب تفسير وجودها في بادئ الأمر. نظرية داروين للتطور تلقى القبول, لأنها تفسر كيف تحولت البساطة إلى شئ معقد.

كيف تجمعت الذرات, وهي في حالة فوضى, لكي تكون نماذج مرتبة ومعقدة؟ كيف سارت من المعقد إلى الأكثر تعقيدا، حتى وصلت إلى خلق الإنسان؟ هذا عكس مبدأ الأنتروبيا، الذي يقول أن الأشياء تسير من المعقد إلى البسيط.

نظرية التطور لداروين ومبدأ "البقاء للأصلح", تعتبر حالة خاصة من نظرية أعم وأشمل. هي نظرية "البقاء للأكثر استقرارا". الكون ملىء بالأشياء المستقرة، الأشياء التي نراها وندركها. أما الأشياء الغير مستقرة، فتتحلل وتختفي وتنقرض.

الشئ المستقر عبارة عن مجموعة ذرات, تتجمع في شكل معين لمدة كافية, بحيث يمكن أن نطلق اسم عليها. قد تكون حالة فردية مثل الهرم الأكبر, وقد تمثل فئة معينة مثل نقط المطر. كل الأشياء التي حولنا، والتي يحتاج وجودها إلى تفسير, مثل الصخور والمجرات والمحيطات, تشكل تجمعات لنماذج مستقرة من الذرات.

فقاقيع الصابون تأخذ الشكل الكروي. لأن هذا هو التكوين المستقر الذي تأخذه بالونة رقيقة إذا ملئت بالغاز. في مركبات الفضاء, إذا سكبت المياة في الفضاء فإنها تستقر في الشكل الكروي. لكن على سطح الأرض, تنبسط وتأخذ الوضع الأفقي.

هذا بالطبع بسبب فعل الجاذبية الأرضية. بلورات ملح الطعام تأخذ الشكل المكعب, لأن هذه هي الطريقة الأكثر استقرارا لترتيب أيونات الكلور مع أيونات الصوديوم (الأيونات هي ذرات مشحونة بشحنة كهرباء موجبة أو سالبة بسبب فقدها أو كسبها إلكترونات زيادة).

عندما تتقابل الذرات, فإنها تتحد مع بعضها في تفاعلات كيميائية لتكون جزيئات. لماذا؟ لأنه ليست هناك ذرة تستطيع أن تعيش بمفردها. إذا لم تجد الذرة من تتحد معه من العناصر الأخرى, فإنها تتحد مع ذرات من نفس نوعها لتكون ما يعرف بالجزىء(الوحدة صعبة حتى على الذرات).

هذه الجزيئات قد تكون مستقرة أو غير مستقرة. مستقرة بمعنى الاستمرار في شكل معين, وغير مستقرة بمعنى الانحلال والتفكك. هذه الجزيئات قد تكون صغيرة الحجم أو كبيرة الحجم جدا. بلورة الماس مثلا(فص السوليتير), هو من الناحية الكيميائية, عبارة عن جزىء واحد بسيط ومستقر. بسيط، لأن تركيبة ذرات الكربون داخله تتكرر بانتظام بنفس الطريقة. (الماس مكون من ذرات كربون أي من الفحم – عجيبة دي)

في عالم الأحياء, توجد جزيئات كبيرة جدا ومعقدة التركيب مكونة من عدة عناصر. دم الإنسان مثلا, يتكون من جزيئات تسمى بروتينات. البروتين هام جدا لأنه يمثل قوالب الآجر التي تبنى بها الخلايا الحية. كل جزىء من البروتين يتكون من سلسلة من جزيئات أصغر حجما تعرف بالأحماض الأمينية. وكل جزىء من هذه الأحماض, يتكون من عشرات الذرات مرتبة في شكل خاص.

جزىء الدم الأحمر, الهيموجلوبين, يتكون من 574 حامض أميني بالتمام والكمال. مرتبة في شكل أربع سلاسل. تلتف حول بعضها لتكون ما يشبه شجيرة شوك. لكن بدون التواءات أو انحناءات أو اخطاء. مجرد تكرار لنموذج تركيبة معينة مرارا وتكرارا.

عدد جزيئات الهيموجلوبين 6 آلاف مليون مليون مليون جزىء في جسم الإنسان البالغ. الجسم يُنتج منها 400 مليون مليون جزىء في الثانية الواحدة. لتحل محل نفس العدد من الجزيئات التالفة. (عجيبة أخرى من عجايب هذا الكون)

إذا تعرضت مجموعة من الذرات لطاقة معينة, مثل التقلبات الحرارية الناتجه عن البراكين وتقلب المناخ, ووجدت نفسها داخل نموذج مستقر, فإنها تستمر في ذلك الوضع. الجزيئات المستقرة يمكنها أن تتكون بهذه الطريقة.

لكن الإنسان لم يخلق هكذا. ولم يأت عن طريق وضع مجموعة ذرات في زجاجة ورجها بشدة مرات عديدة لكى نخلق منها آدم وحواء. من هنا جاءت نظرية التطور لداروين لكى تكمل لنا القصة, وتفسر لنا كيف جئنا نحن إلى هذا الوجود بدون أن يسألنا أحد.

بالطبع لم يكن هناك أحد موجودا منذ بداية عملية الخلق، لكي يشاهدها ويخبرنا بها. إنما هي مجرد نظرية، ككل النظريات العلمية, تحتمل الصواب وتحتمل أيضا الخطأ. لكنها, في الواقع, نظرية أكثر مصداقية من قصص كثيرة نسمعها ويجزم أصحبها، بل يقسمون بالطلاق بصحتها.

قبل أن تظهر الحياة على سطح الأرض, كانت المياة موجودة بكثرة. كذلك غاز ثاني أكسيد الكربون والميثان (غاز البوتجاز) والأمونيا (النشادر). لكن غاز الأكسوجين الذي نتنفسه, لم يكن موجودا لحسن الحظ.

بالرغم من أهمية غاز الأكسوجين في عملية التنفس, إلا أنه غاز خطير وسام للمخلوقات البدائية التي ليس لديها انزيمات خاصة تحميها من الأكسدة والاحتراق. إننا نستخدم الأكسوجين، ونقوم بحرقه لتوليد الطاقة وتوزيعها على باقي خلايا الجسم عن طريق الدم. مثل استخدامنا للنار, التي يجب أن نستخدمها بحكمة وروية, لأننا قد نحترق بها. كذلك الأكسوجين.

حاول العلماء خلق مناخ يشابه حالة سطح الأرض في بداية تكوينها كيميائيا. هذا هو العلم التجريبي. قاموا بوضع الماء والغازات المذكورة في قارورة. أمدوها بطاقة مثل الأشعة فوق البنفسجية أو شرارة كهرباء.

هذه الأشعة كانت متوافرة بكثرة في بداية عمر الأرض. لم يكن هناك أكسوجين في الغلاف الجوى كما أسلفنا. بالتالى لم تكن قد تكونت طبقة الأوزون، التي تحمي الأرض من هذه الأشعة. الأوزون نوع من الأكسوجين يتكون جزيئه من ثلاث ذرات. بعكس الأكسوجين العادي, الذي يتكون جزيئه من ذرتين فقط. هو أشد خطورة وسمية من الأكسوجين العادي.

بعد أسابيع قليلة, وجد العلماء أن الماء داخل القارورة قد تغير لونه إلى اللون البني. بفحصه, وجد أن أحماضا أمينية قد تكونت داخل القارورة. الأحماض الأمينية هذه تتكون منها البروتينات التي تبني خلايا الجسد.

في تجارب حديثة, أمكن تكوين جزيئات أخرى تسمى "بورين" و "بايريمين", أساسية في تكوين الجينات. أي أنه أمكن تكوين البروتين والمواد التي تُبنى منها الخلية والجينات التي تحمل الصفات الوراثية معمليا.

ظروف مثل هذه كانت موجودة بكثرة في مياة المحيطات والبرك منذ أربعة بلايين سنة. لذلك يمكننا القول أن المواد العضوية, في صورة جزيئات, ربما تكون قد تكونت في البداية بفعل الأشعة والكهرباء هي الأخرى على سطح الأرض. ويحتمل تحول بعضها إلى جزيئات أكثر تعقيدا.

حاليا الجزيئات الكبيرة المعقدة التركيب لا تعيش لمدة كبيرة بفعل الباكتيريا والمخلوقات الدقيقة. لكن في بداية ظهور الأحياء على سطح الأرض, لم تكن الباكتيريا والمخلوقات الدقيقة موجودة بعد. لذلك يمكن للجزيئات الكبيرة أن تعيش مددا طويلة نسبيا.

وسط هذه الجزيئات المعقدة, ظهر عن طريق الصدفة جزىء له خاصية غريبه. هي أنه يستطيع أن ينسخ نفسه. هل هذا ممكن؟ نعم. فنحن في صبانا في المرحلة الإعدادية, كنا نُحضّر بلورات سكر النبات عن طريق وضع بلورة سكر نبات صغيرة مربوطة في خيط رفيع داخل محلول مركز من السكر, ونتركها عدة أيام. تقوم جزيئات السكر العالقة بالسائل بالترسب على السطح الخارجي لبلورة سكر النبات بطريقة تحافظ معها على الشكل الأصلي للبلورة.

ينتج عن ذلك بلورة كبيرة لها نفس خواص وشكل البلورة الأصلية الصغيرة. إذا قمنا بكسر البلورة الكبيرة, فإنها تنقسم إلى أجزاء صغيرة تشبه أيضا البلورة الأم, بذلك نكون قد استنسخنا البلورة الأصلية. هي ظاهرة تحدث في العديد من البلورات.

الآن أمامنا مجموعة كبيرة من الجزيئات التي تستطيع أن تنسخ نفسها مثل حالة بلورة سكر النبات. كل جزىء منها تترسب فوقه جزيئات أصغر منه. ويزداد حجمه إلى أن يصل إلى حالة استقرار. فيتوقف حجمه عن الزيادة, لكنه بفعل عامل الوزن، أو عامل الضغط أو الحرارة أو غيرها, يقوم بالانقسام إلى جزيئات أصغر. بذلك يكون الجزىء قد نسخ نفسه.

عملية النسخ والتكرار هذه يحدث عنها أخطاء. ومن منا لا يخطئ. هذا معروف جيدا أثناء نسخ الكتب باليد أو بالترجمة. فعندما تمت ترجمة الإنجيل من العبرية إلى اليونانية في مدينة الإسكندرية, حدث خطأً في الترجمة. وترجمت عبارة "المرأة الصغيرة" من العبرية إلى "العذراء" باللغة اليونانية.

بذلك تحولت جملة "المرأة الصغيرة تلد ابنا" إلى "العذراء تلد ابنا". وشتان بين المعنيين. (هذا لا يعني قط أن المقصود هنا القول بأن المرأة الصغيرة لم تكن عذراء، حاش لله. ولكن المقصود هو أن الترجمة الحرفية قد تغيرت.). هذا ما يحدث بسبب أخطاء النسخ. وقد تكون الأخطاء متراكمة, إذا كنا نقوم بالنسخ من كتب منسوخة.

بسبب أخطاء النسخ هذه يكون لدينا جزيئات معقدة التركيب يستطيع كل منها نسخ نفسه, لكنها مختلفة بعض الشئ في التركيب أو الحجم أو العدد. يكون بعضها أكثر استقرارا أو أطول عمرا أو أسرع أو أدق في عملية الانقسام والنسخ...الخ.

الخطوة التالية بالنسبة للجزيئات المعقدة التي ذكرناها، هي ما أسماه داروين بالتنافس. مع أن داروين كان يتحدث عن الحيوانات والنباتات. لكننا لا نزال في مرحلة الجزيئات العالقة في الماء. لا حياة هنا, وإنما مجرد تركيبات كيميائية.

بعض هذه الجزيئات يمكنه أن ينسخ نفسه بدرجات مختلفه, والبعض الآخر لا يستطيع أن ينسخ نفسه. الجزيئات التي تنسخ نفسها بمعدلات أكبر وأسرع هي التي تستخدم الجزيئات العالقة في الماء حولها. مثل جزيئات السكر العالقة عندما تترسب على السطح الخارجي لبلورة سكر النبات.

الجزيئات الأبطأ لن تجد جزيئات عالقة يمكن أن تستخدمها في النمو والانقسام. بذلك تنقرض وتختفي. هذا يحدث بدون شعور بأن هناك صراعا بين القوي والضعيف.

مع الوقت, تصبح الجزيئات القادرة على تكرار نفسها أكثر دقة وكفاءة لهذه الوظيفة. بعضها قد يجد, عن طريق خطأ الانقسام، وبدون قصد, وسيلة لتدمير الجزيئات المنافسة واستخدام مكوناتها كمواد بناء.

بعض الجزيئات يجد أيضا طريقة ما لحماية نفسه من التمزق, عن طريق إضافة عناصر كيميائية جديدة لعناصره، أو ببناء جدار عازل من البروتين حوله. ربما تكون هذه هي الطريقة التي ظهرت بها أول خلية حية.

لا ننسى أن هذه الجزيئات التي تستطيع نسخ نفسها, لديها كل الوقت الذي تحتاجه لتطوير أسلوبها إلى الأحسن. أربعة بلايين سنة كافية لاتقان حرفة نسخ النفس وحمايتها من الخطر الخارجي. هذه الجزيئات موجوده داخل خلايا جسمي وجسمك، وتكون عقل وجسد كل منا.

كل الشواهد تدل على أن حماية النفس وحفظ النوع هو الهدف الحقيقى من وجودنا على سطح الأرض. هذه الجزيئات التي تستطيع أن تنسخ نفسها، والتي تعيش داخل كل فرد منا اسمها "جينات". أجسامنا مجرد آلات لحفظها وحمايتها وتكرارها. الجينات هي التي تحمل الصفات الوراثية التي تنتقل من جيل إلى جيل.

لكن هذه الحياة السهلة لها نهاية, عندما ينضب معين الجزيئات العالقة في الماء التي تمثل الغذاء. هنا يظهر فرع جديد من هذه الجينات يسمى "نبات", قادر على استخدام ضوء الشمس مباشرة لبناء جزيئات معقدة من جزيئات بسيطة التركيب.

وفرع آخر يسمى "حيوان", قادر على استغلال النبات وأكله أو أكل حيوان آخر. هنا فتح الباب لظهور مخلوقات أكثر تعقيدا وكفاءة للاستمرار في هذا الوسط الملئ بالتنافس. هكذا ظهر عالم النبات وعالم الحيوان الذي نراه حولنا بكل تنوعاته وتفريعاته.

في عالم النبات أو عالم الحيوان, الكائن عبارة عن جسد مكون من خلايا عديدة كل منها يحتوي على نسخة من الجينات الموروثة عن الآباء. لا نعرف لماذا أو متى بدأت المخلوقات وحيدة الخلية تتجمع في أبدان عديدة الخلايا مع بعضها. جسم الإنسان عبارة عن مجموعة أو تجمع من الخلايا أو من الجينات بالرغم من شعور كل منا بأنه فرد واحد.

الانتماء للجماعة له مزايا. فمثلا, إذا كنت وحدك في الخلاء وظهر أمامك وحش مفترس, ففرصتك في النجاة تكاد تكون معدومة. أما إذا كنتما إثنين, فترتفع فرصة النجاة إلى 50%. وإذا كنت في مجموعة عددها 1000, تكون فرصة النجاة في هذه الحالة كبيرة جدا تصل إلى 99.9%.

كما أن الانتماء للجماعة يفيد في التخصص. هذا يقوم بالحراسة من جهة اليمين, وذاك يراقب من جهة اليسار وهكذا. لذلك نجد في عالم الحيوان, أن الطيور تهاجر في مجموعات. والأسماك يعيش أنواع منها في مجموعات، وكذلك الذئاب والنمل والنحل وغيرها من المخلوقات.

هذا يوضح لنا أن تجمع الخلايا, من وجهة نظر التطور, له فوائد. لأنه يسمح بالتخصص ويضاعف القوة اللازمة للمنافسة. ربما يفسر هذا رغبتنا في الانتماء إلى الجماعات الدينية أو السياسية أو النوادي الرياضية, لأن هذا يعطينا شعورا بالأمان موروثا منذ أيام زمان. لكن حاجتنا للانتماء الفكري أشد. لأن العزلة الفكرية تؤدي إلى الاكتآب والجنون.

خلال الستمائة مليون سنة الأخيرة, اكتسبت الجزيئات التي تنسخ نفسها، خواص فريدة. أضحت تستخدم أعضاء جديدة مثل العضلات والقلب والعيون, كل منها تطور بمفرده. هذه الجينات التي تحمل الصفات الوراثية، لم تعد تعمل منفردة, لكن في مجموعات داخل الجسد الواحد. تتجمع فيما يشبة المركبات. تسمي الواحدة منها كروموزوم. الكروموزوم عبارة عن حمض نووي يسمى (DNA)، ملتف حول بروتين لحفظ الحمض النووي.

الاسم العلمي للحمض النووي هو "الحمض النووي منقوص الأكسوجين". وهو بمثابة الرسم الهندسي والتعليمات اللازمة للكائن الحي لكي يمارس الحياة. ويعتبر وسيلة تخزين للمعلومات الوراثية (دار كتب أو دار معارف). يحتوي على المعلومات اللازمة لبناء البروتينات.

به تعليمات لازمة لتصنيع الحمض الريبي النووي (RNA), الذي يقوم بترجمة لغة الجينات, ويعمل كقالب، (استمبة)، لتصنيع البروتينات. الجينات موجودة كأجزاء متصلة من الحمض النووى.

في البداية, وبعد فترة زمنية معينة, كان هناك الحمض النووي (DNA), والحمض الريبي النووي (RNA) والبروتينات. أيهما وجد أولا؟ الحمض النووي (DNA) يحمل المعلومات (دار معارف). لكنه عديم الفائدة بدون الحمض الريبى النووي (RNA).

ال (DNA) لا يستطيع أن يصل جزيئات البروتينات ببعضها أو فصلها. البروتين، بالرغم من أنه يقوم بالعمل اللازم لبقاء الخلية حية, إلا أنه لا يستطيع أن يحفظ المعلومات من جيل إلى آخر.

لكن الحمض الريبي (RNA), هو الوحيد الذي يستطيع القيام بالوظيفتين في نفس الوقت. فهو يستطيع أن يحمل الجينات الوراثية, ويستطيع أن يعمل أيضا مثل الانزيمات والبروتين. لذلك يعتقد العلماء أن الحياة بدأت أولا بال (RNA).

عندما اكتشف العلماء ال (RNA) داخل الخلية عام 1960م, بدأوا في الاعتقاد أن ال (RNA) هو الخميرة التي تولدت منها الحياة. في عام 1982م, اكتشف توماس سيتش, من جامعة كولورادو, أن ال (RNA) عبارة عن جزيئ هجين.

من ناحية, هو يحمل الجينات الوراثية داخله, ومن ناحية أخرى، يعمل عمل الانزيمات. أي أنه يستطيع أن يغير من تركيبة الجزيئات الأخرى. مثل الانزيمات التي تقوم بهضم الطعام. والانزيمات التي تقوم أيضا بتصحيح أخطاء الترتيب في الجينات. ووجد سيتش أن بعض أنواع من ال (RNA), تقوم بتصحيح أخطاء التركيب لنفسها بدون مساعدة من الإنزيمات.

بعد ذلك في الثمانينات, أمكن علماء البيولوجيا جعل ال (RNA) تتطور أمامهم في المعامل. مجموعة باحثين برئاسة جيرالد جويس بكاليفورنيا, بدأت ب ال (RNA). ثم قامت بنسخه

بلايين البلايين المرات، إلى أن توصلوا إلى (RNA) متطور يستطيع قطع أجزاء أو التأثير في أي جزيئ بصفة عامة. من الذرة إلى الخلية الكاملة.

كما أنه يستطيع وصل جزيئين ببعضهما لتكوين جزيئ جديد. أمل جديد في علاج السرطان. (استيقظوا يا علماءنا. وأفيقوا يا شيوخنا من الغيبوبة التي أنتم فيها. وبطلوا يا شبابنا الكورة شوية والقات والجرعات الدينية الزائدة. انتبهوا للعلم وما يجري في العالم حولنا).

ال (RNA) المتطور يستطيع وصل الأحماض الأمينية التي أمكن تحضيرها في المعامل, وهي خطوة هامة في تحضير البروتين. تخيل امكانية تحضير اللحمة في المعامل. ويستطيع أيضا وصل ألياف إلى جدار الحمض النووي. أي أن ال (RNA) يستطيع القيام بكل وظائف الخلية, بدون الحاجة إلى الحمض النووي (DNA) أو البروتين.

قابلية ال (RNA) للتطور الكبيرة, جعلت شركات الكيمياء البيولوجية والأدوية, تقوم بتجارب لتحويله إلى عقار جديد ضد تجلط الدم وعقاقير أخرى. الذين لا يؤمنون بنظرية التطور, أرجوا من الله ألا يحتاجوا في المستقبل لمثل هذه الأدوية المصنعة على أساسيات نظرية التطور.

أبحاث جويس وفريقه, تثبت أن الحمض الريبي النووي (RNA), كان يلعب دور ال (DNA) والبروتين معا عندما بدأت الحياة على سطح الأرض. العديد من العلماء ينظرون إلى تلك الحقبة على أنها عالم ال (RNA).

في مايو 2009م, قام جون سزرلاند, ومجموعة باحثين من جامعة مانشستر بالمملكة المتحدة, بتحضير الجزيئ الكيميائي (Ribonucleotide) في المعمل. هذا هو وحدة البناء الأساسية لل (RNA).

يعني هذا أن العالم كان في البداية عالم ال (RNA) كما أثبتت أبحاث جويس من قبل. وهذا دليل قوي على أن الحياة يمكن أن تكون قد بدأت تلقائيا على سطح الكرة الأرضية.

بعد أن تطور الحمض الريبي النووي (RNA) في بداية الخلق, تكون البروتين. وكان هناك نوع متطور من ال (RNA)، قادرا على تجميع الأحماض الأمينية وتكوين البروتين. البروتين الناتج, ربما كان يساعد ال (RNA) على النسخ بسرعة أكبر. بعد ذلك, ال (RNA) المكون من جدار واحد و درجات عرضية, أمكنه تصنيع الحمض النووي المكون من جدارين ودرجات عرضية وهو ال (DNA).

الحمض النووي (DNA), أقل عرضة للتغيار الأحيائي والأخطاء من ال (RNA), وأكثر استقرارا, وأصلح لخزن المعلومات ونقلها من جيل إلى جيل لمدد طويلة.

مع وجود ال (DNA) والبروتينات, أصبح العبئ خفيفا على ال (RNA). لكنه لا يزال يحتفظ ببعض خواصه السابقة, مثل القدرة على علاج نفسه وتصحيح جسمه. ولا يزال يلعب دورا هاما في تصنيع البروتينات وفصل وتوصيل أجزاء الحمض النووي ببعضها.

مما سبق يتبين لنا أن الجسد ما هو إلا مسكن أو مأوى مؤقت لمجموعة الجينات (الصفات الوراثية) هذه. الجسم يعيش مدة محدودة. لكن تركيبة الجينات داخله تعيش مدة طويلة. تنتقل من جسد إلى جسد عن طريق التزاوج أو الانقسام. المهم هنا هو تركيبة الجينات وليست الجينات نفسها. في لغة المطبخ, المهم الطريقة أو الوصفة, لا الطبيخ نفسه. الجينات هي التي تبقى وتستمر لا الإنسان أو المخلوقات.

أول من قام بدراسة هذه الجينات هو الراهب النمساوي "مندل". ثبت أن الجين الواحد لا يتجزأ. أي أن الصفة الوراثية الواحدة, لون العيون مثلا, لا تتغير من جيل إلى جيل. فالجين إما أن يكون موجودا في الجسم أو غير موجود. أي أن لون العيون الخضر, إما أن يكون موجودا أو غير موجود.

اللون الأخضر لن يبهت أو يتغير بمرور الوقت إلى أصفر أو أزرق. الجين ينتقل من أبعد الجدود إلى آخر الأحفاد, بدون أن يندمج مع جين آخر. لأنه إذا اندمج جين مع جين آخر لكي يكونا جين جديد, فإن التطور كما نعرفه يصبح مستحيلا. وكما بين "مندل"، الجين قد يختفي في الآباء ويظهر في الأحفاد.

خاصية أخرى للجينات, هي أنها لا تهرم أو تشيخ. سواء كان عمرها ملايين السنيين أو عدة ساعات. لأنها مجرد وصفات أو برامج أو تصميمات هندسية مكتوبة بحروف أربعة من البروتين. هذه الجينات تنتقل من جسد إلى آخر, ومن جيل إلى جيل, لكي تتحكم في أجسامنا إلى النهاية.

تحاول جاهدة أن تنتقل من الأجسام الفانية, أجسامنا, قبل الشيخوخة والموت, إلى أجسام أخرى في مقتبل العمر، لكي تستمر الدورة. الجسد يقاس عمره بعشرات السنين, لكن الجين يقاس عمره بمئات الألوف أو ملايين السنين.

الجينات تحاول السيطرة على باقي خلايا الجسم. لكن الجينات ما هية إلا حروف أربعة للكتابة مصنوعة من البروتينات. انتقال المعلومات عن طريق البروتينات يستغرق شهورا. لهذا يتطلب تكوين الجنين تسعة أشهر في بطن أمه لكي يكتمل نموه. لأن التوجيهات الخاصة ببناء الجنين تأتي عن طرق الجينات.

لكن الحياة اليومية للكائن الحي، تتطلب انتقال المعلومات بسرعة تقدر بالثواني، أو أجزاء من الثانية. الهرب من وحش كاسر لا ينفع معه الانتظار عدة شهور، لتدارك الخطر. لهذا تحتاج الجينات إلى كمبيوتر(حاسوب) مستقل محلي سريع, ليقوم بالسيطرة بنفسه على باقي خلايا الجسد، نيابة عن الجينات. هذا الكمبيوتر يكون مستقلا دون الرجوع الي الجينات في كل قراراته.

يكون عمل الكمبيوتر في هذه الحالة, في ظل التوجيهات والقواعد والبرامج العامة التي تضعها الجينات. فمثلا, هذا الكمبيوتر, يجب أن يكون قادرا على التعلم بنفسه وبالتجربة والخطأ. أي يعمل بالتغذية الراجعة السلبية(Negative Feedback). هذا موجود في مكيفات الهواء ورؤوس الصواريخ الموجهة. المكيفات تقيس باستمرار درجة الحراة, وعلى أساس درجة الحرارة تقرر زيادة أو خفض البرودة. هذا الكمبيوتر أو الحاسوب السريع نسميه المخ.

يقول "جون زكارى يانج" عالم البيولوجيا, أن الجينات تفعل شيئا يشبه التنبؤ. جينات الدب القطبي تتنبأ بأن المولود الجديد يحتاج, لكي يعيش, إلى فراء سميك أبيض اللون. إذا أخطأت الجينات وأنتجت أشبالا لونها أسود، أو لها فراء رقيق في القطب الشمالي, فإنها تدفع الثمن وتموت الجينات مع المولود.

كيف تتنبأ الجينات بالمستقبل؟ عن طريق المحاكاة (Simulation). المحاكاة تستخدمها الجيوش في التدريبات ورسم الخطط ومقارنتها لمعرفة الأخطاء وأي الخطط أكثر كفاءة. ويستخدمها أيضا الطيارون لاختبار النفثات الحديثة. وأصبحت توجد برامج كمبيوتر للمحاكاة في مجالات كثيرة تشمل الطب والاقتصاد وغيرها.

يمكن عن طريق هذه البرامج معرفة ماذا يحدث مستقبلا للاقتصاد لو رفع البنك المركزي الفائدة نصف في المائة مثلا. وكذلك يمكن معرفة الأخطاء في تصميم طائرة معينة حتى قبل أن يبدأ تصنيعها. وأيضا التنبؤ بقدرة وكفاءة أجهزة الكمبيوتر لو زادت أحمالها بقدر معين، حتى لا تفاجأ الشركات بأن أجهزة الكمبيوتر لديها غير قادرة على تأدية وظائفها.

إذا كانت برامج المحاكاة مفيدة لنا وتجعلنا نتنبأ بالمستقبل إلى حد ما. فلماذا لا نتوقع أن تكون الجينات قد سبقتنا إلى اكتشاف أسلوب المحاكاة هذا في التنبؤ. الجينات قد سبقتنا إلى اكتشاف أشياء كثيرة, حتى قبل أن نظهر على ظهر الكرة الأرضية.

على سبيل المثال لا الحصر, قد سبقتنا الجينات في اكتشاف العجلة والموتور بملايين السنين. فهناك أنواع من الباكتيريا وحيدة الخلية لها موتور غاية في الكفاءة في شكل عجلة تدور بسرعة لكي تساعد الباكتيريا على الحركة في الماء(Bacterial Flagellum).

اكتشفت الجينات قبلنا أيضا العدسات والمرايا التي تأخذ شكل القطع المكافئ, والذاكرة لخزن المعلومات وغيرها من الأشياء العجيبة. لقد سبقنا النمل في اكتشاف الزراعة ومحاربة الآفات بالطرق البيولوجية واستخدام نظام العبيد. لقد سبقتنا المخلوقات الصغيرة، والتي لا ترى بالعين المجردة، إلى نصب الشباك ووضع الفخاخ لصيد الفريسة.

عندما تقابلنا مشكلة, ونقف لنقرر أي الطرق نسلك, فإننا نقوم بتخيل ماذا يحدث لو سلكنا كل طريق على حدة. نختار من هذه الطرق الأسلم والأصح والأقل تكلفة من وجهة نظرنا. كذلك تفعل الجينات عن طريق المحاكاة. فالجينات التي تستطيع المحاكاة بدقة أكثر, تكون فرصتها في الحياة والاستمرار أكبر وأفضل.

الفرق الكبير بين الكمبيوتر والمخ. المخ له وعي وإدراك بالذات. لكن الكمبيوتر, حتى الآن, ليس لديه هذا الوعي إلا في أفلام السينما. عندما يقوم الكمبيوتر بتنفيذ برامج المحاكاة, فهو لا يعي شيئا عنها. لكن في المستقبل, قد يحتوي الكمبيوتر على برامج محاكاة تعرف كل شئ عن الكمبيوتر نفسه، وعن برامج المحاكاة التي ينفذها. عندها يصبح الكمبيوتر له وعي وإدراك.

ماذا سوف يحدث حينما يصبح الكمبيوتر له وعي؟ هذا متروك لكتاب الروايات الخيالية. فهم يتنبأون بأن الوعي للكمبيوتر, سوف يعمل على تدمير الجنس البشري أو استعباده. ولم لا, فكل المخلوقات على سطح الأرض تفعل ذلك.

يخشى هؤلاء الكتاب أن الذكاء الصناعى(Artificial Intelligent) بالنسبة للكمبيوتر, قد يتحول إلى شر مبرم. لكن هناك من يقول بأن الكمبيوتر كما نصنعه. معظم برامجه مصممة في شركات معروفة تجاريا مثل شركة "ميكروسوفت" أو "أي بى إم". لذلك ليس هناك داع للقلق.

هذه قصة نشأة الحياة على سطح الكرة الأرضية باختصار كما ترويها لنا المراجع العلمية. أرجو أن أكون قد نجحت في تبسيطها للسادة القراء.

zakariael@att.net
 


06/11/2014

مصرنا ©

 

 


 

 
 



مطبوعة تصدر
 عن المركز الأمريكى
 للنشر الالكترونى

 رئيس التحرير : غريب المنسى

مدير التحرير : مسعد غنيم

 

الأعمدة الثابته

 

 
      صفحة الحوادث    
  من الشرق والغرب 
مختارات المراقب العام

 

موضوعات مهمة  جدا


اعرف بلدك
الصراع الطائفى فى مصر
  نصوص معاهدة السلام  

 

منوعات


رؤساء مصر
من نحن
حقوق النشر
 هيئة التحرير
خريطة الموقع


الصفحة الرئيسية