مطبوعة الكترونية عربية مهتمة بموضوع المواطنة وتداول السلطة القانونى وحرية التعبير  فى العالم العربى  .. تصدر من الولايات المتحدة الأمريكية عن المركز الأمريكى للنشر الالكترونى .. والأراء الواردة تعبر عن وجهة نظر أصحابها.
............................................................................................................................................................

 
 

 عادل إمام وحرية الرأي

 

امام

 

بقلم: محمد زكريا توفيق
...........................


أنا لا أشك في نزاهة أو ضمير قاضي "عادل إمام"، الذي حكم عليه بثلاثة شهور سجن وغرامة مالية. كلي ثقه أن القاضي كان راض عن حكمه تمام الرضا. لقد كان يعبر عن فهمه للقضية أصدق تعبير. مشكلتي مع القاضي، ليست مشكلة أخلاقية بالمرة، لكنها مشكلة حضارية، وأزمة تربية وثقافة.

واضح من حكم القاضي أنه لا يفهم معنى حرية الرأي وحرية العقيدة بالمرة، ولا يعرف الفرق بينهما وبين البطيخ والعجور. لا يعلم أنهما من القيم الإنسانية النبيلة، التي كافحت شعوب كثيرة من أجلها، ومات الشهداء الكثر طلبا لها، ولا تزال تتمناها وتحلم بأريجها العطر شعوب كثيرة مقهورة ومغلوبة على أمرها مثل شعوبنا البائسة، التي لم تزل ترزح تحت أصفاد التخلف والإنحطاط الفكري والإجتماعي والإقتصادي.

حرية الرأي والعقيدة قيمة يا سادة، تقف مرفوعة الرأس، شامخة منافسة لقيم أخرى نبيلة وجليلة، مثل قيم الحق والعدل والحب والجمال. لكن يبدو أن حرية الرأي كقيمة عندنا، لا تهم مولانا وأمثاله من قريب أو بعيد. فهم قد تبلد شعورهم وفقدوا عقولهم، بسبب تعليمهم وتربيتهم ونشأتهم، وفقدوا معها متعة التذوق لكل ما هو جميل نبيل، طمعا في الحور العين والأرداف التي عرضها ميل. ولتذهب حرية الرأي، وكل من يدافع عنها، إلى الجحيم غير مأسوفا عليها.

يرى مولانا القاضي، وكذلك المحامي البائس الذي أقام الدعوة، أن بعض ما قاله عادل إمام في أفلامه ومسرحياته يعتبر إساءة بالغة للدين ورموزه الجديدة. أقول جديدة، لأنها رموز واردة إلينا حديثا، محمولة برياح السموم، التي تهب في اتجاهنا دون رحمة من كثبان الصحراء وبداوتها، منذ اكتشاف النفط الذي جعل حياتنا قطران في قطران.

رموز الدين الجديدة، والبقرات المقدسة الواردة إلينا من بلاد النفط هي: الجلباب الأبيض الذي كش في الغسيل، واللحية الشعثاء المنكوشة والمنفوشة والمستفذة. المترهلة والدابلة والساقطة إلى أسفل حتى المنتصف، والمصبوغة في بعض الأحيان باللون الأحمر. من رموز الدين الجديدة أيضا، سجن النساء الأسود الذي تترجرج داخله كتل من الدهن والعرق والشك والأرق والكآبة النكداء.

ما دامت هذه الرموز الواردة هي بقرات مقدسة، فلا يجوز رفضها أو مهاجمتها أو المساس بها. حتى وإن بدت لنا دلالاتها البالغة الوضوح. التي تشير دون لبس، على أنه في الأفق، تتجمع سحب خطرة، لغزوة هكسوسية جديدة لبلادنا وعقولنا وحضارتنا.

هل يعقل أن البلد التي اخترعت الورق والكتابة، يأتـي إليها من يغير لغتها وحروف كتابتها؟ وهل يجوز للبلد التي تعتبر فجر الضمير الإنساني، والتي اخترعت الأديان، والجنة والنار والحياة بعد الموت، والصح والغلط، وما يجب ومالا يجب، يأتي إليها من يعلمها دينها؟ وأين دور الأزهر هنا في وقف هذه المهزلة؟

هل يعقل أن يكون نقد هذه المناظر الكئيبة المضحكة ورفضها، والتي بدأت تنتشر بيننا، للتنفيث عما يجيش في صدورنا من غضب مكبوت، يصبح محرما بالقانون، بحجة أنه يخالف تعاليم الدين القويم؟

وما دخل الدين الإسلامي بهذه الأشكال الغريبة والملابس العجيبة، التي لا تختلف في شكلها ومضمونها عن ملابس غلاة المتعصبين اليهود؟

هل كتب علينا أن نكون مفعولا به، ومادة للغزو الحضاري والثقافي والإقتصادي منذ أيام عمرو بن العاص، أو من قبله، إلى الآن؟ غزوات متعاقبة ومستمرة، لنهب ثروات مصر، باسم الدين والقداسة، ولطمس حضارتها ومعالمها وشخصيتها، ووأد مستقبلها ومستقبل أولادها؟

هل من يقاوم مثل هذه الهجمة الشرسة وينقد هذا الوضع المذري، يعتبر مزدري للأديان؟ وهل الوطنية والدفاع عنها وعن الوطن للحفاظ على تراثه الحضاري والثقافي، أصبحت خيانة نستحق عليها العقاب والسجن، وغدا إن شاء الله السحل والقتل؟

هل مهاجمة هذه الرموز، اللحية والنقاب، التي لا تمت لتاريخ هذا الشعب العريق العظيم بصلة، والتي يراد فرضها بالقوة وبالغلاسة والبلطجة والكذب على الجميع، يعتبر خيانة؟ وأين مصر من كل ما يدور في بلادنا اليوم؟ وأين مكانها في الثورة والدستور الجديد؟

أنا واثق أنك لو ذهبت إلى منزل القاضي الفاضل، الذي حكم في القضية، وخبط عادل إمام ثلاثة شهور حتى يكون عبرة لغيره، أو المحامي الهمام الذي رفع الدعوة، لن تجد كتابا واحدا يخاطب العقل أو الوجدان.

لن تجد رواية لنجيب محفوظ، أو قصة قصيرة ليوسف إدريس، أو مسرحية لتوفيق الحكيم، أو عبقرية من عبقريات العقاد. ولن تجد بالطبع كتابا في الفلسفة أو التاريخ أو العلوم.

لن تسمع هناك قطعة موسيقى كلاسيكية لأبو بكر خيرت أو لشوبرت، أو أغنية رقيقة لفيروز أو نعمة التونسية، تنساب من الراديو أو من جهاز التسجيل.

لكنك سوف تجد بالتأكيد راديو قديم مضبوط على محطة القرآن الكريم، وتلفزيون مثبت على قناة السلفيين، شغال عذاب القبر وعذاب يوم القيامة على طول.

ثم تفاجأ على الرف ببضع كتب قانونية منذ أيام الدراسة، ومجموعة تفاسير، وصحيح البخاري، وصحيح مسلم، وربما كتب عن عذاب القبر وإرضاع الكبير وأهوال يوم القيامة، والأقرع الحابس، والثعبان الأقرع، والجان والشياطين، كيف تتقي شرهم وكيف تتزوج منهم. وبالطبع، مجموعة الشيخ الشعراوي الكاملة. وبس.

هل يمكننا أن نلوم القاضي أو المحامي. لا والله. أنا لا ألوم هذا أو ذاك. لأنهم ضحيا. نتيجة وليس سببا. لكن، ألوم أولا وزارة التربية والتعليم، وأجهزة الإعلام، ووزارة الثقافة، ورجال الأزهر وكتابنا الأجلاء والقناوات الفضائية والدعاة الجدد، وكل من له ضمير في هذا الوطن البائس.

الذين يرون الوطن وهو يتلوى ويحتضر، ولا يتحرك لهم ساكن أو يغمض لهم جفن. ومعهم فلوس النفط وجحافل المدرسين والمهندسين والأطباء العاملين في معاقل الوهابية ودروبها ووديانها.

بعد ما خرج شئ من بخار الغضب المكبوت، الذي يجيش في صدري وصدر القارئ العزيز، أرجو أن نتحمل شوية جد، بالنسبة لموضوع حرية الرأي، لكي نرى هل من حق القاضي أن يمنع أعمالا فنية، بحجة أنها تنتقد رموزا دينية واردة؟

يقول الفيلسوف البريطاني جون ستيوارت ميل: "إذا كان للبشرية كلها رأي واحد، فيما عدا شخص واحد له رأى مخالف، فعذر البشرية في إخراس هذا الصوت الوحيد، هو نفس عذر هذا الشخص فى إخراس البشرية كلها، عندما يتولى السلطة."

ليس هناك داع للدفاع عن حرية الرأى كوسيلة لمحاربة الطغيان والفساد والجهل والخرافات ومعرفة الحقيقة. وليس هناك حاجة لإقناع السلطة الحاكمة ورجال الدين، لكى تكف عن تحديد ما يجب وما لا يجب أن نقوله أو نفكر فيه.

لأنه عندما تشجب أى سلطة حرية الرأي، تكون بذلك قد ارتكبت جريمة ضد الإنسانية، ووضعت نفسها هدفا تصوب إليه غضب وسخط الجماهير.

إذا كان رأي الفرد لا يفيد إلا صاحبه، فمنع هذا الرأي من الظهور، يسبب ضررا شخصيا يصيب صاحب الرأي فقط. لكن رأي الفرد ليس ملكه وحده. إنما هو ملك للجنس البشري كله. منع هذا الرأي من الظهور، هو اغتصاب حق من حقوق البشرية.

لنا أن نتخيل كم تكون خسارتنا إذا منع الأنبياء والرسل والحكماء والفلاسفة والعلماء من الكلام بحجة أن مايقولونه يختلف عما يقوله الآباء والأجداد. وكيف يكون حالنا اليوم، إذا منع اسكندر فيلمنج مكتشف البنسلين من إعلان اكتشافه، لأنه يختلف عن العقاقير المستخدمة فى ذلك الوقت.

إذا كان الرأي الآخر صوابا، فنكون عندما نحجبه، قد فقدنا الفرصة لتصحيح أخطائنا. وإذا كان الرأي الآخر خطأ، نكون أيضا قد فقدنا الفرصة لتعميق إحساسنا بأننا على صواب. لأن الصواب يتضح ويتلألأ حينما يصطدم بالخطأ. الحقيقة تظهر بالجدل لا بالتوافق.

ليس من حق أى سلطة، دينية أو غير دينية، أن تختار لبقية الناس. وليس من حقها أيضا أن تحرم الناس فرصة الحكم على الأمور بأنفسهم واختيار أديانهم. رفض سماع الرأى الآخر بحجة أنه خطأ هو إفتراض أن السلطة على علم بالصواب المطلق والخطأ المطلق. لكن الصواب المطلق والخطأ المطلق هي أمور لا يعلمها إلا الله.

افتراض صحة الآراء بالاعتقاد فقط، وعدم السماح للرأي الآخر بالظهور، يجعلنا غير واثقين من أنفسنا، ويضعف قدرتنا على التمييز بين الصواب والخطأ.

الرأي الذي لا يخضع للمناقشة والدراسة، مهما كان قويا، يعتبر تحيزا وتعصبا، ولا يمكن اعتباره صحيحا.

مهما كانت شدة خطأ الرأي الآخر، فإنه دائما يحمل جزءا من الحقيقة. وحيث أن الرأي الصواب بالنسبة لأي موضوع، لا يمثل الحقيقة كاملة، لذلك وجب الاستفادة من الرأي الآخر.

الرأى الوحيد بدون الرأي الآخر، يعتبر عقيدة عمياء بدون فهم أو منطق. إيمان الناس بالآراء بغير استناد إلى منطق، يجعلهم مستعدين للإيمان بالأكاذيب بدون تفكير.

القول بأننا نحمي الأفكار المفيدة من الأفكار الهدامة أو الغير مفيدة، هو قول خاطئ:

أولا، لأنه ليس لأحد الحق فى أن يقرر للآخرين ما هو المفيد وما هو غير المفيد. مسألة المفيد وغير المفيد، هى آراء يجب أن تترك مثل غيرها لإبداء الرأى فيها. بالطبع لن أدع مثل عبد المنعم الشحات يقرر لي ما هو الصح وما هو الخطأ.
ثانيا، لأن الآراء التى لا تستطيع أن تثبت وجودها عن طريق البحث وحرية الرأي، هى آراء لا تستحق أن تعيش.

الأفكار مثل النظريات العلمية، أو مثل الحياة نفسها على سطح الأرض، تتبع قوانين التطور. البقاء للأصلح. حماية السلطة الحاكمة أو رجال الدين، لرأي معين. ومنع مناقشته بالإرهاب الفكري، يضعف هذا الرأي. ويضعف معه قدرتنا على كشف الحقائق.

النظر إلى الحقيقة من جانب واحد، ليس رؤية بالمرة. إنما مجرد سراب أو انطباع أو وجهة نظر أو أحلام وتمنيات. لأن الحقيقة لها عدة وجوه. ومن لم ير جوانبها المختلفة، كمن لم يرها مطلقا. الإلكترون له طبيعة الموجة وطبيعة الجسيم في نفس الوقت.

إننا عندما نبني الحواجز، ونقيم القضايا، ونستخدم التهديد والإرهاب الفكري، لإسكات الرأى الآخر، نكون قد فقدنا القدرة على التعلم والتقدم والإزدهار إلى الأبد.

التقدم له أسبابه. والتخلف لا يأتي من فراغ. إذا لم نراجع أنفسنا ونعيد حساباتنا، سوف نضيع. وقد ضاعت أمم قبلنا كثيرة حين اختلط عليها الأمر، وحجبت الرأى، وحاربت العقل. فلم تعد تفرق بين الخطأ والصواب. أو الظلم والعدل.

zakariael@att.net

 


06/11/2014

مصرنا ©

 

 


 

 
 



مطبوعة تصدر
 عن المركز الأمريكى
 للنشر الالكترونى

 رئيس التحرير : غريب المنسى

مدير التحرير : مسعد غنيم

 

الأعمدة الثابته

 

 
      صفحة الحوادث    
  من الشرق والغرب 
مختارات المراقب العام

 

موضوعات مهمة  جدا


اعرف بلدك
الصراع الطائفى فى مصر
  نصوص معاهدة السلام  

 

منوعات


رؤساء مصر
من نحن
حقوق النشر
 هيئة التحرير
خريطة الموقع


الصفحة الرئيسية