هيباشيا الفيلسوفة المصرية
| |
هيباشيا | |
بقلم: محمد زكريا توفيق
...........................
هيباشيا(Hypatia)، فيلسوفة مصرية وعالمة رياضة ومنطق وفلك. ولدت في الإسكندرية عام 380م. تم اغتيالها بيد الغوغاء عام 415م. كان والدها ثيون (Theon)، هو آخر من سُجلت أسماءهم في سجل أساتذة جامعة الإسكندرية، وكانت تسمى متحف الإسكندرية في ذلك الوقت. قام ثيون الإسكندري، بالإشتراك مع ابنته هيباشيا، بتصحيح ومراجعة كتاب العناصر لإقليدس في الهندسة المستوية. وهي النسخة التي لازلنا نستخدمها حتى اليوم. كتب ثيون أيضا شرحا لكتاب المجسطي لبطليموس الإسكندري. أشار فيه لمشاركة ابنته هيباشيا في تأليفه.
قسمت هيباشيا المجتمع الإسكندري إلى جزءين. جزء يراها قبس من نور وضياء، وجزء يراها كالشيطان متجسما في إمرأة. لكنها ولمدة خمسة عشر قرنا، كانت أشهر عالمة رياضة وفلك وفيلسوفة. الوحيدة من جنسها كإمرأة، حتى ظهور عالمة الذرة البولندية ماري كوري في بداية القرن العشرين.
بالرغم من فقدنا لمعظم كتاباتها العلمية والفلسفية، إلا أننا نعرف الكثير عن حياتها ونهايتها المأساوية والغير إنسانية، التي وقعت في السنوات الأخيرة من حياة الإمبراطورية الرومانية.
حيث بدأ انحدار الحضارة والفلسفة والعلوم الرياضية والفلك والفيزياء، منذ عدة قرون. واستمر الإنحدار لأكثر من الف سنة، إلى أن نصل لعصر النهضة في منتصف القرن السادس عشر.
عندما ولدت هيباشيا، كانت الحياة الثقافية والفكرية في الإسكندرية في خطر. الإمبراطورية الرومانية كانت تتحول إلى الديانة المسيحية منذ أن اعتنق الإمبراطور قسطنطين الدين الجديد.
مع الديانة الجديدة، بدأ المؤمنون الغيوريون على دينهم يرون في علوم الرياضيات والفيزياء والفلك مجرد علوم كفر وإلحاد. وكان العلماء تقطع أجسادهم أو تحرق وهم أحياء.
اختفت كروية الأرض التي نادى بها علماء الإسكندرية، واختفت أيضا نظرية أرستارخس الإسكندري التي تقول بدوران الأرض حول الشمس. وجاء بدلا منها تسطيح الأرض ومركزيتها. أضف إلى ذلك، الشياطين والعفاريت والساحرات والجن والجنيات.
إنه عصر، الخطورة بمكان أن تكون عالما أو فيلسوفا أو مفكرا. عندما ولدت هيباشيا، أراد والدها ثيون أن يقوم بتعليمها وتربيتها بحيث تكون إنسانا كاملا بالرغم من كونها أنثى.
عرفت هيباشيا بدفاعها عن الفلسفة والتساؤل، وبمعارضتها للإيمان الموروث المنزه عن النقد. بوفاتها يسدل الستار تماما على عصر الحضارة الهيلينية.
سافرت إلى أثينا وإيطاليا للدراسة قبل أن تكون عميدة للمدرسة الأفلاطونية عام 400م. كان بين طلابها عدد من المسيحيين والأجانب. لم تكن تؤمن بأي دين، وبالرغم من ذلك، كانت محل تقدير وإعجاب تلاميذها المسيحيين، واعتبروها في عصور لاحقة رمزا للفضيلة.
يذكر سويداس أن هيباشيا كتبت شروحا فلكية لكتاب المجسطي لبطليموس الإسكندري، وشروحا لكتاب القطوع المخروطية لأبولونيوس وعددها ثمانية، وهو أيضا من علماء الإسكندرية العظام.
أبولونيوس عالم هندسة إسكندري، هو صاحب نظريات القطوع المخروطية. وهي الأشكال التي تنتج من قطع سطح مستو لمخروط في شكل القمع مثلا. إذا كان السطح موازي لقاعدة المخروط، كان القطع على شكل دائرة.
أما إذا كان السطح يميل بزاوية بحيث يخرج من السطح المقابل، كان الشكل قطعا زائدا، وهو شبيه بالشكل البيضاوي، الذي تدور في فلكه كل الكواكب والأجرام السماوية. وقد كانت هيباشيا مغرمة بالقطوع المخروطية وأنواعها: القطع الزائد والناقص والمكافئ.
بموت هيباشيا، أهملت دراست القطوع المخروطية رغم أهميتها العلمية في الفلك والفيزياء. فقد أثبت كيبلر أن الكواكب تسير حول الشمس في مسارات تماثل القطع الزائد. وبعض الشهب تسير في مدارات تماثل القطع المكافئ الذي يشبه الناقوس.
كما أن القطع المكافئ له خاصية ضوئية فريدة. وهي أنه، إذا وضع مصباح في بؤرة ناقوس على شكل قطع مكافئ، فإن الضوء المنعكس من جدار الناقوس الداخلي، يخرج في خطوط متوازية إلى مالانهاية. لذلك كشافات السيارات الأمامية تصنع كلها على شكل القطوع المكافئة.
معظم أعمال هيباشيا كانت بالاشتراك مع والدها ثيون. بالإضافة إلى شرح وتدريس الفلسفة والرياضيات والفلك، قامت بعمل رسم للأجرام السماوية، واختراع جهاز لقياس كثافة ولزوجة السوائل (الهيروميتر)، واختراع الإسطرلاب المسطح الذي يستخدم في رصد النجوم والكواكب والشمس والأبراج الفلكية.
كانت تسلك في بحوثها هدى أفلاطون وأفلوطين. وعندما كانت أستاذة للفلسفة في جامعات الإسكندرية، كان يهرع لسماعها عدد كبير من الناس من شتى الأقطار النائية.
أهم أعمال هيباشيا كانت في علم الجبر. كتبت 13 بحثا تشرح فيهم كتاب ديوفانتوس الإسكندري الذي يعتبر أبو علم الجبر، والذي توصل إلى حل معادلات الدرجة الثانية، والذي عاش في القرن الثالث الميلادي . وكانت لهيباشيا حلولا مبتكرة ومسائل من تأليفها.
كان طلابها يهيمون حبا بها، لكنها لم تتزوج. وكانت تقف في الشوارع، بسبب حبها للفلسفة، تشرح لمن يسألها النقط الصعبة من كتب أفلاطون وأرسطو.
يقول المؤرخ الكنسي سقراط في كتابه "تاريخ الكنيسة" عن هيباشيا:
"كانت هيباشيا ابنة الفيلسوف ثيون، بارعة في تحصيل كل العلوم المعاصرة. مما جعلها تتفوق على كل الفلاسفة المعاصرين لها. كانت تتسم بالتواضع الشديد ورباطة الجأش ودماثة الخلق.
لم تكن تهوى الظهور أمام العامة. وكانت تقف أمام قضاة المدينة وحكامها دون هيبة. مبدية مسلكا متواضعا، أكسبها احترام الناس وإعجابهم. "
لكن هذا الإعجاب، لم يكن يشاركهم فيه مسيحي الإسكندرية أصحاب الهوس الديني. ونحن نعرف أن أصحاب الهوس الديني الناتج عن عبادة المطلق والنصوص الصماء بدون تأويل، في عصرها وفي كل العصور، هم أعداء للعقل والفكر والفن والحضارة بكل أشكالها وصورها.
كان أصحاب الفكر المغلق، ينظرون إلى هيباشيا شزرا. لأنها في نظرهم إمرأة جميلة شابة فاتنة، كافرة وصديقة وفية لحاكم المدينة، أرستيز (Arestes)، الذي كان أحد تلاميذها، والذي كان يكن احتراما شديدا لها.
كان التفاف جمهور المثقفين حولها، يسبب حرجا للكنيسة. أيضا، ازدياد أعداد جمهور هيباشيا الملفت للنظر، كان يسبب خطورة على جماعة المسيحيين في المدينة.
في ذلك الوقت، وقعت أحداث مؤسفة ملخصها، أن كبير الأساقفة سيريل (Cyril)، حرض أتباعه من الرهبان على طرد اليهود من الإسكندرية. عندما بدأت الأمور تتفاقم وتهدد السلام في المجتمع الإسكندري، أرسل حاكم المدينة تقريرا إلى الإمبراطور الروماني عن الأوضاع القلقة. يبدو أنه كان منحازا في التقرير لصف الجالية اليهودية.
هنا، استاء الأسقف ورجاله من التقرير، وقاموا بإهانة حاكم المدينة أرستيز وقذفه بالطوب والحجارة، فأمر الحاكم بالقبض على زعيم مثيري الشغب، الذي مات عام 415م، أثناء ضربه وتعذيبه.
بسبب صداقة هيباشيا لحاكم المدينة، تحملت نصيب الأسد من اللوم. وفي ذات يوم حزين، هجم عليها جماعة من المتعصبين، يتزعمهم كاتب صغير من موظفي الأسقف.
أنزلوا هيباشيا من عربتها التي كانت تقودها بنفسها، وشدوها من شعرها إلى إحدى الكنائس. ثم قاموا بنزع ملابسها وجروها عارية بحبل ملفوف من يدها في شوارع الإسكندرية حتى تسلخ جلدها.
أخذوا يرجمونها بقطع الأرميد المكسور حتى ماتت. قاموا بسلخ الباقي من جلدها بالأصداف. ثم قاموا بتمزيق جسدها إربا إربا، وألقوا ما تبقى منها فوق كومة من الأخشاب، وأشعلو فيها النيران. بعد ذلك، دفنوا أشلاءها في مرح وحشي شنيع عام 415م.
أبلغ أورستيز الرومان عن جريمة القتل البشعة، وطلب منهم التحقيق في الحادث، ثم استقال بعد ذلك. أرجئ التحقيق عدة مرات لعدم توافر الأدلة. ثم ادعى سيريل كبير الأساقفة بأن هيباشيا لم تقتل، وإنما شبه لهم. وقال أن هيباشيا الحقيقية فرت مع الفارين إلى إثينا.
لم يعاقب أحد من المجرمين، واكتفى الإمبراطور الروماني ثيودوسيوس الثاني بأن قيد حرية الرهبان في الظهور أمام الجماهير. بذلك، يتم إنتصار التعصب الديني على العقلانية والفكر المستنير.
بعد موت هيباشيا، فر أساتذة الفلسفة إلى أثينا. حيث كان التعليم العلماني لا يزال حرا نسبيا، وكانت حياة العلماء أكثر أمنا في مدينة أثينا، منها في مدن كثيرة غيرها. وكان الطلاب فيها نشيطون تسودهم الحياة العلمية الراقية. لكن المدرستين، الرواقية والأبيقورية، كانتا قد اختفتا من المدينة.
المجتمع العلمي الأفلاطوني كان قد تدهور بشدة. في عام 529م، أغلق الإمبراطور جستينيان مدارس أثينا، فاقتصر علمها على ترديد القديم مرارا وتكرارا. ولم تخرج عليه ، إلا إلى نزعات صوفية تستعير من مذاهب بعيدة عن المسيحية الأصلية.
ثم أغلق جستانيان مدارس الفلسفة والبلاغة، وصادر أملاكها وحرم الاشتغال بالتعليم على جميع العلمانيين. وبذلك انقضى عهد الفلسفة اليونانية بعد حياة دامت أحد عشر قرنا من الزمان.
بذلك، يكون قد تم الإنتقال من الفلسفة إلى الدين، ومن أفلاطون إلى المسيح. وأسبل الستار الكثيف على العقل والفكر. وبدأت رحلة الألف سنة. العصور المظلمة، والعصور الوسطى. حالكة السواد والبؤس.
ها نحن نعيد عجلة التاريخ، ونكرر عصر هيباشيا. بظهور أمثال الشيخ عبد المنعم الشحات والشيخ وجدي غنيم ومن على شاكلتهما. مؤيدون بحكام وسلطة فقدت القدرة على قراءة الماضي ورؤية الحاضر والتنبؤ بالمستقبل.
قريبا سوف يجرم تدريس الفلسفة والمنطق وكل تاريخ يخالف تاريخ البعثة المحمدية. وسف تلغى كل اللغات، فيما عدى لغة القرآن. وسوف يحرم الأدب والفن والموسيقى، لأنها كلها ملاهي تلهي عن ذكر الله.
وسوف يجرم تدريس نظرية التطور والهندسة الوراثية وعلم الأجنة. و يمنع لعب كرة القدم وكل الألعاب الرياضية. ويصادر التمثيل في التلفزيون والمسرح والسينما.
ثم تتحول علومنا وثقافتنا ومعارفنا إلى تكرار لما سبق، أو تأكيد لما أتفق عليه السلف الصالح. وسوف تفقد المرأة كل مكاسبها، وترجع جارية لزوجها وأولادها كما كانت. وسوف يبقى المسيحيون أهل ذمة كما كانوا، وباقي الملل والنحل، كفار يستحقون القتل والسحل.
سوف لا يكون لنا مجد سوى مجد قريش، ولا أبطال إلا أبطال قريش. فهم أسيادنا وتيجان رؤوسنا. ونحن الموالي أولاد الجارية وأحفاد فرعون الذي أغرقه الله في اليم بسبب مطاردته لنبي اليهود. هل رأيتم إلى أين نحن ذاهبون؟ وأي مصير أسود ينتظرنا على أيدي هؤلاء وأمثالهم؟
zakariael@att.net