الحداثة ومستقبل العالم الإسلامى
...............................................................
بقلم : د . محمد زكريا توفيق
.......................................
فى مواجة القوة العسكرية الغربية الحديثة اليوم, وهى قوة بلا شك طاغية, تقوقع العالم الإسلامى وإنكمش على نفسه, ليحتل موقعا متدنيا بين صفوف الأمم, رغم ثرواته وإمكاناته الهائلة. ووقع فريسة لقوى التمزق والغيرة والعداوة الداخلية بين شعوبه. لذلك فهو يحتاج الآن إلى إصلاح سياسى وإجتماعى وإقتصادى شامل. إذا أراد أن يحتل مكانه اللائق بين الأمم, وإذا رغب فى أن يعود إليه مجده وكرامته وإزدهاره.
الإحساس بالدونية والظلم والتخلف والغضب المكبوت جعل الحركات الإسلامية والمقاومة تظهر فى كل مكان. هذه المقاومة أخذت أشكالا مختلفة فى فلسطين وإيران وداخل الحركات والتنظيمات الإسلامية كالجماعة الإسلامية فى باكستان والإخوان المسلمين فى مصر وتنظيم القاعدة والتجمعات الإسلامية فى دول الغرب.
قادة الحركات الإسلامية والمقاومة تحمل الغرب مسئولية وصول العالم الإسلامى للحالة المزرية التى وصل إليها الآن. فهى ترى هيمنة الغرب على مقدرات الشعوب الإسلامية, ومساندته للفئة الحاكمة الفاسدة, وإستمرار تهريب أموال المسلمين للخارج, وإضطهاد الكفاءات وهروبها من العالم الإسلامى ونزوحها إلى دول الغرب. وترى ثروات وأموال البترول لا تستثمر داخل العالم الإسلامى كما يجب, وإنما تستثمر كلها أو معظمها فى دول الغرب. كما أنها ترى عنصرية الغرب وتعاليه وظلمه وتعامله بمعايير مزدوجة مع شعوب العالم الإسلامى. وترى أيضا إستيلائه على ثروات المسلمين فى الماضى والحاضر, وسرقته لوطن كامل فى فلسطين, وإحتلاله لبلاده وتدميرها بالكامل كما يحدث فى أفغانستان والعراق, وتشجيعه للصهاينة على القتل الجماعى للمدنيين من نساء وأطفال فى فلسطين ولبنان, وتدميرهم للبلاد بدون أى وازع أخلاقى. وترى أيضا موقف الغرب العدائى من محاولات التقدم التكنولوجى فى العالم الإسلامى, كما هو واضح بالنسبة لتخصيب اليورانيوم فى إيران, ومنع مصر من تطوير قدراتها النووية منذ عقود, فى الوقت الذى تمتلك فيه إسرائيل ترسانة من أسلحة الدمار الشامل والقنابل الذرية.
لذلك ترفض هذه الحركات كل ما هو غربى. ترفض الحداثة متمثلة فى سفور المرأة, وحرية الرأى, والديموقراطية, والعولمة, وأيضا ترفض العلوم والآداب والفنون الحديثة. وتلجأ إلى الإسلام وأصوليته كدرع وملاذ أخير.
المتعاطفون مع الحركات الإسلامية والرافضون للغرب بين الشعوب الإسلامية يشكلون الآن تيارا جارفا من الغضب, هو شبيه بغضب الجماهير قبل الثورة الفرنسية بسبب الظلم والطغيان, إلا أن غضب الجماهير الفرنسية كان يقوده المثقفون والمفكرون, أما غضب الجماهير الإسلامية الآن فيقوده إسلاميون متشددون وأصوليون متطرفون مثل أسامة بن لادن أو أيمن الظواهرى.
الحركات الإسلامية المتشددة هى فقط التى نجحت فى تحويل صراعها ضد الظلم وهيمنة الغرب إلى مكاسب سياسية وإجتماعية. بينما فشلت التيارات الأخرى كالتيار العلمانى والإشتراكى والوطنى والقومى. حيث أنها لم تحقق سوى مكاسب هزيلة مثل تكوين حزب مريض بدون قاعدة عريضة, أو إصدار جريدة متواضعة. وتنحصر جهود هذه التيارات الآن فى الصراع على السلطة أو نقد الحكومة فى الصحف. أما المثقفون والمفكرون فيقفون موقفا سلبيا من قضايا شعوبهم مع القوى الإستعمارية الجديدة. حيث تتلخص جهودهم الآن فى قضايا فردية خاصة بحقوق الإنسان داخل بلادهم, أو المطالبة بالعولمة, أو الترويج للتطبيع مع إسرائيل.
المكاسب السياسية والإجتماعية وتعاطف الشعوب مع الجماعات الإسلامية جعلت الفكر المتشدد والفكر الأصولى يطغى على الفكر الإسلامى المعتدل, الذى لا يعادى الحداثة والإنفتاح على العلوم الحديثة, والذى كان يمثله جمال الدين الأفغانى ومحمد عبده والشيخ شلتوت والشيخ عبد الحليم محمود فى مصر حتى أوائل السبعينيات. ونجد الحداثة فى التعليم التى بدأت بإرسال البعثات إلى الغرب فى القرن التاسع عشر, بدأت تنهار اليوم فى معظم البلاد الإسلامية وفى مصر بصفة خاصة. فمثلا بدأ الأزهر ومحمع البحوث الإسلامية يسيطران ويفرضان رقابة على الفكر وعلى كل ما ينشر من كتب أو مطبوعات فى مصر. وإختفت كتب محمد عبده وطه حسين ونجيب محفوظ من المناهج ولم تعد تدرس فى المدارس أوالجامعات المصرية. وإختفت كتب الفلسفة وعلم النفس والبيولوجى التى تعالج موضوعات مثل الفلسفة الوجودية أو نظرية التطور لدارون أو نظريات فرويد فى علم النفس. وقد كانت هذه الكتب تباع فى المكتبات وعلى الأرصفة بقروش زهيدة فى عصر ما قبل الثورة وحتى بداية السبعينيات. أما الآن فلا تجد سوى كتب التفاسير والأحاديث وكتب الشيخ الشعراوى وكتب عن التداوى بالأعشاب وعذاب القبر وعن التعايش مع الجن والزواج منهم. وإختفت كتب الشعر والروايات والأدب العالمى التى كنت تجدها فى كل بيت فى الخمسينات, ولم تعد الآن الأسرة المصرية تهتم بمثل هذه الكتب. الكتب الوحيدة التى تقتنيها الأسرة المصرية اليوم هى الكتب الدينية. صحيح أن وزارة الثقافة تقوم مشكورة بنشر سلسلة ممتازة من كتب التنوير فى مطبوعات مكتبة الأسرة وبأسعار زهيدة جدا, لكن لا أحد يقرأ أو يقتنى مثل هذه الكتب اليوم.
واضح أن الفكر الأصولى نجح فى إبعاد العلوم والثقافة فى مصر عن الحداثة. ودعوته إلى قيام مجتمعات إسلامية أصولية هى دعوة إلى نبذ كل ما هو جديد ونبذ العلوم الحديثة التى تبنى على المنطق والتفكير العقلانى. وإذا كان هذا هو الحال فى بلادنا اليوم, فما هو العمل إذن؟ وكيف تنهض شعوبنا من كبوتها؟
أولا: يجب أن نرفض فكرة وجود حل واحد وبسيط لكل مشاكلنا الحقيقية. إن المجتمعات اليوم تواجه مشاكل شديدة التعقيد. وتواجه مشاكل جديدة ليس لها نظير فى التراث الموروث. فمثلا مشكلة تلوث البيئة وعلاقتها بالإنتاج الصناعى, ومشكلة الميكنة وعلاقتها بالبطالة. ومشكلة التوسع فى التعليم على حساب الكفاءة, ومشاكل العملة والتضخم والكساد والتجارة الخارجية...الخ. المشاكل المعقدة تحتاج إلى حلول معقدة. كما أنه ليس هناك حل واحد مثالى للمشكلة الواحدة المعقدة. وإنما حلول كلها تقريبية. وتصبح الأمور فى هذه الحالة رمادية اللون بدرجات مختلفة. وليست لون أبيض أو لون أسود فقط. جملة بسيطة مثل "الإسلام هو الحل" فى حد ذاتها, وأن كانت تدغدغ مشاعر المسلمين وتثير حماسهم, تحتاج إلى جانبها البرامج والدراسات والجهود المضنية والتخطيط السليم والتكنولوجيا الحديثة, لكى يمكن أن تساهم فى إيجاد حلول لمثل هذه المشاكل.
ثانيا: لا يجب الخلط بين الحداثة والتغريب. الحداثة بمعنى إستخدام العقل والأخذ بكل ما هو جديد فى الفكر والعلوم للسير بالمجتمع إلى الأمام. وهى على عكس الأصولية التى تحارب كل ما هو جديد, وتحاول العودة بالمجتمعات إلى الماضى البعيد كحل لمشاكلنا المعقدة. الحداثة لا تعنى معادات الماضى أو العادات الموروثة. فإبن سينا وإبن رشد والرازى والفارابى فى عصرهم كانوا مجددين. والحداثة أيضا لا تعنى المادية والبعد عن الدين. ولا تغفل الجانب الروحى للإنسان. الحداثة تعنى وصل الأشياء بمسبباتها, وحل المشاكل بالحوار وبدون عنف. وتعنى العمل المنتج والتفكير الجماعى, والثقة فى النفس والمجتمع. أما التغريب فهو التقليد الأعمى للغرب بدون هدف. نلبس كما يلبس, ونأكل كما يأكل, ونتكلم كم يتكلم, ونستهلك كما يستهلك. نقتنى منتجاته, ونعجب بأبطاله ونفتن بنسائه. هذا هو التغريب بمعنى أن يكون الإنسان غريبا فى وطنه, ويعنى التبعية لا الحداثة.
الحداثة والعلم الحديث يسيران جنبا إلى جنب. وللإستفادة من العلوم الحديثة لابد من منهج تعليمى جيد. لا يعتمد على الحفظ بدون تفكير. ولا يهدف إلى النجاح فى الإمتحان فقط. ولا يكون مادة لإستغلال النفوذ وللكسب الغير المشروع, كما هو الحال عندنا بالنسبة للدروس الخصوصية, والتجارة بالمطبوعات والملازم فى الجامعات. التعليم الجيد فى الدول الحديثة يهدف إلى شئ واحد. هو بناء عقول قادرة على النقد والتفكير. عقول تؤمن بالعلم وبقدرته على حل مشاكل المجتمع. عقول قادرة على البحث والإبتكار.
ثالثا: لا بد من فصل العلم عن الدين. فهذا شئ, وذلك شئ آخر. العلوم محايدة, ليس لها دين أو وطن. ولا تهدف إلا للبحث عن الحقيقة خلال الشواهد والأدلة المتوافرة. أما الدين فهو مجموعة عقائد إيمانية مسلم بصحتها مسبقا بدون شك. والخلط بين الدين والعلم يفسد كلاهما. ومحاولات تفسير القرآن أو الإنجيل تفسيرا علميا أو محاربة النظريات العلمية الجديدة بحجة أنها تتعارض مع الدين, كل ذلك إضاعة للوقت والجهد وإعاقة للتقدم. العلوم تتبدل وتتطور بسرعة كبيرة. وتثبت فيها نظريات وتلغى نظريات. تطور العلوم هذا يعتبر إنتصارا للعقل البشرى وللإنسانية. لكن الأديان منزهة عن هذا التغير والتبدل. وإدخال الدين فى دائرة العلوم يجعله عرضة للخلط واللبس, أو يجعل العلوم ثابته غير قابلة للتطور.
الدين يجب أن يبدأ من حيث ينتهى العلم. فالعلم لا يعرف شيئا عن الحق والعدل, أو العناية بالوالدين والعطف على الفقير. ولا يستطيع الإجابة على سؤال لماذا نحن هنا, وما الفائدة من وجود هذا الكون. العلم كما أنه أنقذ أرواح الملايين من البشر بسبب إكتشافه للأدوية والمضادات الحيوية, أنتج أسلحة الدمار الشامل والقنابل الذرية التى ألقيت على جزيرتى هيروشيما ونجازاكى. حاجة الإنسان إلى الدين كحاجته للعلم. فهو لا يستطيع أن يتقدم بدون علم, ولا يستطيع أن يحيا بدون دين. وهذا لا يعنى محاباة العلوم على حساب الدين أو العكس, وإنما يعنى عدم الخلط بينهما. فلكل مملكته المستقلة.
رابعا: الحداثة تعنى إعلاء شأن الإنسان. أى أن الفرد له حقوق . من الواجب إحترامها وحمايتها. بغض النظر عن اللون أو الدين أو الجنس أو السن أو درجة التعليم. الإنسان هو أغلى شئ, وأنبل قصد, وأعلى شأن. فلا يجب أن نهمله أو نظلمه أو نلقيه فى السجون والمعتقلات بدون محاكمة وبدون إدانه. ولا يجب أن يحكم بالقوة بدون إرادته. أو يترك فريسة للجهل والفقر والمرض.
الحداثة تعنى المساواة فى الحقوق والواجبات. المساواة بين الرجل والمرأة, وبين الغنى والفقير. المساواة تعنى تكافؤ الفرص المتاحة سواء كانت إجتماعية أو لإقتصادية أو سياسية. الحداثة تعنى حرية الرأى, فلا أحد منا يعرف الحقيقة. الله سبحانه وتعالى وحده هو الذى يعرف الحقيقة. الحداثة تعنى حرية الإعتراض السلمى حتى يمكن سماع صرخة المظلوم. الحداثة تعنى حرية تكوين الأحزاب وحرية إصدار الصحف والكتب, وحرية الكتابة دون المساس بحرية الآخرين. وهى كلها نتاج الحضارة الإنسانية الحديثة, وليس لها أى علاقة بجورج بوش أو تونى بلير أو المحافظون الجدد. فهؤلاء أخطاء فى جينات الحضارة وأسوأ ما فيها. هذه الحضارة الجديدة تسمى خطأ بالحضارة الغربية. لأنها بنيت أساسا على الحضارة المصرية القديمة, وساهمت فيها كل حضارات الشرق, وحضارة مابين النهرين والحضارة الهيلينية, والحضارة الإسلامية بقدر كبير. فهى مثل النهر الذى تصب فيه روافد كثيرة. لذا فهى ليست حكرا على الغرب وحده. وإنما ملك لكل الشعوب.
لقد قطع الإنسان شوطا بعيدا فى الحداثة. فلم يد هناك جوارى وعبيد. وتحررت المرأة إلى حد ما من ظلم الرجل. فقد كانت المرأة تعامل كالبهائم, وليس لها حقوق بالمرة, فى العصور الماضية وفى الحضارة اليونانية القديمة بالأخص, رغم ما أنتجته هذه الحضارة من علوم وفلسفة وأدب. لقد تحققت أشياء ولكن لايزال أمامنا الكثير. فالديموقراطية الحقيقية بمعنى حكم الشعب بالشعب لمصلحة الشعب, والتى تسير جنبا إلى جنب مع الحداثة, لا تزال بعيدة عنا. والمساواة بين المسلم والقبطى والمرأة والرجل والمدنى والعسكرى لا تزال غير كاملة. وحرية العبادة للأديان والطوائف الأخرى غير مكفولة.
هل المستقبل واعد؟ نعم, رغم كل ما نراه من كوارث. لأنه لا يحق إلا الحق, ولا يسود إلا العدل, ولا يصح إلا الصحيح.
zakariael@att.net