حروب رجال الدين للعلم والعلماء
...............................................................
بقلم: محمد زكريا توفيق
..................................
تاريخ حروب رجال الدين للعلم والعلماء طويل ومرير. خصوصا حروب رجال الكنيسة الكاثوليكية فى القرون الوسطى. فلمدة ألف عام قبل عصر النهضة, كانت سيطرة الكنيسة الكاثوليكية على أوروبا سيطرة طاغية. فالتعصب وعدم التسامح والشك والخرافات كانت هى الصفة الغالبة لهذه الفترة المظلمة. مما جعل التعليم الأكاديمى والبحث عن الحقيقة المجردة أمرا مستحيلا. فقد قام رجال الكنيسة بالتحريض أو قتل عشرات الألوف من الأبرياء بطرق بشعة بعد إتهامهم بالهرطقة أو مزاولة السحر. وكانت إجراءات التعذيب التى يتعرض لها المتهمين لإجبارهم على الإعتراف تفوق الوصف.
فى ربيع عام 1543م أمر كوبرنيق وهو على فراش الموت بنشر مؤلف له, جاء فيه أنه إذا راقبنا الأجرام السماوية من نقطة فى الفضاء تدور حول الشمس, لوجدنا تفسيرا لحركة الكواكب وشدة إستضاءتها ومساراتها الغير مفهومة. الأرض إذن ليست مركز الكون كما كنا نعتقد. وكل النجوم والأجرام السماوية التى نراها تدور حول الأرض, هى فى الواقع بسبب دوران الأرض حول نفسها وحول الشمس. أى أن معلوماتنا عن الأرض والأجرام السماوية ماهى إلا وهم. أما الحقيقة فشئ مختلف تماما.
كفر والعياذ بالله. هكذا قابل رجال الكنيسة هذه الأنباء. فهم قد أعطوا أهمية كبرى للإنسان, ووضعوا الأرض فى مركز الكون. أما أفكار كوبرنيق, فهى تحول الإنسان إلى شئ تافه, والأرض إلى كوكب صغير قليل الأهمية, يدور حول الشمس مثل باقى الكواكب. لذلك سرعان ما أتهم كوبرنيق فى إيمانه, وحرم من الشهرة ومن جنى ثمار إكتشافه. وأهمل مؤلفه, لكن إزاء رصانة منطقه المدعم بالمعادلات الرياضية والأرقام والحسابات الدقيقة, أضاف رجال الدين إلى مؤلفه جملة "هذه ليست إلا مجرد نظرية, لا يجب أخذها بجدية".
فى نهاية القرن السادس عشر, جاء العالم والفيلسوف "جيرانو برونو" ليكمل أبحاث كوبرنيق, وليعطيها بعدا جديدا. أخذ برونو ينشر نظرية كوبرنيق فى جميع أنحاء أوروبا, متنقلا من قطر إلى قطر, ومن مدينة إلى أخرى. وأضاف إلى نظرية كوبرنيق قراءات فلكية جديدة تدعمها. وطبق هذه النظرية على كل الأجرام السماوية الأخرى. وأضاف برونو بأن الأرض ليست تدور فقط حول الشمس, لكن الشمس نفسها ما هى إلا نجم صغير متواضع الحجم بالنسبة لباقى النجوم التى نراها فى السماء. وقال أيضا أن النجوم الأخرى قد يكون بها كواكب مثل الأرض, وقد يكون بعضها آهل بالحياة والسكان.
فى عام 1594م تم القبض على برونو, وسجن لمدة 6 أعوام حتى ينظر فى أمره. وفى عام 1600م, تمت محاكمته وإدانته. ولأنه رفض الإعتراف بجريمته وخطئه, حكم عليه بأقصى عقوبة. وفى ميدان الزهور بروما, وبعد أن ربط لسانه وجرد من ملابسه, قيدت يداه ورجليه فى قضيب من حديد. ثم بدأ حرقه حيا وسط جمع غفير من المؤمنين الأبرار, اللذين ظلوا يهتفون بالموت للكفار.
بعد 32 سنة من حرق برونو, تمكن جاليليو العالم الإيطالى من نشر كتاب, يؤكد فيه حقيقة دوران الأرض حول الشمس بالأدلة والبراهين القاطعة. وعندما علمت السلطات بذلك, تملكها الغضب الشديد, وقامت بتحديد إقامة جاليليو حتى ينظر فى أمره. لكن عبقرية جاليليو كانت قد طبقت الآفاق فى ذلك الوقت. فإختراعه للتلسكوب, وتجربته الخاصة بقوانين الجاذبية كانت معروفة داخل إيطاليا وخارجها. لذلك لم تستطع السلطات إعدام جاليليو بسبب آرائه كما فعلت مع برونو من قبل, إلا أنها لم تتركه دون عقاب. فقامت بإرهابه وتهديده وهو فى سن السبعين. ولم تتركه إلا بعد أن خر صاغرا جاثيا على ركبتيه. فأجبرته على الإعتراف على الملأ بخطئه وعدم دقة قراءاته, لأنه رجل عجوز مخرف. أما الحقيقة الثابته, فهى مايراه رجال الدين. أى أن الأرض هى مركز الكون. وكل الأجرام السماوية تدور حولها.
عندما قررت الكنيسة أن بداية العالم كانت يوم الأحد 23 أكتوبر سنة 4004 قبل الميلاد(الأسقف آشر), أخرجت رفاة العالم "وكليف" الذى كان يقول منذ مدة طويلة أن عمر الأرض يزيد على مئات الألوف من السنين. وأمرت الكنيسة بطحن عظام العالم الكافر هذا ونثرها فى البحر حتى لا يدنس رفاته الأرض.
كان رجال الكنيسة الكاثوليكية يؤمنون إيمانا لا يقبل الشك بأن الأرض مسطحة. وكان منطقهم فى ذلك يقول: "هل رأيت أشجارا تنمو إلى أسفل؟ وأن المطر يصعد إلى أعلى؟ وإذا كان هناك جانب آخر من الأرض, كما يدعى من يقول بأنها كروية, وهذا الجانب عليه شعوب أخرى, فالسيد المسيح عليه السلام كان عليه أن يذهب إليهم ليصلب مرة أخرى. وكان لا بد من وجود نسخة أخرى من جنة عدن وآدم وحواء والحية. وهذا بالطبع لم يحدث, لذلك فالأرض مسطحة."
الأمراض, كما كان يعتقد رجال الكنيسة, هى من فعل الشياطين. الشياطين هى سبب المجاعات والقحط والعقم عند النساء وفساد الجو. الشياطين تحوم فى الجو ممتطية السحاب, وتأتى لمن يطلبها عن طريق السحر, أو لمن يقترف إثما أو خطيئة. لذلك أمر البابا "بيوس" الخامس أن يدعى الأطباء بأطباء الروح. لأن الأمراض تأتى من الشياطين والأرواح الشريرة.
الأوبئة, مثل الجدرى والكوليرا, كانت تعتبر إرادة إلهية. لذلك كان التطعيم ضد بعض هذه الأوبئة مرفوضا رفضا باتا من رجال الكنيسة. إلى درجة أن ألقيت قنبلة فى منزل الدكتور "بولستون" عندما أقام مركزا لتطعيم الناس ضد مرض الجدرى. وكانت معارضة الكنيسة لتشريح الجثث بعد الوفاة سببا فى تخلف علوم الطب فى أوروبا. وكان منطق رجال الدين يقول بأن تشريح الجثث بعد الوفاة, يشوه هذه الجثث ويجعلها تنبعث فى الحياة الأخرى فى صورة مرعبة.
فى عام 1770م ظهرت خاصية عجيبة فى عدة أماكن فى أوربا. وأرسلت عدة تقارير إلى الأكاديمية الملكية للعلوم, بأن الماء قد تحول فى عدة أماكن إلى دماء. وسارع رجال الكنيسة بإعلان أن سبب حدوث هذا يرجع إلى غضب من الله سبحانه وتعالى. وعندما ظهرت هذه الظاهرة فى السويد, قام العالم "لينوس" بفحص هذه الظاهرة بعناية. فوجد أن إحمرار المياة يرجع إلى وجود حشرات دقيقة صغيرة لونها أحمر. وعندما وصلت الأنباء إلى كبير الأساقفة, قال بأن هذا التفسير عمل شيطانى. ورفض تفسير العلم وأقر بأن ظاهرة المياة الحمراء هى ظاهرة غير طبيعية. وأجبر العالم لينوس على التراجع عن تقريره العلمى, وأمره بنشر تقرير آخر يقول فيه بأن ظاهرة المياة الحمراء هذه هى أعلى من مستواه العلمى.
كانت تقول الكنيسة بأن عدم إصلاح الكنائس وعدم دفع العشور, هى أسباب حدوث البرق والصواعق. وعندما أطلق بنيامين فرانكلين طائرته الورقية ليثبت أن البرق ماهو إلا كهرباء, سارع الناس بوضع مانعات الصواعق فى أعلى المنازل, لإمتصاص وتفريغ هذه الكهرباء فى الأرض. ولكن رجال الكنيسة رفضوا إستخدام مانعات الصواعق. بل إتهموا مانعات الصواعق هذه والتى بدأ إنتشارها فى مدينة بوسطن, بأنها قد تسببت فى زلزال سنة 1755م فى مدينة ماساشوست. ولكن فى ألمانيا فى الفترة من عام 1750م إلى عام 1753م فقط, دمرت الصواعق 400 برجا من أبراج الكنائس, وقتلت 120 رجلا كانوا مكلفين بخدمة الأجراس. بينما المبانى التى إستخدمت مانعات الصواعق لم تصب بأى أذى. لذلك بدأت الكنائس مرغمة فى إستخدام مانعات الصواعق. وبإنتهاء القرن, كانت كل الكنائس بدون إستثناء تستخدم مانعات الصواعق.
أثناء عصور الظلام, كانت الرياح والأعاصير تفسر بأنها من أعمال الشياطين. لذلك أمر البابا جورجى الثالث عشر بدق الأجراس فى الكنائس عندما يشتد هبوب الريح, أو يزداد هطول الأمطار, أو عندما يسطع البرق أو يعلو صوت الرعد. وفى القرن الخامس عشر ظهر إعتقاد مأساوى بأن بعض النساء يقومن بمساعدة الشياطين فى ظهور الأعاصير أو العواصف الثلجية أو الفيضانات أو ما شابه ذلك من كوارث. لذلك أصدر البابا "أنوسنت" الثامن فى السابع من شهر ديسمبر عام 1484م أمرا بالقضاء على كل الساحرات. فقام رجال الكنيسة فى ألمانيا بتعقب الساحرات اللاتى يسببن فساد الجو وبوار الأرض وباقى الكوارث. ومن ثم وجدن آلافا من النساء الأبرياء أنفسهن على أجهزة التعذيب, أو مكبلين ومحاطين بأقرب الناس إليهن, لكى يقودوهن إلى أماكن الإعدام حرقا , حتى تتطهر أرواحهن.
لا تزال الحرب قائمة بين نظرية دارون فى النشوء والإرتقاء وقصة الخلق, كما ترويها الكتب المقدسة. وعندما أخبرت زوجت القسيس "ورشيستر" عن نظرية دارون, قالت معلقة: "تقول يا عزيزى أننا جئنا من القرود!!! دعنا نأمل إذن أن يكون هذا غير صحيح. ولكن إذا كان هذا صحيحا, فنطلب من الله أن يخفى هذه الحقيقة عن الجميع."
مثل هذه القصص المحزنة التى تبين الصراع المرير بين العلم والفهم الخاطئ للدين لا ينتهى عددها. وهى ليست مقصورة على دين واحد أو زمان واحد. والعالم الإسلامى لا يخلو من مثل هذه القصص فى الماضى والحاضر. فقصص تعذيب العلماء والمفكرين وإعدامهم لا ينكرها أحد. فإبن المقفع, الذى كان يجمع بين لغة العرب وصنعة الفرس وحكمة اليونانيين, ومؤلف كتاب كليلة ودمنة, وكتب أخرى كثيرة توضح ما ينبغى أن يكون عليه الحاكم إزاء الرعية, وما يجب أن تكون عليه الرعية إزاء الحاكم. مما أغضب الخليفة المنصور فى صدر العصر العباسى الأول. فإتهم إبن المقفع بالكفر, وقطعت أطرافه وفصلت رأسه, وألقى بباقى جسده فى النار. والحلاج المتصوف الإسلامى المشهور, إتهمه الخليفة المقتدر بالله بالكفر وحكم عليه بالموت. فضرب بالسياط نحوا من ألف سوط, ثم قطعت يداه ورجلاه, ثم ضربت عنقه, وأحرقت جثته بالنار ثم ألقى مابقى من تراب جثته فى نهر دجلة. وشيخ الإستشراق المتصوف السهروردى فى عصر صلاح الدين الأيوبى, تم قتله بنفس الطريقة التى قتل بها الحلاج من قبل. والإمام إبن حنبل, قام الخليفة المعتصم بسجنه وتعذيبه. والكندى, فيلسوف العرب, جرد من ملابسه وهو فى الستين, وجلد ستون جلدة فى ميدان عام وسط تهليل العامة. والرازى, ضرب على رأسه بكتبه حتى فقد البصر, وعندما طلب أحد تلاميذه علاجه, رفض وقال لقد نظرت إلى الدنيا حتى مللت. وإبن رشد, حرقت داره وكتبه وأتهم فى إيمانه. ولم ينجو إبن سينا أو إبن خلدون من الإتهام بالكفر. وفى العصر الحديث, قتل الدكتور فرج فودة بسبب آرائه ودفاعه عن أقباط مصر. وكاد نجيب محفوظ, الحاصل على جائزة نوبل فى الآداب, أن يقتل ذبحا بسبب إحدى رواياته. وفرق بين الدكتور أبو زيد وزوجته بسبب أبحاثه. ومنعت كتب طه حسين ونجيب محفوظ من التدريس بالمدارس والمعاهد والجامعات المصرية.
إعصار الإرهاب الفكرى بدأ يطغى على المنطقة دون رحمة أو هوادة. وعاجلا أم آجلا, سوف نصل إلى ما وصلت إليه أوروبا فى العصور المظلمة. والفرق بين بيننا وبين أوروبا هو أن أوروبا إستطاعت أن تنجو من هذا الوباء. وفهمت الدين كما يجب. وفصلته عن العلم. أما نحن, فلا نزال نخلط بين العلم والإيمان. ونحن لا نعرف مفهوم العلم أو معنى الإيمان. نستخدم العلم مكان الإيمان, والإيمان مكان العلم. التقدم له أسبابه. والتخلف لا يأتى من فراغ. وإذا لم نراجع أنفسنا ونعيد حساباتنا, سوف نضيع. وقد ضاعت أمم قبلنا كثيرة حين إختلط عليها الأمر, وحجبت الرأى, وحاربت العقل. فلم تعد تفرق بين الخطأ والصواب. أو الظلم والعدل.
zakariael@att.net