دراسة في عالم نجيب محفوظ الروائي و القصصي
...............................................................
| |
نجيب محفوظ | |
بقلم : ناجى السنباطى
.........................
مع التطبيق علي رواية ( الحرافيش ) وعلي قصة ( عنبر لولو )
اعتمدنا في هذه الدراسة علي مرجعين هامين بشكل أساسي أولهما كتاب نجيب محفوظ للدكتور حلمي بدير وكتاب القصة القصيرة للدكتور طاهر مكي ، وستنقسم الدراسة إلي قسمين إضافة إلي تمهيد.
تمهيد : ارتبطت الرواية والقصة القصيرة في نشأتهما بالصحافة ، وعلي نحو ما كان ( ديكنز) يكتب فصولا من رواياته ، وتنشر في جريدة حائط ، وكان ( فلوبير) ينشر " مدام بوفاري" أيضاً في جريدة ، وقد أتاح إتجاه الصحف المصرية لنشر الأعمال الأدبية مسلسلة بالصحف والمجلات ، الفرصة للعديد من الكتاب ، بالظهور والانتشار والتجويد والاستمرار ، وكانت الأهرام القاهرية وراء تعريف الجمهور المتلقي بنجيب محفوظ ، ونجيب محفوظ لم يتفوق في الرواية فقط والتي تابع بها الواقع الاجتماعي ومتغيراته ، وما يترتب عليه من ظواهر ولكنه تفوق أيضاً في مجال القصة القصيرة ، وقد توج كل هذا بحصوله علي جائزة نوبل في الآداب في 10/12/1988 ، وقد ترجمت أعماله إلي جميع لغات العالم قبل حصوله علي جائزة نوبل وبعد حصوله عليها.
والقصة القصيرة حدث شديد الكثافة وأسلوب برقي وتتميز بالإيجاز والتكثيف بينما ، بينما الرواية حياة بكل ما في الكلمة من معني ، إنها عالم فسيح ممتد ، يجول فيه الكاتب زماناً ومكاناً وشخوصاً وموضوعاً ، ويقول الدكتور / طاهر مكي ، أن القصة القصيرة هي حكاية أدبية تدرك لتقص ، وهي قصيرة نسبياً وذات خطة بسيطة وحدث محدد وحول جانب من الحياة ، لا في واقعها العادي والمنطقي وإنما طبقاً لنظرة مثالية ورمزية ولا تنمي أحداثاً وبيئات وشخوصاً كثيرة وإنما توجز في لحظة واحدة حدثاً ذا معني كبير.
فالروائي والقصاص يأخذان مادتهما من قضايا الإنسان ومشاكله وواقع الحياة ، وإنما يجىء الاختلاف من الشكل الذي تأخذه ، عند كل واحد منهما ، فطول الرواية يحدد قالبها ، بينما قالب القصة القصيرة يحدد طولها.
والقصة قد لا تأخذ زمناً كبيراً علي عكس الرواية ، وهي تتجه إلي الحدث وتعبر عنه في لغة مركزة وعبارة محكمة علي عكس الرواية ، التي لديها المساحة الواسعة للتجول زمنياً ومكانياً وشخوصاً وأفكاراً. وقد برع نجيب محفوظ في كلا النمطين ، بل اتجه إلي نمط المسرحية ذات الفصل الواحد فأبدع فيها أيضاً.
ويقول الدكتـور / حلمي بدير ، أن اتجاه نجيب محفوظ لكتابة القصة القصيرة ذلك أنها فترات راحة بين كتابة الرواية والأخري ، وأنه يلجأ إليها ، أي إلي القصة القصيرة ، ليعالج أفكاراً تستلزم سرعة معالجتها ، ولا تستطيع أن تنتظر لتعالج كراوية ، ويعتبر هذا الرأي أيضاً معياراً للفصل بين سبب المعالجة لدي الكاتب ، من حيث اختيار القالب أو الشكل ، هل يصيغه في شكل قصة قصيرة أم في شكل رواية.
إلا أن التقسيم بين الأنماط الأدبية ، ليس تقسيماً قاطعاً ، فهناك تزاوج بين العديد من الأشكال الأدبية ، وبينما تستوعب الرواية كل هذه الأشكال لا تتحمل الأشكال الأخري ، حجم الرواية أو المسرحية الكاملة الفصول.
وعلي كل حال فإن نجيب محفوظ قد تفوق في صياغة أفكاره في هذه القوالب جميعها ، فمن هو الأقدر ضمن من يقدرون علي ذلك غير نجيب محفوظ.
مشوار نجيب محفوظ الأدبــي :
لقد بدأ محفوظ كتابته للرواية ، في الثلاثينات ، بروايات تاريخية ، كرادوبيس وكفاح طيبة وهمس الأقدار ، ويري الدكتـور بدير ، أنها إضافة إلي المقاولات الصحفية له .. تمثل الأساس لإبداعاته التالية التي تصنف جميعاً .. في مجال الواقعية الاجتماعية .. التي تتأثر بالواقع متابعة للمتغيرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية ، ومن أعماله الواقعية .. بداية ونهاية عام 1949 ، وهي الرواية السابعة لنجيب محفوظ ، قبل الثلاثية ومن أعماله الاجتماعية السراب عام 1948 وأولاد حراتنا 1959 وثرثرة فوق النيل 66 وميرامار 67 و المرايا 1972 والحب تحت المطر 1973 والكرنك 1974 وحكايات حارتنا 1975 وقلب الليل 1975 وحضرة المحترم 1975 وملحمة الحرافيش 1977 وأيضاً خمارة القط الأسود وتحت المظلة 1969 وحكاية بلا بداية ولا نهاية وشهر العسل 1971 والجريمة 1973 والحب فوق هضبة الأهرام 1979 والشيطان يعظ 1980 واللص والكلاب ، إضافة إلي الثلاثية.
• ويعتبر الدكتور بدير أن هذه الأعمال مرحلة تجريد جديدة ، وهي أيضاً مرتبطة بمتغيرات المجتمع من الحكم الشمولي إلي الانفتاح .
وقد صمت نجيب محفوظ في المدة من 1942 حتي 1951 وفي المدة من 1967 حتي عام 1972 عن كتابة الرواية ولكنه أخرج خلال مدد الصمت العديد من القصص القصيرة ، والصمت عند نجيب محفوظ مرتبط بمرحلة المتغيرات ، فالصمت الأول عقب الحرب العالمية الثانية والصمت الثاني عقب هزيمة 1967 وحتي نصر أكتوبر 1973 ويؤكد الدكتور بدير أن اللجوء إلي القصة القصيرة ، يكون عند محفوظ لمعالجة فكرة ملحة في الظهور لا تستطيع أن تنتظر لمعالجتها في شكل روائي.
• واستمر عطاء محفوظ خلال الثمانينات ، فقدم رواية ( عصر الحب ) عام 1980 ، وانتهاء برواية (قشتمر) عام 1988 … كما قدم ثلاث مجموعات قصصية ووعد بواحدة ، أما الثلاث فهي ( رأيت فيما يري النائم ) عام 1982 و ( التنظيم السري ) عام 1984 ، ( وصباح الورد ) عام 1988 ، والرابعة الموعودة ( الفجر الكاذب ) وقد صدرت عام 1989.
• وقد صدر له الأهرام أخيراً ، في شكل حلقات ( أصداء علي السيرة الذاتية ) ، وهي مقاطع تتميز بالتكثيف والرمز والإيجاز وذات معاني دلالية ورمزية وترقي إلي مرتبة أقوال ( رجال الصوفية ).
• لقد كتبت العديد من الدراسات الأكاديمية والأعمال النقدية .. إلا أنها مازالت قاصرة عن تغطية كم الإبداع الهائل الذي أخرجه محفوظ.
• كما ترجمت العديد من أعماله إلي اللغات المختلفة ، منذ عام 1966 ، بل يمكن أن نقول أنها غطت كل أعماله بعد حصوله علي جائزة نوبل 1988 وتتولي ( الجامعة الأمريكية – قسم النشر – القاهرة ) عملية نشر أعماله مترجمة بالخارج ، بموجب تعاقد مع الكاتب.
• كما أن معظم روايته وقصصه قد تحولت إلي افلام سينمائية ومسلسلات تلفزيونية وأعمال للراديو كما صدر أغلبها منشوراً بالصحف والمجلات خاصة جريدة الأهرام قبل أن تصدر في شكل كتاب.
وسوف نتناول نموذجاً لرواية هي (ملحمة الحرافيش ) ونموذجاً لقصة قصيرة هي ( عنبر لولو) كما يلي :
القسم الأول : دراســــة ( ملحمة الحرافيش )
تمهيد :
من أهم الروايات في حياة نجيب محفوظ ( أولاد حارتنا ) والتي أشادت بها لجنة جائزة نوبل ، وإن كانت الجائزة عن أعمال الإبداعية جميعاً.
صدرت تلك الرواية في عام 1959 في شكل نشر مسلسل بجريدة الأهرام ، وتوقف نشرها ، بعد اعتراض الأزهر الشريف عليها ، ولكنها طبعت بالخارج طبعات عديدة ، وكان أساس الأزمة ، أنها تجدف في الدين ، من واقع شخصياتها .. الجبلاوي وأدهم ورفاعة وقاسم وعرفة .. وكانت وجهة النظر المعارضة أنها رموز للأنبياء وأن شخصية " الجبلاوي " هي شخصية الله " حاشا لله " وعدد فصولها يعادل عدد سور القرآن ولكن الرواية من وجهة نظر الكاتب أنه يبحث عن صفات العدل و الرحمة ورفع الظلم والسلام المفقود وكل القيم المثالية ، التي افتقدتها الحارة ، ولكنه لم يصدرها أو ينشرها مرة أخري ، لعدم الاصطدام مع رأي الأزهر الشريف وإن لم يمنع ذلك الناشرون من نشرها بالخارج.
و للدكتور / حلمي بدير وجهة نظر في أن محفوظ ، قد قام بإعادة صياغة الحكاية مرة أخري في " حكايات حارتنا " وفي ملحمة " الحرافيش " الصادرة في عام 1977 بعدما ازداد نضجه الفني وتلافي ما قد يسبب اللبس الذي وقع لرواية " أولاد حارتنا " وذلك بطرائق فنية جديدة.
** أصـل كلمة الحرافيش :
• في لسان العرب ، في مادة " حرفش " : احرنفش الديك " : ( تهيأ للقتال وأقام ريش عنقه وكذلك الرجل إذا تهيأ للقتال ، والغضب والشر ، واحرنفشت الرجال .. إذا صرعت بعضهم بعضاً) .
" والمحرنفش .. المتقعبص الغضبان .. واحرنفش للشر : تهيأ له .. وأبو خيرة من الأفاعي .. الحرفش والحرافش".
وقد استخدمت الكلمة ، أول ما استخدمت ، في أغلب الظن ، في عصر المماليك في مصر ، وقد شملت الكلمة ( حرفوش) كلاً من التابع والمتبوع ، و إذا كانت الكلمة معجمياً " انسحبت علي الفتوات" في الحارات ، فإنها أيضاً قد انسحبت علي التابعين ، أو الخاضعين لحماية الفتوة ، وغلبت الكلمة بعد ذلك علي "التابعين" دون الفتوات.
والفتوات لهم صفات جسدية معينة ، تمكنهم من حماية التابعين ، ضد البطش والظلم .. وكانت حياة الفتوة ، نموذجاً للقوة الخيرة الساعية لتحقيق الحق والخير والعدل ، بين الحرافيش أو العامة أو البسطاء أو الصعاليك ، كما يقوم الفتوة بمعاقبة المنحرفين والخارجين علي قانون الحارة الذي يضعه ولذا عادة ما يواجه بالعدوان ، من عناصر الشر المختلفة.
وتختلف الفتونة عن البلطجة ، فالأولي دفاع عن القيم لصالح الضعفاء و الثانية تفرض البلطجة ، للحصول علي منافع خاصة.
** فكــرة الروايــة :
يري د. بدير ، أنها واجهة محسنة ، لرواية " أولاد حارتنا " التي قوبلت بالرفض .. ولقد ابتعد نجيب محفوظ ، عن أي خط ، قد يفسر دينياً .. ولكنه التزام بالفكرة الرئيسية .. حيث أبطاله جميعاً ، يحاربون من أجل إعلاء الحق والعدل والخير والمساواة والبطش بالفساد ، وضرب الأشرار ، وهي لا تبتعد كثيراً عن الأهـداف التي تسعي إليها ، رسالات السماء ، وحكايات الرواية ، تدور كلها حول هذه المعاني ، من خلال عشر حكايات ، تتابع الأجيال المتتالية ، لأسرة واحدة ، احترمت " الفتونة" ، وتوارثتها أبا عن جد .. وقد أطلق نجيب محفوظ ، علي مثل هذه الروايات ، في حديث له .. روايات الأجيال .. كما صدرت في الغرب .. ومن أمثلة هذه الروايات ( الثلاثية ) .. ورواية ( ملحمة الحرافيش ) .. وإن كانت رواية الحرافيش .. تتكون من عشر حكايات .. الأولي .. عاشور الناجي والثانية .. شمس الدين .. والثالثة الحب و القضبان والرابعة المطارد .. والخامسة .. قرة عيني .. والسادسة شهد الملكة .. والسابعة .. جلال صاحب الجلالة .. والثامنة الأشباح .. والتاسعة سارق النعمة .. والعاشرة التوت والنبوت.
إلا أن هذه الحكايات ، يجمعها خيط واحد .. هي متابعة تاريخ الفتونة ، عبر زمن ممتد ، من الأجداد حتي الأحفاد متمثلة في أسرة الجد الأكبر .. عاشور الناجي .. وحتي آخر حفيد .. ومن خلال كل هذا تتعرض لبداية تكوين كل أسرة .. وكيفية صعود ( الحرفوش ) ليصبح ( فتوة ) بدءاً من عاشور الناجي حتي الحفيد السابع " شمس الدين الثاني " وسلاح الفتونة القوة وكثرة التابعين والنبوت …
* ومن حياة كل أسرة ، تتعرض كل حكاية لصعود وهبوط الفتوة وتتعرض لحياته الاجتماعية من زواج وطلاق وأولاد .. وتتعرض للصراعات ، وطرق فرض الأتاوة ، مقابل الحماية ، وإعادة توزيعها علي الحرافيش .. وذلك لإقامة القيم والمثل التي تسعي إليها " الفتونة ".
وعبر الزمن الممتد لهذه الأسرة التي قادت " الفتونة " وكرست مبادئها .. عبر أجيال مختلفة .. وتشابكت مصالحها ، مع شرائح أخري .. تعرضت هذه الأسرة للصعود والهبوط ، وفقد الفتونة واستردادها مرة أخري ، والتشبث بها وزهدها مرة أخري .. كما تعرضت لصلات الرحم والنسب مع الشرائح الأخري ، واختفاء بعض أبطالها وظهورهم مرة أخري ، وكما بدأت الحكاية بعاشور الناجي الكبير .. الفتوة الأول ، الذي كرس حياته للفتونة ، ووضع قواعدها ، ثم اختفي وتراوحت خلال الأجيال ، ما بين الالتفاف حول مبادئه ، وما بين الانحراف عن أصول الفتونة .. لتعود الفتونة بمبادئها التي وضعها عاشور الناجي الكبير ، متمثلة في أحد أحفاده ( عاشور الناجي الثاني عشر ) ، لتحقق حلم جده الكبير ، فيما يريده للحارة فيسود العدل وتتوزع الثروة بالعدل علي الجميع ، ويأخذ نفسه بالقسوة حتي لا يركن إلي حياة الدعة والثراء والخمول ، الذي كان وارء إنحراف آل الناجي جميعاً.
شخصيات الرواية :
** تتكون شخصيات الرواية من شخصيات رئيسية ممثلة في شجرة عائلة " عاشور الناجي " الكبير .. وفروع هذه الأسرة وهي حسب الهيكل التالي :
عاشـــور الناجــي ( مؤسس الفتونة )
شمس الدين
سليمان
بكر خضــر
سماحة صفية رضوان
قرة وحيد رمانة
عزيز
شمس الدين (مات في الشهر الثامن )
هذه هـي سلالة ( الناجي الكبير ) التي توقفت عند الحفيد السابع ، لننتقل إلي ذرية زهيرة السفاحة ، وزينات الشقراء ، الداعرة ، ونور الصباح العجمي الداعرة ، وتصل إلي ربيع سماحة الناجي ، ابن فردوس والذي يتزوج من حليمة البركة ، وقد تجاوز الخمسين ويتوفي ويترك وراءه ، فائز في العاشرة ، وضياء في الثانية وعاشور في السادس " وكانت أمهم من سلالة الناجي الكبير " أيضاً .. يخرج فائز ويعود غانما ، ثم ينتحر بين يدي أمـه .. ويخرج ضياء ليعمل في قصر ببولاق ويعود عاشور إلي الحارة ويحمل النبوت ويتجمع حوله الحرافيش ليعيد عهد الفتونة الأولي.
** الحرافيش .. اتجاه لرمز جديـــد :
يري د. حلمي بدير ، أن الحرافيش قد تكون انعكاساً لنظام الوصاية في المذهب الشيعي ، التي تقف عند سبعة أئمة طبقاً للسبعية عندهم ، وهو ما يتمثل في سبعة أجيال ، لرأس الشجرة " عاشور الناجي " وتستمر الوصاية عند الشيعة " الاثني عشر " فنجدها في الرواية تستكمل " شجرة الناجية " حتي تصل إلي الجيل الاثني عشر ، متمثلاً في " عاشور الناجي " الحفيد ، الذي يعود ليقيم " مبادىء الفتونة ومثاليتها " كما يعود " المهدي المختفي " والمنتظر عند الشيعة ليقيم الدين الصحيح.
• ويؤكد وجهة نظرة ، بما يتماثل من عدد الأجيال في الرواية ، مع عدد الخلفاء عند الشيعة " الإسماعيلية" في فرعيها ( السبعية والاثني عشر ). وما تناثر بالرواية ، من أشعار فارسية .
ومن هنا يتضح أن الرواية تضمنت محورين :
(1) أنها أولاد حارتنا .. جديدة وبعيدة عن أي تفسيرات قد توقفها.
(2) أنها قد تكون باحثة في مذهب الشيعة الإسماعيلية.
** الشكل و المضمون :
قد تقع الرواية من حيث الشكل في 567 صفحة من القطع المتوسط ، وهي بهذا تقع في دائرة الرواية الطويلة ، التي بدأت تنحسر الآن ، ليحل محلها الشكل القصير من الرواية ، الأقرب إلي الشاعرية ، ومع ذلك فالرواية قصيدة طويلة ، تمزج بين الحلم والواقع ، بين الحقيقة والأسطورة ، أجيال تتنازعها الأهواء منذ البداية الأولي ، مع الشيخ ( عفرة زيدان ) ، وحتي النهاية مع " عاشور الناجي " الأخير. أجيال متعاقبة ، تنقل صفات البيئة و الوراثة من ذرية لأخري ، وتشتبك العائلات التحتية و الفوقية ، صعودا وهبوطاً .. من جيل إلي آخر ، مع تحرك في الزمان و في المكان ، وإن كان المكان الأساسي هو "الحارة" ولكنك لا تنسي حدثاً أو حركة أو ملمح شخصية مع التتابع المضموني ، الكل في واحد " النزعة نحو تحقيق العدل " ، أسطورة تحاربها كل الحركات الرأسمالية ، بما تملك من مال يصنع القوة ، ومع ذلك فالفتوة يستطيع أن يكون القوة المؤيدة من الشعب " الحرافيش " في الوقت ذاته ، الذي يحقق العدل والمثاليات.
لغة الرواية :
أسلــوب الكاتب ، هو مفتاح شخصيته ، ومفتاح شخصية نصه .. ونجيب محفوظ ، كاتب أسلوبي من طراز فريد .. فاللغة عنده لها دلالات عديدة فالرواية تتحدث عن ثلاثة قرون ، ولكن القارىء ، لا يشعر بالزمن ، والحكايات متماسكة ، ولكنها لا تختلط عليه أبداً.
ذلك أنه ينتقي مفرداته ، مما جعلت الزمن والمكان ، كأنهما في ثبات ، كما ثبتت عناصر التوحد في الشخصية و المضمون ، ويرجع ذلك إلي أسلوب نجيب محفوظ ، حيث نري ذلك في أعماله المختلفة ، فهو مسيطر علي مفرداته ، ومعانيها ، وكل تراكيبه.
إن عالم نجيب محفوظ ، هـو إطلالة جديدة ، لعالم صوفي عجيب .. وفي ملحمة الحرافيش كانت اللغة هي الشفرة لتي تصدر من المرسل إلي المستقبل " الملتقي " ليحل رموزها .. ودراسة النص .. يكشف هذه الشفرة .. فلم يفقد نجيب محفوظ .. قدرته علي تنويع " الحوار " وتطويع اللغة ، فهو يستخدم الفصحي كعادته .. ولكنك لا تشعر بثقلها علي لسان " الحرافيش " والمفروض أن تكون لغتهم " العامية ".
القسم الثاني : " عنبر لولو "
وهي قصة سبق أن نشرها الكاتب الكبير نجيب محفوظ في جريدة الأهـرام عقب هزيمة 1967 في صيف 1967م. سوف نعرض لها ولأفكارها ولشخوصها .. ونحكم في حدود ما فهمناه منها وفي حدود تفكيرنا .. وفي ضوء الفترة الزمنية التي نشرت فيها والبلاد قد خرجت من الحرب المفاجئة مهزومة ياتسة وقد انعكس ذلك علي جيل الكبار وانعكس ذلك علي جيل الشباب.
ويبدوا أن هذه الفترة وجهت الكاتب إلي المعالجة في شكل القصص القصيرة فقد صدرت مجموعة خمارة القط الأسود عام 1969 ومجموعة ( تحت المظلة ) عام 1969م ثم " حكاية بلا بداية ولا نهاية عام 1971م ".
والقصة التي سوف نعرض لها من هذه المجموعة الأخيرة وإن كانت هذه القصص القصيرة قد نشرت متفرقة خلال هذه السنوات بالصحف المصرية وخاصة الأهـرام وقد تكون الصدمات التي تواجه المجتمع " المتغيرات " تنعكس علي الروائي فقد توقف من قبل في الفترة من (49م – 52م) وتوقف ( 67م – 73م) فالرواية تحتاج إلي وقت كبير لكتابتها وهذا الوقت في فترة التحويلات والمتغيرات الشديدة يحتاج إلي وقت كبير لهضم كل هذه المتغيرات. إن قصة " عنبر لولو " تقوم علي الحوار.
ملخص القصة :
رجل كهل وفتاة صغيرة السن ، الكهل تعد الخمسين عاماً والفتاة تعدت العشرين عاماً يعملان بإدارة واحدة.
تعاني الفتاة من مشاكل أسرية ، نتيجة لمسئوليتها عن أخواتها ومضايقات زوج الأم حيث يعيشون معه والكهل يعيش اللاسلبية بعد تاريخ من البطولة ضد الأعداء.
يتفقا علي لقاء بإحدي الحدائق .. تريد الفتاة أن تبوح بمشاكلها له والعجوز يريد أن يسمع الفتاة لم تستطيع البوح لصديقاتها إلا لصديقتين ، شجعتها إحداهن علي الزواج والأخري علي الانطلاق ، والفتاة تريد أن تسمع رأي الحكمة .. أخذته أو أخذها إلي الحديقة والحديقة يبدو عليها أنها حديقة العشاق .. الكل لاه بفتاة يلعبون ويمرحون والعجوز و الفتاة يشاهدان كل هذا وهي تحادثه عن مشاكلها .. تدعو إلي المرح والرقص والغناء .. تريد أن تنفك من أسرها وتسوق له الحكايات المتضاربة عن شاب غني من طنطا تاجر ميسور يريدها بلا زواج وبلا طلاق لزوجته والعجوز يكبح جماحها ولكنها سرعان ما تقول له أنها حكاية وهمية و العجوز الذي يحاورها يدعوها ويدعو العشاق إلي عنبر لولو.
** نهاية المراجعة
ويقول أنه بصحراء الهرم حيث هناك الحرية المطلقة وهناك الزهور والياسمين وهناك تفعل ما تشاء بلا قيود ولا رقابة .. وكأن الكاتب يدعو إلي الحرية وإلي الإنطلاقة .. وترفض الفتاة أن تذهب معه .. وفي أثناء الحوار يسمع صوت طلقات .. وينقطع الحوار ويثور التساؤل هلي الرصاص بسبب مجرم هار أم بسبب آخر تدريبات أو ما شابه .. ثم يتقبل الحوار ما بين جذب وشدة استرخاء و تنافر ما بين العجوز والفتاة .. هي تريد أن تمشي وأن تلغي كل الموضوع وهو يريها وينجذب إليها .. ثم ما يلبث أن يقطع الحوار دخول رجل يلهث .. ويحادثهم عن صوت الرصاص ويتعلم بصفة المشاهد وليس بصفة الفاعل .. يقول لهم أن رجل حق فوق البرج وأطلق الرصاص علي كل الاتجاهات ودون أن يصيب أحد ويقول له العجوز أنه كان ذات يوم رجل قتله يطلق الرصاص علي الأعداد.
ويستمر الرجل في اعترافاته عن الرجل الذي أطلق الرصاص حتي يقر في النهاية أنه هو الذي فعل ذلك دون أن يصرح بذلك .. وينصحه العجوز حيث الطرقات محاصرة أن يسلم نفسه .. فيقوم الشخص المذكور ليسلم نفسه وفي قيامه اعتراف بأنه نفس الشخص المذكور ليسلم نفسه وفي قيامه اعتراف بأنه نفس الشخص الذي قام بإطلاق الرصاص والذي تحدث عنه كأنه شخص آخر والذي يصف حاله بأنه يطلق الرصاص علي العدو الأكبر ولكنه لا يحدده .. ويعود العجوز إلي حواره مع الصبية فيقول لها هيا بنا إلي عنبر لولو .. فرفض ولكنها سرعان ما تطلب هي الذهاب إلي عنبر لولو .. فيشرح لها أن عنبر لولو هو مشروع أو حلم إرتاده هو وجمع من أصحابه أثناء سجنه ويمثل متطعين عنبر واستوحوه من عنابر السجن ولولو واستوجب من آخر مقطع في كلمة هونو لولو وهي مدينة أمريكية .. لكيون الاسم عنبر لولو حيث يكون كل شىء مباح .. ولكن المشروع قد فشل لأنه علي حد زعمه في سخرية أن جميع الرفاق قد خانوه بعد السجن فقد تابوا وحجوا إلي بيت الله الكريم.
ثم تنتهي القصة بأن يدعوها لأن ترافقه هو مهتمو بهما واحدة . حيث تتقابل الرغبات داخل الكشك الموجود بالحديقة فسيرغب في إطلاق الرصاص في جميع الاتجاهات كما فعل الشاب الشارد في إطلاق الرصاص في جميع الاتجاهات كما فعل الشاب الشارد من قبل من فوق البرج وسيرقص ويغني ويمرح معها كما تحب هي أن تطلق في حرية.
الشخصيات :
- عجوز كان في شبابه بطلا وينظر إليه علي أنه مستودع الحكمة والرأي.
- فتاة في مقبل القمر تصطحبها المشاكل من كل اتجاه وتبحث عن الحل.
- شاب تاثر هارب ، يعلن استئناف بلا هدي.
- شباب وشابات لا هين يعربدون في كل مكان.
- جنود من الشرطة يطوقون الحديقة.
التعليق :
- إن إلتقاء العجوز مع الفتاة الصغيرة ولكل مهما أفكاره المختلفة ، العجوز بخبرته وتجاربه وحنكته وممارسته وحكمته وذكريات شبابه البطولي.
- و الفتاة بمشاكلها التي تحملتها في سن صغيرة ولا تستطيع حلها وتبحث عن الحل وتري الحل في الإنطلاق والحرية المفتوحة بدون قيود.
- والشاب الثائر .. المستنكر للمجتمع و ما به ويريد أن يعلن استنكاره علي الجميع دون أن يؤدي إلي إصابات .. مجرد الاستنكار.
- والشباب والشابات المنطلقين بقدر حدود كل في حاله وكل في سبيله .. ودون أن يهتموا بالآخرين.
- الجنود المتوعدين لمن أطلق الرصاص وحتي ولو لم نصيب أحد.
كل هذه التركيبة .. ماذا يريد بها ومنها نجيب محفوظ عندما يضعها في بوتقة واحدة وهي الحديثة التي بها جزء من الحرية مقيد .. ماذا يريدنها إذا عرفنا أن الزمان عقبة عزيمة سنة 1967 بكل ما تعلق بجيل هذه الأيام .. ذلك عندما يكون الحلم قد بلغ الذري ثم فجأة بينها كل شىء.
هل يقول الأستاذ نجيب محفوظ أن الحلم في تحقيق آمال المطحونين والشباب والعجائز في الحرية أن يفعل كل منهم ما يشاء.
ولكنه حلم في مخيلة مجموعة من المسجونين المقيدين .. سرعان ما تسرب بعد أن تم الإفراج عنهم هل يريد أن يقول الكل مسئول عما حدث لنا في حرب 1967 وعلي هذا أطلق شاب ثائر الرصاص علي جميع الجهات بينما يتمثل في ذهن هذا الشاب أنه يطلق الرصاص علي العدد الأكبر الذي لم يحدده.
هل يريد أن يقول الكاتب .. أن الشباب حائرين لا يريدون ولا يعرفون ماذا يريدون .. وهل يقول أن البراءة تغتال حينما يفعل الذئاب بالشابات ما يفعلون ولا يعرفن إلا بعد أن يفقدون عذريتهن وبراءتهن.
هل يهدف الكاتب إلي أن إتقاء الخبرة مع الشباب هل الكفيلان بح المشكلة الأبدية التي يواجهها المجتمع.
في الحقيقة أن نجيب محفوظ يقول كل هذا .. فالقصة قصة قصيرة ومزية نشت كما قلنا عام 1967 عقب الهزيمة الطاحنة ، والتي إهتزلها المجتمع اهتزازاً عنيفاً ولم يعد المجتمع كما كان .. كل ما هـو موجود ذكريات بطولات متمثلة في العجوز وحيرة جيل جديد لا يعرف أين الطريق .. وحرية مقيدة تتخبط حتي الحلم حلم الجريمة قد مات ( مشروع عنبر لولو ) والكل لاه.
و الفكرة الرئيسية هي الحرية ولكن الحرية " مقيدة " ومشروع وحلم الحرية " تفعل ما تشاء " قد فشل .. فهل يأس الكاتب وبط القصة حينما يقول في ختامها " سأطلق الرصاص في جميع الجهات وسترقص وتعني وتمزح هل هو يأس يعوضه باللهو واللعب والمرح أو هو نوع صغير من الحرية يلتقي فيه الكبار مع الصغار بعد ابتعاد وفرقة .. أو هو يريد أني قول أن الجميع مسئول عما نحن فيه لهذا سيطلق الرصاص في جميع الجهات ولكنه سيرقص ويغني ويمرح .. أي سيكون سعيداً بذلك أو سيكون لاهياً أم ماذا .. التساؤلات عديدة وإجاباتها في أذهان كل متلقي وقد تختلف وجهة نظره مع وجه نظر متلقي آخر سواء أكان طالباً أم أكاديمياً أم ناقداً أم فرداً عادياً.