الإبداع العربى وجدلية ماهية القوة
المفكر والباحث أحمد عزت سليم
1ـ البنية الأدبية وماهية القوة
لم أكن أتوقع بعد أن فتحت الثورة المصرية الآفاق والشوارع والميادين المغلقة ،على مصرعيها أمام حركة الإبداع والمبدعين ودون حدود، أن أرى البعض من الشعراء فى العديد من المؤتمرات الجماهيرية الفرحة بالثورة المصرية ينسحبون من إلقاء الشعر والخروج مسرعين من هذه المؤتمرات بحجة أن هذه الجماهير لن تع ما سيقدمون من إبداع ـ وعلى الحقيقة الجارية لم يكن هذا إلا أن هؤلاء لم يستوعبوا ماحدث من ثورة شعبهم ومازالوا قابعين فى الخندق الذى شيده النظام الديكتاتورى فى مؤسساته الثقافية التى روجوا فيها إنتاجهم وراودهم بها النظام الفاشى السابق فقبعوا فيه يتخندقون بكلماتهم وإنتاجهم منفصلين ـ مهما ادعوـ عن الوقوف بجانب شعبهم الثائر متخلفين عن حمايتها من أخطار الثورة المضادة التى تعيشها مصر الآن بكل أخطارها حيث يجرى الآن تجديد النظام السابق تحت أعين وبصر هؤلاء المتثاقفون وهم خانعون صامتون، ولعل هذا ما استشعرته حركة " نحن هنا " التى تضم مجموعة كبيرة من شرفاء الحركة الأدبية فى مصر وكما طالبت فى بيانها التأسيسى من تفعيل الاتصال الأدبى مع الجمهور العام بالخروج إليه فى أماكن تجمعه، بالأساليب والكيفيات التى تتواءم معه ، وفتح آفاق إبداعية ونقدية جديدة تنطلق من واقع الثورة المتحرر من قيود الماضى البغيض، وفضح صور الزيف وآليات الخداع ومسارات الانحراف التى أوهنت الحياة الأدبية المصرية.وتأتى هذه الدراسة ضمن سلسلة من الدراسات فى إطار محاولة فهم البنية الأدبية وماهية القوة التى تدفع بالإبداع إلى صدارة الحياة العربية وخاصة مع ربيع الثورات العربية
البنية الأدبية :
هى ماهية القوة التى تقف حاضرة بخصوصيتها الفنية المتدفقة من ماض سحيق الفاعلية فى قلب حياة نشاطة ، وآلية الحركة وحسية المعايشة وإنتاجية المعنى وديمومة التغير . ومن هذا فإن البنية الأدبية تعبر عن علائق واحتمالات ذات دينامية تتصف دائماً بالجدة والحيوية لا بالحقائق والنتائج النهائية والحاسمة ، وتتاسس بمقدارتها الفائقة على الصمود والتحدى لا بالتجمد والتحجر ولكن بالتوالد والتكاثر وهى تفرض سلطتها عن إبداعية هذا التوالد الذى لا ينفك عن الإنتاجية استكشاف المحتمل والقادم حتى تتجاوز الشئ الملموس إلى أفق أكثر اتساعاً يأخذ الإنسان إلى عالم التطلع والمعرفة والأمل والخلاص .
وبذلك تصير سلطة هذه الماهية ، بكونها طاقة متجددة ، أداة للمعرفة وأداة للتحرر ، ضد السيطرة وضد المرجعية السلطوية المستغلة ، القائمة على الجاهز المعلب وفرضه تارة من خلال المؤسسات الثقافية والاجتماعية والدينية التابعة لها وتارة بالقمع والوحشية .
البنية الأدبية الكامنة / ماهية القوة تقف بعمق تاريخى ضد السلطة وضد الآخر والخوف منه وضد التبعية وتتجاوز عقده النقص وسد الفجوة .. إنها ترد الإنسان إلى قوته وتجعل من الناص والنص ترسانه معرفية مسلحة بالإبداع ـ كما نعنيه سلفا ، وكما بيناه ـ ومسلحاً بالهوية ضد إلغائها ومحوها .. إن قوة الخطاب والنص الدافعية تنبع بالتالى من ماهية القوة ، ذلك أننا نؤمن بأن الخطاب والنص ليسا كل منهما بنية أدبية مستقلة بذاتها وإنما يؤدى إليها بنى مختلفة ومتناقضة ومتوافقة ويؤديان هما بدورهما إلى بنى أخرى متعددة قد تزيد أو تقل حسب الدافعية التى تتميز بها ماهية القوة وهى ليست فحسب ذات أبعاد اجتماعية وسياسية وثقافية ونفسية أو ذات تاثر بجغرافيا الموقع الذى تنتمى إليه أو لها عوامل إقتصادية ، ولكن ماهية القوة تتميز ـ أيضا ـ بتأثير عناصر أساسية تتشكل من التراكيب الصوتية والنظمية التى تعترى كل التأثيرات فى شكل لغوى تطور عبر التاريخ العميق ومن خلال الوعى البشرى . كما قدمنا ولذا فالنص او الخطاب الادبى خاصة ـ لا يمكن أن يكون نصا مغلقا قائماً بذاته أو له كل على حدة قوانينه الخاصة التى لاتفسر إلا إياه من داخله أو بأنساقه التى يتراكب بعضها على بعض ـ كما يرى جاكوبسون ـ وتعرض فى مجموعها وجها لنظام مغلق .
النص المغلق يعنى وضع جثة النص داخل ثلاجة حفظ الموتى ، ليقوم بتشريحها فيها بعد بعض المتخصصين ويلقى النظر عليها وكلاء النص ، وفى أحسن الأحوال يوضع النص داخل المتحف أو بين ضفتى غلاف ويصبح ضمن مقتنيات السادة والصفوة والنخبة .
وإذا قدر أن يكون هناك نصاص مغلقاَ له قانون الخاص المنزاح انزياحاً كلياً ومطلقاً عن ماهية القوة ولا مصدر له غير ذاته ، سيكون نصاً ميتاً لا فاعلية فيه ، ويكون بمثابة إعلاناً لموت الكتابة حتى داخل النص ذاته بالإضافة إلى فقدانه التحقق والإضافة داخل النسق العام للسلطة أوغيرها... لا وجود للانزياح الكلى المطلق الذى يصنع ذاته خارج البناء أو النسق اللغوى العام ، والخروج من شبكة العلاقات والاحتمالات التى تتشكل من خلال التاريخ وعبره بكل ما تحمله من ماهية القوة ، لا وجود له على مر التاريخ ولم يحدث وحتى بشكل فجائى أو انكسارى حاد ذلك ان طبيعة الكون هو التدرج سواء كان بطيئا أو سريعاً وهذه هي طبيعة المعرفة ايضاً ، فلا شئ من لا شئ ، وحتى الرسالات الدينية الكبرى والثورات الإنسانية التى أثرت فى البشرية وأثرت التاريخ ونوعته بشبكة من العلاقات والاحتمالات المعقدة والمتميزة والتى مازالت تؤثر فيه بفاعلية وعمق ، فإن خطاباتها لم تكن أبداً انزياحاً كلياً ولا مطلقاً ، حيث تشكلت أدواتها من الواقع المعاش ، كما كانت تعبيراً عن رغبات وطوحات الإنسانية نحو التحرر والخلاص داخل التاريخ لا خارجه ، فخرج خطابها منه وإليه ، وإنما تنشأ الآثار الأسلوبية وقيمها الخاصة والفريدة ليس فحسب من التغاير الناتج عن الجنس والدين والموقع واللغة وإنما من المقدرة على التغاير فى العلاقات والاحتمالات القائمة والممكنة سعياً إلى المستحيل وهو الحرية بإطلاقها وبكونها حرية ـ وإدخالها فى علاقات جديدة واحتمالات جديدة تشكل واقعا مغايرا ممتدا من حاضر سابق إلى حاضرقادم فتتغير معه قوى المقاومة والتشبث وقوى الضعف والانحلال ، بالتالى تتغير ملامح التاريخ وتتشكل فى صيرورة دائمة ، وتصير المعرفة دينامية متجددة ولا وجود للمعرفة الكلية المطلقة، وإنما لطبيعتها الدينامية فإنها تسعى سعياً حثيثاًً إليها .. هو ذاته سعى الإنسان الحثيث للوصول إلى النظام الكلى أو النسق العام أو القانون الذى يحكم العالم ويفسره ، دون أن يصل إليه كلية لطبيعته المتجددة ، ويصير العالم كحركة تاريخية متنامية قابلاً للفهم كديمومة للتغير بما يحمله من أنساق وبنى ونظم وما تحمله تلك من تصورات ومفاهيم وإشارات ورموز ، وبهذا تصير الحركة ضد الجمود والثبوت والتشبث ، واللغة تختزل كل هذا بداخلها وتحوله إلى خطاب له طاقة دينامية تتفجر منها منابع القدم وتتفجر فيها آفاق الكون المجهولة ، فتنبع منها القداسة والسحر اللغوى والغموض بقدر ما تحمل من توحش الواقع واستفزازه أو ابتذاله وانحطاطه ، سواء على مستوى التكلم أو مستوى الكتابة ، وتصير اللغة بهذا حضوراً مجسماً من العلاقات والاحتمالات الدينامية لانظاماً شكلياً وإطارياً يشكل مجموعة من الإشارات يمكن حبسها فى قانون لا يفسر إلا إياها ثم هى تحمل معها المعرفة الإنسانية ، وهى بذلك تصير مساوية للفلسفة فى تعبيرها عن هذه المعرفة ، ويصير النص بناء مفتوحا لقوى عديدة غير قائم بذاته ويفسر بنى ونظم أخرى يتفسر بها أو بغيرها ، ويكون النص حاضراً لاغائبا ، ولا يمثل أى نوع من الأيقونية أو المتحفية ثم إنه بذلك يتحدى انحاصر الدلالة وتقوقعها وانغلاقها على ذاتها ، وينفتح على العالم كأخطبوط بشع وهائل ينقض عليه .. يتغذى به فتنمو أذرعته ليزداد انقضاضاً ثم نموا ، ثم انقضاضاً ، ثم نمواً .. وهكذا لا يتوقف النص عن الامتداد والانتشار ويظل طازجاً يحمل معه بكارة الحياة الأولى وجدلية الواقع الأزلى وطموح المستقبل ، وتصير ماهية القوة بذلك هى البنية الكامنة الدافعة التى تقف خلف حياتنا بما تحتويه من ميتافيزيقا ، وفيزيقا ، وهكذا فإن كل شئ خارج النص يطمح ويسعي سعياً أكيداً أن يكون بداخله ، وكل شئ داخل النص يطمح ويسعى سعياًَ أكيداً أن يكون بخارجه . وديمومة العلاقاتية والاحتمالية هى التى تجعل الكلية مستعصية على الاشتمال والاحتواء ، طبيعة الكون كما هو مثبت علمياً الحركة والتمدد والجريان إلى مستقر غير معلوم لنا نحن ـ وإن كان معلوماً عند الله ـ وهذه الطبيعة هى التى تشكل هذه الديمومة التى تسعى إلى الاشتمال والاحتواء دون أن تبلغه ، واللغة كذلك تكتسب هذه الخصيصة وتظل فى جدل مستمر مع الواقع ومع الكون فلا يحتوى أحدهم الآخر ولكن كليهما يسعى لذلك ، وهذا السعى هو الذى يخلق الإبداع ويخلق النص ويحل مسألة التوتر الناتجة عن عدم الاحتواء والانضواء لكنه يخضع بالاستثارة واستمرارية التغير فى القيمة والتأويل . وتنشأ الحداثة من حركة السعى هذه معتمدة على المتدفق العميق السائر بالحياة فينا نحو المستقبل وبخطى ثابتة تعبر عن اصالتها وحضاريتها العميقة الاثر والتاريخ ، والمستقبلية التشكيل والتأثير والتغير .
ماهية قوة
يتشكل التاريخ بعمقه واتساعه وعلاقاته الفاعلة والمتناقضة فى الحاضر بمجموعة من المؤثرات المتراكمة التى تتفاعل مع حركة الواقع بما تخلق وتشكل لحظتنا الحاضرة ، وهذه الحركة الدينامية الآتية عبر التاريخ والمتراكمة لا تتوقف فى الحاضر ولكنها تتشكل معه ، وتسير نحو المستقبل لتساهم فى تشكيل الواقع الجديد ، هذا الواقع الذى سيحمل معه الحاضر بكل تناقضاته وعلائقه الاحتمالية التى استطاعت البقاء والتشبث والصمود والتحدى لعوامل التغير وموازين القوى داخل الحاضر الذى أصبح حضورا سابقا وحضوراً محتملا يحمل معه ماهية ما سبق فى كلية تفاعله عبر تطوره الزمنى الذى يستتر خلفه السلوك الإنسانى والنشاط الإنسانى ، سواء كان هذا النشاط قمعيا متعالياً أو مقاوماً ومفارقاً لقوى القمع ، وتحتى الاتصال .
الحضور ليس حضوراً أحادى الجانب وإنما حضور كلى يحمل معه كل السمات المؤسسة لفاعليات المجتمع ليس فى الجوانب الميتافيزيقية وإنما يشتمل على فاعليات الاقتصاد والسياسية والاجتماع والعلم . إنه حضور للإنسان بكل ما أصابه من تطور ولحقه من خير أو شر فى بنيته الذهنية والفسيولوجية والبيولوجية وبنى المجتمع السياسية والاقتصادية والدينية والعلمية والاجتماعية والنفسية التى أصبحت فى مجموعها تشكل ماهية القوة التى تفرض سيطرتها على الإنسان كروح وعقل وكجسد ونفس أوكحياة ضد الموت وكبقاء ضد الفناء . واللغة الإنسانية هى التى تصوغ كل هذا الحضور وكل هذه الماهية .
ماهية القوة إذن هى البنى الكامنة التى تتدفق فينا كتيار حى وليس كوحدات منفصلة عرضية جانبية أو هامشية إنها آتية عبر تراث عميق دافعة ذاتها نحو التطور ونحو المستقبل باعتبار إنها تمتلك الدافعية التى تسير ذاتها عبر تاريخ الإنسان السحيق بعلاقاته وعناصره وعملياته المعقدة الأنساق والمتشابكة النظم والمتداخلة الإشارات والمشتعلة الأمل والتطلعات والهواجس . واللغة العربية من حضور كلى ومجسم فى العالم تصوغ كل هذه الماهية .
ولكن ما هى هذه الدافعية التى تسير ذاتها عبر التاريخ الإنسانى السحيق وتخلق ماهية القوة باعتبارها البنى الكامنة التى تفرض سلطتها على حركة الإنسان فى الحياة وتتدفق فيه كتيار حى يتجه نحو المستقبل يحمل معه الحاضر السابق والحاضر القادم .... أنه لا جدال ... الوعى ، الوعى الذى يتحتم بالضرورة تعريفه أولاً من منطلق ماهية القوة قبل الوصول إليها وتحليل البنى الكامنة فيها ، ليس من أجل الوصول إلى قانون مطلق لأن ذلك لا وجود له فى ماهية القوة التى تتصف بالتغير وديمومة التجدد ، ولكن من أجل أن نستكشف اللحظة التاريخية التى نعيشها بإمكانياتها وطموحاتها حتى نستطيع مواجهة الخطر القادم بلا عجز عن تشكيل وخلق واقع جديد يعبر عن إرادة حقيقية لأمة بأكملها وضعت ثقتها الكاملة فى المثقفين من أجل الوقوف ضد التردى الذى نعيشه والذى قد يحولنا بلا شك إلى أمة دائمة التبعية على أكثر التقديرات تفاؤلاً .
ما الوعى ؟
أولى خصائص الوعى البشرى أنه لا يتوقف فهو سائر ومنطلق من قبل الولادة ، وحتى فيما يعرف باسم مراحل النوم المفارق فإن الدماغ يكتسب برامج منقولة وراثياً كما أن الذاكرة تلحق ماضى الفرد بحاضره وتمنحه هكذا شعوراً بالهوية ، والذاكرة تربط الوعى الذى يستيقظ بالوعى الذى يضمحل عند الليل ( 2 ) كما أن الوعى ـ بمعنى التجربة الذهنية ـ لا يكون ملغيا فى أشد فترات النوم عمقاً ( 3 ) ولأن الوعى يحمل الكثير من الصفات الوراثية العقلية والسلوكية عبر التاريخ البشرى السحيق ومن خلال الآباء والأجداد لذا فثانى الخصائص أنه متصل ولأن الوعى سائر ومنطلق ومتصل فثالث خصائصه أنه نشط دينامى لأنه بالإضافة إلى ذلك لا ينقل الأصوات والصور والأفكار والحركات الأحجام واللون والضوء والرائحة والإحساس والشعور واليقظة والزمن والمكان والمسافة والامتداد واللذة والألم والسبب والاحتمال والعلاقة فحسب لكنه أيضا يخلق التفاعل بينهم فى علاقات لا متناهية ومن خلال الدماغ البشرى الذى تسيطر ميكانيزماته على الأنماط السلوكية المعقدة مثل الانفعالات ( 4 ) ، وكما تسيطر أجهزة الدماغ الشبكية المنشطة والمهبطةعلى كل أنواع السلوك ( 5 ) وكما تعتمد على مراكز الدماغ (6) وعلى هذا الاساس فإن رابعة خصائص الوعى أنه مجسم الأبعاد والمحتوى والإنتاج .
وخامسة خصائص الوعى أنه بنيوى لأن ديمومة الأصوات والصور والأفكار والحركات والأحداث .. إلخ تنحفر فى الذاكرة حتى يكون لها مسارت بنيوية دائمة فى العصبونات الفاعلة داخل الدماغ وهذا ما أطلق عليه العلماء إنجرام Engramme ( 7 ) ثم أن سادسة هذه الخصائص أنه ذاتيا لأنه صفة للذات ، وللإنسان وتحقق به عملية الوعى داخل الإنسان ( 8 ) لكنه لا يتخذ ذاته موضوعاً له ( 9 ) على الرغم من أنه يعى ذاته ( 10 ) التى لا يعرفها إلا من حيث إنه جوانية مطلقة ( 11 ) وسابعة هذه الخصائص أن الوعى موضوعى لأن الذات حاملة الوعى هى موضوع بالنسبة لحملة الوعى الآخرين ، ولأنه يعبر عن نفسه خلال اللغة والحركات والسلوك ، ثم لأنه يعكس الحقيقة الموضوعية ( 12 ) وثامنة هذه الخصائص أنه معرفي استباقى واحتمالى ، وذلك لأن إحدى الإنجازات التطورية للدماغ البشرى هي كفاءته العظيمة فى استباق المستقبل وفى صنع مخططات العمل وصياغتها للاقتراب من المستقبل فى أفضل الشروط ( 13) ومن خلال ذلك يكمن دورة الأساسى فى تلقى المعرفة وإنتاجها ، أى معرفة الطبيعة والمجتمع والإنسان ، والمعرفة بذلك تكون نتيجة لكون الوعى يشكل العلاقة بين الذات والموضوع وهذه من خصائص الإنسان وحده . ( 14 ) ولذا فإن تاسعة خصائص الوعى أنه منتج ويتمتع بديمومة الانتاج وبالتالى يتجدد محتواه وينتعش ويتشكل ويتجسم ، كما أن عاشرة خصائص الوعى أنه علائقى تقييمى لأنه فى نفس الوقت يقيم الظواهر الموجودة ( 15 ) ويقيم العلاقات المتنامية بشكل لا متناهي فيما بينها بما يشكل ويصوغ الإبداع الإنسانى ويصل به إلى منتهى تجلياته التى لا منتهى لها.
أما الخاصية الحادية عشرة أن الوعى اجتماعى لأنه يتطور على أساس النشاط الاجتماعى والفردى ( 16 ) والوعي بالعلاقات والاجتماعية فيما بين الأفراد وتجاربهم المشتركة وتحمل مسئولية أعباء المجتمع الإنسانى المتزايدة والنهوض بها سواء على المستوى الفردى أو الجماعات والمجتمعات أو حتى على مستوي الكون والطبيعة وهما اللذان يحتاجان إلى الكثير من العمل والنشاط بل إن القوانين الاجتماعية الموضوعية لا يمكن فهم عملها إلا من خلال تعبيرها الدقيق عن الوعي الاجتماعى . ( 17 ) وقد اندفع بعض العلماء إلى إرجاع تفسير المؤسسات الاجتماعية على أساس عمل الغرائز أو الميول ( 18) وأن التفاعل الاجتماعي نتاج الصراع المفتوح بين المعتقدات والرغبات والعواطف ( 19) وعموماً فقد أصبح الوعي نتاجاً لهذه العلاقات الواسعة ، ثم أن الوعي بما يمتلكه من بعد سحيق على مستوى ميراثه البشرى بصفته متصلاً وسائرا ، وعلى مستوى التاريخ العميق للفرد ذاته فإن الخصيصة الثانية عشر للوعى هي أنه عمائقى أى له جوانبه الجوانية الباطنية الخفية والمطمورة والمكتومة والمستورة والخاصة داخل الأعماق السحيقة للذات البشرية ذات التاريخ الموغل في القدم والأزل وهذا ما يسميه البعض باللاوعي ، لكننا نرى أن الأساس الاول للوعي هو هذا الوعي السحيق أو الوعي الأول للذات البشرية الذى يتصل بالأفراد الآنيين .
لأن الوعى ينطلق على شكل سلوك وحركة لذا فإن الثالثة عشرة من هذه الخصائص أن الوعي انطلاقى تعبيرى ، وبالتالى تصير اللغة انعكاساً لعملية عميقة شديدة العمق فى الفكر البشرى كما أنها ترميز شديد الفاعلية لأنها تغطي عدداً كبيراً من المعارف حول البيئة وتغطى الإبداع الإنسانى ( 20 ) وإذا كانت ملكات اللغة تشكل فى الدماغ وسيلة فعالة للتحكم فى الفكر والتصرفات وتنظيمهما ، فقد يكون تخريب هذه القدرة كارثى بالنسبة للتنظيم الذهني ( 21 ) ولأن السلوك حركة واللغة حركة والحركة طاقة وهذه الطاقة تقف خلف ديناميات الذات الإنسانية وتندفع منها لتعبر عن الإنسان كوجود حقيقى وحى والسلوك البشرى مجموعة من التصرفات والتعبيرات الخارجية التى يسعى عن طريقها الفرد لأن يحقق عملية الاقلمة والتوفيق بين مقومات وجوده الباطنى ومقتضيات الإطار الاجتماعى الذى يعيش بداخله. ( 22 ) والسلوك كحركة ليس سوي انطلاق ونشاط فى عملية السعى نحو التعبير عن الوجود الإنسانى فى محاولة تحقيق الذات البشرية ( 23) ومن خلال حركات اللسان والفم تنطلق النغمات الصوتية وتتابعاتها المنطوقة التى تعبر عن دلالات الذات الإنسانية وما تبتغية فى شكل من السلوك الكلامى . وبهذا تصير اللغة البشرية " أولاً ترميز سمعى فهى قبل كل شيء منطوقة ومسموعة ومن ثم بعد ذلك فقط ، على مرور التاريخ الإنسانى ، ومن خلال نمو الطفل فإنها تمتد إلى الكتابة التى هى وسيط بصري . (24) كما أن القاعدة الأولى للغة البشرية هي معينة مسبقاً فى الدماغ البشرى بشكل وراثى .( 25 ) وبذلك تصير الرموز المطلقة للغة شديدة الفاعلية فى تذكر الماضي وتوقع المستقبل وتوجيه منحني الوعي باتجاه معين .( 26 ) وإلى هنا تصير اللغة بهذا الشكل أحد الانجرامات الأساسية داخل الدماغ البشرى بكل رمزيتها وما تحمله هذه النتيجة من تاثير على البنية العقلية للشعوب وكيف تتكون ؟ وفى هذا الإطار تكون الخاصية الرابعة عشرة للوعى والتى تتمثل فى أنه رمزى بنيوي ، ومن خلال تلك البنيية السحيقة والعميقة يتفاعل داخل الإنسان حوراته الداخلية وتتنامي تخيلاته البصرية والنفسية ويتفجر الإلهام والإبداع ويتوقد الاستدلال ويكتسب الإنسان الإحساس العميق بالقداسة والخطر والأمل والمجهول والغيب والقلق والظن والتخمين والتخيل والتقمص والنبؤءة والأمانى والتطلع وتمتلئ الروح والذات والنفس بالعوالم اللامحسوسة واللامدركة واللامتناهية ، وهنا نستعير بعضا من التعريفات عن الروح الإنسانى عند الجرجانى ، والتى هى اللطيفة العاملة المدركة من الإنسان الراكبة على الروح الحيوانى .( 27 ) الذى هو جسم لطيف منبعه تجويف القلب الجسماني وينتشر بواسطة العروق والصوارب على سائر أجزاء البدن ( 28 ) .
وإن لم يكن الأمر كذلك إلى حد بعيد ـ فإن الخامسة عشرة من خصائص الوعى أنه روحانى ، وإذا كان من المعروف علميا استحالة التنبؤ بحركات الذرة بدقة مطلقة ، والذرة مادية استطاع الإنسان الوصول إلى ما هو أكثر منها صغراً ، فإن فهم الوعي البشرى ـ الذى ما زلنا رغم ما توصل إليه الإنسان من علم وطرق بحث ـ فى مرحلة الطفولة المبكرة أو على حد تعبير أحد الأصدقاء العلماء ـ الأستاذ الدكتور فوزى زكى شريف أستاذ ورئيس قسم الأشعة العلاجية ـ أن ما نعرفه عن المخ البشرى يمثل نسبة واحد فى المائة فقط ، وعليه فإن الوعى بصفته اللامادية الروحانية والعمائقية لا يمكن التنبؤ بإنتاجه وفاعلية محتواه ومن هنا فإن الخاصية السادسة عشرة للوعى هو أنه حركة سائرة ودائبة لا متناهية ولا محدودة ذو قدرة فذة يقف متحديا إزاء الطبيعة والوجود الكلى والقوى الطبيعية والغير طبيعية ولذا فإن الخاصية السابعة عشرة للوعى هو أنه ذا قدرة أبدية علي التحدي والجدل والحدس والاستبقاق والتحرر والإبداع والاستشراق والاستشراف والإنارة ولذلك فليس للوعي الإنسانى مراحل قصوى للوصول إلى نهايته كما توهم هارتمان الذى أعلن أن أقصي مراحل تطور الوعي هي الإقدام علي الانتحار الكلى ، وهكذا تتحطم البشرية ذاتها وتضع حدا لنهاية العالم ( 29) وعلى عكس هذه النظرية التشاؤمية فإن الوعى لا يفنى ولا يعرف الفناء وهذه هي الخاصية الثامنة عشرة وهو لا ينقطع بل هو ممتد ومتواصل للدرجة التى عبر فيها بعض الصوفيين والأولياء علي امتداد الوعي الإلهى بداخلهم حتى يصل إلى الأتباع وإلى تابعى التابعين إلى أن يعود في ديمومة لا نهائية للإله مرة أخري أو حتى للإمام الغائب أو القائم من المبدع الأول والمنبعث الأول .( 30 ) بل وأن الجنة والأرض والفردوس يرثها العباد الصالحين .. وقال ابن عربى : إن كنت وليا فإنك وراث النبى .( 31 ) وإذا كانت الثقافة كمركب والاختراعات والكشوف العلمية والنظرية تعبر عن تطور الوعى لدى الإنسان وعلاقاته التفاعلية مع الكون والمجتمع فإن الوعى إذن متطور فى طبيعته مركب ، لا يفنى ، سائر متقدم ، لا ينتهئ مسير لذاته ومشكل لماهية القوة ودافع لها.
الفن امتداد جمالى تحقيقى
امتداد لأنه قائم علي ماهية القوة بمالها من دافعية ، فالخط العربى الجميل ، أيا كان موقعه ، وفى أى وسيلة يشاء ، وبأية طريقة يكتب ، يمتد امتدادا تاريخيا ولا يمكن اختزاله فى مسافة زمنية ضيقة ولكنه يمتد ليشمل مساحة حية قائمة وممتدة تملؤنا بالجمال ، وأضف إلى ذلك الأهرامات وكيف يتسنى لنا إعداد نماذج حديثة لها وتشبهها دون امتداد للأصل الماضوى ، الأهرامات كماهية للقوة وتمتد امتداداً ضارباً الجذور وهذه الماهية الجمالية والنموذجية هى التى تجعلنا نستشعر الهيبة والدهشة والعظمة والمغايرة فى الفن ، وهكذا أعمال الفنانين فإذا نظرت إلى تماثيل محمود مختار وأعمال جمال السجينى ولوحات راغب عياد وصلاح طاهر وأدهم وانلى وأعمال المعمارى حسن فتحى ومقتنيات متحف محمود خليل العالمية والمصرية ، وحتى إذا نظرت إلى الرسومات الجدارية للحجاج العائدين أو منمنمات وزخارف الفنانين بالموسكى فكل هذه الإبداعات الإنسانية كما تصيبنا الدهشة بالجمال المتجدد كلما نظرنا إليها فإنها تملؤنا إحساساً بالامتداد التاريخى بل بقيمة التقادم وبصلابة مقاومة القبح وبعظمة المقدرة على الاستمرارية فى زمن قادم. فالتاريخ مزروع فينا بمقدار ما هو مبدع ، وبمقدار كون هذا الإبداع متجدداً وليس بمقدار النقل والاتباع فهيهات لهذا الأخير أن يبقى ويستمر ، لأنه لا وجود أصلا للتاريخ بكونة حدثا متجسداً ومتطابقاً لحضوره الفعلى آنذاك ، ولكنه حاضر مجسم بكونه ماهية للقوة ، من هنا فإن النقل والاتباع يصير تقليداً أعمى يقف ضد حركة الزمن وضد طبيعة التطور ، إن قراءة قصائد امرئ القيس وزهير ولبيد وعمرو بن كلثوم وطرفه والمتنبى وعروة والمهلهل وكعب بن زهير وذى الرمة والفرزدق وجرير والأخطل وأبى تمام والمتنبى ..... اليوم لا تفرض علينا شعوراً بالضيق أو الزهق أو إحساسا بالرجعية وإنما تتحرر أنظمتها الدلالية والصوتية من إسارها القديم وتجربتها السحيقة القدم لتصير بكل هذا حية فينا كما تصير بكراً وهى تلامس الواقع من جديد فتنشأ إنتاجية جديدة للقراءة فى واقع مغاير غير متطابق لتجربتها آنذاك ، وتنفى عنها كينونتها القائمة من أجساد أصحابها لتصير بنية قولية لأجساد آخرين وواقعا مغايرا ممتدا فى أزمنة أخرى صارت فيما بعد حاضرا سابقا ، فإذا بها تتميز بالإبداع والدهشة وتأخذنا على الانجذاب ، هو نفسه القصائد ـ وتصير بنا ومعنا إلى حاضر قادم هو نفسه مستقبل قادر على التفوق والإبداع أيضاً وقادرعلى إنتاجية قرائية جديدة مغايرة للنص ذاته وقد تكون أكثر تمثيلية للجمال فيه، وحيث تتجلى فيها الإبداعية اللغة العربية كحضور فنى مجسم فى العالم . هكذا يصبح النص المبدع دون عمر محدد ودون هرم ولذا فحضور النص المبدع إن كان ماضويا لا يشعرنا بالتناقض والرجعية ، ولكن النقل والاتباع هو فقط الذى يشعرنا بالحرج والهرج والتناقض وبخيبة الأمل فى التقدم .
والفن : احتمالى تحقيقى فالاحتمال لا يعبر فقط عن علاقة بين قضايا ولكن علاقة بين وظائف متعلقة بدلالات قضايا احتمالية .(1) ، يعبر عن العلائق بين القضايا ودلالاتها .. علاقة الإنسان بالإنسان ، والإنسان بالأرض ، والأرض بالجمال وعلاقة الإنسان بالحب ، وعلاقة الإنسان ظالما أو مظلوما بهم جميعاً ـ وهذه العلائق ـ مركبة ومعقدة ومتشبعة يمكن استخلاص العلاقات المركبة بين جزئياتها كما أن الاحتمال يمدنا بالرغبة فى المعرفة ( 2 ) وانتهى هيوم إلى أن " كافة القضايا التى تدور حول العالم الطبيعى احتمالية لا يقينية " ( 3 ) .
والفن تحقيقى حين يحاول الفنان أن يطرح علائق القضايا من خلال مشكلة الفن فيقيم بناءه فى العالم الخارجى ومن ثم يقيمه فى داخل المجتمع ، ويبث رسالته فى الآخرين . وهذه القضايا موجودة فى الزمان والمكان ، وما يستخلص من علائق هى أيضاً موجودة فى الزمان والمكان( بكونهما كذلك ) .. وهكذا الفن لا يوجد منعزلاً عن الواقع أو منفصلاً عن الزمان والمكان وعلى الأقل فإن مادته الخام الشكلية بدلالاتها مستمدة من الواقع وتراكماته السحيقة ، وبالتالى فإن كل تشكيلاتها داخل هذا الواقع وداخل الزمان والمكان . مهمة الفنان هى الخوض فى هذه القضايا واستكشاف علائقها المركبة والمتنوعة والمتعددة ـ واحتمالاتها المستجدة التى تؤدى إلى ظهور الجديد المغاير ، ولأن الواقع متغير تتصارعه قوتان ـ عوامل البقاء والتشبت ، وعوامل التحرر والتغير سواء على مستوى القوى الاجتماعية أو على مستوى القوى الطبيعية ـ فإن مهمة الفنان هى أن يغوص فى هذه الصراعات مستكشفا علائق هاتين القوتين بشقيهما الاجتماعى والطبيعى وكلاهما معا وتطورهما الواقعى المتنوع والمركب والمتعدد والمتشابك ، ويصبح الفنان له إدراكه المعرفى والمكون من الطبيعة والمجتمع ، المتحدين فى الواقع ، ويستكشف العلائق الفاعلة فى المجتمع ـ والعلائق التى ستفعل فيه . ولا يتأتى ذلك إلا بالإبداع الذى هو قمة الوعى ـ وكما سبق أن بيناه ـ حيث يستطيع الفنان أن يسطير وينتصر على هذه العلائق الواقعية المتنامية وينقل انتصاره هذا إلى المجتمع من حوله ليسيطر عليها . فالإنسان هو الفاعل الوحيد فى العالم عندما يلقى بإبداعه فى العالم فإن إنتاجه هذا يصبح موجودا . وهذه الفاعلية الإنسانية لا تتحقق إلا مع الآخرين وفى الآخرين ـ ولهذا فإن المشاركة يجب أن تنتقل من مجالاتها الضيقة الإطارية من الكتاب إلى المجتمع ، فالفعل الفنى لا يوضع فى إطار مغلق لأنه مشاركة وتحقيق ، مشاركة الآخرين عندما يدركون هذا العمل وتحقيق تأثرهم به ، وتوصيل القيمة الإبداعية الواعية إليهم وفيهم بحيث تتشكل هذه القيمة فى داخلهم مما يسهم فى تغير سلوكياتهم وإحساساتهم وأذواقهم والفن ليس عملاً ملائكياً مقدسا ـ كما يرى أفلا طون ـ وليس عملاً غيبياً فاعلاً فى المجهول ولكنه هو الجسد والحياة ، والمغامرات ، والوقفات ، والأزمات المادية ، والضغط على السلطات لتحريرالإرادة الإنسانية ومواجهة العوامل الخارجية والذاتية التى تؤدى إلى خنق الفن أو التضييق عليه .. وتلك هى الخبز الذى يصنع منه الفن سره المقدس على حد تعبير ميرلوبونتى ( 4 ) .
حرية الفنان لا تتحقق إلا فى الآخرين ويفقد الفنان حريته حين يتلبسه الغيب والغموض والمجهول ويعيش متوهما أن هذه هى الحرية . ـ أنها حرية السراب والوهم . حرية الفنان هى أن يحرر الآخرين من السراب والوهم ، وأن ينتصر بهم على علائق الواقع لا أن يضع ما يتوهمه فى مستغلق ويملى فراغاً هندسيا ـ الانتصار على علائق الواقع ليس هو أن تهجر زمان ومكان الواقع بل أن تستكشف العلائق " الديناميكية " المتصارعة المتنامية ، وأن تحقق استكشافاً فى الإنسان والمجتمع ، وهذا هو التحدى الأبدى للإنسان الذى يسعى إلى تحقيقه دائماً ، الحرية الفنية ليست فى فوضى التهويمات الأدبية ، أو فى نصب سيركا من التعبيرات اللغوية المستغلقة ، أو الدخول فى معارك الشكل والمضمون الوهمية ـ فهناك محددات فنية لا يمكن لأى فنان أن يضيع وقته فى معاركها أو أن يتهم الآخرين بخيانة الثورة والإنسان ـ إذا لم يتفقوا معه . وهذه المحددات لا تعرقل حرية الفنان ووعية ـ إذا استخدمها بإحكام ودراية وخبره وتمرس ووعى . وهذه المحددات تكمن فى مادة الفن الخام ، والفنان الأصيل لا يعنيه أن يستخدم هذا الطين أو ذاك فى صنع تمثاله ولكن يعنيه تحقيق علائقه الجديدة فى العالم من أى طين . والفنان الأصيل عندما يعنيه اللحن أو الوزن أو الإيقاع أو النبر فإن مهمته الأولى تبقى فى توصيل إدراكه المستكشف من خلال هذه المحددات تلك التى تبدأ ـ ولاتنتهى ـ من حرف الجر فى اللغة ، أو أداة الجزم ، وهى محددات لغوية يستلزم استخدامها شروط معينة لا يمكن الإخلال بها وهى تساهم فى عدم جعل الفن نوعاً من العبث والحذلقة . إن الإلهام الفنى ليس ضرباً من السكر أو النشوة أو التخدير ـ كما أن الخيال الفنى ليس ضرباً من الحلم أو الهذيان ، وربما كانت السمة الأساسية التى تميز كل عمل فنى أصيل .. إنما هي تلك الوحدة البنائية العميقة التى تسمه بطابعها ، وليس فى وسعنا أن نفسر هذه الوحدة بإرجاعها إلى حالتين مختلفتين تماماً هما حالة الحلم وحالة النشوة ـ لأنه هيهات لأى كل بنائى موحد أن يتكون من عناصر مختلفة مهوشة ( 4 ) الإلهام الفنى والمقدرة الإبداعية هى الوعى فى قمته الشديدة الحساسية ـ لإدراك علائق الواقع الخارجى ، واستكشاف حركتها الفعالة وتوقعات حركتها المستقبلية ، وإخراج هذا الاستكشاف إلى عالم الوجود . ولا تنتهى الرسالة عندئذ .. ولكنها توجد لتتحقق فى المجتمع والفرد من خلال الإيمان بها . ولذلك فإن الفن لا يعرف المستحيل ، ولكنه يعرف الاحتمال على أرض الواقع . وعندما يملك الإنسان المبدع الواقع فإنه سيكتشف " ديناميكية " القضايا الإنسانية الموجودة فى الواقع وعلائقها المتنوعة واتجاهات هذه العلائق . وهذا هو الكشف والنبوءة فى الفن . الفن لا يعرف الاستنثاء لا شكلا ولا نوعا ولا مضموناً . إنه يعرف ماهية القوة و يطلقها فى أرجاء المجتمع ويفشى أسرارها بغية المساهمة فى تغيرها وتطويرها .
الفن لا يعرف الاستثناء فى الشكل ـ طالما كان الفنان واعيا ومبدعاً مستكشفا ومحققا فى العالم . وهو لا يعرف الاستثناء فى النوع ـ فالشعر كبقية الفنون لابد وأن يتحقق للجميع فى العالم . وهذا لن يتأتى إلا بالاتصال والتحقق في المجتمع بل وفى العالم الرحب الواسع الذى هو أكبر من أن يحتويه ديوان كتاب .
فالفن لا يعرف إلا الوجود الحى ـ وليس الوجود الميت المتحفى . الذاتى المحض ، الفن لا يعرف الاستثناء فى الموضوع . فكل الموضوعات متاحة أمامنا ـ العاطفية والصناعية والاقتصادية والاجتماعية.
الضرورى فى الفن :
وإذا كان الضرورى يعرف بأنه ( هو ذلك الشى الذى لا يعد حقاً وحسب ، ولكنه سيظل حقا فى كل الظروف ( 5 ) فإن الضرورى فى الفن هوالحرية ، والحرية ليست حرية الوهم والسراب ولكنها الحرية فى الواقع ، ، والحرية ليست حرية الغيب أو المتاهات والهرب من الواقع ، ولكن الحرية أن نتكاتف من أجل مواجهة الحياة وعلائقها المتحركة والمتنامية . الحرية أن ندافع عن حرية الآخرين فى العيش آمنين الحرية ليست أن نعبر عن رأينا فى مشاكلنا الاقتصادية والاجتماعية والسياسية فحسب بل أن نقوم نحن بالتغيير . والتحقيقى فى الفن هو قدرتنا على التغيير ، وفى الضرورى في الفن ... وهو الحرية ... الحرية ليست أن نتعالى على الآخرين بأننا صفوة وإن مفاهيمنا لا يفهمها إلا أمثالنا ولكن الحرية هي أن نبث مفاهيمنا فى الآخرين حتى يؤمنوا ويعملوا بها .
الحرية هى الجمال ، والجمال ضد القبح ، والقبح هو الاستغلال والقهر والبذاءة . الحرية أن يعي الإنسان الأضداد والمتنقاضات للانتصار عليها ، بأبعادها التاريخية المؤثرة ، الحرية تبدأ من الداخل ولا تبدأ من الخارج . الحرية لا تبدأ من مقاهي أو فنادق أو بارات ولكن الحرية تبدأ من أماكن العرق والجهد والنضال.
الحرية لا تبدأ بالكاتب المتحفى ولا تبدأ من الانفعال .. ولكنها تبدأ من كتاب الشعب .. وشدة الوعي به وبتراثه العميق . الحرية ألا تنتهى بخلاف حوله وضع لنين بين نهدى امرأة !! أو ينتهى الحصار البيروتى على نبرة وإيقاع ، ولكن الحرية هى تحقيق معانى النضال الحقيقية ، الحرية .. هى أن نعلم الإنسان كيف يكون حراً . وكيف يقاوم تناقضات الواقع ؟