هل الشعب المصري "مات واندفن" ؟!
...............................................................
| |
جانب من أعمال الحفر على الجانب المصري من الحدود مع غزة قرب السياج الفاصل، | |
بقلم : معتز شكري
.....................
في حوار لي مع صديق قبل حوالي 20 عاما ( ليس أمس أو السنة الماضية ، أكرر 20 عاما ) ، كان السياق حول أن المصريين أصيبوا بحالة غريبة من البلادة والسلبية المطلقة وافتقدوا الحمية والنخوة والحماسة التي عرفوا بها ، ويومها ساقني الحديث إلى أن أتساءل مندهشا : أين الشعب مما يجري ؟ فقال لي الصديق ضاحكا وساخرا : شعب ؟ أي شعب ؟ هل تذكر الفيلم المأخوذ عن رواية نجيب محفوظ "القاهرة 30" ، عندما قال أبو محجوب عبد الدايم لابنه : إذا سألني أحد في البلد عنك ، سأقول له : محجوب مات ، مات واندفن كمان، وهكذا يا صديقي "الشعب" الذي تتكلم عنه وتظن أنه ما زال حيا ، إنه لم يمت فقط ، بل "مات واندفن كمان " !
أنا في الحقيقة أرفض الاعتراف أو التصديق بأن الشعب مات واندفن ، ومازال عندي أمل ، لأن زوال الأمل يعني الموت ، فلا قيمة ولا جدوى للحياة بلا أمل. ومع ذلك ، كثيرا ما تمر بنا أحداث صارخة ومستفرة تجعلني أتذكر مقولة صديقي عن الشعب اذي مات واندفن !
اليوم قرأت أن موقع يديعوت أحرونوت نشر وثائق شخصية لجنود مصريين قتلوا خلال حرب يونيو 1967، وقام أحد جنود الاحتلال الإسرائيلي بنزع وثائقهم الشخصية والاحتفاظ بها في منزله. وهذا الخبر يعيد للأذهان فيلم "روح شاكيد" الإسرائيلي عندما قامت وحدة من الجيش الإسرائيلي بقتل 250 أسيرا مصريا أعزل ثم قتلهم في صحراء سيناء ، والفرقة العسكرية الإسرائيلية قادها بنيامين بن إليعيزر الذي شغل لاحقا مناصب وزارية في إسرائيل. ومن بين ما ورد في شهادات الجنود الصهاينة ما رواه جندي في سلاح المشاة عن المذبحة ، حيث قال : " بمجرد استسلام الجنود المصريين قامت الدبابات الإسرائيلية بمطاردتهم ودهسهم مثل العصافير."
يومها قامت الدنيا وقعدت ( عند غيرنا الدنيا تقوم ولا تقعد حتى يتم حل أي قضية ، أما عندنا فإنها تقوم ثم تقعد وكأن شيئا لم يكن ، ربما لأننا نتعب من الوقوف عشان بيجيب دوالي ولا مؤاخذة زي ما بيحصل للمكوجية كده ، وهكذا صار الشعب كله مكوجيا !)
يومها ثارت زوبعة شعبية وإعلامية عارمة ، وأتذكر أن وزير خارجيتنا السيد أحمد أبو الغيط حاول امتصاص الغضب ، وقال في برنامج تليفزيوني ما معناه إننا لن نسكت ولا يمكن أن نفرط في حق أسرانا القتلى وإننا لن نهدر حقوقهم وإننا سوف نخوض معركة قانونية ضد إسرائيل ولكن ذلك كله يقتضي توثيقا جيدا.
وواضح أن وزارة الخارجية سوف تستمر في التوثيق من وزير إلى وزير ، حتى تنتقل قضية التوثيق مشتعلة وحية في القلوب والعقول جيلا بعد جيل ووزيرا بعد وزير ، وربما نرى على الشاشات بعد ذلك كل وزير خارجية جديد يتسلم من سلفه ملف قضية الأسرى المصريين فيقبله ثم يتسلم العلم المصري ويؤدي اليمين الدستورية بأن يكمل عملية التوثيق إلى يوم القيامة !
أين كرامة الضابط المصري والجندي المصري ونحن لم ننس بعد هوجة الكلام عن كرامة مصر وتاريخ مصر ؟! هل مثلا هناك نص في الدستور المصري على أن الثأر لامتهان كرامة مصر والمصريين يقتصر فقط على مباريات كرة القدم ؟!
وقبل يومين فقط ، خرجت أنباء لا يرقى إليها الشك ( لأن من بين مصادرها شهود عيان في رفح المصرية ) عن قيام مصر الرسمية (التي لم تمت وتندفن بعد) بتشييد حاجز فولاذي ضخم منيع بيننا وبين أشقائنا المحرومين الجوعى العراة المتبطلين في قطاع غزة بدعوى منع عمليات التهريب !
جاء عنوان تقرير ال "بي بي سي" - في موقعها بالإنجليزية - ما نصه :
Egypt has begun constructing a huge metal
wall along its border with the Gaza Strip as it attempts to cut smuggling tunnels
أي : " شرعت مصر في بناء جدارمعدني ضخم على طول حدودها مع قطاع غزة في إطار مساعيها للحد من ظاهرة أنفاق التهريب".
طيب ، يا سيدي ، سنفرض أن هناك مشكلة في التهريب ، وأنه صحيح ما يقال بأن هناك عصابات تستغل حاجة الشعب الفلسطيني المسكين المحاصر في غزة وتحقق ثراء فاحشا من عمليات التهريب ، ألا نسأل أنفسنا أولا : وما هو أصلا سبب التهريب ، أليس الحصار الخانق ؟ ثم سؤال آخر : بغض النظر عن ثروات المهربين ، ألا تؤدي هذه العمليات إلى توفر المواد الغذائية والاستهلاكية المختلفة والمحروم منها شعب غزة ولو حتى بأسعار عالية ؟ أليس من الوارد أن يشتري القادرون هناك هذه البضائع ثم يتصدقون بها أو يدعمون أسعارها للفقراء ؟ أليس من الوارد أن جمعيات خيرية تحصل على كميات منها فتوفرها للمحتاجين وتأخذ دعما لها من المتبرعين ؟سؤال آخر : لماذا لا توفر مصر بنفسها جميع احتياجات شعب غزة المحاصر حتى لا يكون لها حجة مثلا في منع التهريب ؟
إن مصر تقوم من وقت لآخر بإرسال مساعدات أو السماح لآخرين بإدخال مساعداتهم عبر منفذ رفح. هذا صحيح ، ولكنه يتم قليلا جدا وبصورة استثنائية وفي الوقت الذي تريده الحكومة ، وأما القاعدة المستمرة طوال العام فهو أن المليون ونصف المليون غزاوي محصورون داخل "علبة غزة" المغلقة عليهم من الجهات الأخرى ، وجميع هذه الجهات الأخرى إسرائيلية ، فنأتي نحن أيضا لكي نغلقها عليهم بالضبة والمفتاح وبجدار فولاذي طوله 11 كيلومترا وبارتفاع كبير وبعمق 18 مترا تحت الأرض ، حتى نتأكد تماما من موتهم أو نبتزهم فإما التسليم بمخططات الاستسلام لإنهاء القضية وكفاية بقى وجع دماغ ، يا إما يا ويلكم وسواد ليلكم حتموتوا من الحصار والجوع !
نحن لا نرحم ولا نريد لرحمة ربنا أن تنزل ،ولكن هيهات ، فقد قال تعالى : "ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده وهو العزيز الحكيم" (فاطر – 2).
على الأقل ، إسرائيل عدو وما تفعله متوقع ، وحتى إسرائيل نفسها لم تفعل ذلك ، حقا هي تقيم جدارا للفصل العنصري البغيض في الضفة ، ولكنها لا تمنع بضائعها من دخول الأسواق الفلسطينية ، صحيح هي مستفيدة ، ولكن ألسنا مستفيدين نحن أيضا ؟ بلاش من باب الأخوة والدين والإحسان وعمل الخير والتعاطف الإنساني ، خليه من باب المنفعة المادية البحتة والانتعاش الاقتصادي ، والدنيا كلها تعيش أزمة مالية خانقة.
عندما اخترق الفلسطينيون حدود مصر تحت وطأة الحصار والجوع ، وانتشروا في رفح والعريش ليحصلوا على احتياجاتهم وهم محرومون من كل شيء ، هاجمهم الإعلام الحكومي بشدة وقال أبو الغيط إن من سينتهك حدود مصر سنكسر رجله ،
وأغفل الجميع أن هذا لا يعد انتهاكا لأنه يتم في ظروف غير عادية ، مثل أن يقتحم شخص بيتي لأنه سيموت من الجوع بعد أن تنكر له الجميع ولم يطعمه أحد. إن الدين نفسه يعطيه الحق في هذه الحالة لأن يقاتل حتى ينقذ نفسه من الموت جوعا ، واسألوا المشايخ حتى تصدقوا كلامي.
لقد انهمك بعد ذلك كتبة الحكومة بالمن والأذى والتفضل على أهل غزة بما حصلوا عليه منا مع أنهم اشتروا كل البضائع بنقودهم ودولاراتهم ولم "يشحتوها" ، ومع أنهم أحدثوا انتعاشا تجاريا واقتصاديا كبيرا لمدن شمال سيناء واستغل كثير من التجار المصريين الموقف أسوأ استغلال فرفعوا الأسعار عليهم بنسب فاحشة !
إسرائيل تسد من ناحية ونحن نسد من ناحية ، ولكن الجميع ينسون أن هناك ناحية أخرى مازالت مفتوحة وستظل ، وليس بمقدور أحد أن يسدها : إنه اتجاه السماء .. فأبواب السماء مفتوحة دائما للمظلومين ، ولا ندري إذا دعا علينا أهل غزة ماذا سيكون مصيرنا وماذا سيكون عذرنا ؟ هل نقول إن أهل غزة – مثل يأجوج مأجوج – مفسدون في الارض ؟! قوم لا يجد بعضهم ما يقتات به إلا أوراق الأشجار تطعهما الأم لأطفالها الذين لم تقصفهم بعد طائرات ال إف 16 وهم نيام . هؤلاء صاروا هم المفسدين في الأرض ، أما جيراننا الجدد منذ 1948 فهم أصدقاؤنا بأمارة أنهم قتلوا أسرانا ودفنوهم في سيناء.
ولكن، هل أسرانا فقط هم الذين ماتوا واندفنوا ؟!
انقطعت صلتي بصديقي القديم منذ أن تقاعد من العمل ، ولكن مازالت ترن في أذني كلماته : شعب مين يا سيد ؟ ده مات .. مات واندفن كمان !
أكاد أسمعه الآن وهو يقول : نسألكم الفاتحة على روح الشعب المصري !
06/11/2014