لسان حال المصري اليوم : ألا موت يباع فأشتريه !
...............................................................
| |
معتز شكري | |
بقلم : معتز شكري
......................
لا أقصد "بالمصري اليوم" تلك الصحيفة اليومية التي صارت من أهم صحف مصر المستقلة ، وحققت تميزا مهنيا لا يمكن إنكاره ، وكثيرا ما تحصد عددا كبيرا من جوائز مهنة الصحافة كل عام بفضل مجموعة من أمهر الصحفيين الشباب ، وإن كانت توجهاتها - حسبما يتجلى في سياستها التحريرية وتيارات بعينها تتبوأ الصدارة في أعمدتها - تعكس بالضرورة رؤى عامة للمنفقين عليها من أصحاب رؤوس الأموال المشهورين في مصر.
ولكنني أقصد الإنسان المصري في يومنا هذا ، ولا أقول "المواطن" لأنه لو كان ينظر إليه كمواطن له كل حقوق المواطنة المحسوسة في الواقع مثلما هي محسوسة في مواد الدستور ، لما كان يستعذب الموت في كثير من الأحيان ويفضله على الحياة.
مؤخرا ، حكى الإعلامي المرموق محمود سعد في حلقة من " البيت بيتك" مأساة شاب تخرج في كلية التجارة ولم يجد عملا – كالعادة ! – فتفتق ذهنه عن أن ينشيء "نصبة شاي" على أحد كباري القاهرة لكسب قوته ومساعدة أسرته. وفي أحد الأيام ، كان زبائنه مجموعة من الشباب من قطر عربي شقيق ، صنع لهم أقداح الشاي ، ولكنهم كانوا يبحثون عن تسلية مبتكرة تبدد سأم حياتهم الفارغة ، فقالوا له لو استطعت أن تقفز الآن في مياه النيل لأعطيناك مائة جنيه حتة واحدة مكافأة لك على بطولتك ! فما كان من الشاب الساذج المحبط من قلة ذات اليد إلا أن وافق باعتبار أنه سيستطيع الخروج من الماء دون مشاكل ويكون قد ضمن خلال دقائق مبلغا كبيرا من وجهة نظره لأنه لا يحصل على مثله إلا بعد شقاء أيام وليال طويلة ، ولكن الذي حدث أن المسكين قفز ولم يخرج لأنه ببساطة غرق في مياه النيل المخيفة ليلا ، لا لتضيع فقط حياته كلها في مقامرة مجنونة ، ولكن أيضا لتضيع من أسرته البهجة ربما إلى الأبد !
هذه واحدة. وفي المصري اليوم ، حادثتان تصدرتا الصفحة الأولى أول أيام عيد الأضحى ، أي قبل أيام معدودات :
في الحادثة الأولى ، انتحر شاب فى العقد الثانى من عمره، يعمل نقاشاً، حيث ألقى بنفسه من أعلى سطح العمارة التى يسكن بها فى مدينة بنى سويف الجديدة شرق النيل لفشله فى تدبير واستكمال الزواج ومروره بضائقة مالية قبل عيد الأضحى.
وفي الثانية ، شهدت قرية سدس الأمراء التابعة لمركز ببا، حادثاً مأساوياً ، حيث شرع شاب حاصل على ليسانس آداب منذ عام ١٩٩٨ ويعمل «حداد مسلح» بالانتحار بعد أن مزق شرايين «يده اليمنى» فى «مزرعة سدس» التابعة لمركز البحوث الزراعية، وأثناء مرور خفير المزرعة الخصوصى قام بإنقاذه ونقله إلى مستشفى ببا لإجراء الإسعافات. وبسؤال شقيقه ( موجه بالتربية والتعليم ) ، قال إن شقيقه (٣٤ سنة) ، حاصل على ليسانس آداب، ويعمل حداد مسلح أخذ سكيناً وقطع شرايين يده اليمنى بسبب فشله فى الحصول على فرصة عمل ومروره بضائقة مالية.
وهذا غيض من فيض ، ولمن أراد المزيد فما عليه سوى متابعة صفحات الحوادث بالصحف المصرية ، ولا يمكن أن ننسى المئات الذين يموتون في مراكب الهجرة غير الشرعية لأوروبا وهم يخاطرون بحياتهم لمجرد أمل ضعيف في أن تتاح لهم حياة كريمة ورزق وفير خارج مصر.
ولكن ، ماذا يعني هذا ؟ أليست له دلالات مخيفة ؟ لقد وصل الإحباط إذن درجة جعلت بعض المصريين ،حتى الشباب ، يفقد كل أمل في تحسن الأوضاع ويفضل الموت على الحياة.
وهذا يعني فشل الحكومة في أن تكون لها مصداقية عند الناس ، لأنه ليس فشلا لمدة سنة أو عشر سنوات ،ولكنه فشل دائم ، فعشرات السنين تمر ولا تحسن ، وهو ما يشعر به بالذات من كان مسافرا لمدة طويلة أو مهاجرا ثم يأتي لزيارة مصر. وهناك مشاكل المفروض أنها ممكنة الحلول وغير مستعصية ، مثل السحابة السوداء ومثل تراكم القمامة ، ومع ذلك تخفق الحكومية في حلها على مدى سنوات ، فكيف تقنعنا أنها ستحل المشكلات الهائلة التي يعانيها المجتمع ، مثل الاستبداد السياسي والفساد بكل أنواعه والروتين الحكومي والتدهور في الخدمات والبنية التحتية والتخلف الرهيب في الإنتاج كما ونوعا وتدني سياسات التعليم والرعاية الصحية ، إلخ ؟
الغريب أن هذه الحوادث تفيد شيئا آخر أيضا لا يلتفت إليه الكثيرون ، هو فشل المؤسسة الدينية ذاتها ! لأن كثيرين من المصريين يواجهون أزمات أعنف ولكنهم لا يفكرون في الانتحار بسبب ما لديهم من وازع ديني ، وإذن فإن تزايد عدد المنتحرين يعني أن المؤسسة الدينية بعد تسييسها فقدت هي الأخرى المصداقية لدى الكثيرين.
في التراث العربي ، قصة لطيفة ، تقول :
كان محمد المهلبي فقيراً معدماً لا يملك قوت يومه. ، حتى أنه سافر ذات مرة فأخذ يتمنى الموت من شدة فقره ويقول:
ألا مـــوت يباع فأشتريـه *** فهذا العيش مـا لا خير فيـه
ألا مــوت لذيذ الطعم يأتي *** يخلصني من العيش الكريـه
إذا أبصرت قبراً من بعيد *** وددت لو اننــــــي ممن يـــليـه
ألا رحم المهيمن نفس حر *** تصــدق بالوفاة على أخيــه
فسمع رجل متيسر الحال كلامه فرثى لحاله وأعطاه درهما.
ثم تمر الأيام ويعتنى المهلبي بنفسه، ويجتهد ويترقى في المنصب، حتى أصبح
وزيراً، بينما ضاق الحال بالرجل الآخر (الذي أعطاه درهما) ، فأرسل رقعة إلى
محمد المهلبي كتب فيها:
ألا قل للوزير فدته نــفسـي *** مقــــال مذكر ما قد نسيه
أتذكر إذ تقول لسوء حال *** ألا مــــوت يباع فأشتريه؟
فلما قرأ محمد المهلبي الرقعة أمر له بسبعمائة درهم ، ثم كتب تحت رقعته قوله
تعالى -:
"مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة
مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم".(البقرة - 261) ، ثم قلده
عملاً يسترزق منه.
ليت شعري : من اليوم لك يا كل محبط - من قلة ذات اليد - لكي يعطيك ما يمنعك
من الانتحار ، حتى لا يصل بك الأمر لأن تقول : ألا موت يباع فأشتريه ؟! ليس لك
ولنا إلا الله تعالى ، فقد أزفت الآزفة ليس لها من دون الله كاشفة.
06/11/2014