مطبوعة الكترونية عربية مهتمة بموضوع المواطنة وتداول السلطة القانونى وحرية التعبير  فى العالم العربى  .. تصدر من الولايات المتحدة الأمريكية عن المركز الأمريكى للنشر الالكترونى .. والأراء الواردة تعبر عن وجهة نظر أصحابها.
............................................................................................................................................................

 
 

 الدكتور سعيد عبده .. والطبيب "أبو جهلان" !
...............................................................

بقلم : معتز شكري
......................


هذا المقال يتحدث أولا عن خطيئة المكابرة بالباطل ، والعناد واللجاج دون وجه حق ، والجدل فيما يفهم الإنسان وفيما لا يفهم ، و"تقفيل المخ" ، وهو ما تسميه العامية المصرية " التربسة" وتصف مرتكبه بأنه "ترباس" أو "قفل" !

وبدلا من الوعظ والإرشاد ، سأحكي لكم حادثة واقعية حكاها الطبيب والأديب المصري الشهير الراحل الدكتور سعيد عبده ، وبعد الحكاية اسمحوا لي ثانيا أن أقف معكم وقفة سريعة للتعريف بالدكتور سعيد عبده لمن لا يعرفه من الأجيال الشابة ، وللتذكير به لمن عرفه أو سمع به .

هذه القصة الحقيقية رواها الدكتور سعيد عبده في مجموعته الأدبية "هياكل في الريف" ، الصادرة في سلسلة (الكتاب الذهبي) عن دار روز اليوسف في يوليو 1953 ، حيث يحكي عن تجربة له عندما كان يعمل طبيبا في بلد عربي ، فقال:

كنت أمارس الطب في إحدى البلاد الشرقية. ومر بي يوم لا أنساه هناك.
كان أول مرضاي فيه تلميذا ، وكان هذا التلميذ مريضا بالجدري ، وكان علي أن أحتجزه ، حتى يراه طبيب الصحة ويقوم بعزله عن الناس دفعا لأذاه. ولم يكن من اللياقة ولا من العدل أن أتقاضى أتعابا من شخص لا أستطيع أن أصنع له شيئا أكثر من استعداء الحكومة عليه والحجر على حريته في سبيل الصالح العام.

وانتظرت طبيب الصحة فلم يحضر ، وأرسل بالنيابة عنه معاونا صحيا يفحص المريض ويتأكد من التشخيص. فألقى على المريض نظرة ، ثم قال متأففا : هذا مو جدري – أي ليس بجدري – هذا "أبو خريان".

ولم أكن أعرف أبا خريان هذا ، ولكني فهمت من سياق الموضوع أنه يعني ما نسميه الجديري أو الحماق.

وحاولت أن أقنعه فأبى أن يصغي إلي ، فقلت له إني شاهدت ألف مريض بالجدري ، فقال متململا : وإني رأيت ألفين من مرضى "أبو خريان" !

ويكمل الدكتور القصة ، قائلا : فهززت أكتافي وأفرجت عن المريض ، ووقيت نفسي ومن يحيطون بي بالتطعيم ، وقلت لنفسي هذه بلادهم يصنعون بها ما يشاؤون.

وانتشر الجدري بعد ذلك في المدينة ، وقابلت هذا المعاون مصادفة ، فقلت له ضاحكا :

" إن الألفي أبي خريان أصبحوا الآن ثلاثة آلاف ! " فاحتواني بنظرة متعامية ، وقال :

" هذا شيء آخر. هذا جدري ، مو أبو خريان " !

انتهى ما حكاه سعيد عبده ، أفرأيتم يا أصدقائي كيف تسبب عناد ذلك الطبيب "أبو جهلان" ، وإصراره على الخطأ ، في تفشي مرض الجدري بالمدينة ، لمجرد عدم الاعتراف لطبيب من خارج بلده بأنه أعلم منه .

وليس في ذلك أي مبالغة ، لأن التلميذ بعد الإفراج عنه – بدلا من عزله ومعالجته – عاد إلى أهله واختلط بأسرته وجيرانه وعاد إلى مدرسته فخالط التلاميذ والمدرسين ، وكان يختلط في ذهابه وإيابه بالناس في كل مكان ، وجعل كل من يلتقط منه العدوى ينقلها لآخرين ، وهكذا ، ومعروف أن الجدري smallpox حتى الآن ، من أشد الأمراض على الإطلاق انتقالا بالعدوى ،وهو يسبب حمى وبقعا على الجلد ، وكثيرا ما يؤدي للوفاة إذا لم يتم علاجه بصورة صحيحة وسريعة. أما الجديري chickenpox فمرض أخف كثيرا وهو شائع بين الأطفال ، ويسبب حمى خفيفة ، وبقعا حمراء على الجلد.

وأنا أتمنى أن نتخلق جميعا بصفة التواضع وبالحكمة القائلة "الرجوع للحق خير من التمادي في الباطل" ، ولأن الشيء بالشيء يذكر ، لابد أن أشيد بتقليد محمود تتبعه الصحافة الغربية – باستثناءات قليلة – هو أن تنشر ما يأتيها من تصحيحات لأخبارها. وعندما كنت طالبا صغيرا ، قرأت في مجلة ال Newsweek رسالة من قاريء يصحح للمجلة معلومة أخطات فيها ، فلم تكابر المجلة ولم تحاول كما تفعل أحيانا صحافتنا العربية أن تبرر ما نشرته ، بل اكتفت بعبارة واحدة ردا على التصحيح ، هي :

Newsweek stands corrected.

أي : "المجلة تعترف بالخطأ وتقبل التصحيح".

والآن ، ماذا عن سعيد عبده ؟

هذا الرجل – الذي لا يعرفه أغلب شباب مصر الآن بحكم رداءة مستوى الثقافة والإعلام والتعليم في بلادنا – كان أعجوبة في تعدد مواهبه ، فقد كان شاعرا وزجالا وكاتبا وأديبا وطبيبا وصحفيا من الطراز الأول.

فهو واحد ممن عرفوا بأزجالهم الوطنية الحماسية خلال ثورة 1919 ، وهو رائد في فن الموال السياسي. وهو في الطب أحد الأعلام في مجال الطب الوقائي وطب المناطق الحارة وكان أستاذا في كلية الطب ، ومزج موهبته الأدبية بعلمه الطبي في مقالات شهيرة اختار لها عنوانا صار ذائعا جدا هو "خدعوك فقالوا" فكان في كل مقال يصحح معلومة خاطئة في مجال الطب والصحة والأمراض.

وفي الأدب كان من عمالقة القصة القصيرة ، وفي الصحافة يكفي أنه كان واحدا من سبعة رجال ، ومعهم امرأة واحدة هي أمينة السعيد ، كانوا بمواهبهم أو أموالهم أو جهودهم وراء إصدار مجلة "آخر ساعة" العريقة التي أسسها الصحفي الكبير الرائد الأستاذ محمد التابعي ، وكتب بنفسه افتتاحية المجلة عندما صدرت لأول مرة في 14 يوليو 1934. أما باقي الرجال السبعة الذي قامت المجلة على أكتافهم فهم : محمد التابعي – مصطفى أمين – علي أمين – صاروخان – عبد السلام النابلسي - الموسيقار محمد عبد الوهاب ، حسبما حكى في ذكرياته الأديب الشهير الراحل إبراهيم الورداني.

كتب عنه الكثيرون ، مثل الأستاذ محمد حسنين هيكل الذي قال عنه إنه كان من أحسن من كتبوا الزجل السياسي في مصر ، كما كتب عنه الأستاذ مصطفى أمين ،وآخرون ، ويكفي أنه كانت تربطه صداقة بأمير الشعراء أحمد شوقي بعد أن أعجب الأخير بمقالاته واستدعاه للتعرف عليه.

ولد سعيد عبده في 12 أغسطس 1901 ، وتوفي في شهر أغسطس أيضا سنة 1983 ، والكلام يطول عنه ، ومن مواويله الشهيرة موال "في البحر لم فتكم" ، ويسخر فيه من إسماعيل صدقي باشا رئيس حكومة مصر في مطلع الثلاثينيات ، وكان يحكم بالحديد والنار ، فيقول على لسانه مخاطبا الإنجليز بعد أن أخلص لهم وغدروا هم به وتخلوا عنه :

في البحر لم فتكم في البر فتوني
بالتبر لم بعتكم بالتبن بعتوني
أنا كنت وردة في بستاني قطفتوني
وكنت شمعة وجوا البيت طفيتوني
لو عدت دي المرة هاتو المر وأسقوني
ولما قرأ الموسيقار محمد عبد الوهاب هذا الموال قرر أن يغنيه وتجاهل الغرض الذي كتبه سعيد عبده من أجله ، وصار بعد ذلك من أشهر المواويل التي غناها تحت اسم "أمانة ياليل" !

والآن يا أصدقائي ، تذكروا الدكتور سعيد عبده رحمه الله وابحثوا عن أعماله واستمتعوا بها ، وتذكروا أهم نصيحة في مقالي هذا ، وهي عدم المكابرة بالخطأ ، وإلا وقعت مصائب وبلاوي، والدليل " أبو خريان " !
 

06/11/2014

مصرنا ©

 

.....................................................................................

 


 

 
 



مطبوعة تصدر
 عن المركز الأمريكى
 للنشر الالكترونى

 رئيس التحرير : غريب المنسى

مدير التحرير : مسعد غنيم

 

الأعمدة الثابته

 

 
      صفحة الحوادث    
  من الشرق والغرب 
مختارات المراقب العام

 

موضوعات مهمة  جدا


اعرف بلدك
الصراع الطائفى فى مصر
  نصوص معاهدة السلام  

 

منوعات


رؤساء مصر
من نحن
حقوق النشر
 هيئة التحرير
خريطة الموقع


الصفحة الرئيسية