متى نرى "مراجعات" جماعة الإخوان المسلمين؟
| |
شكري | |
بقلم: معتز شكري
.....................
ظهرت في مصر في السنوات الأخيرة إصدارات كثيرة أطلق عليها اصطلاحا "المراجعات"، جاء بعضها في شكل سلسلة من الكتب، وبعضها الآخر في شكل حلقات نشرت تباعا في بعض الصحف قبل أن يعاد نشرها على مواقع شبكة الإنترنت، وتم بعضها وأصحابها مازالوا في غياهب السجون والمعتقلات، وبقوا فيها سنوات أخرى بعد ذلك، بينما صدر البعض الآخر وأصحابها مطلقو السراح في بيوتهم لا يلاحقهم أحد من الأجهزة الأمنية.
نعلم جميعا أن الجماعتين الرئيسيتين، أوالتنظيمين الأساسيين، اللذين أبدى قادتهما حرصا واضحا على مراجعة أفكارهم ومبادئهم وأعمالهم، وشرح ما صدر عنهم من قول وفعل لإعادة تقديم أنفسهم إلى المجتمع المصري، هما:
1 - "الجماعة الإسلامية": بأقلام كبار قادتها ورموزها من أمثال كرم زهدي وصفوت عبد الغني وناجح إبراهيم، وغيرهم
2 - و"تنظيم الجهاد": وبالذات بقلم منظره الكبير السيد إمام، المعروف بلقب "الدكتور فضل"
ذلك، لأن غيرهما من الكيانات الصغيرة والشظايا اللامتناهية ذات الانتماء الفكري إلى المجال الديني ليس لها من التأثير ما لهاتين الجماعتين الكبيرتين.
ونذكر جميعا أن هذه المراجعات قوبلت بترحيب من كل الأطراف تقريبا، من مفكرين وباحثين متخصصين في هذا الملف، ومن أجهزة أمنية ورسمية، ومن كيانات سياسية وأحزاب، ومن وسائل الإعلام، ومن عموم الجمهور المصري، ورأى الجميع فيها خطوة إيجابية مبشرة بالخير وبمستقبل خال من العنف بين هذه التنظيمات والسلطة الحاكمة في مصر، بعد عقود دامية من العنف والعنف المضاد ترك بصمته السلبية، ليس فقط على الأمن العام في البلاد، بل على أوضاعها السياسية وأحوالها الاقتصادية والاجتماعية، كما لا يخفى على أحد.
ولم يشذ عن هذا الترحيب والقبول بالمراجعات إلا فئة قليلة، بعضها من الباحثين ورجال الأمن المعنيين بالملف، وبعضهم من الساسة المناوئين للتيار الإسلامي عموما ولهذه الجماعات خصوصا، وحجتهم أن أصحاب هذه المراجعات ليسوا محل ثقة حتى الآن ولا يطمأن إلى مصداقيتهم، سواء في قولهم إنهم نبذوا العنف والعمل المسلح ضد الدولة والمجتمع، أو في قولهم إنهم غيروا بعض أفكارهم ورأوا الصواب في غيرها من الآراء الفقهية. ويقولون أيضا إن هؤلاء عندما اعتنقوا الفكر المسلح أو العنيف دللوا على مشروعية ذلك بآيات وأحاديث وآراء فقهاء، وباقتدار شديد وقدرة على الجدل والإقناع كبيرة، ثم لما قالوا إنهم راجعوا أنفسهم وعدلوا عما كانوا ينتهجونه، عادوا فدللوا على ذلك الموقف الجديد أيضا بالاستشهاد بآيات وأحاديث وآراء فقهاء، وبنفس الاقتدار ونفس القدرة على الجدل والإقناع!
وكما قلنا، فإن هؤلاء الرافضين لهذه المراجعات والمشككين فيها حتى الآن موجودون في الساحة السياسية والإعلامية، ولكنهم أقلية، وهم معروفون برفض هذه الكيانات الإسلامية رفضا مطلقا، ولكن الأكثرية كما نشاهد هي ممن رحب بهذه المراجعات وشجع عليها، باعتبار أن ذلك في النهاية في مصلحة المجتمع وأمنه واستقراره، لأن البديل مخيف وهو استمرار هذه الحلقة الجهنمية من الصراع، ذلك أن العنف "الإجرامي" العادي، أي ذلك الذي يرتكبه مجرمون محترفون من قتلة ولصوص وقطاع طرق، يختلف عن العنف النابع عن "فكر"، والذي يعكس "عقيدة" راسخة في نفس صاحبه تصور له أن خيار التضحية بحياته مقدم على الرجوع عما ينتويه، وهي نوعية من البشر لا يردعها قليلا أو كثيرا أي تعامل أمني معها.
ونلاحظ كذلك أن فصيلا آخر لا يقل أهمية أو خطورة، في مجال العمل "الإسلامي" المسلح، لم يصدر منه حتى الآن – على المستوى المؤسسي – أية مراجعة لاعتقاداته أو أفكاره أو منهجه، وهو ما عرف إعلاميا بتنظيم "القاعدة". ونحن لا نتكلم هنا عن "أفراد" انسحبوا من التنظيم أو أقلعوا عن الانتماء إليه أو تراجعوا عن أفكاره، بضغوط أو بغير ضغوط، لأن هذا كله موجود في كل الجماعات المشابهة، وموجود أيضا في الأحزاب والجمعيات وغيرها من التنظيمات التي يرى كل فرد من أعضائها أن من حقه في أي وقت أن يستقيل أو يبتعد أو ينسحب، كما لا نتكلم عن "تكتيكات". لكننا هنا نتحدث عن التراجع "المؤسسي" أو المراجعة "المؤسسية" التي تصدر عن أهم قادة التنظيم بصورة مركزية وتحظى برضا وقبول الغالبية.
فبهذا المعنى، لا نعرف، حسبما تعي الذاكرة، أي مراجعة فكرية "مؤسسية" للقاعدة، أو لما تفرع عنها أو نسب نفسه إليه من خلايا نائمة أو فروع تابعة، بالرغم من كل الضربات المخابراتية والعسكرية الاستراتيجية التي وجهتها لها قوى كبرى في العالم وحكومات قوية في المناطق التي تعمل فيها.
بل على العكس، يسفه منظرو هذا الفصيل، حتى أولئك القابعون في سجون أوروبا، مثل أبي قتادة، كل ما صدر من مراجعات ويعتبرها تنازلات عقائدية خطيرة، فضلا عن اعتبارها هزيلة علميا لا يرتفع مستواها عن مستوى طالب ثانوي!
ولكن دعونا الآن من القاعدة، لأنها ليست موضوعنا، ومع أن وجود جماعات متماهية مع أفكارها في مصر صار حقيقة لا يسع أحدا إنكارها، كما في بعض مناطق شبه جزيرة سيناء، إلا أن ما يعنينا في هذا المقال هو ما يتعلق بأكبر جماعة إسلامية في العصر الحديث في مصر والعالم كله، وهي جماعة "الإخوان المسلمين".
وجه الغرابة هو أن كلا من تنظيم الجهاد والجماعة الإسلامية لا يتجاوز عمرهما العقود الأربعة، لأن نشاتهما تعود لحقبة السبعينيات، كما أنهما لم يمارسا السياسة بمعناها الاحترافي السلمي المعروف إلا مؤخرا وبعد اندلاع ثورة الخامس والعشرين من يناير، وصار لكل منهما الآن ذراع سياسية تعبر عنه في شكل حزب قانوني معترف به، وهما "حزب البناء والتنمية" المنبثق عن الجماعة الإسلامية، و"الحزب الإسلامي" المنبثق عن تنظيم الجهاد، بينما جماعة الإخوان المسلمين تفخر هذا العام بأن لها خمسة وثمانين عاما مرت على تأسيسها في عام 1928، وبينما هي أيضا دون غيرها كانت حريصة على ممارسة السياسة طوال تلك الفترة الطويلة، باستثناء بضعة أعوام في العهد الملكي، وأقل من عشرين عاما (من 1954 حتى وفاة الرئيس جمال عبد الناصر)، وبضعة أعوام قليلة متناثرة في عهدي الرئيس أنور السادات والرئيس حسني مبارك . وإذن، فتبقى هناك – بعد خصم سنوات الاعتقال والملاحقة والمضايقة والمصادرة - قرابة ال50 عاما على الأقل كانت الجماعة تمارس خلالها السياسة ممارسة حرة نسبيا، أو في ظل مضايقات "محتملة"، بغض النظر عن تكييف وضعها القانوني.
وفي الحقيقة، فإنه يندر أن تكون هناك جماعة أو منظمة يقترب تاريخها من ال90 عاما وتجمع بين الانتماء الفكري للإسلام (طبقا لمكونات فكرية خاصة بها)، والعمل السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وربما في بعض الفترات ولظروف معينة "العسكري" أو "العنيف" أيضا، ولها فروع وأذرع في مختلف بلدان العالم تقريبا، وتصبح باعتراف المؤرخين والباحثين، سواء المتعاطفين معها أو الساخطين عليها أو المحايدين تجاهها، هي "أكبر" و"أهم" منظمة إسلامية في العصر الحديث، ثم لا يخطر ببال قياداتها المركزية المتتابعة وصفوة كوادرها ومنظريها ومفكريها وموجهي سياساتها أن يتوقفوا بعض الوقت خلال تلك المدة الزمنية الطويلة جدا لمراجعة، ليس فقط أفكارها ومبادئها ومنطلقاتها الفكرية، ولكن أيضا "تصرفاتها" و"سياساتها" و"مواقفها" و"مسلك افرادها"، واستعراض تاريخها الطويل وعلاقتها بكل من النظام الحاكم خلال تلك الفترة، أي خلال حكم كل من:
1 - الملك فؤاد الأول (من تأسيس الجماعة في عهده: 1928 – 1936)
2 - الملك فاروق الأول (من 1936 – 1952)
3 –مجلس قيادة الثورة ثم الرئيس محمد نجيب (حتى 1954)
4 - الرئيس جمال عبد الناصر (من 1954 – 1970)
5 - الرئيس محمد أنور السادات (من 1970 – 1981)
6 - الرئيس حسني مبارك (من 1981 – 2011)
7 - المجلس العسكري (من فبراير 2011 – يوليو 2012)
ثم، العلاقات الإقليمية والدولية وعلاقاتها بالمؤسسات الإسلامية الأخرى، الرسمية والخاصة، إلخ، وموقفها من سائر القضايا والمشكلات المحلية والإقليمية والدولية، وغير ذلك.
تدهشني كثيرا هذه الحقيقة، ويدهشني أكثر أن يكون رد الفعل المتوقع الآن هو تساؤل يبدو في ظاهره للوهلة الأولى وجيها، هو: يا سيدي، إذا كانوا وهم في معمعان الاضطهاد والملاحقة والتشويه لم يفكروا في ذلك، أفيقدمون عليه الآن وهم في سدة الحكم وبعد أن جاءهم "التمكين"؟!
وهنا في رأيي المتواضع عين الخطأ والخطر، لأن وصولهم لسدة الحكم في مصر لم يواكبه قبول كامل من مجموع الشعب المصري، على كثرة أعضائهم وأتباعهم والمتعاطفين معهم، بل لا تزال هناك قطاعات كثيرة وكبيرة، سواء عن اقتناع فكري بالخصومة معهم مثل المثقفين والساسة المناوئين لهم فكريا والمتنافسين معهم سياسيا، أو تحت تأثير وسائل الإعلام المحتشدة بخصومهم، مثل جماهير غفيرة في مصر وخارج مصرإلخ.
وبالتالي فلا تزال الجماعة تجد نفسها أمام تحديات لا يستهان بها في مجال تحسين صورتها لدى الرأي العام، المصري والعربي والدولي، والسبب في رأينا يرجع لتقاعس الجماعة أو كسلها أو إخفاقها، أيا كان السبب الحقيقي، في مراجعة أصولها الفكرية وتاريخها على أرض الواقع.
فعلى مدى هذه ال85 عاما، جرت مياه كثيرة جدا في نهر التاريخ المصري، ولا تزال هناك اتهامات توجه للجماعة ولمؤسسها ولأفرادها وللتنظيمات المنبثقة عنها، ولا تزال هناك أسئلة بلا رد مقنع، وشبهات لم تحرص الجماعة على إزالتها بالجدية الكافية والتوثيق الوافي، ولا تزال هناك معضلات في الحياة اليومية ومستحدثات الحياة في المجتمع المصري لم يتعامل معها الجانب "العلمي الشرعي" أو "الاجتهادي الفقهي" في الجماعة بما يكفل حلها في إطار اجتهاد إسلامي واقعي حديث لا يفرط في الأصول ولكن يبتكر قياسات واجتهادات مفيدة، بعيدا طبعا عن كسل التبرير و"شرعنة" الأمر الواقع استسهالا، أو عما يسميه بعضهم "فقه استضعاف" للتخلص من تكاليف شرعية، إلخ، كما لا تزال هناك جماعات وكيانات إسلامية أخرى تناصب الجماعة العداء وتجردها حتى من أي انتساب صحيح للإسلام نفسه!
وقد هالني أن الكتب والكتيبات والفصول والبحوث والدراسات والمقالات والمواقع والروابط والأطروحات التي تنتقد الإخوان وتهاجمهم وتفند كل تاريخهم أو معظمه وكل أفكارهم أو معظمها، هي بالآلاف لا بالعشرات أو حتى المئات، وهالني أكثر أن الأغلبية الساحقة منها هي "لإسلاميين" لا "لعلمانيين" أو "ليبراليين" أو "يساريين" ممن يرفضون الفكر الديني أصلا.
رأينا فقط أعضاء كثيرين من هذه الجماعة يستضافون في أحاديث صحفية في وسائل الإعلام، سواء بمفردهم أو في شكل مناظرات مع خصوم، فيسألون عن مراحل حساسة في تاريخ الجماعات أو جرائم نسبت إليها أو تيقن وقوعها فيها، وعن تفاصيل مالية وإدارية وقانونية تخص الجماعة في مصر أو التنظيم الدولي، وتخص الهيكل الإداري للجماعة والتنظيم الداخلي لها وكيف لم يطرأ عليه في أساسه ومجمله تطوير يذكر أو تغيير يمكن الإحساس به على الرغم من حدوث تغيرات جوهرية شاملة في كل شيء في مصر وغير مصر.
وردودهم تأتي كالعادة طلقات موجهة للسائلين تحتوي على نفس العبارات المكررة المحفوظة التي لا يقتنع بها معظم الناس!
لماذا لم تفكر الجماعة في إعادة كتابة تاريخها، ليس بالضرورة بتصحيح وقائع أو الاعتذار عن تصرفات، ولكن على الأقل بمزيد من التوثيق العلمي ومزيد من التوضيح لظروف معينة وإلقاء الضوء عليها، لخدمة البحث المنهجي بصورة عامة، ثم لخدمة الجماعة نفسها، بدلا من التبرير المستمر والدفاعات المحفوظة المكررة التي لم يعد لديهم غيرها وكثير منها لا تقنع الكثيرين.
وقد قرأت للبعض كلامه عن "مراجعات" للإخوان قبل مراجعات الجماعة الإسلامية والجهاد، وكنت أظن أنه أمر فاتني، ولكنني اكتشفت أن هؤلاء يقصدون "بيانات" أو "إعلانات" أو "وثائق" أصدرتها الجماعة في السنوات الأخيرة، تحت وطأة الهجوم والاتهام بأنها ليس لها برنامج سياسي واقتصادي معاصر وشامل، أو لبيان وجهة النظر في بعض القضايا المثارة.
وهذا في الواقع لا يمثل أي "مراجعة" حقيقية مما نقصده هنا، ولكنه أشبه "بوثائق" الأزهر منذ قيام ثورة 25 يناير، والتي جاء فيها الأزهر بكلام أشبه بمرقعة الدراويش لإثبات أن الإسلام دين لا يتعارض مع الديمقراطية، وكان الدافع الواضح هو إرضاء الساسة والفصائل والوقوف موقفا وسطا بينهم ولأغراض وقتية بحتة، لأن فض إشكالية الحكم والسياسة في الإسلام هو معضلة تاريخية وفكرية بالغة التعقيد يستحيل أن يقنعنا مجمع البحوث بأنه اجتمع بضع جلسات لكي ينهيها ويحسمها في صفحات قليلة ويقطع قول كل خطيب!
إنه مرة أخرى "تسييس" الأزهر موديل 2011 و2012 بعد "تسييسه" موديل السنوات الأخيرة من حكم مبارك، لا أكثر ولا أقل!
وإذن، فبيانات الإخوان و"برامجهم" في السنوات الأخيرة يتضح فيها الافتعال والبراجماتية، ويغيب عنها بعد التأصيل العلمي الفقهي العميق، وبالتالي فلا هي مراجعات ولا يحزنون.
وإذا كان لنا أن نجتهد لتحليل الدوافع وراء هذا الامتناع أو هذا التقاعس، فنعتقد أنه يكمن وراء ذلك أسباب عدة، ربما يكون لهم عذر في بعضها، من قبيل عدم الاستقرار الأمني وعدم التفرغ لذلك، إلخ، ولكن بعضها الآخر لا يعذرون فيه، ومن ذلك:
1 – نمو ما يمكن تسميته بمزيج من عقدة الاضطهاد وعقدة التفوق، بحكم ما مروا به من عقود طويلة من السجن والإعدام والتعذيب والتشريد والاعتقال والنفي الاختياري أو القسري والاضطهاد وحملات التشويه، إلخ، مما أكسبهم، مع تلقين ذلك لكوادرهم، شعورا نفسيا متناميا بأن ذلك كله إنما يجري معهم بسبب تمسكهم بعقيدة دينية سليمة ورغبة في إصلاح المجتمع على غير هوى الحكام، دون أن يكون لذلك أي علاقة من قريب أو بعيد ب"أخطاء" ارتكبوها أو "زلات" وقعوا فيها، أو "سوء تقدير للموقف" أحيانأ، ولو حتى في إطار السياسة، ثم تحول هذا الشعور إلى ما شبه "المزاج" النفسي المهيمن عليهم والمستمر معهم حتى ولو تغيرت الأوضاع من حولهم.
وهذا المزاج لا يشجع صاحبه على أن يكترث أو يبادر بإفهام الآخرين وتوضيح موقفه وشرح نفسه وتبرير تصرفاته، إذ تسيطر عليه دائما مشاعر يوقن معها أن الآخرين يهاجمونه "دائما" بدون وجه حق، لأنه دائما "على حق" وهم دائما "على باطل"!
2 – سبب طبيعي لذلك هو "المكابرة"، ولكاتب هذه السطور مقال عالج فيه داء المكابرة في قالب طريف ساخر لتبسيط هذه الآفة للناس وتحذيرهم من شرورها وتنبيههم إلى ما يتأتي عنها من كوارث (راجع في موقع صحيفة مصرنا مقال: الدكتور سعيد عبده والطبيب أبو جهلان!)
ومع استعدادي شخصيا للإنصات لدفاعاتهم في مسائل كثيرة، وتقبلها أحيانا، لا أعتقد أن ادعاء جماعة الإخوان صحيح في نفي هذه التهمة عنهم بالذات وتبرؤهم منها وإرجاعهم لها – كعادتهم – إلى حقد الآخرين عليهم ورغبتهم في تشويههم، إلخ.
هذه الآفة موجودة لدى أفراد كثيرين، ولدى كيانات وتنظيمات أخرى بالطبع، ولكننا بمنتهى الموضوعية لا نكاد نذكر لها نموذجا صارخا زاعقا مثل جماعة الإخوان المسلمين!
والمسألة باختصار أن الذين يرون أن الجماعة – على مستوى قيادتها المركزية و"دماغها" المحرك أو مستوى أفرادها – لها أخطاء كبيرة أو صغيرة هم تقريبا فقط أولئك الذين انشقوا عنها أو اختلفوا معها، ناهيك طبعا عن خصومها وآخرين من الباحثين الذين يسعون للموضوعية بين ذكر المحاسن والمساوئ أو المناقب والمثالب، فأما قياداتها وكوادرها وجمهور أعضائها فهم يصمتون عن ذلك تماما ويرفضون الخوض في أي عيوب أو أخطاء أو ينبرون بلا هوادة في صد الهجوم بهجوم أعنف، ناسبين لأصحاب النقد اتهامات بأشياء كثيرة، من الغباء والجهل وقلة الفهم إلى العمالة إلى كراهية الإسلام نفسه!
هذا الاقتناع الراسخ لدى الجميع تقريبا بتحكم هذه الآفة الخطيرة من الجماعة ليس وليد اللحظة ولكنه تراكم عبر العقود الطويلة وبتجربة الاحتكاك الطويلة بين باحثين وساسة وناشطين، إلخ، وكوادر إخوانية، ولذلك فليس فيه ذرة من شبهة ظلم لهم أو افتراء عليهم.
ويتصل بذلك حقيقة أخرى تتمثل في "حديدية" التنظيم في هذه الجماعة، وعدم سريان روح الحرية الفردية وحرية النقد والاعتراض وإبداء الآراء بحرية، فهو تنظيم هرمي يقوم على الولاء المطلق من الأعضاء للدماغ المحرك (المرشد ومكتب الإرشاد والقيادات ذات النفوذ والقوة)، ولا مجال لأي اعتراض أو انتقاد أو رأي حر، بل هو التزام "شبه عسكري" يلغي فيه الأعضاء عقولهم ويلتزمون فقط "بتنفيذ" ما يصدر من أوامر، ويستغل في ذلك الوازع الديني، بعد أن تكون قد جرت تربية هؤلاء الأعضاء داخل هذا القفص الحديدي تربية مزدوجة دينية/تنظيمية فلا يستطيع الأعضاء لاحقا التفرقة السوية بين ما هو ديني تجب فيه طاعة الله تعالى والرسول صلى الله عليه وسلم وما هو تنظيمي تجب فيه طاعة القادة الذين ذكرناهم، وهناك دائما عقيدة أن "الكبار" يفهمون ما لايفهمه "الصغار" وعندهم الصورة أوضح وأشمل وعلى الصغار السمع والطاعة دون مناقشة، وهو أمر ندرك جميعا كمسلمين أنه يخالف القرآن والسنة وسيرة الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم، الذي أمره ربنا بمشاورة أصحابه، حتى مع كونه نبيا ينزل إليه الوحي.
3 – مما له صلة بذلك أيضا تغليب جانب "التنظيم الشكلي الصارم" على جانب "الفكر" في الجماعة، ولعل هذا كان يجدر به أن يكون السبب الأول، لكننا سردنا الأمور بتتابع طبائعها.
ولعل هذا السبب يشرح لنا أمرا مثيرا للذهول لا نعتقد أن الإخوان بمقدورهم أن ينكروه لأنه واقع محسوس، وهو أنه بعد أن وضع الإمام الراحل حسن البنا (1906 – 1949) الأسس الفكرية لهذه الجماعة منذ تأسيسها، نكتشف أن مؤلفات المرشدين التالين له تبدأ في التناقص والتضاؤل، كما وكيفا، مع مرور السنين.
ويستحيل أن يقنعنا أحد أن كل ما كتبه حسن البنا قبل نحو 60 عاما أو 70 عاما لا يزال صالحا بلا تغيير أو تطوير أو إعادة نظر في ضوء مستجدات ومستحدثات وتطورات، بل وانقلابات فكرية واجتماعية وعلمية هائلة في العالم كله.
للأستاذ البنا مشروع فكري ضخم لا يشكك فيه أحد، وغير صحيح أنه يقتصر على رسائله و"مذكرات الدعوة والداعية"، بل يمتد وراء ذلك إلى قرابة 20 مجلدا صدرت حتى الآن حسبما أبلغنا بعض أصدقائنا ولا تزال تصدر تباعا عن دار نشر إخوانية، تتتبع كل ما كتب البنا من مقالات في الصحف وأحاديث، إلخ.
أين المؤلفات الفكرية عالية القيمة والمؤثرة والمتطورة – من نوعية تلك التي تذكرنا بالأفغاني ومحمد عبده ورشيد رضا والبنا نفسه، إلخ - بعيدا عن مجال الوعظ والتاريخ والرقائق والنصائح الدعوية - للمرشدين التالين على الأستاذ البنا رحمه الله، وهم:
1 – حسن الهضيبي
2 – عمر التلمساني
3 – محمد حامد أبو النصر
4 – مصطفى مشهور
5 – مأمون الهضيبي
6 – محمد مهدي عاكف
7 – محمد بديع
بل أين "التأهيل" الشرعي الحقيقي للقيادات والكوادر، بخلاف قراءات متناثرة غير ممنهجة ولا منتظمة في كتب تفسير وفقه وحديث وتراث الإخوان الدعوي؟ لا شك أن التنظيمات الإسلامية الأخرى أدركت هذه المشكلة فحاولت – بنسب متفاوتة من النجاح والإخفاق – في أن تسد لديها فجوة معرفية وشرعية شبيهة بما في الإخوان، فكان أن انكب كوادرها على التعمق بمنهجية في العلوم الشرعية مع انفتاح بعضهم أيضا على ثقافات أوسع وأعرض، وإن كانت لدينا تحفظات على بعض هؤلاء أيضا لكن هذا ليس سياقها.
أين المفكرون في الجماعة، وأين الأدباء البارزون، وأين المبدعون في مجالات العلوم والآداب والبحوث، بعيدا عن وجود "كوادر جامعية أو مهنية تقليدية" بالآلاف ليس منهم نابغة أو عبقري إلا قليلا؟
أين إصداراتهم؟ أين ثقافتهم؟ أين ندواتهم الفكرية الحرة التي تتسع للجميع؟
مع جماعة لها 85 سنة في الفضاء الإسلامي بتأثير اجتماعي وسياسي كبير، كان من المنتظر منها أن تكون قد أجابت، بعد عكوف طويل، على معضلات، مثل: هل الجماعة من حيث بنائها الفكري "دعوية" أم "إصلاحية" أم "ثورية" أم "انقلابية"؟، قضايا المرأة والطفل، الفنون المختلفة، الرياضة، الاقتصاد والمصارف، الفكر والأدب، الحكم والسياسة، التشريع، الزي الشرعي، التعامل مع الاستبداد ومع القوى العالمية والاستعمار والاستغلال، ومع العقائد الأخرى، سواء ديانات ذات أصل سماوي، أو أديان وضعية أو مذاهب مخالفة، البروتوكول والأعراف الدبلوماسية، المنظمات الدولية، الحدود بين الدول الإسلامية، التعامل مع المجتمع الدولي المعاصر، المعاهدات، قضية فلسطين، الأنشطة السياحية، كيفية التعامل مع سلوك الأفراد بعد عقود من العلمنة والتغريب، الحريات المدنية والشخصية، الحسبة، كيفية تطبيق الشريعة ولو بالتدريج، ولاية المرأة وغير المسلم، التعامل مع غير المسلمين، إلخ.
والجماعة لا تكلف منتقديها عناء كبيرا في الواقع، إذ لا يكاد يمر يوم دون أن تعطي بنفسها وعن طيب خاطر نماذج جاهزة تبرر الانتقاد والهجوم والإنكار! وهي تفشل في تقديم صورة واحدة محددة ل"المشروع الإسلامي" الذي تتكلم عنه كثيرا جدا دون أن تشغل بالها بمساع مضنية وجادة لبلورة مثال له.
وحتى لا يظن أن مقالنا هو مجرد حالة جديدة من الهجوم الذي اعتادت عليه الجماعة دون أن يحرك فيها ساكنا، وحتى لا يتم تصنيفنا ضمن "الحاقدين" أو خصوم المشروع الإسلامي، مع أننا يشهد الله تعالى أننا إسلاميون وتشهد مقالاتنا وكتبنا ودراساتنا بذلك، والنيات موكول أمرها إلى علام الغيوب، نعمد إلى توجيه اقتراح محدد نطرحه عليهم، وهو أن يشرع مجلس الإرشاد في تشكيل لجنة من باحثين مرموقين من داخل الجماعة ومن خارجها، يكون معيارها الكفاية لا الثقة، لوضع مجلد ضخم، من حقهم أن يكون عنوانه مثلا "الكتاب الأبيض للجماعة"، يتم فيه استعراض تفصيلي موثق لتاريخ الجماعة – الواقعي والفكري على السواء – منذ تأسيسها وحتى الآن، وعند كل تفصيلة يتوقف الكتاب ليقول مثلا: أخطأنا هنا – لم يكن قرارنا هنا للموقف صائبا – هنا كنا مضطرين لما فعلناه ولكن الناس يلوموننا لأنهم غابت عنهم اعتبارات هي كذا وكذا – هذه القضية الفكرية قصرنا في التعامل معها، وهكذا.
إن كل ما نقوله في هذا المقال ليس معناه على الإطلاق أننا ننكر على القوم أن لهم حسنات منها مثلا مشاركتهم في الجهاد في حرب فلسطين ودورهم في المؤسسات الاجتماعية الأهلية ودورهم في تربية أجيال على الأخلاق والفضيلة، وأنهم على المستوى الفردي منهم من جاهد مخلصا دفاعا عن دينه وقضايا مجتمعه ومنهم من كانت مناقبه ومآثره الشخصية محل إجماع وتقدير، إلى آخر ذلك، ولكن معناه أمر آخر تماما هو أن تاريخهم من الضخامة والطول وأهمية جماعتهم من البروز والسطوع والتشابك مع تاريخ مصر المعاصر بحيث شمل ذلك فجوات فكرية وتراجعات في المواقف وتناقضات في التصرفات، وغير ذلك، مما يستوجب بشدة، مع طول تلك الفترة الزمنية، أن يراجعوا كل ما يتعلق بهم، خدمة لمستقبل جماعتهم قبل أن يكون ذلك خدمة للبحث العلمي والواقع السياسي والاجتماعي.
عليهم أن يبددوا الشكوك ويزيلوا الغموض في كثير مما يحيط بجماعتهم.
في مقال سابق لي، وقبل ثورة يناير، تساءلت مفترضا افتراضا كان شبه خيالي آنئذ، وسبحان الله لقد تحقق على غير توقع الجميع (!)، وهو كيف يتصرفون في المليون ملف شائك التي تنتظرهم إذا حدث فجأة أن وصلوا للحكم؟!
وهاهم وصلوا.
ولكن التحديات أمامهم هائلة، الفكرية قبل السياسية.
وأولها أن يصدروا "كتابهم الأبيض"، بعد أن دبج الكثيرون عنهم "كتبا سوداء".
ولا نعتقد أننا نبالغ إذا قلنا إن مثل هذه "المراجعات" أو مثل هذا "الكتاب الأبيض" – بالشروط والضوابط العلمية التي أوضحناها - يتوقف عليه مستقبل الجماعة نفسها.
مرة أخرى، وليست أخيرة، متى نرى مراجعات جماعة الإخوان المسلمين؟!