تُرجم التلمود للعربية ، فقال البعض : "حسبنا الله ونعم الوكيل" !
| |
التلمود | |
بقلم : معتز شكري
.....................
لفت نظري وأنا أتابع تعليقات القراء على شبكة الإنترنت ، بمناسبة صدور أول ترجمة عربية كاملة في الأردن مؤخرا للتلمود البابلي ، في عشرين مجلدا ضخما ، بعد سنوات من الجهد الدؤوب لأكثر من 90 مترجما وباحثا ، أنه في حين أثنى معظم القراء على هذا الإنجاز العلمي الذي سيساعدنا على مزيد من فهم عدونا الاستراتيجي ، وخلفيات عقيدته الدينية ، جاءت تعليقات عدد منهم صادمة.
قال أحدهم كيف تنفقون هذا الجهد والمال لترجمة كتب دينية محرفة ؟! بينما قال آخر للتعبير عن سخطه وحسرته : ترجمة للتلمود ، وفي الأردن ؟ حسبنا الله ونعم الوكيل !
صحيح أن هذه التعليقات السلبية كانت محدودة وأن الغالبية العظمى رحبوا بصدور الترجمة كعمل علمي فذ وتطبيق عملي لشعار (اعرف عدوك) ، إلا أن مجرد وجود فئة في مجتمعاتنا العربية والإسلامية ، وإن تكن قليلة ، تفكر بهذه الطريقة يثير الكثير من القلق والأسف.
لانريد أن نتسرع فنوجه الاتهام جزافا إلى ما صار يعرف "بالتيار السلفي" ، لأن كثيرا ممن نعرفهم من رموزه لا يتبنون هذه النظرة الضيقة الأفق ، ولكن المشكلة أن هذا التيار "عباءة" واسعة جدا يصعب تصور تبنيها لفكر واحد ، وهي مشكلة ناتجة عن تركيز هذا التيار على "الشكل" دون "المضمون" ، وهو ما يفسر أن الغالبية الساحقة من جمهوره هم العوام.
هناك فعلا من يفكر بهذه الطريقة المناقضة لمبادئ الإسلام نفسه ، ويرى أن أي تعامل مع نصوص العقائد الأخرى ، بالبحث والترجمة والتأليف ، ينطوي على مخالفة للدين وإهدار للوقت والمال ، ويجتزئون أحاديث ونصوصا يسيئون فهمها وتطبيقها ، وينسون أن القرآن استفاض في عرض عقائد الآخرين وتفنيدها بأسلوب علمي ومحاججة منطقية راقية ، كما ينسون أن نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم أمر الصحابي الجليل زيد بن ثابت بتعلم اللسان السرياني ، وأنه ورد في الأثر "من تعلم لغة قوم أمن مكرهم". وينسون كذلك أننا في كارثة 1967 دفعنا ثمنا فادحا للجهل المطبق بعدونا الذي كان يعرف عنا كل شيء ، وهو ما دعا الأستاذ أنيس منصور رحمه الله في ذلك الوقت إلى تنظيم معارض كتب متنقلة تجوب محافظات مصر تحت شعار "اعرف عدوك".
والتلمود – الذي يعني بالعبرية "التعليم" - ليس مجرد كتاب دين يهودي ، بل لا نبالغ إذا قلنا إن أهميته في حياة اليهود تفوق أهمية التوراة ، وإن اليهودي المعاصر هو إلى حد كبير "شخصية تلمودية" ، لأنه ببساطة يتضمن "الشريعة الشفوية" (المشناه) ، التي يراها حاخامات اليهود مساوية في المنزلة للشريعة المكتوبة ، علاوة على الشروح والتفسيرات (الجماراه) ، التي وضعهاعلماء الدين اليهود على مر القرون ، بل وصل الأمر إلى أن التلمود نفسه يتضمن ما يفيد أنه كان وحيا من الروح القدس مثله مثل التوراة ! ومن المهم أن نعرف أن المدارس الدينية في إسرائيل ، المعروفة باسم "يشيفوت" ، هي مدارس "تلمودية" ينشأ فيها الأطفال على التعصب وعقدة التفوق وكراهية الآخرين ، وبالذات العرب والمسلمين.
وهناك تلمودان – طبقا للمكان الذي بدأ فيه التدوين – بابلي وفلسطيني ، والبابلي أهم وأضخم ويبلغ في الحجم ثلاثة أمثال التلمود الفلسطيني. وللأسف ظل العالم العربي مفتقدا لأي ترجمة كاملة للتلمود ، ويقتات فقط ولعقود طويلة على كتاب "الكنز المرصود في قواعد التلمود" من تأليف الدكتور روهلينج ، والذي ترجمه عن الفرنسية الدكتور يوسف حنا نصر الله ، وهو كتاب يعطي فكرة شديدة العمومية فقط ولا يتضمن سوى شذرات متناثرة عن بعض ما جاء في التلمود.
ومن حسن الحظ أننا بدأنا في مصر ، منذ نحو ثلاثة عقود وبعد جيل الرواد الأوائل من أمثال د. حسن ظاظا و د. فؤاد حسنين علي ، ومرورا بالجهود الموسوعية للدكتور عبد الوهاب المسيري ، نجني ثمار الدفعات التي تخرجت في أقسام اللغة العبرية والدراسات اليهودية بالجامعات ، والتي نبغ منها علماء متميزون بدأوا يحتشدون لإخراج مؤلفات ومترجمات ودراسات بالغة الأهمية ، منها ترجمات شبه كاملة ولأول مرة للتلمود.
ومع أن طبعة مركز دراسات الشرق الأوسط بالأردن فرضت نفسها كأكمل ترجمة عربية دقيقة وبمنهج علمي للتلمود البابلي ، نقلا عن العبرية والآرامية ، لدرجة أنها فاجأت مراكز الأبحاث والجامعات الإسرائيلية وشرعوا على الفور في اقتناء نسخ منها ، إلا أننا يجب أن ننصف باحثينا المصريين الذي سبقوا الأردنيين في إصدار ترجمات متتابعة لأهم أجزاء التلمود ، صدر بعضها عن مكتبة النافذة قبل أعوام للدكتور مصطفى عبد المعبود وتقديم الدكتور محمد خليفة حسن، وبعضها الآخر عن مكتبة مدبولي قبل عام على يد الدكتورة ليلى أبو المجد والأستاذ علاء تيسير. وكل ما في الأمر أننا في مصر صرنا نفتقد العمل الجماعي المؤسسي الذي كان يجب أن تحتضنه الدولة بإمكانياتها ، وهو ما عانى منه المتخصصون عندنا واكتفوا بمبادراتهم الفردية ، ومنعهم ذلك من أن يكونوا هم السابقين إلى هذا الإنجاز بشكله المتكامل.
ولكن هذا لا يهم الآن ، والأردن جزء من أمتنا العربية ، ولها كل الثناء والعرفان والتقدير ، المهم فقط أن نستفيد جميعا عربا ومسلمين من هذه الجهود العلمية ونعيد قراءة تراث عدونا ، لأن العلم قوة والجهل ضعف. أما الذين يرفضون العلم والبحث وإعمال العقل والأخذ بالأسباب ، ويريدون أن يجرونا للوراء إلى حيث مزيد من الجهل والتخلف والهزيمة ، فنحن الذين نقول لهم بملء الفم : حسبنا الله ونعم الوكيل !