المواطنون يتقدمون للمحرقة .. والحكومات تقدم الكبريت !
بقلم : معتز شكري
.....................
منذ أشعل محمد البوعزيزي النار في نفسه ، وقدم نفسه وجسده وقودا لأتون ثورة مباركة – مع كونها دامية – في تونس الحبيبة لاتزال مشتعلة الأوار حتى الآن ، في غضبة مجيدة من غضبات الشعوب الأبية ، والعدوى تسري إلى بلدان عربية أخرى سريان النار في الهشيم. وصرنا لا نصحو كل صباح إلا على نبأ مواطن عربي يضرم النار في نفسه احتجاجا على ما يتعرض له من الظلم أو الفقر أو التعذيب أو الاضطهاد.
الغريب في الموضوع أن البلدان الأخرى – غير تونس – التي حدثت فيها هذه الحالات صارت لا هم لها إلا أن تنفي بشدة أي وجه للشبه بينها وبين تونس ، وصارت جوقة طباليها وزماريها لا هم لهم إلا أن يثبتوا للناس بالبيان الناصع والبرهان الساطع والدليل القاطع أن الظروف مختلفة تماما والأوضاع متباينة بشكل مطلق وجذري !
وصار المواطنون المحترقون أمام مجالس البرلمان أو مجالس الوزراء أو الهيئات هم في نظر تلك الحكومات : مخبولين مهووسين ، لهم تاريخ مرضي حافل بانفصام الشخصية والأفكار النكدية السوداوية ، يعني في النهاية "شغل مجانين" ليس لهم مكان إلا مستشفى المجانين !
لم نسمع حكومة تعترف بالتقصير أو تبحث عن سبل لتحسين حياة الناس ، بل دائما ( ليس في الإمكان أبدع ولا أروع مما كان ! ) ، ودائما يزور المسئولون ضحايا محاولات الانتحار هذه في المستشفى للتعبير عن التعاطف والإشفاق ولحث الأطباء وإدارة المستشفى على بذل أقصى الجهد والرعاية والعلاج لتعجيل الشفاء !
ولذلك وصل فقراء بلادنا من اليأس والإحباط والشعور بالقهر ما جعلهم يرون أن باطن الأرض خير لهم من ظهرها وأن أفضل مكان لهم هو القبر !
إنه الفقر أيها الأصدقاء الأعزاء .. قاتله الله !
آه من الفقر .. لو كان الفقر رجلا لقتلته !
والمصيبة أن يقترن الفقر باليأس والشعور بالقهر ..
عيني على الفقر في بلداننا العربية ..
صحيح أن الفقر موجود في كل مكان ، ولكنه في بلادنا أقسى وأشد ليس فقط لأن
( الناس اللي فوق ) لا يشعرون ( بالناس اللي تحت ) ، ولكن أيضا لأن الخير الذي يرتع فيه ( الناس اللي فوق ) هو أصلا من تعب وعرق وشقاء وعافية (الناس اللي تحت ) !
بل حتى لو كان الفقير صاحب علم وفضل وأخلاق ، فإن ذلك كله لا يشفع له في بلادنا ، بل يظل حاله كما قال الشاعر القديم :
يقولون لي : أنت بين الورى بعلمك كالليلة المقمرة
فقلت : دعوني من قولكم فلا علم إلا مع المقدرة
فلو رهنوني وعلمي معي وكل الدفاتر والمحبرة
على قوت يوم لما أدركوا قبول الرهان إلى الآخرة !
فأما الفقير ، وحال الفقير وعيش الفقير ، فما أكدره
ففي الصيف يعجز عن قوته وفي البرد يدفأ على المجمرة
تليه الكلاب إذا ما مشى ذليلا مهانا ، فما أحقره
إذا ما شكا حاله لامريء وبين عذرا فلن يعذره
إذا كان هذا حياة الفقير فأصلح مكان له المقبرة !
ولكن الحكومات للأسف لم تفهم الرسالة حتى الآن !
أو ربما فهمتها على نحو آخر : وهو تحديدا ضرورة التحسب لمثل هذا اليوم ، فقط بالحسابات السرية والملاذات الآمنة وسرعة التحرك ورسم السيناريوهات المتقنة للخروج الآمن وعقد الصفقات مع من يقدم في تلك اللحظات حلولا للمشكلات !
وهم ينسون أن ذلك كله لم ينفع طاغية تونس وعائلته وزبانيته ، بل تخلى عنهم أوثق حلفاء الأمس وأقرب الناس إليهم ، فيما يعد آية من آيات الله ودرسا قاسيا ومؤثرا لكل طاغية.
أما أن تفهم الحكومات الرسالة على أنها دعوة للاستقالة أو طلب للرحيل ، لإتاحة الفرصة لآخرين لخدمة الشعوب ، ولتداول السلطة سلميا ، وللنهوض الحقيقي بهذه البلدان "النايمة" – لا النامية" - فللأسف نظم الحكم العربية في هذا السياق ( سمعها تقيل ) و (فهمها على قدها ) ، ولا تتحرك – إذا تحركت – إلا بعد خراب مالطا !
لم أتخيل الحكومات العربية (مطافيء) تسرع بخراطيم الماء – أقصد معنويا - لإنقاذ من يحرقون أنفسهم غضبا لأوطانهم وفداء لبلدانهم ، ومنعا لآخرين من الوصول لهذا القدر المميت من اليأس القاتل ، ولإطفاء الحرائق المشتعلة في الأوطان نفسها من الظلم والنهب والتعذيب والتخريب ، وكل ما أسعفني به خيالي – وأنا أجد الأنظمة مصرة على المضي قدما في ظلمها وبطشها – هو مشهد المطرب الشهير الراحل فريد الأطرش وهو يقدم علبة كبريت ضخمة إلى شادية عندما قالت له مهددة :
حاولع في روحي يا قلبي وعينيا
فأجابها من فوره – وهو يخرج أكبر علبة كبريت في الدنيا من جيبه ويبادر بإخراج عود ثقاب كبير وإشعاله :
لا ، إوعي يا روحي دا واجب عليا !
نحن نقول للحكومات : شكرا لا نريد ( كبريتكم ) ، ولكن الحكومات بتصرفاتها تقول : عيب ، ده واجب علينا ، ولا شكر على واجب !