مطبوعة الكترونية عربية مهتمة بموضوع المواطنة وتداول السلطة القانونى وحرية التعبير  فى العالم العربى  .. تصدر من الولايات المتحدة الأمريكية عن المركز الأمريكى للنشر الالكترونى .. والأراء الواردة تعبر عن وجهة نظر أصحابها.
............................................................................................................................................................

 
 

 تونس : تاريخ حافل .. من الفينيقيين .. إلى "ثورة الياسمين"

 

شكري

 

بقلم : معتز شكري
.......................

تعد تونس - التي تتجه إلها أنظار العالم كله الآن بعد الأحداث الكبيرة التي شهدتها خلال أقل من شهر والتطورات الدرامية التي لا تزال تمر بها - هي أصغر بلدان المغرب العربي من حيث المساحة (أكثر قليلا من 164 ألف كيلومتر مربع)، ومع ذلك فهي تملك تاريخا عريقا وحافلا ، من واقع الحضارات التي قامت على أراضيها والدول التي حكمتها ، وهو ما أورثها سجلا اجتماعيا وثقافيا غنيا ، فكم مر عليها من غزاة ووفد إليها من أجناس وأعراق وجيوش ، بدءا من الفينيقيين ، ومرورا بالرومان ثم البيزنطيين ، فالعرب ، ثم الأتراك العثمانيين ، وأخيرا المحتلين الفرنسيين قبل أن يحكمها أبناؤها لأول مرة بعد الاستقلال الذي حصلت عليه قبل حوالي خمسين عاما.

وفي العصور الحديثة نمت تونس وتطورت كواحدة من أهم المقاصد السياحية المطلة على البحر الأبيض المتوسط ، ونجحت في جذب الملايين من الأوروبيين المتعطشين للأجواء الدافئة على شواطئها الساحرة. كما مثلت تونس ولا تزال تمثل لكثير من الرحالة الغربيين محطة وسيطة ونقطة انطلاق نحو الجزائر ومن ثم إلى الطرق الجنوبية في إفريقيا.

ونقطة البداية المهمة في تاريخ تونس العريق تبدأ من مدينة قرطاج
العتيقة ، التي كانت قديما المنافس الرئيسي لروما. وتقع قرطاج على بعد
عدة كيلومترات من موقع "تونس" العاصمة الحالية ، وقد بدأت حضارتها منذ سنة 814 قبل الميلاد تقريبا باعتبارها واحدة من المواقع المهمة لحضارة الفينيقيين ، والتي كان يقع مركزها فيما يعرف الآن بسوريا ولبنان. وقد ظلت بعيدة عن الأهمية إلى أن استولى عليها الآشوريون في القرن السابع قبل الميلاد ، ونتيجة لذلك ، تطورت قرطاج حتى غدت المدينة الرئيسية للعالم الفينيقي ، حتى أن عدد سكانها في ذروة ازدهارها بلغ وقتئذ نحو نصف مليون نسمة.

وبحلول القرن السادس قبل الميلاد ، أصبحت قرطاج هي القوة الرئيسية في
منطقة غرب البحر المتوسط ، وهو ما فرض عليها صراعا حتميا مع الإمبراطوية الصاعدة لروما في ذلك الوقت.

وقد انخرطت القوتان في حرب دامية عنيفة دامت نحو 128 سنة فيما عرف
بالحروب البونية ، والتي نشبت سنة 264 قبل الميلاد. ونجح قائد قرطاج
الأسطوري هانيبال - ويكتب اسمه أحيانا "حنيبعل" - في إذلال الرومان عقب غزوه لإيطاليا سنة 216 قبل الميلاد ، إلا أن هذه الحروب الطويلة انتهت في خاتمة المطاف لصالح الرومان الذين لم يظهروا أي رحمة بالقرطاجيين عقب سقوط دولتهم في سنة 146 قبل الميلاد ، فقد دمروها وسووها بالأرض تماما وباعوا سكانها عبيدا في أسواق النخاسة !

وأعاد الرومان المنتصرون بناء قرطاج كمدينة رومانية خالصة لتصبح عاصمة مملكتهم في إفريقيا ، في موضع يعتبر أقرب ما يكون إلى مكان دولة تونس الحالية.

وتحولت قرطاج في عهدها الجديد هذا إلى سلة خبز الإمبراطورية الرومانية
التي استغلت خصوبة سهولها الصالحة لزراعة الحبوب. وتعد بقايا المدن التي بناها الرومان على هذه السهول ، مثل "دوجة" ، من بين عناصر الجذب السياحي في تونس حتى الآن.

بعد ذلك ، جاءت قبائل الوندال من الشمال بعد عبورها مضيق جبل طارق
لتغزو تونس في سنة 439 ميلادية واتخذوا منها عاصمة لمملكتهم التي أسسوها في الشمال الإفريقي ، واستمر ذلك إلى أن أطاح بهم البيزنطيون سنة 533 م .

ولكن البيزنطيين في حقيقة الأمر لم يتمكنوا طوال حكمهم لقرطاج (تونس
القديمة) إلا من السيطرة على نقاط قليلة لم تكن تخضع لهم دائما ، ولذلك
فلم يبد البيزنطيون مقاومة تذكر عندما جاء من الشرق العرب المسلمون
فاتحين للشمال الإفريقي حوالي سنة 670 م ، وحكموها من مدينة القيروان
الواقعة على بعد 150 كيلومترا جنوبي قرطاج.

وأثبت العرب أنهم أشد الفاتحين تأثيرا ونفوذا ، فقد تمكنوا من إدخال
الإسلام وكذلك النظم الاجتماعية التي لا تزال تشكل أساس حياة التونسيين
حتى اليوم.

وفي أعقاب تفتت الإمبراطوية الإسلامية الكبيرة سياسيا ، صارت تونس هي
الجناح الشرقي لإمبراطورية جديدة تشكلت منذ القرن الحادي عشر وكانت
المغرب مركزها ، وهي دولة الموحدين.

وعين الموحدون أسرة للحكم كولاة من قبلهم في تونس ، وهي أسرة الحفصيين التي سرعان ما استقل ولاتها بحكم تونس منذ 1207 حتى 1574 م ، والتي كانت فترة من الاستقرار والازدهار.

وجاء العثمانيون لينزلوا الهزيمة بالحفصيين ، فدخلت تونس منذ ذلك
الوقت ، أواخر القرن السادس عشر الميلادي ، في مرحلة تمخضت فيها العلاقة بين الدولة العثمانية والتونسيين عن نوع جديد من الحكام هم من عرفوا بالبايات ، وهم في الأصل طبقة محلية رفيعة من الإنكشارية التركية التي كانت تشكل الجناح المحترف للجيوش العثمانية. وبحلول القرن الثامن عشر ، اندمجت هذه الطبقة مع السكان لينتج عنهم نظام ملكي وراثي عرف بالبايات الحسينيين. وفي تلك الفترة ، اكتسبت تونس سمعة سيئة كمعقل من معاقل القرصنة في البحر والتي هددت التجارة في البحر المتوسط.

وبعد وصول الفرنسيين إلى الجزائر في القرن التاسع عشر ، سعى البايات
في تونس إلى تجنب أي مواجهة معهم حتى لا يعطوهم ذريعة لاحتلال تونس.
ونجحوا بذلك في تأخير الاستعمار التونسي لعدة سنوات عن طريق تجريم
القرصنة ومحاولة إدخال النظم الغربية في الإدارة ، ثم إصدار دستور للبلاد
في 1857 ، إلا أن إخفاقهم في تسديد الديون التي تراكمت عليهم من القروض الأجنبية أعطت الفرنسيين أخيرا الذريعة التي كانوا ينتطرونها فاحتلوا تونس في عام 1881 ، وصارت تونس محمية فرنسية في عام 1883.

وفي الثلاثينيات من القرن العشرين، نشأت الحركة الدستورية الجديدة
بقيادة الحبيب بورقيبة (المولود 1903 والمتوفى 2000) ، والذي كان قد تخرج في السوربون بفرنسا وعمل محاميا.

وحظر الفرنسيون الحركة بالطبع وسجنوا بورقيبة ، إلا أن الحركة ازدهرت
وانتعشت لمدة قصيرة خلال احتلال الألمان لتونس في الحرب العالمية الثانية ، حيث أفرج عن بورقيبة وعين البايات وزراء من الحركة الدستورية الجديدة.

وقد انتهى ذلك كله بانتصار الحلفاء نهائيا في الحرب العالمية الثانية على
جبهة شمال إفريقيا ، وتم إبعاد بورقيبة إلى المنفى خارج البلاد.

وتمكن بورقيبة من إدارة ثورة في شكل حرب عصابات ضد الاحتلال الفرنسي ، من منفاه الاختياري بالقاهرة ولمدة سنتين كاملتين أوائل الخمسينيات ، وهو ما اضطر الفرنسيين إلى منح تونس حكما ذاتيا سنة 1955. وعاد بورقيبة إلى تونس لتزعم الحكومة الجديدة ، وما لبثت تونس أن حصلت على استقلالها بعد ذلك بعام ، أي في عام 1956 بتوقيع وثيقة الاستقلال عن فرنسا بعد حماية دامت 75 عاما. وفي عام 1957 ، تم إلغاء الملكية وإعلان الجمهورية ، فخلع محمد الأمين باي واختير بورقيبة أول رئيس للجمهورية وكان ذلك في 25 يوليو1957.

واستمر حكم بورقيبة ، الذي سعى خلاله لتحديث تونس وإجراء إصلاحات
جذرية سياسية واجتماعية ، حتى 7 نوفمبر 1987 عندما قاد وزير الداخلية في ذلك الوقت وأقوى شخصية في البلاد زين العابدين بن علي انقلابا سلميا أطاح ببورقيبة بعد تردي حالته الصحية ، وأعلن نفسه رئيسا للجمهورية.

ووطد بن علي أركان حكمه من خلال انتخابات رئاسية أجراها أعوام 1989 و1994 و1999 و2004 و2009 ، كما قرر استمرار حظر كل من حركة النهضة وحزب العمال الشيوعي التونسي بالرغم من تمتعهما بشعبية عالية في أوساط المثقفين.

وتحدثت تقارير كثيرة عن القيود الشديدة التي فرضها الرئيس التونسي
المخلوع خلال حكمه على الحياة السياسية ووسائل الإعلام ، بما في ذلك
مواقع الإنترنت ، كما تفاقمت مشكلات البطالة والفقر وارتفعت نسبتهما بشكل كبير على الرغم من شهرة تونس كبلد سياحي وما ذكرته الحكومة من نهضة اقتصادية تحققت خلال العقدين الأخيرين. وقد أرجع بعض المحللين ذلك إلى حدوث ما سمى في الاقتصاد بفقاعة الثروة التي لا تعكس نموا اقتصاديا ذاتيا أو حقيقيا.

ثم جاءت التطورات الأخيرة التي فاجأت الجميع داخل تونس وخارجها ،
وأطلقت عليها بعض وسائل الإعلام "ثورة الياسمين" - وهي تسمية غريبة وفي غير موضعها لأنها اتسمت بانتفاضات عنيفة ولكن التسمية فرضت نفسها على كل حال - عندما أقدم شاب تونسي هو "محمد بو عزيزي" - وهو من حملة المؤهلات العليا - على إضرام النار في جسده احتجاجا على الأوضاع الاقتصادية الخانقة. حيث اضطر بو عزيزي وهو عاطل عن العمل إلى العمل كبائع متجول على عربة خضر تدفع باليد. ولكن السلطات المحلية صادرت العربة بحجة أنها غير مرخصة ، ولما ذهب للشكوى لإدارة البلدية باعتبار العربة هي كل رأس ماله هو وأسرته عامله الموظفون معاملة بالغة السوء وصفعته إحدى الموظفات على وجهه ، وعندما اشتكاها لعدة جهات إدارية لم يكترث به أحد ، فأقدم في رد فعل انفعالي سريع على إشعال النار في نفسه في 17 ديسمبر 2011 أمام مبنى البلدية ، وزاره الرئيس التونسي السابق بالمستشفى ، إلا أنه توفي بعد أسبوعين متأثرا بالحروق التي أحدثها في نفسه.

واندلعت المظاهرات الغاضبة لمناصرته بعد وقت قصير ، وسرعان ما انتشرت من مدينة سيدي بو زيد إلى القيروان وسوسة وبنزرت ثم العاصمة نفسها ولم تنجح قوات الأمن والجيش في إيقافها.

في 14 يناير أقال الرئيس الحكومة وحل البرلمان ودعا لانتخابات
تشريعية مبكرة وأعلن حالة الطواري وكان قد تعهد في خطاب قبل 24 ساعة بعدم الترشح مجددا لانتخابات الرئاسة. ولكن الأمور تطورت في غضون ساعات حيث اشتعلت مدن تونس جميعها باضطرابات عنيفة دفعت بالرئيس لمغادرة البلاد لتدخل تونس الخضراء في مرحلة دقيقة وحاسمة من تاريخها الحديث لا تقل خطورة وحسما عن كل ما مرت به على مدى تاريخها الحافل.

ويبدو أن تونس المجاهدة صار لها نصيب من قول ابنها الشاعر المبدع الموهوب أبي القاسم الشابي :

إذا الشعب يوما أراد الحياة
فلابد أن يستجيب القدر
ولابد لليل أن ينجلي
ولابد للقيد أن ينكسر

وهنا سؤال يراودنا جميعا ولا يدعنا حتى يلاحقنا منتظرا الإجابة :

متى يستجيب القدر لإرادة باقي الشعوب العربية للحياة ؟!

متى ينجلي ليل باقي الشعوب العربية ؟!

متي ينكسر القيد عن باقي الشعوب العربية ؟!

وهنا ، لعل شاعرا عربيا آخر يجيبنا بقوله :

فإن يك صدر هذا اليوم ولي

فإن غدا لناظره قريب !
 


06/11/2014

مصرنا ©

 

 


 

 
 



مطبوعة تصدر
 عن المركز الأمريكى
 للنشر الالكترونى

 رئيس التحرير : غريب المنسى

مدير التحرير : مسعد غنيم

 

الأعمدة الثابته

 

 
      صفحة الحوادث    
  من الشرق والغرب 
مختارات المراقب العام

 

موضوعات مهمة  جدا


اعرف بلدك
الصراع الطائفى فى مصر
  نصوص معاهدة السلام  

 

منوعات


رؤساء مصر
من نحن
حقوق النشر
 هيئة التحرير
خريطة الموقع


الصفحة الرئيسية