الخليج "الفارسي" .. والمالكي .. والملوخية !
...............................................................
|
الخليج الفارسى أو العربى |
بقلم : معتز شكري
.....................
هذه موضوعات ثلاثة ربما تبدو متباعدة ، ولكن سيرى القاريء أنها يربطها جميعا خيط واحد.
(1)
صادرت إيران مؤخرا كل الكتب التي عرضتها الأجنحة المشاركة في معرض طهران الدولي للكتاب ، والتي حملت في عناوينها كلمة الخليج "العربي" ، كما أغلقت بعض الأجنحة للسبب نفسه. وترى إيران أن هذا من قبيل التزوير العلمي والتاريخي لأن الصحيح أن يقال "الخليج الفارسي" وليس "العربي". وهذا الموقف من النظام الإيراني قديم ومتكرر ، وهو موقف متصلب لا يعكس أي ضرورة ، كما أنه يؤكد أن ذلك النظام لا يرى غير نفسه ، وليس لديه أي احترام أو استيعاب لأية آراء أخرى ، أو وجهات نظر أخرى.
أنا أفهم أن تصدر إيران كل أطالسها وخرائطها وكتبها المدرسية وإصداراتها المختلفة وفيها عبارة "الخليج الفارسي" ، فهذا من حقها. ولكن ليس من حقها أن تفرض ذلك على الدول العربية ، التي اعتادت في العقود الأخيرة على استعمال عبارة "الخليج العربي" ، من باب إعادة الاعتبار ، لأن عددا من البلدان العربية تطل على الخليج نفسه ، ناهيك عن عرب الأحواز في إقليم (عربستان) الذين يشاطئون أجزاء من الخليج من ناحية الشرق من داخل إيران نفسها ، وهم – بغض النظر عن كونهم (شيعة) من حيث المذهب الديني – "عرب" أقحاح من بني كعب وغيرها من حيث العرق والعنصر (وهم بالمناسبة يعانون اضطهادا شديدا في إيران وحملات لمسخ الهوية والإدماج القسري والتفريس).ومسألة أن جامعة الدول العربية لا تفعل لهم شيئا منذ نشأتها 1945 وبالرغم من أنهم جرى احتلالهم وضمهم لإيران منذ 1925 - ولو من قبيل المؤازرة الإنشائية والبلاغية - فأمر آخر.
ثم إن عبارة (الخليج الفارسي) أو the Persian Gulf التي نجدها في الخرائط الغربية ليس سببها أن الخليج (فارسي) بالكامل ، وإنما هي تسمية قديمة أطلقها الغرب باعتبار أن فارس – من الناحية الزمنية البحتة – حضارة أقدم من حضارة العرب ، وهو ما لا ننكره بالطبع ، ولكن المقصود أن التسمية غربية ليس فيها فضل لإيران ، ومن حق العرب – في المقابل – أن يعيدوا الاعتبار للخليج الذي تطل عليه أيضا بلدان عربية كثيرة ، ولو على الأقل فيما تصدره البلدان العربية من كتب ودراسات وخرائط. وإلا فإن إيران كأنها تحكم على نفسها أنها ترى بعين واحدة فقط تدرك بها وجودها على الخليج بينما لا ترى عينها الأخرى أي وجود للعرب هناك أو تعتبرهم "فراغا" !
والذي يثبت أن العرب ليست فيهم مثل هذه النزعة العنصرية المتشددة أنهم كانوا حتى العقود الخمسة أو الستة الأخيرة فقط يستعملون عبارة (الخليج الفارسي) بلا تحفظ أو حساسيات بالرغم من وجودهم هناك من أقدم العصور ، قبل أن يشرعوا في استخدام كلمة (الخليج العربي) بتأثير المد القومي ولاسيما في العهد الناصري.
بل إنه من الطريف أن نلاحظ أن الرئيس جمال عبد الناصر نفسه في خطابه الشهير بمناسبة تأميم قناة السويس – وهو من أشهر خطاباته وأكثرها إذاعة وبثا حتى الآن – استعمل كلمة (الخليج الفارسي) ! وذلك عندما قال بالنص : "إننا نشعر بهذا الخطر (يقصد الخطر الصهيوني) ، وسندافع عن قوميتنا ، كلنا سندافع عن عروبتنا ، كلنا سنعمل حتى يمتد الوطن العربي من المحيط الأطلسي إلى الخليج الفارسي". ولمن يريد التأكد بنفسه عليه أن يقرأ نص الخطاب كما أصدرته وزارة التربية والتعليم المصرية-إدارة الشئون العامة - بعنوان (القناة لنا) سنة 1956 ، أو يستمع إلى الشريط الصوتي للخطاب.
وتفسير ذلك بسيط وهو أنه في تلك الفترة لم تكن أفكار القومية العربية قد تبلورت بشكل كامل بحيث صبغت كل مفردات السياسة المصرية والوطنية العربية ، ولم يكن العرب ولا مصر ولا عبد الناصر يجدون وقتها حرجا من استخدام العبارة الشائعة جغرافيا من خلال الترجمة وهي "الخليج الفارسي" !
ولو أنني مسئول الآن عن معرض كتب في مصر أو أي بلد عربي لما صادرت كتب إيران التي تحمل عنوان (الخليج الفارسي) ، وذلك لكي ألقنهم درسا أمام العالم كله في التسامح ، وأثبت لهم أن العرب الذين ورثوا ضمن ما ورثوا حضارة الفرس القديمة وبنوا حضارة أعظم منها إنما فعلوا ذلك لأنهم كانوا أكثر قبولا للآخر وتسامحا معه !
(يمكن للقاريء الكريم الرجوع لمقال لي في هذا الموقع الأغر نفسه بعنوان "سماحة الإسلام وقصة العشرة في البصرة").
والذي كنت أفضله لإيران – لكي تثبت أنها منفتحة على الآخرين ولاسيما العرب وهم من بين أقرب وأهم جيرانها وأنها لا تنظر إليهم باستعلاء وأنها تقبل الآخر وتستوعب اختلافه – أن تترك هذه الكتب والإصدارات لأنها على مسئولية أصحابها ، ثم لتتحكم هي كما تريد في إصداراتها ، ولاسيما أن معارض الكتب الدولية إنما تهدف في المقام الأول إلى تعرف الناس بعضهم على بعض والاطلاع على ما يكتبه الآخرون وليس بالضرورة يرضيني أو يتفق معي ، حتى على ما يصدره خصمي أو عدوي ، والعلم والمعرفة والقراءة والتعارف جميعها قيم إسلامية فضلا عن أنها إنسانية أيضا.
ولكن الذي حدث – وتكرر أكثر من مرة ، لدرجة حظر مجلة (ناشيونال جيوجرافيك) الشهيرة من دخول إيران للسبب نفسه – يبرهن بصورة قاطعة على أن النظام الحاكم في إيران لا يتعصب فقط تعصبا مذهبيا ضيقا ( للتشيع ضد أهل السنة وللتشيع الإثناعشري بالذات ضد سائر مذاهب الشيعة الأخرى ! ) ، ولكنه يتعصب أيضا تعصبا عرقيا (فارسيا) ضد غير الفرس حتى ولو كانوا شيعة (نموذج الأحوازيين) ! فلابد لكي تنعم بالمواطنة الكاملة في إيران أن تكون شيعيا - إثناعشريا - فارسيا - مؤيدا للنظام ، وإلا ...!
الخلاصة أنه نظام عنصري ، حتى وإن ادعى غير ذلك من خلال ماكينة الدعاية الكلامية الهائلة التي ينفق عليها المليارات ويقوم بتشغيلها ليل نهار على أسماع العالم كله حتى كاد العالم يصاب بالصمم من كثرة ما يصدر من كلام دعائي وتبريري من إيران !
(2)
فإذا ما انتقلنا إلى العراق ، وجدنا شيئا آخر شديد الغرابة ، ولكنه يسير في السياق نفسه ، سياق عدم رؤية الآخر ولا الاعتراف به ولا قبوله. فقد تابعنا وتابع العالم كله الانتخابات العراقية التي جرت من شهور ، والتي أكدت نتائجها – بعد مراقبة داخلية وخارجية مكثفة – فوز (القائمة العراقية) التي كانت تحمل رقم 333 ، ويقودها إياد علاوي ، وهو شخصية سياسية مرموقة مهذبة محنكة وعلى علاقة طيبة بالجميع وسبق له رئاسة الحكومة ، بأكبر عدد من مقاعد المجلس التشريعي. وكان من الطبيعي أن يفسح السيد نوري المالكي رئيس الحكومة المنصرفة المجال للسيد علاوي لتشكيل الحكومة الجديدة ، لكي يعطي للعالم العربي نموذجا من الديمقراطية العراقية ، فإذا ما أخفق مثلا علاوي كان من حق رئيس الدولة أن يطلب ممن يليه في عدد المقاعد وهو السيد المالكي أن يحاول هو تشكيل الحكومة.
هذا يا إخواني هو ما يحدث في العالم كله في أي بلد يدعي الديمقراطية ، فهل سارت الأمور على هذا النحو في العراق "الديمقراطي" الجديد بعد سبع سنوات كاملة على الإطاحة بنظام صدام حسين "الديكتاتوري القمعي الإقصائي " القديم ؟! أبدا !
فالمالكي "رأسه وألف سيف" - كما يقول التعبير العامي المصري – ألا يترك مقعد الحكم إلا على جثته ، ويقول لو لم أشكل الحكومة فسوف تسيل الدماء أنهارا في العراق (كما لو أنها لا تسيل الآن أصلا !) ، ويقول مثل شمشون : علي وعلى أعدائي ! سأهدم المعبد على الجميع ! كأنه يفهم الديمقراطية فهما خاصا بسيادته وحده ، وهو أن يظل في الحكم حتى آخر نفس (مثل صدام بالضبط!) ، وإلا فعلى الديمقراطية السلام ! تسأل حضرتك : وهل هذا التعصب الشديد من السيد المالكي (الشيعي) سببه مثلا أن خصمه ومنافسه السيد علاوي (غير شيعي) ؟ أجيبك : أبدا والله يا أخي ، هذا شيعي وذاك شيعي ! طيب ، ما المشكلة ؟ المشكلة كما يقول كل المحللين والمراقبين هو أن ائتلاف علاوي (وطني) وليس (طائفيا) ، ففيه الشيعي والسني والتركماني والشيوعي والليبرالي ، إلخ ، أما ائتلاف (دولة القانون) الذي يقوده المالكي ، فهو في الواقع ائتلاف دولة القانون (الشيعي) أو(الطائفي) ! لأنه يضم : المجلس الأعلى الإسلامي بقيادة عمار الحكيم (شيعة) ، وائتلاف دولة القانون بقيادة المالكي (شيعة) ، والتيار الصدري بقيادة مقتدى الصدر (شيعة) ، وحزب الدعوة بقيادة إبراهيم الجعفري (شيعة) !
هل ترون مدى (الوطنية) و(التنوع) في (دولة القانون) ! إنه إذن – كما قلت – "ائتلاف دولة القانون الشيعي" !
فهذا أيضا أيها السادة مثال من العراق الشقيق – بعد مثال إيران – على مدى عنف التعصب العرقي والطائفي وعدم التسامح مع الآخر.
وسوف ينتهي الأمر بأن يفرض المالكي رأيه ويشكل الحكومة الجديدة إلا إذا تعرض لضغوط من جهات لا يملك أن يعصيها ، وهكذا صارت عندنا في العالم العربي دولتان على الأقل يستحيل تشكيل حكومة جديدة فيها أو تفعيل كياناتها السياسية إلا بناء على توازن قوى أطراف خارجية ( في لبنان : سوريا والسعودية وفي العراق : إيران وأمريكا ) فهنيئا لكم !
(3)
أما حكاية (الملوخية) ، وهي العنصر الثالث في عنوان مقالي هذا ، فقد تذكرتها لأن الشيء بالشيء يذكر ، وهي معلومة نعرفها جميعا ، وكم تناولتها الكتب والمسرحيات والمقالات ، وكم ضحكنا منها ونحن ندرسها في حصص التاريخ زمان ، وهي تحريم أكل الملوخية أيام الفاطميين !
كلنا درسنا في حصص التاريخ ، وقرأنا في الكتب والمراجع ، أن الحاكم بأمر الله
( وهو الخليفة الفاطمي الثالث في مصر بعد المعز لدين الله والعزيز بالله ، وتولى من سنة 386 إلى 411 هجرية ) تشدد في تحريم أكل الملوخية على الناس وكان يأمر بعقاب المخالفين عقابا شديدا.
هذا أيضا يا أصدقائي درس – ربما يبدو طريفا بدليل اتخاذه مادة للتسلية والتندر والمسرحيات الفكاهية – ولكنه في الحقيقة درس مؤلم جدا في مسألة عدم قبول الآخر لدرجة التدخل فيما يأكل ويشرب ، حتى في بيته لو أن أحدا وشى به !
بعض الناس استهوتهم فكرة الدفاع عن الحاكم بأمر الله ، وقالوا إنه حرم الملوخية مثلا لأنه كان ثمة وباء في ذلك العصر وكان نبات الملوخية مما يساعد في انتشاره ، مما يثبت حكمته البالغة ، بينما ظلمه المؤرخون وافتروا عليه !
سمعت ذلك وأشباهه وقرأته ، واكتشفت أن وراءه كتبا مذهبية تدافع عن الفاطميين والمذهب الإسماعيلي ، ومن الأسماء التي أذكرها في هذا الصدد الأستاذ سامي مكارم والأستاذ عارف تامر. ولا عجب أو دهشة بالنسبة لي ، لأن هؤلاء الباحثين وأمثالهم – مع الاحترام الواجب لهم شخصيا ولحق الاختلاف ولما يمكن أن يستفيده الباحثون منهم في جميع الأحوال – كتبوا ذلك في سياق تحسين صورة المذهب والدفاع عنه ضد منتقديه ، وهي ظاهرة طبيعية موجودة لدى كل أصحاب المذاهب ، ولكن المرفوض بالطبع أن تكون وسيلة ذلك تزوير حقائق تاريخية ثابتة أو لي أعناق المصادر واستنطاقها بغير ما تنطق به.
كنت قرأت تحريم الحاكم للملوخية – ولأمور أخرى كثيرة جدا – ناهيك عن اضطرابه النفسي والعقلي والعصبي وتقلبه بين مواقف متناقضة (بعضها جيد في ظاهره) وقمعه الشديد واستسهاله القتل لأعداد لا تحصى منهم أقرب الوزراء والأقرباء والمستشارين ، في مصادر التاريخ القديمة ، ومنها المؤرخ العظيم المقريزي (صاحب اتعاظ الحنفا والخطط والسلوك وإمتاع الأسماع ، والمقفى الكبير ، إلخ) ، وبالذات من خلال نسخة نادرة من طبعة مطبعة بولاق لكتابه (الخطط) ، ورثتها من مكتبة جدي رحمه الله تعالى.
وقرأت عن الحاكم والدولة الفاطمية والمذهب الإسماعيلي كتبا ومصادر ومراجع أخرى كثيرة ، قديمة وحديثة ، منها – حتى يتيقن القاريء أنني لا أظلم هذه الدولة أو هذا الخليفة أو هذا المذهب بما ليس فيه أو تعصبا ضد عقيدة أختلف معها. فمن ذلك على سبيل المثال لا الحصر : مؤلفات ودراسات للمقريزي – ابن تغري بردي – ابن إياس – النويري – ابن خلكان - المستشرق الشهير إم. كانار – حسن إبراهيم حسن - عباس العقاد – محمد عبد الله عنان – محمد كامل حسين – عبد المنعم ماجد – أيمن فؤاد سيد ، إلخ.
وحقيقة الموضوع يا أصدقائي ، وخلاصته المركزة الموثقة هي كما يلي :
أولا : الدولة الفاطمية لم تكن دولة "عادية" ، بمعنى أن تستولي أسرة ما على الحكم فتحكم وتركز على السياسة والشئون العسكرية والاقتصادية مثلا ، ولكنها كانت دولة "عقائدية" بكل معنى الكلمة ، بل و"عقائدية متعصبة" أيضا ، بمعنى أنها تتدخل في كل شئون الحياة ومجالاتها وكل خصوصيات الناس ، ولو استطاعت لأحصت عليهم أنفاسهم ، حتى تتأكد أن كل "فتفوتة" في البلاد والعباد تنضح وتتنفس بالولاء والانتماء والدعاء للمذهب الشيعي الإسماعيلي وتلعن كل خصوم وأعداء هذا المذهب !
ثانيا : تحريم الملوخية ومنع زراعتها أو بيعها أو أكلها لم يقتصر على عهد الحاكم بأمر الله ، ولكنه تشدد أكثر من غيره فقط في معاقبة الناس على ذلك ، لأن منطلق التحريم "عقائدي شيعي" لا يتعلق بموقف شخصي من الحاكم. وتذكر مصادر مهمة أن العقوبة كانت تصل إلى الإعدام !
ثالثا : لم يقتصر المنع والتحريم والعقاب على الملوخية ، بل تعداه إلى منع وتحريم أشياء أخرى وأكلات أخرى. وهنا ندخل في الموضوع ونقول إن السبب ببساطة "عقائدي متعصب غريب مضحك" في آن واحد : أن تحتشد دولة كبيرة بكل هيلمانها لمحاربة "أكلة" ومعاقبة من يضبط متلبسا ببيعها أو طبخها أو تتناولها أو زراعتها ! أتدرون ما السبب ؟ السبب هو أن سيدنا معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه عرف عنه في التاريخ ومن خلال سيرته أنه كان يحب الملوخية ويكثر من تناولها ! ولأن معاوية هو واحد من ألد أعداء الشيعة عموما – بما فيهم الإسماعيلية وهم موضوعنا – فكان لابد من منع كل شيء كان يحبه وتحريم كل أكلة كان يفضلها نكاية فيه وفي أهل السنة ! بل قيل إن ممن كان يحب الملوخية غير معاوية كل من أبي بكر الصديق رضي الله عنه وعائشة رضي الله عنها !
رابعا : هناك أكلات أخرى حرمها الفاطميون ، لنفس الأسباب العقائدية القائمة على كره رموز المذهب السني وبغضهم والنكاية فيهم ، وتشدد في ذلك بالذات الحاكم بأمر الله بحكم طبيعة شخصيته المتعصبة المضطربة عصبيا – فمنها مثلا : "الجرجير" والسبب أن سيدتنا أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها كانت تحبه ، ويقال إنها كانت أول من أدخله لقائمة طعام المسلمين بعد اكتشافها له ! وأكلة اخرى اسمها "المتوكلية" قيل إن الخليفة العباسي (المتوكل) ابتكرها أو أنها صنعت خصيصا له ، وكانت تدخل في صنع الحساء ، وطبعا العباسيون أيضا من أعداء الشيعة التاريخيين الألداء ، والمتوكل معروف عنه أنه محيي السنة وقامع البدعة وهو الذي وضع نهاية لفتنة "خلق القرآن" التي تسبب فيها المعتزلة.
اقرأوا معي ما يقوله واحد من أكابر أساتذة التاريخ الإسلامي الي تخصصوا في دراسة العصر الفاطمي ، وهو الدكتور عبد المنعم ماجد رحمه الله ، في مرجعه القيم (نظم الفاطميين ورسومهم في مصر) ، الجزء الأول :
"في سنة 393 هجرية / 1002 م ، أبطل الحاكم صلاة الضحى ، ذلك أن الشيعة لا يقومون بها ، وفي ظل هذا الخليفة أيضا منع الناس من بيع المأكولات المحببة إلى أعداء الفاطميين : "كالملوخيا" التي كان معاوية يحبها كثيرا ، و"الجرجير" المنسوب إدخاله في الطعام لعائشة...كل هذا يبين لنا (والكلام لا يزال للدكتور ماجد) إلى أي درجة وصل الحقد المقيت الذي يحمله الشيعة للسنة ( ثم يورد الباحث حاشية يقول فيها ) " ازداد هذا الحقد شدة لما أمر الفاطميون في سنة 395 هجرية / 1004 م بسب (السلف) أعداء علي ، وهم عائشة زوجة النبي ، وأبو بكر وعمر وعثمان ، وطلحة والزبير ، والخليفة معاوية ، وعمرو بن العاص ، فكان هذا السب يقرأ في الجوامع ، أو يكتب على أبواب الحوانيت والبيوت وسائر المساجد وعلى المقابر".
ثم يضيف المؤلف في فقرة أخرى كلاما خطيرا تكتمل به صورة ذلك التعصب المذهبي المقيت المتدثر بعباءة الدين وحب آل البيت مع أنه لا علاقة له بأي تدين حقيقي :
"وعلى العكس ، استغلت الحسبة (أي في العهد الفاطمي) على وجه آخر ، لتحقيق أغراض الدولة السياسية ، فمن العجيب أن نقرر بأنه على الرغم من مذهبية الدولة وتعصبها ، فإنها غالبا ما تركت للمصريين حرية شر ب الخمر واللهو دون قيد ، فترتب على ذلك المبالغة في الفساد والانغماس في الإباحية في بعض الأحيان ، مما كان له أثره في الخلفاء أنفسهم ، وأثار الإنكار والانتقاد من أعدائهم" انتهى ، ص 166 و ص 167 ، طبعة مكتبة الأنجلو المصرية ، سنة 1985.
يعني : تشرب الخمر : ماشي ، لا مشكلة.. تأكل ملوخية مثل أعداء الشيعة .. لا وألف لا .. يعتقلك المحتسب ويحكم عليك بالإعدام ! أهلا وسهلا !
وبالمناسبة ، فللدكتور عبد المنعم ماجد كتاب بعنوان (الحاكم بأمر الله الخليفة المفترى عليه) ، وهو كما يبدو من عنوانه محاولة للحكم الموضوعي على الحاكم بذكر ما له وما عليه ، فقد كانت له – مع تصرفاته الرعناء وإسرافه الشديد في العقاب والقتل وسياساته القمعية الشنيعة بقطع الأعناق والأيدي والألسنة وحرق المدن وهدم دور العبادة ، إلخ ، بعض السياسات الاقتصادية والاجتماعية الإيجابية.
ونحن نسوق هذه المعلومة للتأكيد على أن من أفرد كتابا خاصا للدفاع عن بعض جوانب في شخصية وسياسات الحاكم بأمر الله هو نفسه الذي يذكر ما نقلناه سابقا عن تعصبه الشديد في تحريم الملوخية وأمور أخرى ، يعني لا يمكن اتهامه بأنه يتخذ منه موقفا شخصيا أو يتحامل عليه ، ويؤكد أن كل ما ذكرناه حقائق ثابتة وموثقة علميا وتاريخيا ولا سبيل إلى إنكارها وإلا وجب علينا أن نترك ميدان البحث التاريخي إلى اللهو والعبث والتهريج.
ولاشك أنه من رحمة الله تعالى بالمسلمين في مصر أن هيأ من الأسباب والظروف التي أدت إلى إنهاء هذا النوع من الحكم ، وكان ذلك على يد صلاح الدين الذي اضطر إلى ذلك اضطرارا دفاعا عن بلاد المسلمين ضد هجمات الصليبيين واحتياج مصر لدولة قوية ، لأن نظاما كان يسمح للناس بشرب الخمر بينما كان يقتلهم إذا لم يلعنوا الصحابة وأمهات المؤمنين ويمتنعوا عن أكل الملوخية لم يكن يستطيع تعبئة الشعب المقهور وتوحيده للانتصار على الصليبيين أو استرداد بيت المقدس !
الدرس المراد من المقال هو : مهما نكلت بالآخر فهو موجود ، والاختلاف حقيقة كونية وإرادة إلهية ، من حقك انتقاد الآخر ، ومن حقه انتقادك ، ومن حقك وحقه التعبير عن الرأي بحرية ، أما الإقصاء القانوني والاجتماعي بسبب الهوية فتخلف غير مقبول وعناد عقيم ، "ولا يزالون مختلفين" صدق الله العظيم.