في أصول أسماء الأماكن
...............................................................
| |
كريستوفر كولومبس "أمريكا" : مكتوبة لك يا فسبوتشي ! | |
بحث بقلم : معتز شكري
..........................
هناك ، بالإضافة لعلم أصول الكلمات العادية في اللغة ، علوم عدة لأصول الأسماء ، بعضها خاص بأسماء الأشخاص ، وبعضها يتعلق بأسماء الأماكن ، وهكذا.
والبحث في أصول أسماء الأماكن ممتع وطريف بقدر ما هو صعب ومعقد. وليست هناك قاعدة تحكم تسمية البلدان والقارات والأنهار وغيرها من المواقع الجغرافية. فليس من الضروري أن يحمل المكان اسم من أنشأه أو اكتشفه لأول مرة.
فالمدينة التي عهد الخليفة المعز ببنائها في مصر لجوهر الصقلي لكي تكون عاصمة خلافته الفاطمية لم تحمل اسم المعز ولا اسم جوهر ، بل أطلق عليها (القاهرة) ، وأشهر الروايات التي تفسر سبب هذه التسمية أنه عندما بديء في إنشائها رأى المنجمون – وكان لهم شأن عندئذ - (القاهر) في السماء وهو كوكب المريخ !
والمدينة التي بناها أبو جعفر المنصور ، المؤسس الفعلي للدولة العباسية ، سميت (بغداد) ، وهي كلمة فارسية معناها (بستان العدل) !
والمدينة التي بناها محمد علي باشا في السودان في القرن التاسع عشر وصارت هي العاصمة بعد ذلك سميت (الخرطوم) ، وقيل إن سبب ذلك أن شكلها يشبه خرطوم الفيل !
وأقدم وأعظم الحضارات التي عاشت على ضفاف نهر مصر الخالد وهي حضارة المصريين القدماء أطلقت على النهر اسم (حابي) ، ولكن هذا الاسم لم يكتب له البقاء ولا الشهرة ، بل أصبح الناس في العالم كله يعرفونه باسم (نهر النيل) وأصحاب التسمية هم الإغريق القدماء الذين اعتقدوا أن لهذا النهر العظيم إلها خاصا به هو (نيلوس) !
وقد يكون اسم المكان مجرد وصف له ، فكلمة ( أستراليا) معناها (الأرض التي في الجنوب) ، وقد يحمل الاسم إشارة إلى شيء اشتهر به المكان ، ففي جنوب إنجلترا مثلا مدينة (تشيزويك) ومعنى الاسم (مزرعة الجبن أو الألبان) ! وفي إفريقيا (ساحل العاج) ، و(ساحل الذهب) التي أصبحت تسمى (غانا) فيما بعد.
وكثيرا جدا ما يخترع الناس حكاية خرافية لمحاولة تفسير أصل الاسم الذي يحمله
المكان ، لجهلهم المعنى الحقيقي أو عجزهم عن فهمه ، فيما يعرف في علم اللغة بظاهرة (التفسير الفولكلوري لأصول الكلمات) folk etymology ، ولهم في ذلك روايات طريفة جدا وإن كانت تفتقر إلى أي دليل علمي. فمن ذلك مثلا ، وبالرغم من أن غالبية أسماء المدن والقرى في مصر ذات أصول مصرية قديمة ، ومنها (دمنهور) المنسوبة للإله "حور" ، يقول العوام إن سبب تسمية المدينة بهذا الاسم أنه كان فيها في قديم الزمان طائفتان متنافستان وقعت بينهما صراعات ومعارك طاحنة جرى فيها (الدم نهور) ، أي سالت الدماء أنهارا ، فسميت (دمنهور) ! أو يقولون مثلا إن (الفيوم) هي التي شهدت تخزين الغلال أيام سيدنا يوسف ، وحيث إن مدة السنوات السبع تعادل (ألفي يوم) سميت المدينة (الفيوم) كما لو أن الناس كانوا مثلا يتحدثون العربية عندئذ حتى بفرض صحة العلاقة بين المدينة والواقعة القديمة ! والصحيح طبعا أن الفيوم هي من عبارة (بي يوم) التي تفيد وجود البحيرات بها.
وبنفس طريقة التفسير الفولكلوري هذه ، يقولون مثلا إن إبراهيم عليه السلام أقام في موضع ما وحلب بقرة له شهباء ، ثم جاء أناس للعيش في المكان وأرادوا تسميته ، فقالوا : هنا إبراهيم (حلب الشهباء) ، فسميت مدينة (حلب) في سوريا بها الاسم !
وإلى جانب ذلك ، هناك من أسماء الأماكن ما نعجز عن معرفة أصله ومعناه على وجه اليقين لافتقارنا إلى أي دليل أو برهان ، لغوي أو تاريخي.
نأتي الآن إلى الكلمة التي أصبحت علما على القارة التي اكتشفها (كريستوفر كولومبس) سنة 1492 ميلادية ، كما أصبحت – اختصارا – علما على أقوى وأغنى دولة في العصر الحديث وهي الولايات المتحدة الأمريكية. نأتي إلى كلمة (أمريكا) لنعرف صاحب الحظ السعيد الذي أطلق اسمه على هذا العالم الجديد بكل ما فيه من بلدان ومواقع وخيرات وبشر.
وهو ليس بالطبع (كريستوفر كولومبس) ، فليس لاسمه من (أمريكا) ولا لأمريكا من اسمه أي نصيب ! ولكن سعيد الحظ هو شخص آخر ، من إيطاليا أيضا ، اسمه (أمريجو فسبوتشي) ، وكان لاسمه شكل آخر – باللاتينية – هو (أمريكوس فسبوكيوس).
وقبل أن نتعرض لحكاية (أمريجو) هذا مع القارة الجديدة ، نشير إلى أن اكتشاف
قارة لا يمكن عادة أن ينسب إلى شخص واحد ، فعادة ما تتوالى البعثات الاستكشافية ويتعاقب المغامرون ، ويضيف بعضهم آفاقا لم يبلغها الآخرون ، وهكذا ، إلى أن تتكامل أبعاد الصورة وتتضح حقيقة الاكتشاف جيلا بعد جيل.
وهذا بالضبط ما حدث مع (أمريكا) القارة الضخمة الجديدة ، بجزأيها الشمالي والجنوبي . فهناك ، علاوة على (أمريجو) و (كولومبس) ، أشخاص آخرون كثيرون ساهموا برحلاتهم التي لاقوا فيها الأهوال في اكتشاف هذا العالم الجديد. ولكن الشهرة حظوظ !
ومن العجيب أن العرب أنفسهم كان لهم نصيب في الوصول إلى هذه القارة قبل كولومبس وأمريجو بزمان بعيد. وقد تناول هذا الأمر وألقى عليه الأضواء باحثون لهم مكانة ، منهم الدكتور محمود الربداوي والدكتور محمود الدغيم في كتابات ومحاضرات لهما ، ومنهم المستشرق آدم متز في موسوعته (الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري) من ترجمة الدكتور محمد أبو ريدة ، حيث أشاروا جميعا إلى قصة (الفتية المغرورين) – أو (المغربين) في رواية أي المتجهين غربا - والواردة في كتاب الجغرافي العربي الثقة (الشريف الإدريسي) المسمى (نزهة المشتاق في اختراق الآفاق) ، فقد قال الإدريسي عند كلامه على مدينة (لشبونة) عاصمة البرتغال الآن : " ومن مدينة الاشبونة كان خروج المغرورين في ركوب بحر الظلمات ، ليعرفوا ما فيه ، وإلى أين انتهاؤه...".
وخلاصة القصة قيام مجموعة من الشبان العرب بالملاحة فيما وراء البحر المتوسط والمحيط الأطلنطي إلى أن صادفوا بلادا غريبة لم يسبق أن ارتادها أحد لبعدها الشديد ، ووصفوا هناك سكانها الأصليين الذين أوثقوهم وذهبوا بهم إلى ملكهم ثم أطلقوا سراحهم بعد مدة ، وعادوا أدراجهم إلى بلادهم ليقصوا أخبار رحلتهم العجيبة . ويتضح من القصة أن (الفتية المغرورين) نزلوا في بعض سواحل هذه القارة الجديدة دون أن يعرفوا أي بلاد هي ، وإن كان ذلك لا يؤثر في السبق التاريخي للعرب والمسلمين في هذا الكشف الجغرافي المبكر ، فكولومبس نفسه لم يكن يعرف أنه اكتشف قارة جديدة.
نتجاوز ذلك كله إلى القرن الخامس عشر الميلادي ، ففي أواخره قام (كريستوفر كولومبس) ، تحت رعاية المكلة إيزابيلا وزوجها الملك فرديناند حكام إسبانيا ، بعدة رحلات استكشافية ، وكان أول ما شاهده هو وبحارته يوم 12 أكتوبر 1492 ما يعتقد أنه (جزيرة واتلنج) أو (سان سلفادور) و(جزر البهاما) ، ثم (كوبا) و(هايتي).
واستمرت رحلات كولومبس حتى رحلته الكبرى الأخيرة من سنة 1502 إلى سنة 1504 والتي اكتشف فيها خليج المكسيك. وتوفي كولومبس سنة 1506.
ولكن كولومبس لم يكن يعلم أنه اكتشف قارة جديدة أو عالما جديدا ، ولكنه عاش ومات وهو يعتقد أنه اكتشف ما سماه (جزر الهند الغربية) أو بالإنجليزية West Indies ، لأنه أبحر إلى ما يعتقد أنه (الهند) ولكن عن طريق الغرب. وما تزال هذه المنطقة تحمل ذلك الاسم مع أنها لا علاقة لها بالهند من قريب أو بعيد ، ولا يزال السكان الأصليون يسمون (الهنود الحمر) Red Indians ، لأن كولومبس ورفاقه لاحظوا – مع افتراض أو توهم أنهم هنود - أنهم ذوو بشرة تميل للاحمرار ، مع أنهم سكان البلاد الأصليون الذين لا صلة لهم مطلقا بالهند !
وربما لذلك السبب دون سواه ، وبالرغم من ريادة وسبق (كولومبس) في اكتشاف هذه الأماكن ، لم يطلق اسمه على القارة الجديدة ، وأطلق اسم (أمريجو فسبوتشي) الذي وصل إليها بعده ببضع سنوات ، وكانت أهم رحلاته في عام 1499 ، لأن (أمريجو) هذا هو أول من "عرف" و"أعلن للناس" أنه اكتشف (عالما جديدا).
وقد سارت قصة تسمية هذه القارة على هذا النحو:
في سياق رسالة كتبها (أمريجو فسبوتشي) إلى (لورنزو دي مديتشي) سنة 1503 قال فيها : " سبق أن كتبت لك بإسهاب عن عودتي من تلك البلاد الجديدة التي سعينا وراءها ووجدناها ، على متن سفن ملك البرتغال المبجل وعلى نفقته وبأوامره. والمناسب أن نسميها عالما جديدا".
وفي غضون عام ترجم الخطاب إلى اللاتينية ونشر في نشرة صغيرة تحمل عنوان (العالم الجديد). ووصلت نسخة منه إلى يد (مارتن فالديمولر) – أستاذ (الكوزموغرافيا) وهو علم وصف الكون ومن فروعه الفلك ووصف الأرض – في جامعة ( سان دييه) في اللورين. وفي الحال ، أدخل الأستاذ هذا الخطاب ضمن مقدمة للكتاب الذي كان يستعد لإصداره ، وهو عبارة عن طبعة جديدة من أعمال بطليموس. ولما كان الأستاذ فالديمولر قد ذكر في كتابه أن العالم يتكون من ثلاث قارات ، فقد أضاف بعد ذلك في مقدمته قائلا : " أما الآن ... فقد ظهرت قارة رابعة جديدة اكتشفها أمريجو فسبوتشي – كما سيظهر لنا فيما بعد في هذا الكتاب – وهو ما يجعلني لا أرى مانعا من أن نسميها (أمريجا) أو (أمريكا)."
وهكذا جاء اقتراح فالديمولر بهذه التسمية قبل وفاة فسبوتشي بخمس سنوات ، وبعد أن كان كولومبس قد رحل عن العالم بسنة واحدة ، أي في 1507. ومع أن الاقتراح جاء من شخص يعد نسبيا من المغمورين ، وهو فالديمولر ، ولتكريم شخص مغمور آخر هو (أمريجو فسبوتشي) ، فقد تم الأخذ به فعلا ، وجاء صانعو الخرائط والجغرافيون بعد ذلك ونقلوا عن (فالديمولر) وعن خريطته اسم (أمريكا) ووضعوا هذا الاسم على القارة الجديدة في خرائطهم ، وهكذا ولدت (أمريكا) !
الطريف أن الإسبان شعروا بالغيظ والغيرة والظلم لأنهم يعتبرون أنفسهم هم المكتشفين الحقيقيين لهذه القارة ، فبالرغم من أن (كولومبس) إيطالي الأصل ، إلا أنه قام باكتشافاته تحت رعاية وبإنفاق ملكي إسبانيا ، فرديناند وإيزابيلا. ولذلك ظلوا يرفضون استعمال اسم (أمريكا) هذا حتى القرن الثامن عشر ، معتبرين ذلك بمثابة سرقة لحقهم وسبقهم التاريخي في ذلك الكشف الجغرافي الكبير. ولكنهم أحسوا بالطبع أنهم يقفون وحدهم ضد طبيعة الأمور فقد كتب للاسم النجاح والتداول ، واستقرت كلمة ( أمريكا) وتبناها العالم كله في كتبه وخرائطه ، فلم يجدوا بدا من الاعتراف بالاسم !
أما اشتقاق اسم (أمريجو) نفسه فيرده الباحثون إلى أصل جرماني بمعنى (البطولة والزعامة). بطل يا أمريجو ! مكتوبة لك يا فسبوتشي !
والطريف أيضا – بعد ذلك كله - أن بعض الباحثين يشككون في مصداقية الر حلات الاستكشافية التي تنسب إلى ( أمريجو فسبوتشي) وتجعل له بالتالي فضلا في اكتشاف أمريكا ، وحقا في أن تحمل اسمه ! ولعله لولا ذلك الخطاب الذي كتبه هذا الفلورنسي وتكلم فيه عن اكتشافه ثم وقع في يد الأستاذ الألماني لما دخل هذا ال(فسبوتشي) التاريخ والجغرافيا أيضا من أوسع الأبواب ! ولكن هكذا اللغة يا أصدقائي ، وهكذا الأسماء والألقاب ، ليس لها قانون منطقي يحكمها كلها ولا مقياس واحد من مقاييس الصدق أو العدل !
هذه كانت حكاية (أمريكا) ، وإلى حكاية أخرى !