مطبوعة الكترونية عربية مهتمة بموضوع المواطنة وتداول السلطة القانونى وحرية التعبير  فى العالم العربى  .. تصدر من الولايات المتحدة الأمريكية عن المركز الأمريكى للنشر الالكترونى .. والأراء الواردة تعبر عن وجهة نظر أصحابها.
............................................................................................................................................................

 
 

 من دكان الأعشاب إلى قيادة الأمة
...............................................................

حسن العطار عبقري الأزهر الذي صار مفتاح النهضة

بقلم : معتز شكري
.....................


وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين . صدق الله العظيم. دعوني اليوم أتكلم عن شخصية فذة ظهرت في مصر قبل نحو قرنين وشكلت نقلة نوعية هائلة في مسيرة العالم العربي والإسلامي كله نحو النهضة. ومع ذلك فهي للأسف شخصية مغبونة لم تنل حظها من الشهرة إلا بين الباحثين والمؤرخين. اسألوا اليوم تلامذ المدارس من هو حسن العطار ؟ فلن يجيبوا ، ولعلهم سيظنون أنه عطار شهير أو شخص يعالج الأمراض بالأعشاب ، فهو لا يزيد في نظر الأجيال الجديدة – الذين يحفظون عن ظهر قلب سيرة مايكل جاكسون ومادونا – عن رجب العطار وخضر العطار !

هذه الشخصية العجيبة قيضها الله تعالى لمصر لكي تكون مفتاحا للنهضة الفكرية الحديثة في العالم الإسلامي. وإذا كان الكثيرون يفضلون أن يبدأوا بالأفغاني ومحمد عبده ، فلابد أن ندرك أن الطهطاوي سبقهما ، وكذلك غيره ، ولكن إذا رجع آخرون إلى الطهطاوي بالذات ، فسيكتشفون أنه لم ينبغ إلا لأنه "تلميذ" و"اكتشاف" شيخ أزهري عبقري هو حسن العطار !

والأمم العظيمة التي تصاب بنكسات شديدة ، وأعراض تخلف وتراجع علمي وحضاري ، دائما تعود لتراثها وتاريخها القريب والبعيد لكي تستلهم منه عناصر القوة فتبثها في أبنائها من خلال إعادة نشر وإحياء ودراسة آثار أعلامها النهضويين ، وتضع يدها في الوقت ذاته على عناصر الضعف التي أودت بها للهاوية الحضارية والوهدة العلمية فتتجنبها وتعمل كل ما في وسعها حتى لا تقع فيها من جديد.

أوروبا مرت بذلك ، ونحن مررنا به. الفارق أنهم كانوا أكثر جدية فتجاوزوا الصعاب وقاسوا الأهوال ثم بدأوا في جني الثمار ، ونحن لا نزال ندور حول أنفسنا لأننا قصيرو النفس كثيرو "الدلع" !

طبعا ، كانت الحملة الفرنسية (1798-1801) محطة تاريخية مهمة بالنسبة لنا لأنها معلم بارز على طريق رصد حالات الوعي بالهوة الحضارية بيننا وبين الغرب الأوروبي ، ولكنها في جميع الأحوال لم تكن محطة لابتداء النهضة الحقيقية في الشرق العربي والمسلم كما يصور البعض.

ومن الضروري هنا أن نشير إلى أن من الباحثين من يعود في رصد الأفكار الإحيائية إلى ما قبل الحملة الفرنسية بزمن طويل ، وبالذات في القرنين السابع عشر والثامن عشر ، وممن أفاض - على سبيل المثال لا الحصر - في الكتابة عن مناخ الاستفاقة الذاتية هذه ، سواء في مصر أوغيرها خلال القرن الثامن عشر وما قبله وما بعده ، ولكن قبل الحملة ، الأستاذ محمود شاكر (1909 - 1997) في كتابه المهم على صغر حجمه "رسالة في الطريق إلى ثقافتنا" ، بل إنه عاد إلى الوراء إلى زمن علماء ومؤلفين وشيوخ في القرن السابع عشر كان لهم إسهام في حركة الإحياء ، منهم مثلا عبد القادر البغدادي(1620-1683) صاحب "خزانة الأدب"(28).

حسن العطار (1766-1835) لم يكن فحسب أستاذ رفاعة الطهطاوي (1801-1873) الأكثر تأثيرا عليه ، بل كان أيضا أستاذا مؤثرا لتلميذ نجيب آخر وشيخ أزهري عبقري آخر هو محمد عياد الطنطاوي (1810-1861) ، صاحب الرحلة الشهيرة إلى روسيا ، حيث بث فيهما العطار - وفي سائر تلاميذه - تلك الأفكار والميول النهضوية والتحديثية ، من قبيل الاهتمام بالعلوم الحديثة والمناهج الجديدة في دروس الأزهر والاهتمام الشديد بما جلبه الفرنسيون معهم من آلات علمية وهندسية وفلكية ، إلخ.

ومن تلاميذ حسن العطار النجباء أيضا الشيخ محمد شهاب الدين ، صاحب "سفينة الملك ونفيسة الفلك" ، التي لا يستغني عنها الشعراء الكبار والتي نهل منها الجميع من بيرم التونسي حتى أصغر شاعر ومؤلف أغان ، حيث تحفل بالمواويل والأزجال والموشحات. كل الموهوبين الكبار من شعرائنا إذا سألتهم كيف بدأتم وماذا قرأتم يجيبون في نفس واحد : سفينة شهاب ، لا غنى عن سفينة شهاب !

إذا كان هؤلاء بعض "التلاميذ" فكيف يكون "المعلم" و"الأستاذ" ؟!

لكل عالم تخصص ، وإذا اتسعت مواهبه جمع مثلا بين علمين أو ثلاثة أو خمسة ، ولكن أتدرون كم تخصصا برع فيها العطار ووضع المصنفات وألقى المحاضرات ؟

النحو – التوحيد – الأصول – البلاغة – الشعر – العلوم الطبيعية – الرياضيات – الفلك – الطب – الهندسة – الرسم – الجغرافيا – الأدب – التاريخ – اللغات ، إلخ ، حتى علم "الرمل" كان يتقنه !

كل ذلك جاء في سياق يستكمل ما يعرف بحركة الاستفاقة الذاتية أو الإحياء داخل الأزهر مع الاستفادة بما في علوم الغرب وثقافته من إيجابيات وبما أفاده علماء الحملة من مكتسبات حضارية ، ولكن ليس بالتمثل الكامل أو التقليد الأعمي لكل ذلك أو الأخذ من الصفر.

وقد أشار الدكتور محمد عمارة - صاحب المشروع المهم والرائد لإصدار الأعمال الكاملة للرواد - إلى أن الطهطاوي كان يتلقى عن العطار علوما أخرى مختلفة عما كان يدرسه في الأزهر ، وكان من ذلك التاريخ والأدب والجغرافيا ، كما كان يشترك معه في الاطلاع على الكتب الغربية التي لم تتداولها أيدي علماء الأزهر.

ويلفتنا الدكتور جمال الدين الشيال إلى أن أسرة العطار كانت مغربية الأصل ، كما كان أبوه عطارا ، ولكن الشيخ حسن مال لدراسة العلم منذ الصغر ، فشجعه أبوه على ذلك وأعانه ، فشب شغفا بالعلم والبحث في كل غريب ، وكان شخصية فذة ، وامتاز على أقرانه بعقلية حرة ناضجة ، فأحس بأن العلوم التي كانت تدرس في الأزهر حينذاك علوم فجة لا طائل تحتها ، فدرس بنفسه علوم الهيئة والطب والفلك والرياضة ، ومرن على استعمال الأسطرلاب وألف رسالة في كيفية العمل به ... وكان يحسن عمل المزاول الليلية والنهارية.

وكل ذلك غريب بالطبع بالنسبة لشيخ أزهري ، كما أنه كان أمرا نادرا وملفتا بالقياس للزمن والبيئة.

ويلفتنا الدكتور عصمت نصار إلى أنه " لم يعرف في الأزهر مجلس أكبر من مجلس العطار ولم يتوافر لغيره من الأصدقاء والمريدين ما توافر له". ويشير إلى "نجاحه في تأسيس أول مدرسة فكرية في مصر تجمع بين الأصالة والمعاصرة في سياق واحد ، فلطالما نبه تلاميذه إلى ضرورة تزويد حياتنا الثقافية بالمعارف الأوروبية الحديثة ، وإصلاح حال المجتمع وتطهيره من دنس الجهل والخرافة وتعديل مناهج التعليم بالأزهر وتخليصها من الزوائد والحواشي... وترك لنا العديد من المصنفات التي تعبر عن قريحته الموسوعية ، فقد كان رحمه الله شاعرا وأديبا وعالما وطبيبا ومعلما وخطيبا... وله رسائل في النحو والمنطق والطب والتشريح والهندسة والرمل والزايرجة وعلم الكلام والاجتهاد ...".

ويذكرنا الأستاذ محمد عبد الغني حسن بأن استحداث محمد علي لنظام البعثات العلمية إلى أوروبا ، على غير مثال سبق في الحكومات الشرقية ، إنما كان الفضل فيه هو نفسه راجعا إلى الشيخ حسن العطار الذي وجه محمد علي إلى هذا السبيل.

ومن الواضح أن علاقة العطار بمحمد علي التي جعلته بمثابة المستشار المؤتمن والمسموع الكلمة منه ، وثقة محمد علي فيه وإنصاته لنصائحه ، تفسر الكثير من قرارات والي مصر النهضوية في تلك الفترة من حكمه ، فالعطار:

- هو الذي أقنع محمد علي بإرسال البعثات

- وهو الذي أقنعه بتعيين تلميذه النجيب الواعد رفاعة الطهطاوي إماما في الجيش

- ثم هو الذي زين له ضرورة أن يكون للبعثة المسافرة إلى فرنسا إمام يبصر المبعوثين في أمور دينهم

- ثم هو الذي أقنعه بأن يكون هذا الإمام هو رفاعة !

- وهو أيضا الذي نصح رفاعة أن يدون أخبار وتفاصيل هذه الرحلة (وهو ما فعله في "تخليص الإبريز") !

وجميع ما سبق ذكره أمور غير مسبوقة !

وتشاء الأقدار أن يكون رفاعة - وهو الشيخ الأزهري المرتحل مع البعثة بصفته فقط إماما للصلوات وواعظا - أكثر المسافرين على الإطلاق - بما فيهم المبعوثون أنفسهم - ذكاء ومهارة وشغفا بتحصيل العلوم وإقبالا على تعلم اللغة وإتقانها ، وأدقهم ملاحظة للحياة في فرنسا ، وهو الذي سيعود فيملأ الدنيا ويشغل الناس والتاريخ من بعده بمشروعه الفكري العملاق (ولو بمقاييس محدودية الفترة الزمنية وضخامة الإنجاز) ، مهما اختلفت فيه الآراء ، وكل ذلك في رأينا يبرهن على عبقرية العطار في اكتشاف المواهب وبعد نظره فيما يمكن أن يخرج من تلاميذه الأفذاذ من معجزات ، فهذه إذن رؤية شيخ أزهري واحد هو حسن العطار شكل وجوده في ذلك السياق مفصلا تاريخيا.

هل أثرت فضولكم وفتحت شهيتكم للمزيد عن هذه الشخصية الفذة في تاريخنا الحديث ؟ لنعرف المزيد إذن.

ولد حسن العطار سنة 1766 ، وهي تقابل سنة 1180 هجرية تقريبا في القاهرة ، ولكنه سمع من أهله أن أصولهم مغربية. كان أبوه فقيرا ويمتهن العطارة ولكن له إلمام بالعلم ، وكانت نية الوالد أن ينشأ ابنه حسن مثله عطارا فكان يأخذه معه للدكان ليتعلم البيع والشراء وأسرار مهنة التجارة ، ولكنه لاحظ في الصبي ذكاء حادا وفطنة شديدة وشغفا بالعلم وتطلعا للنهل من المعارف المختلفة وكان يغار غيرة شديدة – كما يحكي لنا العلامة علي باشا مبارك (1824-1893) في كتابه الضخم الجميل الممتع "الخطط التوفيقية" – وهو يرى أصحابه الصغار يذهبون إلى الكتاب.

وخشي الصغير ألا يوافق أبوه على ترك الدكان والتفرغ للعلم ، فقرر أن يتسلل سرا إلى الجامع الأزهر بدون علم أبيه من وقت لآخر لكي يسمع من المشايخ في حلقات الدرس. وحفظ القرآن في مدة يسيرة بمجهوده الخاص ، فلما علم الوالد بذلك سر سرورا شديدا بابنه وتركه وشأنه لكي يواصل طريق العلم.

وبسبب عبقرية الصبي ، نبغ في وقت قليل بعد تتلمذه على عدد من كبار مشايخ الجامع الأزهر وصار مؤهلا للقيام بالتدريس بنفسه !

ولما جاءت الحملة الفرنسية وقاد الأزهر المقاومة الشعبية للجيش المحتل الغاصب ، لم يكن حسن العطار أقل وطنية أو حماسة دينية ضد الحملة ، ولكنه كان يفكر في أمر آخر ، وهو أنه بما أن الحملة جاء معها علماء فلماذا لا نخالطهم ونذهب إلى معاملهم ونشاهد تجاربهم العلمية وأدواتهم الغريبة المتقدمة ونتعلم لغتهم حتى نساعد الوطن في إحداث نهضة علمية به بعد أن يخرج المحتلون ؟ وهذا ما فعله حسن.

ثم حدثت أمور بمصر لا نعرف تفاصيلها اضطرته للخروج منها حيث قام برحلة للبلاد الرومية – والمقصود بها بلاد الأناضول - وأقام بالذات في بلد يسمى "اشكودره" تقول المصادر إنها في بلاد الأرنؤود ، وهو ما نفهم منه أنها "ألبانيا" الحالية ، وهناك "تأهل" أي تزوج وأنجب أولادا ولكنهم ماتوا هناك. وليست عندنا تفاصيل كثيرة. وطبعا زار القسطنطينية مقر السلطنة العثمانية.

بعد ذلك توجه للشام وأقام حوالي خمس سنوات بدمشق للاستفادة من كل ما يشاهده ولقراءة كل ما يقع تحت يده من نفائس الكتب والمخطوطات ويلتقي بكبار العلماء هناك والذين طلبوا منه التدريس والشرح لطلبة العلم هناك فأجابهم لطلبهم وصار له تلاميذ هناك أصبحوا علماء كبارا فيما بعد.

ثم نوى أداء فريضة الحج ، وفي طريق عودته عرج على مدينة الخليل – التي تشهد الآن هجمة صهيونية بربرية لتهويدها تحت سمع وبصر أو بالأحرى تحت "صمت وخرس وعمى" القيادات العربية والإسلامية ! – ومنها ذهب إلى مدينة القدس – التي ترزح هي الأخرى الآن تحت نير التهويد وتدنيس المقدسات .

كم قضى خارج مصر ؟ حوالي ثلاثة عشر عاما !

وأخيرا عاد إلى وطنه الحبيب مصر حوالي سنة 1815 ميلادية وكان محمد علي هو الوالي منذ سنة 1805 كما هو معروف.

وعاد العطار للتدريس بالأزهر. ، إلى أن تولى أرفع منصب بالجامع العريق ، وهو مشيخة الأزهر سنة 1830 حيث بقي شيخا للأزهر حتى وفاته 1835 ، وأجرى في هذه المدة ما استطاع من تطوير وارتقاء بشأنه وتخرج من تحت يديه التلاميذ النجباء ، ومنهم العباقرة الذين ذكرناهم كأمثلة فقط ، الطهطاوي والطنطاوي وشهاب !

أتدرون من أقرب أصدقاء العطار ؟ كانوا : الشيخ عبد الرحمن الجبرتي المؤرخ الشهير والشيخ إسماعيل الخشاب المؤرخ والشاعر الكبير ، وكان الثلاثة يقضون سويا أوقاتا من الصداقة المتينة والمودة الخالصة ، حيث تذاكر العلم ومطارحة الأشعار والسمر الجميل.

والكلام يطول ، ولكن تذكروا أعزائي أن هذا مقال لا كتاب !

ولم يكن مقالنا هذا إذن معنيا بالاستفاضة في ترجمة حياة الشيخ حسن العطار ، ولكنه استهدف فقط أن يكون بمثابة وقفة قصيرة وسريعة – ونحن نركض سراعا مع هموم الحياة وتأخذنا في مسيرتها اللاهثة – لكي نقدم تحية لروح هذا الرائد العظيم.

اذكروا سيرته وعلموها لأولادكم ، ولا تتركوهم نهبا فقط لحشو مناهج التعليم العقيمة وبرامج التلفاز السقيمة !

إذا كان هناك ولو "بعض" التقدم الذي حققته أمتنا خلال القرنين الماضيين فجانب كبير من الفضل يعود بعد المولى سبحانه إلى هذا الرجل.

قولوا معي : ألف رحمة ونور عليك يا شيخ حسن العطار !


06/11/2014

مصرنا ©

 

.....................................................................................

 


 

 
 



مطبوعة تصدر
 عن المركز الأمريكى
 للنشر الالكترونى

 رئيس التحرير : غريب المنسى

مدير التحرير : مسعد غنيم

 

الأعمدة الثابته

 

 
      صفحة الحوادث    
  من الشرق والغرب 
مختارات المراقب العام

 

موضوعات مهمة  جدا


اعرف بلدك
الصراع الطائفى فى مصر
  نصوص معاهدة السلام  

 

منوعات


رؤساء مصر
من نحن
حقوق النشر
 هيئة التحرير
خريطة الموقع


الصفحة الرئيسية