افتحوا كتاتيب "للتاريخ" .. يرحمكم الله !
...............................................................
| |
معتز شكري | |
بقلم : معتز شكري
......................
لا أنسى يوما توجهت فيه وأنا في السنة الأولى الثانوية لشراء الأجزاء الأولى من كتاب الأغاني للأصفهاني ، (وهو رغم كل مآخذه وسقطاته مصدر لا غنى عنه للتاريخ الإسلامي والأدب العربي) عقب علمي بصدور طبعة محققة جديدة للمحقق الكبير الراحل الأستاذ إبراهيم الإبياري (وهي في رأيي أفضل تحقيقات الكتاب) ، وتصادف أن كان بصحبتي زميل لنا لم يكن لديه ما يفعله فقال آتي معك. وعندما علم أن الغرض من الذهاب للمكتبة هو أن أقتني كتاب (الأغاني) سألني بمنتهى حسن النية : وهل هذا يا ترى كتاب يتضمن أغاني المطربين؟ فأجبته وأنا مشدوه : مطربين إيه يا حبيبي ؟! إنه كتاب الأغاني لأبي الفرج ، ألم تسمع عنه أبدا ؟ ألم يرد ذكره على الأقل في بعض مقرراتنا الدراسية ؟ فأجابني مصرا كأنه لم يسمعني ودون أن يبدو عليه أي أثر للخجل أو الندم : لا ، لا أعرف هذا الكتاب. وانصرف وهو على ما ظهر لي يلوم نفسه على ما أضاع من وقته الثمين بصحبة ذلك "المغفل" الذي ينفق ستين قرشا دفعة واحدة (كان ذلك سنة 1969) من ماله القليل على كتب "غريبة" !
ولا أنسى يوم كتب كاتب شهير راحل في الأخبار القاهرية يلوم محافظة القاهرة لأنها تطلق اسم "الملك الصالح" على أحد أحياء القاهرة في حي مصر القديمة ، وهو ما يعد تكريما للملك السابق فاروق لا يستحقه لأنه كان ملكا "فاسدا" وليس "صالحا" ! ويومها تعجبت كيف صار كاتبا ، دعك من حكاية "شهيرا" هذه ، وعاش كل عمره هذا آنذاك ، وهو لا يعرف أن التسمية خاصة بالسلطان الأيوبي الملك الصالح نجم الدين أيوب الذي مات وهو يقاوم الصليبيين وأكملت شجرة الدر مسيرة الجهاد إلى النصر ، ولا علاقة لذلك لا بفاروق ولا بأسرة محمد علي كلها !
وقبل عدة أعوام ، كتب كاتب آخر شهير ينتقد فيلما أنتجه التيلفزيون المصري عن عملية وطنية مصرية شهيرة لتدمير ميناء إيلات الإسرائيلي يقول إننا (هو يعني) كنا نظن أن العملية خاصة بتدمير المدمرة إيلات فكيف يغير التليفزيون التاريخ ويجعلها تدميرا لسفن في ميناء إيلات ؟! ولم يعلم سيادته ولم يقرأ أو يستشر أحدا قبل الكتابة أن هناك عمليتين في تاريخ العسكرية المصرية الحديثة ، إحداهما خاصة بتدمير مدمرة تحمل اسم (إيلات) في 21 أكتوبر 1967 والأخرى خاصة بتدمير ونسف سفينتين بميناء إيلات نفسه (بيت شيفع) و(بات يم) في 16 نوفمبر 1969 !
وقبل أيام قليلة ، حلت – وسط صمت كصمت القبور من معظم وسائل الإعلام المصرية - ذكرى ثورة القاهرة العظيمة التي انتفض فيها الشعب المصري البطل ضد غزوة بونابرت الهمجية وفوجيء الفرنسيون بما لم يكونوا يتوقعونه من شعب ظنوا أن تخلفه عن ركاب العلم والحضارة في ذلك الوقت يعني أنه صار جثة هامدة ، فوجدوا أمامهم مقاومة عنيفة ونبيلة وعبقرية دفاعا عن حق الحياة وحرية الأوطان ضد حضارة همجية تفرض بقوة السلاح.
وقبل نحو عام ، اختار التليفزيون المصري "أجهل" مذيعاته لتقديم برنامج مسابقات في المعلومات ، وانهالت على المشاهدين فضائحها في النطق والمعلومات ، ومنها على سبيل المثال لا الحصر أنها ظلت فترة لا تعرف كيف تنطق اسم الخليفة المستكفي العباسي مع أنها تقرأ من ورقة كتبها لها المعد ،وأخيرا أسفر المخاض العسير والجهاد الطويل عن أنها نطقته بفتح التاء والكاف وكسر الفاء مع تشديدها ! أي والله العظيم حصل !
ما الذي أريده من الآخر هكذا ؟ أريد أن أقول للنخبة أو الصفوة أو المثقفين أو الطليعة إلخ، في بلداننا العربية ، سواء كانوا الآن في الحكم أو في المعارضة أو في مقاعد الاستراحة أو حتى في الحمام ، إذا كنتم مخلصين في البحث عن حلول للخروج بأوطاننا من مأزقها الحضاري الشنيع وتخلفها العلمي المريع ، فأمامكم ما يقترحه عليكم كاتب هذه السطور كبداية لاستعادة الوعي : افتتحوا في كل مكان – على غرار كتاتيب تحفيظ القرآن الكريم – كتاتيب لتعليم التاريخ !
لا يهم ماذا يدرس التلاميذ في المدراس والجامعات الآن ، فقد شبعنا تغيير مناهج وتطوير مناهج ولجان ومذكرات ومؤتمرات ، اتركوهم كما هم ، ولكن افتتحوا في كل منطقة تعليمية أو حي من الأحياء غرفة واحدة يتم فيها تدريس التاريخ للصغار والكبار بالمجان مع كل الحوافز الممكنة من مالية ومعنوية من المجتمع المدني بعيدا عن إثقال ميزانيات الحكومات.
ترى ، ماذا يعرف شباب اليومين دول عن السلطان عبد الحميد الثاني ؟ ربما يعرف من كتب الدراسة أو من تلقين تيارات بعينها أنه كان سلطانا عثمانيا مستبدا في فترة تخلف وانحطاط الدولة العثمانية قبل انهيارها. لا بأس ، هذا جزء من الحقيقة لا سبيل إلى إنكاره ، ولكن هلا علمناه أيضا أنه ذلك الرجل العظيم الشجاع الذي وقف في وجه الحركة الصهيونية العاتية ومؤامرتها الخبيثة لابتلاع فلسطين العربية المسلمة ؟ ولولا السلطان عبد الحميد لوقعت النكبة قبل موعدها بخمسين عاما. لا يمكن أن نلوم الرجل لأن الأقدار شاءت له أن يولد وينشأ ويتسلطن في وقت أفول هذه الحضارة العظيمة والدولة الشاهقة المعمرة ، وعلينا أن نحيي موقفه لأنه حاول تأخير انهيارها ، ووقف سدا منيعا ضد ضياع فلسطين.
أمامي الآن أكثر من مصدر ما بين غربي أو يهودي صهيوني على الإنترنت يسجل ، وهو يسرد تاريخ هرتزل راعي الصهيونية ، للسلطان عبد الحميد أنه رفض إغراءات تيودور هرتزل له بأن يسدد له ديون الدولة العثمانية ، وهي أحد أسباب انهيارها ، وأن ينفحه عدة ملايين من قطع الذهب الخالص له وحده على أن يوافق فقط على تخصيص جزء من فلسطين لإنشاء وطن قومي لليهود. وقال السلطان قولته المشهورة الخالدة : أنشئوا وطنكم اليهودي هذا أو دولتكم هذه في أي مكان بعيد عن أرض الخلافة العثمانية ، ولا أفهم كيف تتوقعون مني أن أعطيكم شيئا لا أملك التصرف فيه ؟ إن أرض فلسطين هذه جزء من أرض الإسلام والمسلمين وهي أمانة في عنقي علي أن أسلمها كما هي للأجيال القادمة. بمقدوركم أن تأخذوا فلسطين في حالة واحدة فقط ودون أن تدفعوا شيئا من أموالكم ، إذا انهارت الدولة العثمانية وتم تقسيمها فستأخذون فلسطين !
إنني لا أدعو الآن لعودة الخلافة ، ولا للتغاضي عن أخطاء السلطان ولا الدولة العثمانية ، إنني أركز هنا على أمثلة محددة : اختيار مواقف مجيدة لشخصيات من تاريخنا القديم والحديث لتكون مثالا لأجيالنا الشابة ، ثم تبصير الناس جميعا ، كبارا وصغارا ، بدروس التاريخ حتى لا نكرر أخطاءنا ، وبالذات في وقت تتعرض فيه قضية فلسطين لتواطؤ يكاد يكون غير مسبوق من الجميع لدق آخر مسمار في نعشها. إن حالات التصفيق والصراخ الهستيري الذي كان يدوي في قاعة جامعة القاهرة بعد كل فقرة يقولها أوباما دليل على أننا لا عندنا تاريخ ولا جغرافيا ولا علمنا أبناءنا شيئا من الوعي أو الثقة بالنفس وأنه "كله عند العرب صابون" ، وأهنئكم مقدما على مزيد من "الصابون" المرسل لنا من الشرق والغرب لزحلقتنا بعيدا عن الطريق الصحيح للنهضة والتقدم.
أمريكا فزعت من رداءة مستوى التعليم عندها قبل أكثر من عشر سنوات – من وجهة نظرهم طبعا - فجاء الملف الخطير الذي يحمل عنوان "أمة في خطر" ، ونحن بتخلف تعليمنا وغياب وعينا بالتاريخ "أمة رايحة في داهية" !
لقد أقام اليهود دولة من العدم ، من الصفر ، ولم يكن في عقولهم وقلوبهم إلا أحلام بإعادة التاريخ ، حتى ولو كان أسطوريا، ونحن لا نكن أي احترام للتاريخ ، مع أن لنا تاريخا حافلا بالأمجاد والدروس.
سئل موشى ديان : كيف جازفتم بتكرار خطة عسكرية للمرة الثانية في حربكم ضد العرب ، ألم تخشوا من أن يتنبه العرب لذلك ويفسدوا عليكم خطتكم ؟
قال : لا ، لأن العرب قوم لا يقرأون التاريخ !
اقرأوا التاريخ - وعلموه لأولادكم - يرحمكم الله !
06/11/2014