مطبوعة الكترونية عربية مهتمة بموضوع المواطنة وتداول السلطة القانونى وحرية التعبير  فى العالم العربى  .. تصدر من الولايات المتحدة الأمريكية عن المركز الأمريكى للنشر الالكترونى .. والأراء الواردة تعبر عن وجهة نظر أصحابها.
............................................................................................................................................................

 
 

 الأحداث العربية الأخيرة .. دلالاتٌ وعِبَرٌ

الأنظمة العربية جميعها أنظمة مستبدة

بقلم : سعد رجب صادق
..........................

يمر العالم العربى خلال الفترة الراهنة من تاريخه المعاصر بتغيرات شديدة الأهمية ، وتحولات بالغة الدلالة ، وترجع أهمية تلك التغيرات ، ودلالات تلك التحولات إلى الحراك الشعبى الجارف ، وما له من تأثيرات على حاضر الأمة ومستقبلها ، ونظرتها إلى علاقتها بحكامها ، ودورها فى صناعة غدها ، وتقرير مصائرها ، والمتأمل فى الوضع العربى خلال العقود القليلة الماضية ، يستطيع أن يلمح بسهولة تلك المجموعة من الخصائص المشتركة :

1- الأنظمة العربية جميعها أنظمة مستبدة ، بل إنها تمثل آخر رموز الاستبداد وبقاياه فى العالم ، وقد أتت كلها إلى السلطة عبر التوارث فى الدول الملكية ( السعودية والأردن والمغرب وإمارات الخليج ) ، أو عبر الانتخابات المزيفة ( مصر) ، أو التوارث فى الأنظمة الجمهورية ( سوريا ) ، أو الانقلابات العسكرية ( ليبيا وموريتانيا) ، أو بمساعدة قوات الاحتلال ( العراق ) .

2- ولم تكتف تلك الأنظمة بالاستبداد ، بل أضافت إليه العمالة للغرب ، تدور فى فلكه ، وتنفذ أجندته ، وعمالة الغرب تعنى أيضا الولاء لإسرائيل ، وحمايتها من كل أشكال المقاومة المشروعة ، وهو ما يتعارض بالكلية مع طموحات الشعوب العربية ورغباتها فى مجتمعات ذات كرامة وسيادة .

3- ومع الاستبداد والعمالة يأتى نشر الفساد السياسى بتزوير الانتخابات ، والتلاعب بالقوانين والدساتير ، والتضييق على المعارضة وتدجينها ، ويأتى أيضا نشر الفساد الاقتصادى بشيوع الرشوة والمحسوبية والعمولات ، وتدمير الصناعات الوطنية ، وتدمير الزراعة التى هى مصدر غذاء الإنسان ، حتى أن دولة كمصر تعتبر أكبر مستورد للقمح فى العالم ، وبيع ممتلكات الشعوب كالقطاع العام ، والموارد الطبيعية بأبخس الأثمان ، ومع الفساد السياسى والاقتصادى يأتى دوماالفساد الاجتماعى ، المتمثل فى شيوع العادات الرذيلة من الإهمال والاستهتار ، وسلوكيات اليأس واللامبالاة ، وتفكك عرى الأسرة ، وذيوع المفاسد الأخلاقية ، ولم تكتف الأنظمة بنشر الفساد ، بل تولت رموزها وأجهزتها رعايته وحمايته فى كل مرافق الدولة ، وكل ذلك حتى يسهل لها ولمن يدورون فى فلكها إبقاء سيطرتهم وسلطانهم ، واستدامة استنزافهم لموارد المجتمع وثرواته ، وإلهاء الناس بالمعاناة والفقر والمشاكل التى تستنزف طاقاتهم ، وتبدد أوقاتهم .

4- ولكى تكتمل تلك الحالة وتستديم ، استخدمت الأنظمة النخب الفاسدة فى تغريب المجتمعات العربية ، وتضليلها ، ومحاولة سلخها من هويتها ودينها ولغتها وتراثها وتاريخها .

5- وقد أفرزت تلك الأوضاع المختلة تدهورا شديدا فى مستوى التعليم ، وأداء مرافق الدولة ، وترديا هائلا فى مستويات المعيشة ، فازداد الفقراء فقرا ، وتآكلت الطبقة الوسطى حتى كادت أن تندثر ، وبرزت فئات نفعية وانتهازية كونت ثروات هائلة من اللصوصية وسرقة المال العام والعمولات والتحايل على القوانين ، وتزاوجت تلك الفئات مع الطبقة السياسية الحاكمة ، وطبقة النخبة المُضلِلة ، وكونوا ثالوثا مدمرا لبنيان المجتمع وهياكله .
كان طبيعيا تحت تأثير كل تلك العوامل السلبية أن يعترى الإنسانَ العربى الشعورُ بالإحباط ، وإحساسُ القنوط من المستقبل ، وهو مع القبضة الأمنية الخانقة ، والتضليل النخبوى والإعلامى المتواصل ما كان كافيا للغالبية أن تنأى بنفسها عن العمل العام ، وتعزف عن محاولة الإصلاح والتغيير ، حتى ظن الكثيرون موت الشعوب العربية ، وفقدان الأمل فى تململها وحركتها ، ونسى هؤلاء جميعا أن التغيير سنة إلهية ، وأنه حادث لامحالة ، وأن الفطرة البشرية وإن اعتراها بعض المسخ والتشويه لا تلبث أن تعود أدراجها لطبيعتها التى خلقها الله سبحانه عليها ، من حب الحرية والعدالة والكرامة ، وكراهية البغى والقهر والظلم والاستبداد ، وقد أظهرت تلك السنن الإلهية حتميتها فى الانتفاضة التونسية والمصرية ، وإرهاصات انتفاضات أخرى قادمة فى بلاد العرب والمسلمين ، ويتناول هذا المقال تلك الأحداث التونسية والمصرية الأخيرة ، لما لها من دلالات ، وما فيها من معانى وعبر ، تناولا بعيدا عن العاطفة التى طغت على كل الكتابات المصرية والعربية فى الفترة الأخيرة ، وأكثر ميلا إلى التحقيق والنقاش والاستشهاد برؤى الآخرين واجتهاداتهم ، بما فيهم الأجانب الذين أعطوا التطورات الأخيرة قدرا كبيرا من الاهتمام والدراسة .

أولا : ماذا حدث فى تونس ؟

1- نظام شديد الاستبداد يجعل من القبضة الأمنية الصارمة سلاحه اللازم لاستمرار سلطانه وتسلطه ، ومن لا يقبل بالولاء والطاعة فمصيره القتل أو السجن أو النفى ، ولذلك فلا عجب أن دولة تونس الصغيرة والتى يبلغ عدد سكانها حوالى عشرة ملايين بها من قوات الأمن حوالى ربع مليون ، أى شرطى لكل أربعين من السكان ، كما يذكر Henry Samuel فى تحقيقه بصحيفة Telegraph البريطانية بتاريخ 1-14-2011 ، والذى يذكر فيه أيضا أن ثلثى هؤلاء الجنود يرتدون ثيابا مدنية ليسهل اختلاطهم ومراقبتهم للناس ، وأن سطوتهم تمتد حتى للجالية التونسية الكبيرة فى فرنسا ، والتى يصل عددها إلى 600,000 ، تركوا بلدهم فقرا أو فرارا : Mr Ben Ali's country has one policeman for every 40 inhabitants , and two thirds of those are plain-clothed . Fear of the police was so strong that even those among France's 600,000 strong Tunisian diaspora were afraid to speak out against the regime ، والمثير للدهشة أن هذا العدد الهائل من قوات الشرطة يقابله جيش تراوحه التقارير بين 20,000 إلى 50,000 ، والأمر لا يتوقف عند تلك القوات الأمنية النظامية ، بل يتعداه إلى استخدام غالبية السكان بصورة أو بأخرى فى خدمة القبضة الأمنية ، حتى أن الصحفى البريطانى الشهير Robert Fisk يذكر فى مقاله The brutal truth about Tunisia ، والمنشور فى صحيفة The Independent بتاريخ 1-17-2011 أن حوالى ثلثى سكان تونس يساهمون بطرق مختلفة فى البوليس السرى : two-thirds of the entire Tunisian population - seven million out of 10 million , virtually the whole adult population - worked in one way or another for Mr Ben Ali's secret police ، والشئ الذى يستحق التأمل هنا أن بن على الذى انقلب على الحبيب بورقيبة عام 1987 وكان وزير داخليته ، وأزاحه من السلطة بتهمة عدم المقدرة وعدم الكفاءة على الاستمرار فى رئاسة البلاد ، أعلن فى ذلك الوقت أنه لن يتولى الحكم غير دورتين فقط ، غير أنه بعد ها عدل الدستور ليبقى فى الحكم مدى الحياة ، وهو نفس السبب الذى كان يلوم بورقيبة عليه ، ومن استقلال تونس عن فرنسا عام 1956 وحتى إزاحة بن على عن السلطة فى 14 يناير 2011 ، لم يتداول على حكم تونس غير بورقيبة ( 1987-1956 ) أى 31 عاما ، وبن على ( 2011-1987 ) أى 24 عاما .

والاستبداد السياسى يرافقه دائما التضييق الشديد على كل أشكال المعارضة ، والحجر على كل وسائل الإعلام ، حتى لا يبقى إلا الإعلام الحكومى الذى يتغنى بانجازات النظام وأمجاده ، وينعت كل من يحتجون على سوء الأحوال بالقلة المندسة ، وراغبى الفتنة ، والعملاء والإرهابيين ، وغير ذلك من مصطلحات قاموس الكذب والنفاق ، وتصف Michele Penner Angrist أستاذة العلوم السياسية المساعدة فى Union College بلندن فى مقالها Morning In Tunisia ، والمنشور فى مجلة Foreign Affairs بتاريخ 1-16-2011 التضييق على حرية التعبير فى تونس ، ومراقبة التليفونات والانترنت ، والقضاء على المعارضة الإسلامية ، واستخفاف النظام والإعلام رغم ذلك بالناس ، فالنظام يُسمى حزبه الحاكم ( الدستورى الديمقراطى ) ، والإعلام يتحدث عن إنجازات الزعيم العظيمة للتونسيين الذين لم يرتقوا بعد ليمنحهم النظام الحرية والديمقراطية الكاملة : Despite the early rhetoric emphasizing political pluralism , Ben Ali cracked down against free speech and any potential dissent ... During the 1990s , he eliminated the Islamist movement and consolidated an even darker and more repressive dictatorship than that of Bourguiba . Ben Ali retained Bourguiba's governing political party , renaming it the Constitutional Democratic Rally .The name was a cynical choice , for Ben Ali's Tunisia would come to have zero press freedom , a censored Internet , monitored phone and e-mail communications , and only token opposition in a toothless parliament ... The state-run media participated in grotesque displays of hagiography and helped produce a cult of personality aroud the president , whose portrait hung everywhere . The media lauded his initiatives as unambiguously and gloriously advancing the interests of all Tunisians , with Ben Ali the ever avuncular and enlightened ruler . The reality was much more grim : dissidents were tortured and everyday Tunisian struggled to build livelihoods , while the families of the president and those connected to him enriched themselves and flaunted their wealth . The Ben Ali regime was contemptuous of its citizens , treating them as too unsophisticated to entrust with freedoms
ومما يجدر ذكره هنا أن المؤشرات العالمية تضع تونس فى مراتب متدنية ، فمثلا مؤشر حرية الصحافة الذى يعده مراسلون بلا حدود ، يضع تونس فى المرتبة 164 بين 178 دولة لعام 2010 ، بينما تأتى فى المرتبة 144 بين 167 دولة فى مؤشر الديمقراطية لنفس العام حسب صحيفة The Economist
 
2- نظام شديد الفساد تركزت فيه الثروة فى الرئيس وزوجته والأقارب والمصاهرين والدائرين فى فلكهم ، وقد دفع بن على بصهره وزوج ابنته محمد صخر الماطرى والذى كان يعده لخلافته إلى عضوية اللجنة المركزية للحزب الدستورى الحاكم ، وتم انتخابه مؤخرا عضوا فى مجلس النواب ، علاوة على أنشطته الاقتصادية حيث يدير شركات عديدة فى الصناعات الدوائية والعقارات والسياحة ، وبنك الزيتونة ، وإذاعة الزيتونة للقرآن الكريم ، وله أسهم فى بنك الجنوب ، و %70 من أسهم دار الصباح والتى تعد أعرق المؤسسات الصحفية التونسية ، ويذكر الكاتب البريطانى Brian Whitaker فى مقاله How a man setting fire to himself sparked an uprising in Tunisia ، والمنشور فى صحيفة The Guardianبتاريخ 28-12-2010 أن ولع Imeda Marcos زوجة ديكتاتور الفلبين السابق بإقتناء الأحذية يقابله ولع ليلى الطرابلسى زوجة بن على بإقتناء الفيلات والعقارات والحسابات البنكية . وامتدت أنشطة تلك العصبة إلى الاستيلاء على الأراضى والأملاك الخاصة غصبا ، والاستفادة من قروض البنوك الوطنية مع غياب الرقابة والشفافية والمساءلة ، وكذلك الاستيلاء على مؤسسات القطاع العام بأثمان زهيدة ، والحصول على عمولات ومشاركات من أصحاب الأعمال مقابل توفير الحماية والتسهيلات لهم ، وكل تلك الأنشطة وغيرها والتى تفتقر إلى القانون والأخلاق هى ما عناه السفير الأمريكى العام الماضى بممارسات عصابات المافيا ، وذلك حسب تسريبات ويكيليكس WikiLeaks ، ويصف Whitaker فى مقاله أن الفساد لم يكن يمارس فى الخفاء ، بل كان ظاهرا، صارخا ، شديد الصلف والوقاحة ، حتى أن عامة الناس أصبحت تعرف به : corruption has become so blatant that even average Tunisians are now keenly aware of it
 
3- نظام ينفذ سياسة اقتصادية تعتمد على إملاءات صندوق النقد الدولى IMF ، وتشمل الخصخصة ، وبيع القطاع العام ، والتخلى عن دور الدولة فى التنمية ، ودعم الفقراء ، والبرامج الاجتماعية الضرورية للمعوزين وذوى الحاجات ، وقد أدت تلك السياسات وغيرها من الإملاءات الأجنبية والتى بدأ تنفيذها منذ 25 عاما إلى ارتفاع نسبة البطالة ، واشتداد العبء على محدودى الدخل ، وغياب الشفافية والمحاسبة ، وازدياد تراكم الثروات بين الأغنياء ، وظهور طبقات نفعية وانتهازية ، والغريب أن الغرب الكاذب المنافق أخذ يطبل ويهلل للإنجازات التونسية فى تحقيق معدلات تنمية تتواءم مع شروطهم ، متغافلا عن العواقب الاجتماعية البالغة السوء على بنيان المجتمع ، وبالنظر إلى البطالة على سبيل المثال نجدها حسب الإحصائيات الرسمية %14 على المستوى القومى ، وتصل إلى %30 فى الفئة العمرية ( 29-15 عاما ) ، وهى من أعلى النسب عربيا ، ويزيد من تفاقم مشكلة البطالة أن كثيرا من المتعطلين من حملة الشهادات ، أى أن مستواهم التعليمى ، وعدم تناغم النظام التعليمى مع أسواق العمل يحُول بين هؤلاء وبين العثور على العمل المناسب ، وهو ما يدعو Whitaker فى مقاله السابق الإشارة إليه إلى وصف هؤلاء الشباب بالضحايا الذين تم تأهيلهم بكفاءات لا تجد من يستخدمها ، وتوقعات لا يستطيعون تحقيقها they are victims of an education system that has succeeded in providing them with qualifications that can't be used and expectations that can't be met ولذا ليس عجيبا أن ترتفع نسبة الباحثين عن عمل من حملة الشهادات من %20 عام 2000 إلى %55 عام 2009 ( يضع مؤشر التعليم والذى يدخل ضمن مؤشر التنمية البشرية المكون من 3 مؤشرات : التعليم - معدل الحياة - الناتج المحلى الإجمالى ، وتصدره الأمم المتحدة ، يضع تونس فى المرتبة 123 من بين 179 دولة ، بينما تحتل المرتبة 81 فى مؤشر التنمية البشرية ضمن 169 دولة ، ويلاحظ هنا أن الناتج المحلى الإجمالى بلغ 40 مليار دولار ، أى المركز 77 عالميا ، ومتوسط دخل الفرد 3850 دولارا ، أى المركز 135 عالميا والمركز 12 عربيا ، لسنة 2009 ) ، وفى خلال ربع قرن من سياسات صندوق النقد الدولى تزايد عدد الطلاب الجامعيين عشر مرات ليصل إلى نصف مليون ، يتخرج منهم إلى سوق العمل 80,00 سنويا ، يتم استيعاب 15,000 منهم فقط ، ومشكلة البطالة فى تونس لها بعد آخر يجعلها أكثر حدة من مثيلاتها فى الدول العربية ، ويتمثل هذا البعد فى تدنى فرص العثور على عمل بديل فى مجالات كالبناء وخدمات السيارات وبيع الخضروات والفاكهة وغيرها ، ويرجع ذلك للقوانين الصارمة والتشدد فى تنفيذها ، وهو ما حدث مع الشاب محمد بوعزيزى الذى أحرق نفسه ، وتبلغ فرص الأعمال البديلة فى تونس %20 ، بينما تصل فى مصر إلى %50 ، وتتراوح بين %40 فى الجزائر ، %45 فى المغرب ، ومن أسباب تفاقم البطالة أيضا التمييز فى الأنشطة الاقتصادية بين المناطق التونسية ، حيث تستأثر المنطقة الساحلية الشرقية بمعظم الاستثمارات ( 402 مليونا فى قطاع الصناعة وحده فى الشهور الثلاث الأولى من عام 2009 ) ، بينما المناطق الغربية أو الداخلية حصلت على 177 مليونا لنفس المدة ، ولذلك ترتفع البطالة فى تلك المناطق متجاوزة %20 ، ولا يمكن هنا أيضا إغفال اعتماد الاقتصاد التونسى على الاقتصاد الأوربى ( %80 من صادرات تونس ) ، ولذلك فإن الأزمة الاقتصادية العالمية الأخيرة قابلها ركود فى الاقتصاد التونسى الذى يعتمد على تصدير الفوسفات ، وعلى تصنيع الملبوسات والمكونات الكهربية والألكترونية والميكانيكية وجميعها تأتى مادتها من أوربا للتصنيع ثم إعادة التصدير ، وعلى السياحة ، ويلاحظ أن تلك الأنشطة ( الفوسفات والتصنيع والسياحة ) لا تحتاج إلى عمالة عالية المهارة والخبرة ، وهو عامل آخر يسهم فى مشكلة البطالة وخاصة لأصحاب الشهادات ، ومما يجدر ذكره أن الاستثمارات الأجنبية قد تراجعت بنسبة %61 بين الشهور الثلاث الأولى من 2009 ، والشهور الثلاث الأولى من 2010 ، وشهدت نفس الفترة تراجعا فى الاستثمارات الصناعية بمقدار %20 ، وكل تلك العلل فى الاقتصاد التونسى دلائل على الاستجابة العمياء لرغبات صندوق النقد الدولى ، وغياب التخطيط ، وانعدام الشفافية والمراجعة ، وسيادة العشوائية والتخبط ، وعدم إدراك النتائج الكارثية لكل ذلك على الأوضاع الاجتماعية ، ورغم كل تلك الإخفاقات يمجد النظام من إنجازاته الاقتصادية ، وهو ما يشير إليه Whitaker فى سخرية وتندر فى مقاله السابق بقوله The regime also seems to have overdone its trumpeting of Tunisian's economic progress . If those claims are true , people ask , what happened to the money ? One answer they give is that it has gone into the pockets of the Ben Ali family and their associates

4- نظام ينفذ أجندة الغرب فى علمنة المجتمع وتغريبه وفصله عن هويته ودينه وتاريخه ، وقد بدأ ذلك فى عهد بورقيبة وامتد طوال عهد بن على ، حيث تم حظر الحجاب ، والدعوة إلى الإفطار فى رمضان ، والتضييق على المصلين فى المساجد ، واستخدام البطاقات الممغنطة لدخولها، ومساوة المرأة بالرجل فى الميراث ، وتحريم تعدد الزوجات ، وتجريم إطلاق اللحية ، ومنع الآذان وجميع المراسم الإسلامية فى التلفزيون ، وقد نشرت الصحف بعض الوثائق التى تم العثور عليها بعد الإطاحة بالرئيس بن على وفيها تعليمات بمراقبة كل من يتردد على المساجد باعتباره مشروع إرهاب ، وكل من ترتدى الحجاب والذى تسميه الوثائق الزى الطائفى ، ويذكر د . عوض سليمان بتاريخ 1-14-2011 فى مقال بعنوان ( التهبت تونس واحترق الجلاد ) : ( فى تونس بن على يكفى أن تقول كلمة التوحيد ، حتى تتهمك الحكومة بالرجعية والإرهاب والتآمر ، وحتى تدخل السجن الذى قد لا تخرج منه أبدا ، التونسيون حرموا فى عهد هذا الرئيس من حق الاعتقاد ، فيجب عليك أيها التونسى أن تعتقد أن الصيام يعرقل النشاط ، وأن الدولة ستخسر بسبب صيام المسلمين ، وأن توحيد الله يضر بمصلحة الشعب ، أما الصلوات فى المساجد فهى خطر على البشرية جمعاء ، ولذلك تستدعيك قوى الأمن لتحقق فى أهداف صلاتك ، ولتتأكد من الجهة التى تصلى إليها ، فى تونس تمنع المرأة من حق اللباس ، فإن تحجبت أو احتشمت لا تستطيع أن تلد فى المستشفى الحكومى ، ولا يحق لها التعليم فى المدارس ... إذا كنت تتردد على المساجد فاعلم أن بطاقتك الشخصية ستصادر ، وعليك المرور كل صباح ومساء إلى أقسام الأمن ليتأكدوا أنك لست إرهابيا ، ومنع زين العابدين اللحية على الرجال فى تونس ، وتكلم فيها رجاله المخلصون أكثر مما تكلم مالك فى الخمر ، فعصابات الأمن التونسية فى المطار تقول لك أيها التونسى نظف وجهك من هذا الوسخ قبل أن تدخل البلاد ، وإلا حجزنا جواز سفرك وبطاقتك الشخصية ، ولن تغادر مرة أخرى . التوحيد تهمة والصلاة تهمة والحجاب تهمة واللحية تهمة ، وإذا قبض رجال الأمن على رجل وزوجته الثانية أدخلوه السجن بلا رحمة ، ولكنه ينجو من السجن بكلمة واحدة ، أن يقول لهؤلاء القوم : هذه خليلتى وليست زوجتى ، فأنا زان وهى زانية ، وهنا فقط يعتذر الجنود للرجل المتحرر ، بل ويقربونه من النظام ) [ alarabnews.com ] ، ومحاربة الأنشطة الإسلامية لم يتوقف على الأفراد بل امتد ليشمل كل ما له علاقة بالإسلام ، حيث تم حظر حركة النهضة الإسلامية ، وقمع أعضائها ، ونفى رئيسها الشيخ راشد الغنوشى عام 1989، حيث عاش فى لندن لمدة 22 عاما ، رغم أن الحركة لم يعهد عنها التطرف فى فكرها أو أفرادها ، ويشبهها الكثيرون من المهتمين بالشأن الإسلامى بحزب العدالة والتنمية الحاكم فى تركيا .. إن ما ارتكبه النظام التونسى من حماقات وسفاهات ضد الإسلام كدين ، والمسلمين كالغالبية العظمى من أهل البلاد يماثل ما فعله النظام العلمانى الأتاتوركى فى تركيا بعد سقوط الخلافة العثمانية ، أو ما فعله الاتحاد السوفيتى الشيوعى فى جمهوريات آسيا الوسطى الإسلامية من إقصاء ومحو لكل ما هو إسلامى .

5- نظام أوصل التونسيين إلى مرحلة متقدمة من الإحباط ، حتى أصبح الانتحار حدثا يوميا ، ووصل معدله إلى ألف حالة سنويا ( حالة لكل 10,000 نسمة ) فى مجتمع مسلم يُحرم دينه وأعرافه الانتحار، وقد سجل مركز الإصابات والحروق البليغة 280 حالة انتحار حرقا فى الفترة من يناير حتى أكتوبر 2010 ، أى 28 حالة شهريا ، بمعدل حالة كل يوم تقريبا ، وانتحار محمد بوعزيزى ( 26 عاما ) ، فى 17 ديسمبر 2010 ، فى مدينة سيدى بوزيد الواقعة على بعد 270 كم جنوب غرب العاصمة تونس ، بعد أن سُدت فى وجهه كل المنافذ ، وصودرت عربته التى يبيع عليها الخضروات بعد استحالة حصوله على عمل يناسب شهادته الجامعية ، وتمت إهانته وصفعه فى قسم الشرطة ، لم يكن إذن حدثا فريدا فى الحياة التونسية ، ولكن بشاعة مشهد شاب فى مقتبل عمره ، وفى مؤهله الجامعى ، يصب البنزين على نفسه ، ويشعل النار فى جسده ، احتجاجا على الظلم والقهر والمعاناة ، كان بمثابة الشرارة التى أججت المشاعر ، وقادت إلى انتفاضة شعبية عارمة أودت برأس النظام ، وقد تبع ذلك انتحار شاب آخر ( حسين الفالحى ، 25 عاما ) ، الذى تسلق عمودا كهربائيا ليلقى حتفه صعقا .. هذه المشاهد وغيرها كان الإعلام يتجنب الحديث عنها ، وكانت الحكومة تتجاهل أسبابها ودوافعها ، وتصفها بالحوادث الفردية عديمة الدلالة ، وهى عادة الإعلام المُوجه والحكومات المستبدة دائما فى تجاهل المشاكل ، والتدليس على الناس ( يضع مؤشر الرضا بالحياة والذى يستخدم عددا كبيرا من البيانات لقياس سعادة الشعوب تونس فى المركز 79 من بين 178 دولة لعام 2006) .

ولم يكن الانتحار الطريقة الوحيدة لمواجهة أزمات التونسيين ، فقد حدثت هبات وانتفاضات عديدة ، بعضها كان محليا قصير الأمد ، كما حدث خلال العامين الماضيين فى مناطق الصخيرة ، بن قردان ، جبنيانة ، قصر قفصة ، وانتفاضة منطقة الحوض المنجمى والواقع فى محافظة قفصة جنوب سيدى بوزيد فى عام 2008 ، وبعضها كان قوميا كالاضراب العام الذى نظمه الاتحاد العام للشغل ( المنظمة النقابية الوحيدة فى البلاد ) ، فى 26 يناير 1978 ، للدفاع عن حرية العمل النقابى ، وكذلك الانتفاضة التى حدثت فى أواخر عام 1983 ، وعرفت وقتها بانتفاضة الخبز ، وانتهت فى 4 يناير 1984 بعد أن أعاد بورقيبة الأسعار إلى ما كانت عليه ، ثم انتفاضة سيدى بوزيد الأخيرة ، والتى كان مركزها سيدى بوزيد والقصرين فى الوسط الغربى ( تصل نسبة البطالة فى سيدى بوزيد حسب مقال Whitaker السابق الإشارة إليه إلى %25 بين الشباب المتخرج حديثا من الجامعة ، وإلى %44 بين الشابات ، وهو ما يعادل حوالى 3-2 أضعاف المعدل القومى )، وبدأها شباب لم يعرفوا فى حياتهم غير بن على ونظامه الذى صدّعهم بالحديث عن انجازاته الوهمية والتى لم يروا منها شيئا غير الفقر والبؤس وانعدام الأمل ، ثم امتدت للمناطق الأكثر حظا فى صفاقس وبنزرت وسوسة .

ثانيا : ماذا حدث فى مصر ؟

لو وضع المرء كلمة مصر بدلا من تونس فى الفقرة السابقة من هذا المقال ، لما اختلفت الحقائق ، ولما تغيرت الدلالات ، بل إن الوضعين فى الحقيقة يكادان أن يتطابقا تماما :

1- نظام شديد الاستبداد أيضا ، استعمل قبضته الأمنية الخانقة ، وقانون الطوارئ الممتد على مدار ثلاثة عقود ، للقضاء على كل صور التعبير والمشاركة المشروعة ، ووضع الآلاف من خيرة أبناء المجتمع فى السجون ، بدون اتهام وبدون محاكمة ، وهو ما أدى إلى تقزيم دور جميع الأحزاب والنقابات ومؤسسات المجتمع ، وأخرجها من دائرة الفعل والتأثير ، والعجيب أيضا أن الحزب الحاكم ( الوطنى الديموقراطى ) يحمل اسما يتناقض مع سياساته التى تعتمد على التزوير والقمع ومجافاة كل أشكال الحرية ، ويطبل ويهلل للنظام إعلام حكومى مختل ، لا وظيفة له إلا للترويج للسياسات الفاشلة ، والتحدث عن الإنجازات الوهمية التى لا يجد لها المواطن المصرى أثرا فى واقع الحياة ، ووصْمَ كل المعارضين بالخيانة والعمالة والإرهاب ، والمزايدة على استقرار المجتمع وأمنه ، والرغبة فى إشعال الفتنة ، وأن هؤلاء المعارضين ولو كانوا غالبية الشعب ما هم إلا فئة مندسة لا تعبر عن آمال المجتمع وطموحاته ، وقد ذكر مركز ابن خلدون للدراسات الإنمائية أن عدد قوات الأمن المصرية 1,700,000 ، يُنفق عليها أكثر من نصف الميزانية ، أى أكثر من 190 مليار جنيه [ الدستور، 1-16-2011 ] ، وكلها عوامل تضع مصر فى مراتب متدنية فى المؤشرات الدولية لعام 2010 والسابق الإشارة إليها ( مصر 127 فى مؤشر حرية الصحافة بين 178 دولة ، و 138 فى مؤشر الديموقراطية بين 167 دولة ) .

2- نظام شديد الفساد أيضا ، تركزت فيه الثروة والسلطة فى الطبقة الحاكمة ، ومن يحيطون بها من رجال الأعمال ، والانتهازيين والطفيليين ، وأطلق النظام أيديهم جميعا للاستيلاء على أراضى الدولة ، وبيع مؤسسات القطاع العام بأبخس الأثمان ، وتدمير الصناعات الوطنية ، وتبوير الأراضى الزراعية ، ونهب المال العام ، والحصول على قروض هائلة من البنوك الوطنية لتمويل مشروعات وهمية بدون ضمانات أو شفافية أو محاسبة ، وغير ذلك من صور الفساد التى فاحت روائحها الكريهة فى كل مؤسسات المجتمع ، ويعلمها المصريون جميعا ، ولم يكتف النظام بذلك وإنما أفشى الفساد فى المجتمع بأكمله ، حتى صارت الطبقة المتوسطة مشاركة ومستفيدة من كل صور الفساد ، ومع هذا الطوفان الهائل انتشرت كل أنواع العلل والأمراض فى كل مرافق المجتمع وقطاعات الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتعليمية والصحية وغيرها ، وارتفعت الأسعار ، وتدنت مستويات المعيشة ، وزاد عدد المتسولين وأطفال الشوارع ، وانخفضت دخول الأفراد حتى أصبح أكثر من %50 من المصريين يعيشون تحت خط الفقر ( متوسط دخل الفرد المصرى 2450 دولارا مقارنة بـ 3850 دولارا للفرد التونسى ، أى حوالى %64 من نظيره التونسى ) .

3- نظام يتبع أيضا سياسات اقتصادية فاشلة ، ويخضع تماما لإملاءات المنظمات الاقتصادية الأجنبية ، متغافلا عن عواقبها الضارة على المجتمع اقتصاديا واجتماعيا ، وقد ترتب على تلك السياسات ( الخصخصة وبيع القطاع العام وإهمال الزراعة والتركيز على الاستيراد وقطاع الخدمات وغيرها ) إفقار غالبية المصريين ، وتركيز الثروة فى يد حفنة قليلة من الأغنياء الذين حققوا ثروات طائلة بوسائل غير قانونية وغير أخلاقية ، ومع بيع القطاع العام ، وتخلى الدولة عن دورها ، انتشرت البطالة فى المجتمع ، وعجزت كثير من الأسر عن الوفاء باحتياجاتها الأساسية ، وانتشرت العنوسة ، ومحاولات الهجرة غير الشرعية ، وشاعت الرشوة وامحسوبية والعمولات ، ووجد مئات الآلاف من خريجى الجامعات أنفسهم أمام مستقبل مظلم .. لا علم ولا خبرة ولا مران ولا ظيفة ، وإنما فراغ وضياع ، تفشى معه الإدمان ، والتحرش الجنسى ، وزنا المحارم ، والتفكك الأسرى ، وارتفاع معدلات الطلاق ، وغيرها مما يعانى منه غالبية المجتمع ( مؤشر التعليم السابق الإشارة إليه يضع مصر فى المرتبة 134 ، أى بعد تونس بـ 11 مرتبة ضمن 179 دولة ، بينما مؤشر التنمية البشرية يضع مصر فى المرتبة 101 أى بعد تونس بـ 20 مرتبة ضمن 169 دولة ، بينما إسرائيل فى المرتبة 15 ) .

4- نظام يمارس نفس العدوان والبغى الذى يمارسه النظام التونسى على هوية المجتمع ودينه ولغته وتراثه وتاريخه ، ويكفيه عارا ما فعله بالأزهر والتعليم الدينى من مسخ وتشويه ، وما بدده من أوقاف المسلمين ، وما يقوم به إعلامه من تحقير وتسفيه لكل ما هو إسلامى ، ومحاربته للحشمة والحجاب ، وما يمارسه وزير الأوقاف من تضييق على الآذان والمساجد والمصليين ، يضاف إلى ذلك آلاف المسلمين القابعين فى السجون ظلما وعدوانا ، والإصرار المريض على حجب الشرعية عن جماعة الأخوان رغم جذورهم وانتشارهم الواسع فى كل طبقات المجتمع ، وما أثبتوه عبر العقود من الوسطية والاعتدال ، علاوة على ما يبثه الإعلام والفن المصرى من كل أشكال الانحلال والرقاعة والابتذال ، وما يقوم به غالبية النخبة الفاسدة من تغريب وتضليل فى أحاديثهم وكتاباتهم .

5- نظام أوصل شعبه أيضا إلى حافة اليأس والإحباط ، وحسب تقرير مركز المعلومات بمجلس الوزراء المصرى فإن عدد محاولات الانتحار بلغت 104,000 حالة فى عام واحد ، شملت الشباب والكبار من كل الأعمار ، وفى كل أنحاء مصر من مدن وقرى .. أكثر من 50,000 حالة منها بالقفز من المبانى العالية ، أو القفز فى النيل والترع ، بينما أكثر من 40,000 حالة منها باستخدام المبيدات الحشرية ، والأدوية ، والأقراص المخدرة ، وقتل الأسرة والنفس فى الوقت ذاته ، وتتضمن محاولات الانتحار 66,900 حالة لشباب ، 11,000 حالة لسيدات منهن 2,500 بالقاهرة ، 8,500 بالمحافظات وقد بلغت حصيلة الوفيات فى تلك المحاولات 6,050 وفاة [ الأهرام ، 1-20-2011 ] ، يضع مؤشر الرضا بالحياة السابق الإشارة إليه مصر فى المرتبة 151 بين 178 دولة لعام 2006 ، وهو ما يعكس البؤس والإحباط ، رغم الطبيعة المتفكهة للمصريين ، وتبسطهم فى تناول أمور الحياة .

ثالثا : ماذا حدث فى بقية بلاد الأمة ؟

ما حدث فى بقية البلاد العربية والإسلامية لا يختلف عما حدث فى تونس ومصر :

1- اليمن : يجثم الرئيس اليمنى على عبد الله صالح على السلطة لأكثر من ثلاثة عقود ، فشل خلالها فى التأليف بين قلوب أبناء اليمن .. بين شماله وجنوبه ، وبين قبائله ، وانغمس فى حرب خاسرة مع الحوثيين ، وأهمل الجنوب ، ووضع البلاد على شفير التفكك والفوضى ، وفتح أجواءه وأرضه ومياهه للقوات الأمريكية تغتال وتدمر فى شراكة حمقاء لما يسمى بالحرب على الإرهاب ، وأخفق تماما فى تحقيق كل أشكال التنمية الاقتصادية والاجتماعية ، كما أنه يُعِدُ ابنه العقيد ( أحمد) والمولود عام 1972 لتولى الحكم بعده ، حيث عينه قائدا للحرس الجمهورى رغم كونه فى العشرين من عمره وقتها ، كما تولى قيادة القوات الخاصة ، وفى عام 1997 فاز بعضوية مجلس النواب عن إحدى دوائر العاصمة صنعاء ، وهو أيضا رئيس مجلس الإدارة لمؤسسة الصالح الاجتماعية الخيرية للتنمية ، ولم يقتصر توزيع الرئيس للمناصب الأمنية والقيادية على ابنه فقط بل تم تعيين ابن عم الرئيس ( عمار) مسؤولا عن الأمن القومى ، وشقيقه ( يحيى) الرجل القوى فى وزارة الداخلية ، وأخيه غير الشقيق( على محسن الأحمر) قائدا لقوات الجيش فى المناطق الشمالية ، ويلخص أحد المثقفين اليمنيين فترة حكم الرئيس اليمنى كما ورد فى صحيفة نيوزويك العربية بقوله : ( صادر خلالها أحلام الوطن ، وأباد كل أسباب وممكنات وجوده وتقدمه ) [ نقلا عن مقال الأستاذ فهمى هويدى : يسألونك عن التوريث ، صحيفة الشروق ، 24-11-2009 ] .

2- السعودية وإمارات الخليج : حكومات ملكية ، وتبديد هائل للثروة ، وعمالة تامة للولايات المتحدة والغرب ، وقواعد وأساطيل أمريكية تهدد أمن المنطقة واستقرارها ، وولاء لإسرائيل سرا وعلنا ، وتآمر على كل أشكال المقاومة ، ومؤامرات لتصفية القضية الفلسطينية ، ونخبة علمانية جديدة تمارس نفس الدور التخريبى الهدام لهوية الأمة وانتمائها والذى مارسته النخبة المصرية مع بدايات القرن الماضى .

3- العراق : دمر العزو والاحتلال الأمريكى بنيته التحتية تماما ، وأجج فيه الصراعات الطائفية ، ومحاولات تقسيمه إلى دويلات ، وكل ذلك تم بموافقة ومشاركة الأنظمة العربية ، وتحكمه الآن حكومة عميلة ، لا يعنيها من أمره شيئا غير استباحة ثرواته وتقاسمها مع الشركات الأجنبية .

4- الأردن : نظام أصيل فى العمالة والولاء للغرب وإسرائيل ، يقف حاميا لحدود إسرائيل الشرقية ، ومتآمرا سرا وعلنا لتصفية القضية الفلسطينية ، ولا يعنيه من حرية الأردنيين وكرامتهم شئ قليل أو كثير .

5- لبنان : مسرح للمؤامرات العربية والدولية ، ولولا حزب الله لتمت استباحته تماما.

6- السودان والصومال : تخلى عنهما العرب تماما ، وتُركتا للصراعات والفتن الأهلية ، والتدخلات الخارجية ، وها هو جنوب السودان على وشك الانفصال ، ومع انفصاله تزاد الأخطار والأضرار اقترابا من مصر الغافلة عن أمنها ونيلها ، رغم أن الفراعنة أدركوا منذ آلاف السنين أهمية السودان وبلاد النوبة وبلاد بونت ( الصومال الحالية ) لأمنهم وتجارتهم .

7- ليبيا : نظام بدد ثروات ليبيا الطائلة ، وأفقر شعبها رغم قلة عدده ، ويقوم بتسويق سيف الإسلام القذافى للرأى العام بوصفه مقدمة للإصلاح ، ومدخلا للتحول نحو الديموقراطية الشعبية ، وهو ما تراه المعارضة لعبة سياسية ظاهرها الإصلاح ، وباطنها التوريث ، وسيف الإسلام المولود عام 1972 تم تكليفه رسميا بمنصب المنسق العام للقيادات الشعبية ، مما يجعله الرجل الثانى فى البلاد بعد والده ، وحسب اللوائح الداخلية للقيادات الشعبية والتى تُعتبر المرجعية العليا للنظام الجماهيرى الليبى فإن كلا من مؤتمر الشعب العام ( البرلمان ) ، واللجنة الشعبية العامة ( الحكومة ) ، والأجهزة الأمنية ، ستكون جميعها تحت مسؤولية سيف الإسلام ، وهو ما يجعله من الناحية الشكلية رئيس البلاد ، يضاف إلى ذلك دوره فى العمل الخيرى ، وتسويقه دوليا فى حل بعض الملفات كملف الممرضات البلغاريات ، وغير ذلك من الأدوار فى الداخل والخارج .

8- الجزائر والمغرب : بطالة ، وغلاء ، وتبديد للموارد والثروات ، ومشاكل لا معنى لها مع الإسلاميين ، ومع البوليساريو ، وتقارير تشير إلى إعداد الأخ غير الشقيق لبوتفليقة ( سعيد ) ، والذى يشغل منصب طبيبه الخاص ، وكاتم أسراه ، لخلافته فى رئاسة الجزائر .

9- السلطة الفلسطينية : عمالة حتى النخاع لإسرائيل والغرب ، واستعداد كامل للتخلى عن كل الحقوق الفلسطينية بلا استثناء ، مادام مبنى المقاطعة فى رام الله قائما ، ومادامت الصفقات والمنافع المادية لأفراد تلك السطة الفاسة تمضى على قدم وساق مع أصدقائهم اليهود ، ولا بأس بعد ذلك فى حصار وقتل أهل غزة ، وفى التنسيق الأمنى مع إسرائيل ، والنيابة عنها فى سجن وقتل المقاومين الفلسطينيين ، ومنع كل أنواع العمل الخيرى لمساعدة أسر الشهداء والمسجونين وذويهم ، وقد جاءت وثائق المفاوضات التى كشفتها قناة الجزيرة أخيرا دليلا دامغا على خيانة تلك السلطة ورموزها ، وإن كانت فى الحقيقة لم تضف جديدا إلى ما يحسه ويعلمه غالبية الفلسطينيين والعرب .

10- الدول الإسلامية : أفغانستان تحت الاحتلال ، ويحكمها رئيس عميل ، يرعى الفساد والفوضى وتجارة المخدرات ، وانتخابات مزورة غض المجتمع الدولى الطرف عنها ، أما باكستان فبرغم ثروتها البشرية الهائلة ، فقد فتحت حكوماتها أرضها وسماءها للقوات الأمريكية ، تقتل وتدمر وتتجسس ، فى شراكة لا تخدم الباكستانيين من قريب أو بعيد فى حرب الغرب على ما يسمى بالإرهاب ، وقد أطلق رئيسها السابق برويز مشرف جيشه وشرطته فى حرب خاسرة ضد شعبه وأبناء أمته ، وكذلك فعل رئيسها الحالى آصف على زردارى ( تولى الحكم فى 8 سبتمبر 2008 )، والذى يُطلق عليه الباكستانيون والصحافة العالمية لقب Mr %10 حيث كان يحصل على %10 من جميع الصفقات والأعمال التجارية فى باكستان عندما كانت زوجته بنظير بوتو رئيسة للوزراء ، وإلا تم عرقلتها ومنع تنفيذها .. أليس أمرا عجبا أن يصل شخص كذلك للسلطة ؟! أليس شيئا مثيرا للحزن والأسى أن أمة تشكل ربع سكان الأرض ، وتشكل دولها أكثر من ربع أعضاء الأمم المتحدة ، ومع ذلك يتولى أمرها أراذلها وشرارها ممن خانوا الأمانة ، وتخلوا عن واجباتهم الدستورية والقانونية والأخلاقية ، وقصروا دورهم على العمالة والولاء للغرب ، ووأد كل محاولة لشعوبهم فى حياة عزيزة كريمة ؟!

الغريب أن Robert Fisk فى مقاله السابق الإشارة إليه لخص دور حكام العرب بإيجاز ومصداقية لا تجمل فيها
The job of the Arab potentates will be what it has always been - to manage their people , to control them , to keep the lid on , to love the West and to hate Iran ( وظيفة حكام العرب ستبقى كما كانت دائما : السيطرة على شعوبهم ، وإبقاءهم تحت تلك السيطرة ، وحب الغرب ، وكراهية إيران )، ثم يمضى الكاتب البريطانى فى مكاشفة جريئة واصفا أحوال الحكومات العربية والإسلامية : ( أمراء الخليج الفاسدين وظيفتهم التى لقنتها لهم هيلارى كلنتون أن يدعموا فرض العقوبات على إيران ، وأن يتهيؤوا لضربة قادمة لبلد إسلامى آخر بعد كارثة العراق وأفغانستان - العالم الإسلامى فى فوضى واضطراب مؤسف : العراق بها نوع من الحكومة وكأنها ولاية إيرانية - كرزاى فى أفغانستان لا يعدو كونه عمدة لمدينة كابول - باكستان على حافة كارثة لا متناهية - مصر خرجت لتوها من انتخابات مزيفة جديدة - الجزائر تمتلك من البترول والغاز ما يجعله فى ثراء السعودية ، ولكنها رغم ذلك تمتلك أعلى معدلات البطالة ، لا تأمين ولا معاشات للجزائريين ، لأن جنرالاتهم اختاروا اغتصاب ثرواتهم وتهريبها لبنوك سويسرا ) Indeed , what was Hillary Clinton doing last week as Tunisia burned ? She was telling the corrupted princes of the Gulf that their job was to support sanctions against Iran , to confront the Islamic Republic , to prepare for another strike agaist a Muslim state after the two catastrophes the United States and UK have already inflicted in the region .The Muslim world ... is a more than sorry mess . Iraq has a sort - of - government that is now a satrap of Iran, Hamid Karzai is no more than the mayor of Kabul , Pakistan stands on the edge of endless disaster , Egypt has just emerged from another fake elections . Algeria should be as rich as Saudi Arabia - it has the oil and gas - but it has one of the worst unemployment rates in the Middle East , no social security , no pensions , nothing for its people because its generals have salted their country's wealth away in Switzerland
 
رابعا : ماذا يحمل المستقبل لتونس ؟

لا شك أن الخلاص من الرئيس التونسى بن على كان إنجازا جبارا ، لم يكن يخطر على بال الغالبية فى تونس أو فى خارجها ، ولكنه يبقى إنجازا ناقصا ما لم تتبعه خطوات أخرى أهمها: رد المظالم وإعادة الاعتبار لكل من أمتهنت كرامته ، أو استبيحت حقوقه ، أو تعرض للسجن أو النفى ظلما وعدوانا - محاسبة كل من انتهك حقوق التونسيين ، واستباح أموالهم ومصالحهم ، ونشر الفساد فى مؤسسات المجتمع وجنباته ، محاكمة عادلة أمام محاكم مدنية ، والغرض من ذلك إرساء قواعد القانون ، وكشف اعتداءات النظام السابق للعظة وللتاريخ ، ومحاسبة المسؤولين على تجاوزاتهم ، وإنصاف المظلومين ، والتأكيد على دور القانون وأهميته فى استقرار المجتمع ، وضمان أمن وسلامة أبنائه - التخلص من كل القوانين والتشريعات والممارسات التى اعتدت على ثوابت الإسلام وحرية أتباعه فى ممارسة شعائره ، أو حجرت على حرية العمل السياسى والحزبى والنقابى للإسلاميين - التأكيد على هوية المجتمع الإسلامية ، ولغته العربيه ، وانتمائه العربى والإسلامى - التحرر من التبعية العمياء للغرب وخاصة فرنسا ، ووضع قواعد جديدة للتعامل مع أوربا ، على أساس الندية واحترام خصوصية الشعب التونسى ، وعدم التدخل فى أموره - التخلص من السياسات الاقتصادية الفاشلة ، وإملاءات صندوق النقد الدولى ، وإرساء قواعد العدالة الاجتماعية ، ودور الدولة فى حماية الفقراء وتحسين أحوالهم - إرساء قواعد حرية التعبير ، وحرية الإعلام والصحافة ، ووضع الضوابط الأخلاقية بما يضمن احترام دين المجتمع وعاداته ، وبما يحميه من التغريب والتشويه والانحلال .

إن النظام التونسى وإن ذهبت رأسه إلا أنه مازال قائما بمؤسساته ونظمه وقوانينه وممارساته التى صنعها ورسّخ لها ونشرها فى جنبات المجتمع على مدار ستة عقود فى عهدى بورقيبة وبن على ( 2011-1956 ) ، ولذلك فإن الفرح بزوال بن على لن يكتمل إلا عندما تبدأ مرحلة جديدة فى تفكيك جميع حلقات النظام السابق بجدية ومثابرة وإصرار ، وإرساء دعائم نظام جديد أمين على مصالح التونسيين ، ومخلص لآمالهم وطموحاتهم فى حياة حرة وكريمة ، وإذا لم يحدث ذلك فإن تونس ربما تكون قد استبدلت حاكما بحاكم لا يختلف عنه إلا فى بعض الشكليات ، التى تُسوّق الأوهام ولا تغير الأحوال ، وقد تنبه بعض الكتاب إلى ذلك ، فكتب عبد البارى عطوان تحت عنوان ( لا أصدقاء للرئيس المخلوع ) : ( هناك خوف من اختطاف النخبة الانتهازية للثورة ، وسرقة نتائجها ، ودماء شهدائها ، وهذا خوف مشروع ... نستغرب أن يتصدر السيد محمد الغنوشى رئيس الوزراء فى العهد السابق المشهد السياسى ... بحيث انقلب حملا وديعا بين عشية أو ضحاها ، وغير جلده فى ساعات ، فهذا الرجل هو مهندس السياسات الاقتصادية الفاشلة التى كانت احد أسباب الانتفاضة عندما كان وزيرا للاقتصاد ، وبفضل هذه السياسات أصبح وزيرا أول ) [ القدس العربى ، 1-16-2011 ] ، وكتب الأستاذ فهمى هويدى تحت عنوان ( العصابة لم تغادر ) : ( قالها الكواكبى قبل أكثر من مائة عام منبها إلى أن المستبد الأعظم يختار أعوانه ممن هم على شاكلته ، وهؤلاء يتوحدون معه بمضى الوقت ، بما يؤدى إلى مأسسة الاستبداد ، بمعنى إضفاء الصبغة المؤسسية عليه ، بما يحول أجهزة الدولة ومؤسساتها المختلفة إلى أذرع له ، لذا تصبح عملية اقتلاع الاستبداد وطى صفحته أمرا بالغ الصعوبة ... لأنه بعد رحيل المستبد الأعظم فإن وجود ومصير مؤسسة الاستبداد التى ارتبطت به يصبح فى خطر محقق ، وهو ما يدفعها إلى خوض معركتها الأخيرة بشراسة شديدة ، لأن الأمر بالنسبة لها يصبح اختيارا بين الحياة والموت ... الحاصل فى تونس الآن نموذج لذلك ، فحزب السلطة محتكر لها منذ أكثر من نصف قرن ... بن على الذى استولى على السلطة فى عام 1987 ... حول تونس إلى سجن كبير ، وجعلها نموذجا للدولة البوليسية التى وظفت كل أجهزة الدولة ومؤسسات المجتمع لتكريسها وتثبيت أركانها ، ومن ثم تحولت تلك الأجهزة والمؤسسات إلى رموز للاستبداد ، وصار القائمون عليها أذرعا وعيونا للمستبد الأعظم ... هذا التحليل يعنى أن صفحة المستبد الأعظم لم تطو بعد ... لذلك فإننى أدعو إلى الترقب والحذر ... حتى نتأكد أنه لم يعد للعصابة دور فى إدارة البلد ) [ الشروق 1-19-2011 ] .

وقد تنبهت إلى ذلك أيضا أستاذة العلوم السياسية Michele Penner Angrist فى مقالها السابق الإشارة إليه ، حيث ذكرت أن الحزب الحاكم صاحب مصلحة فى بقاء الأوضاع على ما هى عليه ، وسيحاول الحفاظ على ذلك ، ويبدو أن الجيش أيضا دفع بالرئيس إلى الرحيل إرضاء للمتظاهرين ، مع وعود بانتخابات جديدة ، وقدْر أكبر من حرية الصحافة ، وبعض تنازلات للمعارضة ، وهذا من شأنه المحافظة على النظام ، وإبقاء الحال بصورة أو بأخرى على ما هو عليه ، ثم تذكر كيف أدى حكم بن على الديكتاتورى ، وتجريفه للحياة التونسية إلى خلو المجتمع من البدائل الجاهزة والقادرة على الحكم :
Officials in the ruling party , the executive branch , and the security services have an enormous stake in the status quo and will try to preserve it . It appears that elements of the military pushed Ben Ali to depart the country , perhaps in the hope that sacrificing him and making modest concessions to the demonstrators -- new elections , broader press freedom , more leeway for the opposition , and so on -- will suffice to restore order and leave the status quo more or less intact . But it is unclear who or what is a viable alternative . For generation , Ben Ali suffocated the political arena to such degree there is no force capable of governing Tunisia other than the ruling party and the military . The country's handful of legal opposition parties has not been allowed to develop real constituencies and nationwide organizational structures
إن هناك محاذير كثيرة بشأن الأوضاع التونسية ، وهو ما يثير القلق فى نفوس الغيورين على مصلحة تلك الأمة ومستقبلها ، وأهمها دور مؤسسات النظام السابق والتى لن تتنازل عن مكانتها وامتيازاتها بسهولة ، ودور الغرب وخاصة فرنسا والولايات المتحدة والرغبة فى وأد أية حركة إصلاحية فى بلاد العرب والمسلمين حتى لا تكون سابقة ومحّفزا لباقى شعوبهم وبلادهم ، ودور الأنظمة العربية جميعها والتى يقلقها ما حدث فى تونس ، وترغب فى نفس الوقت ألا تمتد عدواه إلى بلادها ، ودور الجيش والذى مازال غامضا ، وخاصة مع بعض التقارير الإخبارية التى تتحدث عن أن قراره بالتخلى عن بن على جاء بعد مشاورات مع الإدارة الأمريكية والفرنسية ، وأن نزوله للشارع فى بداية الانتفاضة كان بهدف احتوائها والسيطرة عليها ، ودور القائمين على الحكم الآن ( الرئيس فؤاد المبزغ والذى تجاوز السبعين ولم يعرف عنه غير خدمة نظام بورقيبة ونظام بن على ، ورئيس الوزراء محمد الغنوشى ( 20 عاما فى خدمة بن على ) ، وصاحب السياسة الاقتصادية التى افقرت تونس ، ونشرت البطالة فيها ، ورئيس الهيئة الوطنية الخاصة بملف الإصلاح السياسى عياض بن عاشور ، صاحب التوجهات العلمانية القحة ، والمتلاقية دائما مع أنظمة الاستبداد ضد الإسلاميين ) ، كل تلك الأدوار قد تتلاقى وتلتف على الانتفاضة التونسية ، لتكون النتيجة النهائية : بن على جديد أو معدل .

خامسا : ماذا يحمل المستقبل لمصر ؟

انشغل غالبية الكتاب والمحللين فى الداخل والخارج عقب الانتفاضة التونسية فى مقارنة الأوضاع بين تونس ومصر ، ومحاولة استشفاف إمكانية تكرار التجربة التونسية فى مصر أو غيرها من البلاد العربية ، وأجمعوا على أن مصر وتونس وإن تشابهتا فى النظام القمعى ، والفساد ، وتدنى مستوى المعيشة ، إلا أن فروقا أخرى بينهما ستحُول من استنساخ الانتفاضة التونسية فى مصر ، ومن بين تلك الفروق : المستوى التعليمى المتدنى فى مصر ، ونسبة الأمية المرتفعة ، والحرية النسبية التى يتمتع بها الناس والإعلام والصحافة ، والتى تسمح بالتنفيس عن معاناتهم ، وكذلك أهمية مصر الكبرى للولايات المتحدة والغرب عموما ، واتفاقية السلام بينها وبين إسرائيل .

على سبيل المثال تذكر Michele Penner Angrist أستاذة العلوم السياسية فى تحليلها المشار إليه سابقا أن الحكام فى بلاد كمصر وسوريا والأردن والمغرب وإمارات الخليج لا بد أن يكونوا قلقين من التجربة التونسية ، غير أن الجيش فى مصر وسوريا أكبر وأقرب للنظام وأكثر انغماسا فى السياسة ، وأن الديكتاتوريات العربية أصبحت أكثر خبرة وتمرسا ولذلك استمرت فى الاحتفاظ بسيطرتها خلال الثمانينات والتسعينات رغم التحولات الديمقراطية العالمية آنذاك ، وقد فعلت ذلك بخليط من تقديم بعض التنازلات فى مجال الحريات ، والتحور والتكيف فى طبيعتها وممارساتها ، كما أنها تحظى بدعم الغرب بسبب علاقاتها بإسرائيل ، ومشاركتها فى الحرب على الإرهاب ، وبسبب البترول ، والخوف من الحركات الإسلامية :
Rulers of the Arab countries whose political systems most resemble Tunisia's -- the secular single-party authoritarian republics of Egypt and Syria -- undoubtedly watched Ben Ali's fall with knots in theis stomachs . Internet users and bloggers throughout the region reveled in what Tunisian protestors achieved , calling for copycat actions elsewhere . The monarchies of Jordan , Morocco , and the Gulf states also have cause for concern . Yet the dominoes may not fall so fast . Tunisia's military is smaller , more professional , and less politicized than the militaries in Egypt and Syria ... Arab dictators have proven resilient in the face of similarly daunting challenges . In the 1980s and 1990s , as democratization spread across the globe , the rulers of Morocco , Tunisia , Egypt , Jordan , and Syria retained their power through combinations of modest liberalization , coopation , and repression . At the same time , many Arab regimes enjoy Western support due to their moderate stances toward Israel , oil resources , assistance in the war on terror , and the fact that they face powerful domestic Islamist opponents whom Western governments are not eager to see take power ... Tunisia is a peripheral interest for Washington and its allies . It does not have much oil and has no Islamist movement waiting to assume power . Were the regimes in Egypt or Jordan on the line , Western support for the status quo might well be more vigorous
ويذهب Jon Leyne فى تحليله للوضع المصرى تحت عنوان Egypt protests : Can Mubarak be toppled ? BBC News , Jan,27,2011 ( احتجاجات مصر : هل يمكن إسقاط مبارك؟ ) إلى أن النظام فى مصر ليس بهشاشة النظام التونسى ، وأن الحفاظ عليه من مصلحة الجيش والغرب وكثير من أصحاب النفوذ والثروة ، ولكنه رغم ذلك فالوضع فى المنطقة يصعب التكهن بعواقبه ، وخاصة مع الأحداث المتلاحقة بسرعة :
By all accounts , this government and system is not nearly as fragile as the Tunisian government , which collapsed so spectacularly . The military , the West , and many powerful and rich people have a big investment in keeping president Mubarak , or at least ensuring an orderly transition to another leader friendly to the west and to business ... But across the Middle East now , the situation is so unpredictable and events are moving so fast that almost anything can happen

ويذهب محلل آخر ( Roger Hardy ) تحت عنوان Analsis : Why Egypt matters, BBC News , Jan,28,2011 إلى أن أهمية الأحداث المصرية وعواقبها ترجع لعدد من الأسباب : أن سقوط نظام مبارك سيؤثر على كل القضايا واللاعبين الرئيسيين فى المنطقة - سيؤثر على كل الأنظمة العربية المستبدة الأخرى - سيعطى دفعة لكل المحتجين العرب معلنا بداية عصر جديد لقوة الشعوب - سيكون ضربة لعملية السلام مع إسرائيل - سيضعف الثقة فى الاستثمارات الاقتصادية فى المنطقة وعالميا - سيضع الغرب فى موقف حائر تجاه علاقاته بزعماء المنطقة ودعواته الإصلاحية
If Mubarak regime to collapse - which is still a big if - the fall-out would affect virtually every key player in the region and every key issue . For Arab autocrats , it would signify the writing on the wall in a far more dramatic way than the fall of the Ben Ali regime in Tunisia . For Arab protesters , it would be a great boost , fuelling the idea that the region has entered a new era of "people power" . It would deal a blow to an already enfeebled Middle East peace process . It would affect business confidence , regionally and even globally , especially if oil prices shot up . It would pose painful dilemmas for the Western policy-makers

وذهب البعض الآخر إلى أن الإنسان المصرى بطبعه يميل إلى الرضا بأحواله طالما تم تلبية احتياجاته الأساسية من الغذاء والمسكن ، وهو ما يراه Michael Bell السفير الكندى السابق فى مصر والأردن وإسرائيل والمناطق الفلسطينية ، والذى يعمل حاليا كباحث فى العلاقات الدولية بجامعة University of Windsor ، حيث يقول :
Ordinary Egyptians have a reputation as fatalists , accepting disagreeable realities , providing their basic food and shelter requirements are met, The Global and Mail .com , Jan,27,2011 ، بينما يؤكد آخرون على الفروق فى مستوى التعليم ، وتطور الإحساس بالمسؤولية السياسية ( Richard Spencer, Telegraph ,Jan,14,2011 ) : حيث يقول : The conditions in neighbours such as Egypt are rather different . They have the same economic stagnation , it is true , even Saudi Arabia , the world's biggest oil producer , has shockingly high youth unemployment and surprisingly low incomes . But these countries also have much lower
educational attainment and a less developed sense of political accountability . Their state apparatuses are more oppressive


العجيب أنه رغم كل تلك التنظيرات التى أخرجت الإنسان المصرى والعربى عموما من دائرة الحركة والتفاعل ورغبة وإرادة التمرد على القهر والظلم ، للأسباب العديدة التى ذكرها المقال ( السطوة الأمنية الصارمة - إضعاف الأنظمة وتضييقها على العمل السياسى والحزبى والنقابى - تدهور التعليم وتغييبه للوعى والإدراك بالمشاركة مع الإعلام المُضلل والفن الهابط - الدور الغربى والإسرائيلى فى دعم الأنظمة الفاسدة - الفقر الشديد والبطالة وتدهور المرافق وانتشار الأمراض وتدنى مستويات المعيشة وغيرها من العوامل التى تجعل يوم الإنسان المصرى والعربى شاقا وعسيرا، ومعاناة متواصلة من أجل القليل الذى يسد الرمق ويقيم الأود ، ولا يترك بعد ذلك طاقة أو جهدا أو وقتا للانتفاض ضد الظلم والمعاناة ) ، رغم كل تلك التنظيرات والكتابات تغافل الجميع عن بديهية بسيطة أشرت إليها فى بداية المقال وهى : ( أن التغيير حتمية تاريخية لأنه سنة إلهية ، وأنه حادث لامحالة ، وأن الفطرة البشرية وإن اعتراها بعض المسخ والتشويه لا تلبث أن تعود أدراجها لطبيعتها التى خلقها الله سبحانه عليها ، من حب الحرية والعدالة والكرامة ، وكراهية البغى والقهر والظلم والاستبداد ، وقد أظهرت تلك السنن الإلهية حتميتها فى الانتفاضة التونسية والمصرية ، وإرهاصات انتفاضات أخرى قادمة فى بلاد العرب والمسلمين ) .

غير أن الأهم الآن هو : كيف نحمى انتفاضتنا من المناورات والألاعيب ، ومن المزايدين والانتهازيين ؟ وكيف نحفظ صحوتنا ودورنا فى مراقبة ومحاسبة حكامنا وحكوماتنا ؟ وكيف لنا ألا نقع مرة أخرى فريسة للخلافات ، أو ضحية للكسل والتراخى واللامبالاة ؟ وكيف لنا ألا نعطى الدنية فى ديننا وحقوقنا ؟ وكيف لنا أن نشترك جميعا فى صناعة مستقبل عزيز وحياة كريمة لنا ولأجيالنا القادمة ؟ تلك الأسئلة وغيرها تحتاج منا إلى إجابات واضحة ، وآليات محددة ، فالعاطفة الجياشة التى تسيطر على غالبية المصريين الآن شئ نبيل وجميل ، ولكنها لا تصلح وحدها فى إعداد المجتمع لنقلة نوعية وكمية ، يتحقق بها الإصلاح المنشود ، والتغيير المأمول .

ولقد بدأت حلقات المناورات والألالعيب بتغييرات شكلية أجراها الرئيس مبارك تشمل تعيين نائب للرئيس ، وتكليف حكومة جديدة ، والإعلان عن الاستعداد للحوار مع المعارضة ، والمتأمل فى تلك التغييرات يجد أن النظام وبعد ثلاثة عقود من خلو منصب نائب الرئيس، بحجة أن مجتمعا من ثمانين مليونا لا يوجد به من يتصف بالأمانة ، أو يمتلك المؤهلات والكفاءة ليكون نائبا وربما رئيسا فى المستقبل ، وهذا ورب الكعبة قمة الهزل والعبث والاستخفاف بالعقول .. بعد تلك العقود الثلاث يُعين الرئيس واحدا من خلصائه المقربين ( عمر سليمان )، والذى لا يختلف عنه فى قليل أو كثير ، فهو عسكرى ، ومتقدم فى السن ( 73 عاما ) ، وشديد الولاء والتبعية للولايات المتحدة ، وقد تلقى فى ثمانينات القرن الماضى تدريبات بمركز John F Kennedy Center for Special Warfare , Fort Bragg ,North Carolina ، وهو واحد من المراكز الحربية الأمريكية الهامة ، والمتخصص فى تدريبات القوات الخاصة ، للقيام بالعمليات الخاصة ذات الطبيعة السرية فى مناطق عديدة من العالم ، ويتبنى عمر سليمان أيضا برامج جهاز الاستخبارات الأمريكى CIA ، وقد وقّع فى عام 1995 اتفاقا مع الإدارة الأمريكية ، يتم بمقتضاه جلب وتسليم المعقلين فى ما يسمى بالحرب على الإرهاب إلى مصر، حيث يتم تعذيبهم لإجبارهم على الإعتراف بما تريده الحكومة الأمريكية ( تولى عمر سليمان رئاسة جهاز المخابرات المصرى عام 1991 ) ، وهو أيضا شديد الولاء لإسرائيل ، وتربطه علاقات وطيدة بجميع قادتها ، وقد تولى أمر الملف الفلسطينى لسنوات طويلة ، تم فيها للإسرائيليين كل ما يطمحون إليه من مكاسب وإنجازات بدءا من إنهاء انتفاضة الأقصى ، والخلاص من ياسر عرفات ، وتولى عصابة محمود عباس والدحلان ، والحصار غير القانونى وغير الإنسانى لغزة ، ثم العدوان الهمجى عليها فى عام 2009 ، وإنتهاء بمفاوضات عبثية ، كلما توقفت لا تلبث أن تعود من جديد ، فى مسلسل من التنازلات المهينة عن كل ثوابت وحقوق الفلسطينيين ، ولذلك فإن عمر سليمان هو الآن الرجل المفضل لأمريكا وإسرائيل فى مصر ، والضامن لسياسات التبعية العمياء لأجندتهما ، وهو فى تلك المرحلة أكثر أهمية لهما من الرئيس مبارك ، الذى يعانى من تقدم السن ، واعتلال الصحة ، وحتى لو تمكن من إطالة فترة حكمه ، فإنه لن يستطيع إطالة عمره ، أو محو ما حاق به من مهانة وإذلال محليا وعالميا .

ولايقل التشكيل الوزارى الجديد سوءا عن اختيار نائب الرئيس ، فرئيس الوزراء الفريق أحمد شفيق واحد من العسكر ممن جاوز السبعين ، وهو أيضا من الخلصاء القريبين للرئيس مبارك ، وقد عمل قائدا للقوات الجوية فى 1996 ، وتصفه صحيفة The Wall Street Journal الأمريكية فى الشهر الماضى بالمنافس الجديد على رئاسة مصر ، وبالقدرة على الحركة والتوفيق بين ما يُسمى الحرس القديم والجديد بالحزب الوطنى الحاكم ، أما باقى أعضاء الوزارة فيستحق بعضهم وقفة للتعجب :

- أحمد أبو الغيط والذى احتفظ بمنصبه كوزير للخارجيه ، رغم أنه يفتقر إلى كل مقومات هذا المنصب ، فلم يعرف باللباقة ، أوالقدرة على المناورة ، أوتسويق السياسات المصرية عربيا أو إقليميا أو عالميا ، أو الترويج والإقناع بالمواقف المصرية ، أو التحاور والتفاوض بشأنها ، ولذا فلا عجب من انحسار الدبلوماسية المصرية ، واقتصار دورها على الولاء والتبعية للغرب وإسرائيل ، حتى أن المرء ليظن أن دوره لا يتجاوز تشويه صورة مصر والإساءة إليها .

- هانى هلال والذى احتفظ أيضا بمنصبه كوزير للتعليم العالى ، رغم دوره فى تخريب التعليم الجامعى ، وتحويل الجامعات إلى جامعات شكلية ، تخضع للأمن ، وتفتقر إلى التعليم والبحث وإعداد شباب الأمة لحمل المسؤولية ، ومواجهة التحديات المعاصرة .

- أنس الفقى والذى احتفظ أيضا بمنصبه كوزير للإعلام ، رغم أنه فى عهده البئيس ، انحدر الإعلام المصرى إلى قاع سحيق من العبط والكذب والتضليل ، والاستخفاف بالعقول ، والترويج للسياسات الخاطئة ، والافتقاد الكامل لكل معايير الصدق والدقة والحرفية ، فى عالم لا يقل فيه دور الإعلام عن دور الجيوش فى الميدان .

- مشيرة خطاب والتى احتفظت أيضا بمنصبها كوزيرة للأسرة والسكان ، وهى الوزارة التى اخترعها لها النظام لتؤدى دورها التغريبى ، فهى واحدة من رائدات التغريب ، والمدافعات باستماتة عن كل ما يمليه الغرب أو المنظمات الدولية علينا ويتناقض مع ديننا وثقافتنا .

- جابر عصفور وزير الثقافة ، وهو واحد أيضا من رواد التغريب ، وقد صدّعنا بثرثراته الفارغة عن التنوير والتحديث والإبداع ، وإذا به فجأة يقبل أن يكون أداة فى يد نظام مستبد وفاسد ، ليكون بذلك أسوأ خلف لأسوأ سلف ( الوزير السابق فاروق حسنى ) .

- زاهى حواس وزير الدولة لشؤون الآثار ، والذى أخفق فى أن يصون آثار مصر ، حتى أن مصر رغم امتلاكها لأكبر قدر من الآثار على مر التاريخ ، إلا أنها الدولة الوحيدة التى تفرط فى هذا التراث الفريد بالسرقة والإهداء والتهريب والبيع فى السوق السوداء ، ولو حفظناه وأعطيناه ما يستحق من رعاية واهتمام لكان كل مكان فى مصر متحفا ومَعْلما وجذبا للسياح والدارسين والمهتمين من كل أصقاع الأرض .

- وزير الداخلية اللواء محمود وجدى ، والذى كان رئيسا لمصلحة السجون ، التى دخلها فى العهد المباركى عشرات الآلاف من خيرة أبناء مصر ، ظلما وعدوانا ، وبدون اتهام أو محاكمة ، تحت قانون الطوارئ الجائر على رقاب المصريين لثلاثة عقود ، ويخلف الوزير الجديد اللواء حبيب العادلى الذى تولى الداخلية منذ 1997لأربعة عشر عاما ، امتهنت فيها الشرطة كرامة الناس ،واستحلت دماءهم وأعراضهم وأموالهم ، وأوقعت بهم من الذل والمعاناة ما لا مثيل له .

لو كان النظام صادقا فعلا فى مصالحته مع شعبه ، ومخلصا فى نواياه للإصلاح والتغيير ، لبادر بدلا من التغييرات الشكلية إلى إلغاء قانون الطوارئ ، وتقليص صلاحيات رئيس الجمهورية ، وتعيين وزارة من المخلصين والخبراء ، وتوسيع صلاحيات رئيس الوزراء والوزراء ، وإقرار التشريعات والقوانين الضرورية لمحاسبة المسؤولين ، ومحاربة الفساد ، وكل أنواع التجاوزات فى الأداء الحكومى والخاص ، والإعداد الجاد لانتخابات تشريعية ورئاسية تتصف بالشفافية والنزاهة ، ووضع خطة قومية للإصلاح والتغيير واضحة الأهداف ، محددة الآليات ، ووضع الضوابط القانونية والأخلاقية لممارسة العمل السياسى والحزبى والنقابى والإعلامى ، بتلك الاصلاحات وغيرها تنصلح الأمور ، ويعم التناغم فى المجتمع ، وتتفجر طاقات العمل والإبداع عند هذا الشعب الذى لو وجد القيادة الحكيمة ، والإدارة الخبيرة العليمة ، والقدوة الطاهرة الشريفة ، لفعل المعجزات ، وأصلح ما شوهه الفاسدون ، ولبَنى مرة أخرى حضارة نتيه ونفتخر بها جميعا ، ما عدا ذلك فهو امتداد لمسلسل الاستعباط والهزل والتهريج ، وإطالة لأمد معاناتنا وتخلفنا .

غير أن الأمر لا يتوقف على مناورات النظام وألاعيبه ، ولكن هناك أيضا مناورات وألاعيب تمارسها الأحزاب الكرتونية التى دخلت فى مفاوضات مع النظام لتحقيق شئ من المكاسب ، أو ربما لتتفق على شئ ما لإضعاف الحركة الشعبية وشق صفها ، وكذلك بعض رموز وأفراد النخبة المصرية ، والتى تحاول الآن الطفو على سطح الأحداث ، وإدعاء بطولات لا تستحقها ، أو دور غير جديرة به فى مصر ما بعد 25 يناير ، وأخص منها هنا :

1- لجنة الحكماء ، والتى أصدرت عدة بيانات تطالب فيها الجيش بأداء دوره الوطنى فى حماية البلاد ، وتطالب فيها أيضا بوقف أعمال البلطجة ، وحماية المشاركين فى الاحتجاجات من الاعتقال ، وضمان حقوقهم وحياتهم ، وتلك المطالب وإن كانت مشروعة ونبيلة ، فإنها لا تحتاج إلى لجنة تخلع على نفسها صفة الحكمة ، كما أن تلك المطالب قد أسمعها الشعب المصرى للنظام والعالم كله على مدار ما يقرب من أسبوعين الآن .. أليس من العجيب أن يصبح عمرو موسى حكيما ؟! ولو كان حكيما حقا ما لبث طوال تلك السنوات فى جامعة الدول العربية ، يستر عورة الأنظمة العربية ، ويدارى سوءاتها ، ويُجمل قبحها وإخفاقاتها ؟ ومتى هبطت الحكمة على عمرو الشوبكى وعمرو حمزاوى ويحيى الجمل ، وكلهم عاشوا يثرثرون ويسفسطون ويشغلون الناس بقضايا وهمية عن التدين الشكلى ، والدولة المدنية ، وحقوق الأقباط والأقليات ، وخطر الدولة الدينية على استقرار مصر ومستقبل البشرية ، وضرورة تنحية الإسلام جانبا فى الصراع مع العدو الإسرائيلى ، رغم أن تأسيس إسرائيل واستمرارها مرتبط بتلك الأساطير الدينية اليهودية والمسيحية ؟! يقول عمرو الشوبكى فى مقاله ( ثورة تونس الملهمة ...) : ( إن ثورة تونس هى ثورة الناس دون وصاية من حزب أو تنظيم ، وهى بالتأكيد نتاج جوانب أخرى ايجابية أتاحها النظام التونسى بعد الاستقلال ، وتقع جميعها خارج المجال السياسى الذى قمعه بشدة ، وتتعلق بنظام تعليم عام بالمعنى النسبى هو الأفضل فى كل البلاد العربية ... ومجال عام مدنى لم يترك التيارات الدينية غير السياسية تعبث فيه ، وتغيب وعى الناس ، وتقضى حتى على قيمة العقل لصالح خطاب الخرافة والجهل كما نشاهد فى مصر ) [ صحيفة المصرى اليوم ، 1-19-2011 ] ، وهو نفس الكلام الفارغ الذى يردده العلمانيون فى تونس على مدار عقود طويلة ، ورددوه مؤخرا، حيث خرج عشرة منهم يحملون اللافتات التى تقول : ( لا للتيار الإسلامى .. لا للحكم الدينى .. لا للشريعة ولا للغباء ) [ صحيفة القدس العربى ، 1-30-2011 ] ، وذلك فى استقبال الشيخ راشد الغنوشى زعيم حركة النهضة الإسلامية التونسية ، والذى عاد من منفاه بلندن بعد 22 عاما فى الغربة ، طريدا مبعدا عن أرضه وداره ووطنه ، لأن إرادة العلمانيين المطنطنين بأحاديث المواطنة والمساواة والحرية شاءت زيفا وكذبا وبهاتنا أن تخص فقط بالمواطنة والمساواة والحرية من يتفق معهم فى غيهم وباطلهم .. أليس الأغبياء حقا هم نخبتنا العلمانية ، التى تتاجر بالكلام ؟ أليست هى نفس النخبة التى نافقت الحكام ، وضللت الناس ، وغرّبت المجتمع ، وأوصلتنا إلى ما نحن فيه من مذلة وهوان ؟! ، ثم بالله كيف يكون نجيب ساويرس من الحكماء ؟! أليست الحكمة ، ونزاهة القصد ، وطهارة اليد والجيب قرائن لا تنفصل ؟! فكيف بمن يلعب دورا مريبا فى الملف القبطى ، ومن كوّن ثروة طائلة فى هذا الزمن القصير ، كيف له أن يكون حكيما ؟! ألا قال لنا أولا كيف جمع ماله ، وكيف أوصله إلى هذا الحد ، لننظر فى أمره ، أصدق أم كان من الكاذبين ؟!

2- الفراعنة الجدد من الطامحين إلى رئاسة مصر ، ويعنينى هنا :

- عمرو موسى ، والذى أخفق فى جامعة الدول العربية ، فى كل شئ ، ولسنوات طوال ، ولم يحقق نجاحا واحدا يشفع له فى السودان أو الصومال أو غزة أو لبنان أو العراق أو اليمن أو فى أى بقعة من الأرض العربية المُبتلاة بالمشاكل والمنازعات ، فكيف بمن أدمن الفشل ، واستعذب الخيبة ، أن يحقق لمصر نفعا أو فائدة ؟! والأمر الجدير بالتأمل هنا أننا نبدى غضاضة شديدة من تولى عمر سليمان نيابة الرئيس ، أو احتمال أن يصبح رئيسا بعده ، وذلك لأنه خدم النظام لسنوات طويلة ، كان فيها أحد أعمدته ورموزه ، فمن باب أولى أن نبدى غضاضة أشد لمن خدم جميع الأنظمة العربية ، ومارس لها دور القوادة ، مبررا ومدلسا ، إنه بالقطع لا يصلح رئيسا لمصر ، ولا عذر له ، لأنه لو كان صادقا مع تلك الأمة لما رضى بتخديرها وتضليلها طوال تلك الفترة .

- محمد البرادعى ، بالقطع أيضا لا يصلح رئيسا لمصر ، وذلك لأسباب عديدة تناولتها من قبل فى مقال ( الإصلاح والتغيير .. والرئيس القادم ) ، وهو لا يختلف عن الزعامات العربية المعاصرة والتى أحدثت قطيعة بينها وبين شعوبها حينما فضلت أن يكون ولاءها للغرب ، وانتماءها لأجندته ، ولا يمكن لزعيم حقيقى أن يفضل على أهله وناسه وشعبه آخرين مهما كانت الحجج أو الأسباب ، لقد تسبب فى تدمير العراق ، وتخريب بنيته التحتية ، ومقتل مئات الألوف من أبنائه ، لأنه لم يملك الجرأة والشجاعة والالتزام الأخلاقى والقانونى ليقول للعالم أجمع بصراحة ووضوح وإصرارأن العراق لايملك سلاحا نوويا ولا كيمائيا ولا بيولوجيا ، لقد فضل الألاعيب والمناورات ، وظهر عشرات المرات كالمشخصاتية والمغنواتية ، على كافة القنوات الإخبارية العالمية ، ليقول كلاما مائعا مطاطا ، يفسره كل سامع حسب مزاحه وهواه ، إنه ربيب الغرب تماما كما هو الحال مع مبارك وعمر سليمان ، وإذا كان تدمير العراق قضى على أهم دولة عربية بعد مصر ، فلا أظن عاقلا يقبل أن يُسلم مصر إلى نفس الأيدى التى دمرت العراق ، أو ساهمت فى تدميره ، ولو كان هناك عدل وإنصاف فى هذا العالم ، لوُضع البرادعى جنبا إلى جنب مع جورج بوش ، تونى بلير ، ديك تشينى ، دونالد رامسفلد ، كونداليزا رايس ، وكل من أسهم فى المأساة البشرية المروعة للعراقيين ، وتمت محاكمتهم جميعا بتهمة الإجرام ضد الإنسانية ، وإبادة الشعوب ، وعلينا أيضا ألا ننسى أنه فى بداية ظهوره على مسرح الأحداث المصرية ، بعد تركه وكالة الطاقة الذرية ، تحدث متعجبا ومستنكرا من الإدارة الأمريكية التى سكتت كل هذا الوقت على النظام المصرى ، وكأنه يدعوها لتدَخْل أحمق آخر فى شؤون المنطقة .
والعجيب أنه وعند بداية الأحداث المصرية الأخيرة كان فى أوروبا فأرسل tweet يقول فيه : إنه يؤيد حق المظاهرات السلمية ضد القمع والفساد ، حيث أن مطالب الناس بالتغيير لم تلق آذنا صاغية
Fully support 4 peaceful demonstrations vs. repression & corruption . When our demands for change fall on deaf ears what options remain ، ثم تحدث لوكالة أنباء Reuters من مقره فى فيينا Vienna فى 1-27-2011 ليعبر عن رغبته فى المساعدة فى قيادة مرحلة التغيير الانتقالية I am there hopefully to help manage this process and provid all I can do to support the people there for their demands ، ولما استمرت وتعاظمت انتفاضة الشعب المصرى ، وهو أمر لم يكن متوقعا للكثيرين قرر أن يأتى إلى مصر فى زيارة سياحية جديدة ، وليجدها فرصة للظهور الإعلامى على القناة الأمريكية CNN ، وليصرح لمراسلها Anderson Cooper وغيره عن عدم ممانعته فى الترشح للرئاسة ، إذا طلب الناس منه ذلك ، وتوافرت شروط النزاهة والشفافية فى الانتخابات .

إن رئاسة الدولة المصرية أمر شديد الأهمية للمصريين وللعرب ، وليس من الحكمة أن نبدد آمالنا فى طلب شخصيات مثل البرادعى أو عمرو موسى ، فقد سئمنا العواجيز من أصحاب الياقات البيضاء ، والولاء والانتماء للغرب ، كما سئمنا أيضا أصحاب البزات العسكرية ، وعلينا أن نعلم أن الرئيس الجيد ليس بالضرورة سوبرمان superman ، ولكنه شخص ذو أمانة ومصداقية ، وإخلاص لشعبه ، وعزيمة وإصرار على العمل من أجل نهضته ورفعته ، كما أنه صاحب رؤية وتصور لقضايا مجتمعه ، وكيفية معالجتها ، ولتحقيق ذلك عليه أن يجمع حوله خيرة أهل العلم والخبرة ، ويفجر فى الناس ملكاتهم وطموحاتهم وطاقاتهم ، ليتعاون الجميع فى تناغم وتناسق ، لتحقيق الإنجازات ، والوصول إلى الأهداف .

وكما تحدثت عن محاذير الوضع التونسى الجديد ، فإن الوضع المصرى تحيط به محاذير مشابهة : مؤسسات النظام التى تغولت ، وأصبحت فى معركة شرسة لبقاء الوضع على ما هو عليه ، ولو تحت حكم رئيس جديد - دور الغرب وخاصة الولايات المتحدة ، ودور إسرائيل ورغبة الجميع فى استدامة النظام الحالى ، أو فى نظام جديد لا يختلف عنه - وضع الجيش ودوره فى تلك المعادلة ، وخاصة أن آلافا من قياداته تلقت تدريبها وتعليمها بالولايات المتحدة ، ويعتمد الجيش فى تسليحه على الولايات المتحدة ، وهو مشارك معها فى مناورات دورية ، وشارك معها فى حرب العراق ، ويقدم تسهيلات للطيران والبحرية والمخابرات الأمريكية فى المنطقة ، وكل قادته خدموا لسنوات طويلة تحت الرئيس المصرى ، وتربطهم به صداقات وطيدة ، وجنوا خلال حكمه كثيرا من الامتيازات - دور الدول العربية الأخرى والتى سيكون انهيار النظام المصرى ضربة قاصمة لها ، وربما أتى عليها الدورُ بعده - دور أحزاب المعارضة وقوى النخبة الأخرى ، وجميعهم مستفيدون بصورة أو بأخرى من النظام الحالى - دور مناورات ومزايدات تلك الفترة الممتدة من الآن وحتى الانتخابات الرئاسية القادمة فى سبتمبر ، فى تهيئة الأوضاع نحو تغيير ما ، أو تغيير شكلى يحافظ على جوهر الوضع كما هو عليه - سلامة جبهة المعارضة ومقدرتها على الاستمرار ، وتأمين صفوفها من الفتن والانشقاقات .

ورغم كل تلك المحاذير وغيرها ، وأيا كانت عواقب الأمور ومآلاتها ، فإن ما حدث فى مصر خلال الأيام الماضية لهو علامة فارقة فى تاريخنا الحديث ، وما أظن أن ما بعد 25 يناير 2011 ، سيكون أبدا مشابها لما قبله ، غير أننى لا أستطيع التحرر من مشاعر الخوف أن نستبدل حاكما مُسنا بحاكم مُسن آخر ، أو رئيسا عسكريا برئيس عسكرى آخر ، أو نظاما مواليا للغرب وإسرائيل بنظام موال آخر ، أو حُكما علمانيا يطمس هوية الأمة ، ويغربها عن دينها ولغتها وتراثها وثقافتها ، بحكم علمانى آخر ، يمارس نفس السوءات وربما أكثر سوءا .. إنها فرصة تاريخية ثمينة للمصريين ، ولو خرج منها النظام سليما لتحول إلى ما هو أقسى وأشد ، ولو خرج منها بإحلال نظام مماثل ، لما خسر شيئا ، ولخسرنا الكثير ، وربما احتجنا بعدها أن ننتظر عقودا أخرى قبل انتفاضة أخرى .

سادسا : الدورالغائب لأقباط مصر

ملأت الكنيسة القبطية وقياداتها ، والإعلام القبطى ، وكثير من الأقباط ، ملؤوا الدنيا صياحا وضجيجا عن المواطنة ، والدولة المدنية ، وصدّعنا هؤلاء جميعا بالكلام الأجوف ، والطنطنات الفارغة ، فلما أتت الفرصة لجميع المصريين للوقوف صفا واحدا ضد الظلم والطغيان والفساد ، تراجع الأقباط إلى قمقم الطائفية والانعزالية وأحاسيس الأقلية المنفصلة عن وطنها ، والتى لا تربطها به رابطة ، أو تصلها بباقى أبنائه وشيجة ، حتى أن كريمة كمال الكاتبة القبطية تعجبت من هذا الموقف فكتبت تحت عنوان ( العودة إلى القمقم ) ، تقول : ( الكنائس المسيحية الثلاث ترفض مظاهرات 25 يناير ، وتطالب الأقباط بعدم المشاركة ... كنائس الطوائف القبطية الثلاث الأرثوذكسية والكاثوليكية والإنجيلية رفضت دعوة المشاركة فى المظاهرات والاحتجاجات ، حيث صرح الأنبا مرقس " هذه المظاهرات لا نعرف هدفها ، ولا من وراءها " ، مؤكدا أن الكنيسة الأرثوذكسية تطالب أبناءها بعدم الانسياق وراء دعوات المشاركة فى المظاهرات الداعية للتخريب والهدم ، بل إن القمص عبد المسيح بسيط دعا مسيحيى مصر والمهجر إلى الاعتكاف يوم 25 يناير ، وقال الأنبا أنطونيوس مطران الجيزة للأقباط الكاثوليك " نرفض تلك المظاهرات ، ولا نقبل الخروج على الحاكم إطلاقا " ، ... هذا الموقف لا يفعل سوى محاولة عزل الأقباط عن باقى الشعب المصرى ، وتحريكه على خلفية دينية ، وليس خلفية سياسية أو وطنية ) [صحيفة المصرى اليوم ، 1-27-2011 ] .

وفى تصريحه إلى التلفزيون الرسمى المصرى بتاريخ 1-30-2011 ، عن الأحداث المصرية الأخيرة ، قال البابا شنودة : ( اتصلنا بالرئيس ، وقلنا له : كلنا معا ، والشعب معه ، فليحفظ الله مصر ... آلمنى ما شهدته من تجاوزات خلال الأيام الماضية ... ونحن ننتظر أن يعود الآلاف من الشوارع والمدن ... للمساعدة على حفظ الأمن والاستقرار ) ، وهكذا استمرأت الكنيسة القبيطة الألاعيب والحيل مع النظام ، تهاجمه صباح مساء ، وتزايده فى كل وقت وحين ، وهما فى الحقيقة وجهان لعملة واحدة من الدجل والنفاق ، فمتى يستفيق أقباط مصر، ويختارون مصريتهم بدلا عن طائفتهم وعزلتهم وتقوقعهم ؟!

سابعا : دلالاتٌ وعبرٌ فى الأحداث الأخيرة

1- السقوط المدوى للنخب العربية ، والمصرية خصوصا ، وهم الذين عاشوا ينافقون الحكام ، ويخلعون عليهم من الألقاب والصفات ما ليسوا أهلا له ، وينسبون إليهم من الأمجاد والإنجازات ما لا دور لهم فى تحقيقه ، حتى حولوا هؤلاء الحكام إلى فراعين وآلهة ، وفى نفس الوقت عاشوا أيضا يضللون الناس بدعاوى التغريب ، والعدوان على الهوية ، ويتلاعبون بعقولهم وقلوبهم وعواطفهم بشعارات جوفاء ، ويضيعون وقتهم وجهدهم فى ثرثرات عقيمة عن الاشتراكية والعلمانية والليبرالية والدولة المدنية والمواطنة وحقوق المرأة والأقليات والإبداع والتحديث والتنوير ، وهم فى حقيقة الأمر لا يبغون إلا إلهاء الناس عن حقوقهم ، وتسويق الوهم والإباحية لهم ، وطوال تلك العقود فشلوا فى أن يؤلفوا قلوب الناس على هدف واضح ، أو غاية محددة ، وأخفقوا فى أن يصنعوا رأيا عاما مستنيرا ، أو حراكا شعبيا قويا ومؤثرا ، بل إنهم اجتهدوا فى بث روح اليأس والإحباط ، وتصوير الإنسان العربى والمصرى كمن يستعذب الظلم ، وينتشى بالمعاناة والهوان ، وينتفض فقط من أجل احتياجاته المادية ، وأنه لا أمل فى هذا الإنسان ، فهو خارج التاريخ والجغرافيا ، ولا سبيل لاستفاقته وصحوته .

كتب معتز بالله عبد الفتاح أستاذ العلوم السياسية تحت عنوان ( القابلية للاستعمار والاستحمار والاستهداف ) : ( طول عمرى أسمع أن مصر مستهدفة ، ثم كبرت قليلا فاكتشفت أن مسألة الاستهداف هذه هى قيمة عربية كبرى ... بل إن قضية الاستهداف هذه لها جذور ثقافية غير سياسية ... لا تُفهم إلا بأن توضع بجوار عبارتين توضحان لنا الفكرة : الأولى هى القابلية للاستعمار ، والأخرى القابلية للاستحمار ، أما الأولى فقد جاءت فى واحد من كتابات مالك بن نبى المفكر الجزائرى ... وقد ساق صورا وشواهد كثيرة تؤكد صدق تحليله ، ثم استخدم على شريعاتى المفكر الإيرانى فكرة القابلية للاستحمار ، باعتبار أن لدى الجهلاء من البشر رغبة داخلية بأن يُكذب عليهم ... وقد قالها من قبل ويليام شكسبير بأن " عقول العامة فى آذانهم " ، أى من يسيطر على آذان العامة يسيطر على عقولهم ... والضعف فى النظام التعليمى ينعكس مباشرة على زيادة معدلات القابلية للاستحمار والقابلية للاستغفال والقابلية للاستعمار والقابلية للاستهداف ... هل قابليتنا للاستحمار والاستهداف تتزايد أم تتناقص ؟ ) [ صحيفة الشروق ، 1-14-2011 ] ، والمتأمل فى تلك المفاهيم يجدها كلاما فارغا ، فالبشر جميعا خلقهم الله تعالى سواسية ، ولا اختلاف بين آدمى وآخر فى تركيبه النفسى والعقلى والوراثى ، كما أن كل البشر متشابهون فى ملكاتهم وطبائعهم التى تحب الخير والعدل ، وتكره الشر والظلم ، وحتى عندما تختل الفطرة البشرية ، وتنطمس الطبيعة الآدمية ، فإنها تعود إلى حالتها الأولى مع ردع أو توجيه أو نصح أو معالجة ، ففكرة اختلاف المصريين والعرب عن غيرهم فكرة فاسدة لا يدعمها دين أوعلم أو منطق .

وفى مقال آخر بعنوان ( حيوانية العربى وإنسانيته ) ، كتب معتز بالله يُميّز بين نوعين من الثورة : ( يمكن أن يتمرد أو يثور الإنسان لانتهاك خصائصه التى يتشارك فيها مع الحيوان ، مثل حاجته للأكل والشرب والتكاثر ، ويمكن أن يثور الإنسان لانتهاك إنسانيته ، مثل حاجته للحرية والكرامة والعدالة ، التمرد من النوع الأول يستبدل مستبدا بمستبد أكثر قدرة على تلبية حاجات الإنسان الحيوانية ، على حساب المزيد من انتهاك حاجاته الإنسانية ... إذن أمام الثائرين التونسيين سيناريوهان : الأول أن ينتصروا ضد من انتهك حيوانيتهم ... والسيناريو الثانى هو أن يناضل إخواننا فى تونس من أجل الحق فى حياة تليق بإنسانيتهم ، ولهذا فإن شعار الثورة القائل " خبز وماء .. وبن على لا "" ليس كافيا ، ولا بد أن يحل محله "" حرية وعدالة .. واستبداد لا " ) [ صحيفة الشروق ، 1-16-2011 ] ، والحقيقة أن هذا الكلام نوع من السفسطة ، لأن المتأمل فى الحركات الشعبية طوال التاريخ ، وفى كل الأمم ، يجد أن المظالم الاقتصادية والاجتماعية عادة ما تكون المُفجر الأساسى لتلك الحركات ، ثم تمتد لتشمل الاصلاحات السياسية ، كما أن المطالبة بتلك الاصلاحات الاقتصادية والاجتماعية هو فى حقيقته مطالبة بالعدالة والمساوة والتوزيع المتوازن للثروة والسلطة ، ولا يُعقل أن مستبدا يمكن أن يلبى احتياجات الناس الحيوانية بالعدل والإنصاف ، لأنه ساعتها لا يمكن أن يكون مستبدا ، ولا يضيره وقتها أن يلبى بقية احتياجاتهم للحرية والكرامة والمساواة ، والمستبد فى فكره وسلوكه دائما ما يجافى العدل والإنصاف ، بل إنه ليعمد إلى الظلم والطغيان ، والإخلال بالتوازن بين طبقات المجتمع وفئاته ، والعجيب أن غالبية المحللين الأجانب ينظرون إلى الانتفاضية التونسية على أنها انتفاضة ضد الاستبداد والديكتاتورية ، ومن هؤلاء Michele Penner Angrist أستاذة العلوم السياسية السايق الإشارة إليها ، والتى ترى أنه ورغم أن معظم التقارير الإخبارية للمظاهرات التونسة تؤكد على المظالم الإقتصادية مثل التضخم ، وارتفاع معدل البطالة ، وارتفاع تكاليف المعيشة ، إلا أن تلك المصاعب الاقتصادية لم تكن القوة المركزية الدافعة لإزاحة الرئيس التونسى بن على ، بل كان السبب هو الاستبداد والديكتاتورية :
Much of the reporting on the demonstrations has emphasized Tunisians' economic grievances : unemployment , inflation , and the high cost of living . But material difficulties were not the central driver in pushing Ben Ali from power ... On a more fundamental level , Tunisians are protesting dictatorship ، ولذلك فإنه من العبث التقاط شعار واحد بين شعارات عديدة ، واستخدامه للتدليل على الفكرة الفاسدة فى أن الإنسان العربى ينتفض فقط من أجل غذائه وليس من أجل حريته ، وقد تنبه الأستاذ فهمى هويدى فى مقاله ( أكاذيبهم التى انفضحت ) إلى تلك النوعية من المقولات ، والتى جرى الترويج لها على يد قطاع من المثقفين ، وسماها بالأفكار المغشوشة ، التى هدمها الحراك العربى الأخير، والذى جاء كصدمة ثقافية ليثبت فسادها وتهافتها : ( أحدثت المفاجأة صدمة ثقافية هدمت سلسلة الأفكار المغشوشة ، التى جرى الترويج لها خلال السنوات الأخيرة ، لتثبيط الناس ، وإقناعهم بأن الأوضاع القائمة هى قدرهم الذى لا فكاك منه ... بمعنى أن يتغيروا هم لأنه لا أمل فى تغيير الأوضاع القائمة ... بذل جهابذة الموالاة ومنظرو النظام جهدا كبيرا لمحو فكرة الثورة الشعبية من الأذهان ... ولكن الذى حدث فى تونس بدد تلك الأفكار ... وأثبت أن إرادة الجماهير تستطيع أن تفرض نفسها ، وأن تتحدى جبروت الأنظمة وسلطانها ، إذا تسلحت بالتصميم ، وكانت مستعدة لدفع ثمن موقفها الرافض للاستبداد ... بعض المنظرين والباحثين ما برحوا يكررون على أسماعنا أن الجماهير لا تتحرك دفاعا عن الديمقراطية ... ولكنها تتحرك فقط دفاعا عن احتياجاتها المعيشية ، ولطالما استند هؤلاء إلى استطلاعات وقياسات للرأى دسوها علينا ، واستخلصوا منها أن شوق الناس إلى الحرية والكرامة أقل مما يتصور المثقفون ، ولكن مظاهرات تونس أعادت الاعتبار إلى قيم الحرية والكرامة والوطنية ، وكان ذلك واضحا فى اللافتات التى رُفعت ، وظلت نداءاتها تركز على قضية الحرية ، وتندد بالاستبداد بكل صوره ) [ صحيفة الشروق ، 1-17-2011 ] .

ولم يقتصر دور النخبة فى التضليل على تلك القضايا ، بل امتد ليشمل مجالا آخر لطالما اعتبروه سبب تأخرنا وتخلفنا ، وهو الفتاوى الدينية ، وما يسمونه فوضى الإفتاء ، وعدم أهلية كثيرين من المفتين للإفتاء ، وجهل الشعب المصرى وأميته ، التى تدفعه لطلب الرأى الشرعى فى كل صغيرة وكبيرة ، وكثيرا ما تندروا على علماء المسلمين ووصفوهم بعلماء الحيض والنفاس ، فلما جاءت الأحداث التونسية الأخيرة ، والتى بدأها الشاب محمد بوعزيزى بإحراق نفسه سخطا على نظام الحكم الظالم ، وحذر وقتها علماء المسلمين من الانتحار ، وكونه كبيرة يستحق صاحبها العذاب يوم القيامة ، هاج وماج كتاب النخبة الضالة ، فكيف يفتى المفتون بتحريم الانتحار أيا كانت أسبابه ، ولا يفتون بتحريم الظلم والاستبداد ؟! ، وكعادتهم فى التهييج والإثارة والتلاعب بالكلمات ، نسوا أن الانتحار محرم قطعا فى الإسلام ، وأن من حرم ذلك هو الله سبحانه ( ... ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما * ومن يفعل ذلك عدوانا وظلما فسوف نصليه نارا وكان ذلك على الله يسيرا ) النساء 30-29 ، ( ... ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة...) البقرة 195 ، وفسر العلماء التهلكة بقتل النفس ، أو إيذائها ، وتعريضها إلى التهلكة ، ونسوا أيضا الحديث النبوى الشريف ( من قتل نفسه بشئ فى الدنيا عُذب به يوم القيامة ) البخارى 5700 ، مسلم 110 ، ونسوا أنه ورغم حرمة الانتحار إلا أنه ليس كفرا مُخرجا من الملة ، ولا يعنى أن نترك الدعاء للمنتحر بالرحمة والمغفرة ، وأمره فى الآخرة متروك لعدل الله تعالى ورحمته ، ونسوا أيضا أن حرمة الانتحار بجانب كونه عدوانا على الحياة التى هى نعمة وأمانة عند صاحبها ، فهو يأس من رحمة الله تعالى ( ... ولا تيأسوا من روح الله إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون ) يوسف 87 ، وقد أحسن العلامة الشيخ القرضاوى فى بيانه لشباب المسلمين فى هذا الخصوص ، وفيه : ( أنادى شباب العرب والمسلمين ... الذين أرادوا أن يحرقوا أنفسهم سخطا على حاضرهم ، ويأسا من مستقبلهم ، أيها الشباب الحر ( لا تيأسوا من روح الله ...) ...حافظوا على حياتكم فإن حياتكم نعمة من الله يجب أن تُشكر ، ولا تحرقوا أنفسكم ، فإن الذى يجب أن يُحرق إنما هم الطغاة الظالمون ... لدينا من وسائل المقاومة للظلم والطغيان ما يغنينا عن قتل أنفسنا ، وحرق أجسادنا ، وفى الحلال أبدا ما يغنى عن الحرام ... إننى أتضرع إلى الله تعالى ، وأبتهل إليه أن يعفو عن هذا الشاب - يقصد الشاب التونسى - ، ويغفر له ، ويتجاوز عن فعلته التى خالف فيها الشرع الذى ينهى عن قتل النفس ) [ المصريون ، 1-20-2011 ] ، نست نخبتنا أن تقول كلاما منطقيا متوازنا ككلام الشيخ ، ونسوا أن يُعلموا الناس بأن فى الحلال دائما ما يغنى عن الحرام ، ونسوا كذلك أن حرمة الظلم لا تحتاج إلى فتوى ، فهى كالمعلوم من الدين بالضرورة .. حرمته كل الشرائع ، وتأباه الفطرة السليمة ، ولكنهم أرادوا أن يقيموا مأتما وعويلا ، يمارسون فيه دورهم فى التهريج والتدليس .

والشئ الملفت للنظر أن الانتفاضة العربية الأخيرة تمت بعيدا تماما عن النخبة ، ولو كان لنخبتا دخل فيها ما انتفضنا أبد الدهر ، بل إن الملفت للنظر أكثر من ذلك أن تلك النخبة الآن تصب جام غضبها على بن على ومبارك وغيرهما من حكام العرب ، وكان كثيرون منهم بالأمس القريب والبعيد يتملق ويتزلف لهم نفاقا ومنفعة ، حتى أن الكاتب البريطانى Robert Fisk فى مقاله السابق الإشارة إليه يتعجب ممن عاشوا يرتزقون تقربا لهؤلاء الحكام ، فإذا بهم الآن ينقلبون عليهم ، ويعدّدون لهم أوصاف الفساد وإساءة الحكم ، والديكتاتورية ، والتغاضى الكامل عن حقوق الإنسان ، ثم يستشهد بقول الشاعر اللبنانى جبران خليل جبران بأن أمة تستقبل حاكمها الجديد بالتطبيل والتهليل ، وتودعه بالشتائم واللعنات ، أمة تستحق الشفقة
No sooner had Ben Ali flown off into exile than Arab newspapers which have been stroking his fur and polishing his shoes and receiving his money for so many years were vilifying the man . " Misrule" , " corruption" , " authoritarian regime" , " a total lack of human rights" , their journalists are saying now . Rarely have the words of the Lebanese poet Khalil Gibran sounded so painfully accurate : " Pity the nation that welcomes its new ruler with trumpetings and farewells him with hootings , only to welcome another with trumpetings again
."

2- سقوط المعارضة ، وانفضاح أمرها كمعارضة هزيلة ، لا تحظى بشعبية أو قاعدة جماهيرة ، ولا مقدرة لها على تحريك الناس ، أواستثارة هممهم ، وليس مرد ذلك بصورة كلية إلى الأنظمة القمعية التى ضيقت على أنشطتها ، وحدت من حركتها ، وإنما فى الأساس إلى كسلها ونفاقها ، ومساوماتها ومزايدتها مع الأنظمة ، وقبولها بالفتات ، وعزوفها عن الناس ، وبدون هؤلاء الناس ، فمن تمثل ؟‍ ولمن تعمل ؟‍ وهل يمكن البناء بدون قاعدة ؟ لقد رضيت أحزاب المعارضة بأن يكون منتهى مرادها مقرا للحزب ، ويافطة تحمل اسمه ، وبداخله مجموعة من العواجيز يسفسطون ويثرثرون : ناصرية ، قومية ، اشتراكية ، الديمقراطية هى الحل ، التغيير هو الحل ، الليبرالية ، الدولة المدنية ، المواطنة ، الدولة الدينية هى الخطر ، وهكذا بدد هؤلاء جهدهم فى هزل وعبث ، فانصرف عنهم الناس ، ولم يُعرهم النظام اهتماما ، بل إنه استخدمهم أحيانا فى تضليل المجتمع ، واستغل انشقاقهم ، وعدم التقائهم على رأى واحد ، لإبقاء المعارضة دائما مفككة متشرذمة ، ضعيفة الفعل ، وضعيفة التأثير .

3- سقوط كل دعاوى التغريب ، والعدوان على هوية الأمة ، وانتمائها الحضارى للإسلام ، وانكشاف زيف تلك الدعاوى والقائمين عليها ، فلا يمكن لأمة بلا هوية أيا كان نظامها أن تقوم لها قائمة ، مهما امتلكت من موارد وثروات ، ومهما حازت من تقنيات ، وقد سقطت الكتلة الشرقية بأكملها لأنها عديمة الهوية ، رغم المساحة الشاسعة ، والثروات الطائلة ، والموارد البشرية الهائلة .. لم يصمد كل ذلك ، ولم تستطع الشيوعية كفكرة ونظام أن تُكمل قرنا من الزمان ، فالشيوعية ليست هوية ، وإنما هى إلغاء لكل هوية ، وتحويل قسرى للإنسان إلى مسخ مشوه ، والمتأمل فى أحوال الأنظمة العربية الحالية ، يجدها تخلت عن هويتها ، ورضيت بدور الأمساخ المشوهة ، فى ولائها وتبعيتها لأمريكا والغرب ، واستسلامها الكامل لإملاءات البنك الدولى WB، وصندوق النقد الدولى IMF ، وتحاول بالتعاون مع النخبة الفاسدة فى فرض هذا التغريب قسرا على شعوبها ، وتناسى هذا الثنائى ( الأنظمة والنخبة ) عن جهل أو عمد أن جميع البلاد التى سلكت هذا الطريق ، ورضيت بدور القردة للسيد الغربى ومؤسساته ، انتهى بها الأمر على شفير الإفلاس ، وحافة الانهيار الكامل ( البرازيل والأرجنتين وشيلى وتركيا وكوريا الجنوبية وأندونسيا ) ، وعندما استفاقت من غفوتها ، وتحررت من تبعيتها ، واستخدمت نموذجها فى التنمية ، المتوافق مع ظروفها وثقافتها ، وناغمت بين جميع طوائفها ، وألفت بين كل أبنائها ، فإذا بها تتبوأ مكانتها إقتصاديا وسياسيا وحضاريا ، وقد ذكر الأستاذ فهمى هويدى فى مقاله السابق الإشارة إليه ( أكاذيبهم التى انفضحت ) ، كيف أخفقت تلك الأنظمة فى تطوير ونهضة مجتمعاتها رغم تغريبها لشعوبها وتقليدها لأسيادها : ( استهان أولئك الجهابذة بمقومات الهوية ، ورياح التغريب التى تعصف بمجتمعاتنا ، ثم اكتشفنا أن تلك الاستهانة كانت من الأسباب التى فجرت غضب الناس وأثارتهم ضد النظام ، جسدت ذلك الغضب على سبيل المثال كلمات أغنية مغنى الراب الذى اتهم نظام الجنرال بتضييع الشباب ، وضرب انتمائهم العربى والإسلامى ، قال لنا الجهابذة أيضا إن العلمانية هى الحل ، وإنه لا ديمقراطية بغير علمانية ، وجدنا أن كل ذلك توفر للنظام التونسى ، ولكنه لم يؤد إلى شئ مما ادعوه ، فنظام السيد بن على كان صارما فى علمانيته التى قادت البلاد إلى جحيم الظلم ، وليس إلى سعة الديموقراطية الموعودة ، وإلى الاستبداد وليس الحرية ... لقد أطاحت ثورة الجماهير التونسية بالنظام المستبد حقا ، ولكنها أيضا فضحت سلسلة الأكاذيب التى يروج لها بعض المثقفين لتخدير الناس وتيئيسهم ) .

لقد كانت فرحة التونسيين كبيرة بصوت الآذان ينطلق عبر التلفزيون الرسمى لأول مرة منذ عقود ، وكان إقبالهم عظيما على المساجد لصلاة أول جمعة بعد سقوط الطاغية المستبد ، تماما كفرحة الأتراك ، يعودون إلى هويتهم وشعائرهم الإسلامية تحت حكم حزب العدالة والتنمية ، بعد عقود من الأتاتوركية البغيضة ، ومثلها أيضا التحولات الحادثة الآن فى جمهوريات آسيا الوسطى الإسلامية ، بعد انعتاقها من الاحتلال والارهاب الشيوعى فى زمن الاتحاد السوفيتى البائد .. إن الهوية الإسلامية أمر غير قابل للتضييع مهما حاول المستبدون والمضللون ، وعلى هؤلاء أن يسألوا أنفسهم : لماذا فشلت كل محاولات التغريب ؟ ولماذا أخفقت كل الأنظمة والأفكار المستوردة المفروضة على الناس ؟ ولماذا نعاند الحتميات التاريخية ، والسنن الإلهية ، ونبدد الوقت والجهد فى العبث والعناد ؟ وإذا كان من فروض الكفاية على المسلمين أن نتعلم ونبحث ، ونكون روادا فى كل المجالات والتقنيات ، فلماذا الإصرار المرضى على مسخ أنفسنا بتبعية وتقليد غيرنا فى ما لا ينفعنا ولا يفيدنا ؟

4- أهمية الإعلام ، ودوره الجبار فى استثارة الهمم ، وفضح المفاسد ، وإظهار المظالم ، وتجميع القلوب والجهود على مقاومة الاستبداد والطغيان ، وتنوير العقول والأفهام ، وفتح المجال للعامة والخاصة من المخلصين والأمناء للتعبير عن صوت الناس وطموحاتهم ، ولا يُنسى فى هذا المجال دور تلفزيون الجزيرة ، وما قدمه للعرب والمسلمين من تغطية وافية ، ومتابعة مستمرة ، لكل المشاكل المتفجرة فى بلادنا ، كما أن التقنيات الحديثة فى التواصل مثل الانترنت ، وشبكات التواصل الاجتماعى مثل facebook , twitter ، وكذلك المواقع الإخبارية والصحفية التى توفر خدمة التعليق لقرائها ، وأيضا ال blogs ، كلها مستجدات ساهمت فى التحاور والترابط بين الناس ، والفكاك من رقابة الحكومات ، وحشد الجهود من أجل رأى عام قوى ومؤثرومتفاعل مع الأحداث والتغيرات ، ولذا لا عجب أن Brian Whitaker فى مقاله عن كيفية تحول حدث انتحار الشاب التونسى إلى شرارة أشعلت الانتفاضة الشعبية ، أنه أرجع السبب الأول فى ذلك إلى المقدرة على التواصل والتنظيم واستنهاض همم الغاضبين الناقمين ، وهو ما فشل النظام فى السيطرة عليه
firstly , is the failure of a system constructed by the regime over many years to prevent people from organising , communicating and agitating
إن أهمية المعرفة وآلياتها وارتباط ذلك بالقوة والسيطرة أصبح أمرالا يحتاج إلى برهان ، وقد تناوله المؤرخ والفليسوف الفرنسى (Michel Foucault (1926-1984 فى دراساته ، وهو أيضا ما تعلمه الحكومات والأنظمة المستبدة ، وهذا يفسر سر حجرها على مصادر المعلومات ، والتقييد على اجتماع الناس وتلاقيهم ، وإخفاء الحقائق عن شعوبها ، وتسليط آلة الإعلام الرسمية تبث الأكاذيب ، وتغيب وعى الجماهير بالأوهام والتضليل .

5- دور الغرب الكاذب المنافق فى صناعة الطواغيت ، ومحاولة إبقائهم فى الحكم والسيطرة ، وتشجيعهم على الكبت والاستبداد ، حتى إذا أسقطتهم شعوبهم ، تبرأوا منهم ، وبدأوا يبحثون عن مستبد وعميل جديد ، وهم فى كل الأحوال يثيرون الفتن ، ويستغلون ذلك لإضعاف عملائهم المستبدين ، حتى يكونوا دائما فى حاجة إلى معونتهم ، فيسهل الاحتفاظ بتبعيتهم وولائهم .. إنها سياسة العصابات ، وأساليب العتاة والمجرمين ، ورغم كل هذا وذاك لا يكف الغرب عن الحديث عن الحرية والديموقراطية وحقوق الإنسان ، وحق تقرير المصير ، وغير ذلك من شعاراتهم الجوفاء ، وقد أظهرت الأحداث الأخيرة قدرا مفزعا من هذا الدجل والنفاق ، فمع بداية الأحداث التونسية تطوع وزير الخارجية الفرنسى Michele Alliot-Marie بتقديم مساعدة بلاده للبوليس التونسى لقمع العنف in helping Tunisian police quell the violence ، وخصص الكونجرس الأمريكى 12 مليون دولار لمساعدة الأمن التونسى ( الولايات المتحدة هى أكبر منتج ومصدر لأدوات قمع المظاهرات ، وأدوات التعذيب ) ، وكان كل ما أزعج رئيس الوزراء الفرنسى Francois Fillon ما يسميه الاستخدام غير المتكافئ للقوة disproportionate use of force by authorities against protesters ، وكأن المتظاهرين مثلا جيشا أقل تسليحا ، وهى نفس التصريحات التى كان الغرب يرددها زمن الانتفاضة الفلسطينية انتقادا لإسرائيل على إطلاق قذائف الدبابات على أطفال الحجارة ، ويردد الرئيس الأمريكى Obama كلاما مشابها عن شجبه لاستخدام العنف من كلا الطرفين ( وكأن المتظاهرين التونسيين قوات نظامية أعلنت الحرب على الشرطة والأمن )، ويدعو كليهما للهدوء ، وتجنب العنف
I condemn and deplore the use of violence against citizens peacefully voicing their opinion in Tunisia ... I urge all parties to maintain calm and avoid violence , and call on the Tunisian government to respect human rights , and to hold free and fair elections in the near future ، والعجيب أنه بعد سقوط بن على رفضت الحكومة الفرنسية إيواءه ، ونسى وزير خارجيتها أن بلاده عرضت مساعدة البوليس التونسى فى قمع المظاهرات ، ( وأعربت الرئاسة الفرنسية عن استعداد باريس فى هذه المرحلة الحاسمة لتونس للتجاوب مع أية مساعدات تطلب من أجل إجراء العملية الديموقراطية بطريقة لا لبس فيها ، وقد اتخذت الحكومة إجراءات إدارية لتجميد كل التحويلات المالية المشبوهة التى تخص أرصدة تونسية فى فرنسا وفقا للتشريع الفرنسى ) [ القدس العربى ،1-15-2011 ] ، وكأن فرنسا وغيرها من بلاد الغرب لا تعرف أن البلايين التى يودعها بن على وأمثاله ، هى من أموال شعوبهم التى سُرقت ونُهبت ، أو كأنها تظن أن تلك البلايين هى تحويشة بن على وأضرابه ، نتيجة تقتيرهم على أنفسهم وأهليهم فى المعيشة والنفقة ، وتوفيرهم من رواتبهم البسيطة ، لعلها تنفع فى مستقبل الأيام ، وقد صرحت الولايات المتحدة أيضا عن استعدادها لمساعدة التونسيين فى إرساء قواعد الديمقراطية .. هل هناك بجاحة أكثر من ذلك ؟! وهل هناك صفاقة واستهبال أشد من ذلك ؟! .

وتكررت التصريحات الغربية المشابهة فى الحالة المصرية أيضا من قِبل بريطانيا وفرنسا والمانيا وايطاليا ، ومن قِبل الولايات المتحد ، فها هو أوباما فى الثامن والعشرين من يناير 2011 ، يتحدث عن وقوف الولايات المتحدة مع المصريين من أجل مستقبل أكثر عدلا وحرية وتحقيقا لآمالهم ، وكأنها لم تتنبه للشعب المصرى طيلة ثلاثة عقود
The United States will continue to stand up for the rights of the Egyptian people ... in pursuit of future that is more just , more free and more hopeful ، وفى نفس هذا التصريح يعبر أوباما عن ضرورة الإصلاح السياسى والاجتماعى والاقتصادى ليقابل طموحات الناس ، لأن غياب تلك الإصلاحات أدى بمرور الوقت إلى تضخم المعاناة والمظالم There must be reform. Political , social and economic reforms that meet the aspirations of the Egyptian people . In the absence of these reforms , grievances have built up over time ، وهكذا فجأة تنبهت الإدارة الأمريكية إلى غياب الإصلاحات فى مصر مما فاقم من أوضاع المصرين ، وفى تصريح آخر بتاريخ الأول من فبراير ، يذّكر أوبام الرئيس المصرى باستحالة بقاء الحال على ما هو عليه ، فالتغيير ( لا بد أن يبدأ الآن ) ، على أن يكون سلميا وذا معنى status quo is not sustainable , that a change must take place ... an orderly transition must be meaningful , it must be peaceful and it must begin now ، وهكذا تمثل الولايات المتحدة دور من انقشعت الغشاوة من على عينه ليرى الرئيس المصرى الذى طالما وصفوه بالحليف والصديق ، وصاحب الانجازات الشجاعة فى تحقيق السلام والأمن والاستقرار لشعبه وشعوب المنطقة ، تراه وقد أصبح رحيله ضروريا والآن ، فدوام الحال من المحال ( هل هناك من عجرفة ، وإملاء للإرادة ، وتدخل غير نزيه ، وغير مخلص ، وتخل عن حليف لثلاثة عقود ، أكثر من ذلك إجحافا وغطرسة وصلافة ؟‍!، ولكن ألم تتخل عن شاه إيران من قبل ، وعن الرئيس الفلليبينى ماركوس Marcos ، وغيرهما ؟! ألم يلخص وزير الخارجية الأمريكية السابق هنرى كيسنجر Henry Kissinger بمصداقية ( وهو الأفاك ) السياسة الخارجية الأمريكية بأنها ليس لها أصدقاء ، وإنما فقط المصالح The United States has no friends , but only interests ؟! أليس من العجيب أن يجهل أو يتعامى الحكام العرب عن ذلك ؟!، والمتأمل فى التصريحات الأمريكية الأخيرة ، والتغطية الإعلامية الأمريكية المكثفة للتطورات المصرية ، يدرك بلا شك رغم الترديد الببغائى لمصطلحات الديموقراطية ، وحقوق الشعوب وغيرها ، أن الولايات المتحدة لا يعنيها من الشأن المصرى غير ضمان أمن إسرائيل ، وضمان استمرار المشاركة المصرية فى الحرب على القاعدة وغيرها من التنظيمات الإسلامية ، وضمان استمرار قناة السويس مفتوحة للسفن الحربية الأمريكية ، وضمان سلامة أقباط مصر ، وهو ما عبر عنه صراحة غالبية مسؤولى الإدارة الحالية ، والإدارات السابقة ، ومنهم على سبيل المثال John Bolton السفير الأمريكى السابق للأمم المتحدة فى حديثه لتلفزيون FoxNews فى الأيام الأولى للمظاهرات المصرية ، وكل الأسماء الجمهورية التى ربما تخوض الانتخابات الرئاسية القادمة ، بل إنهم كانوا شديدى الصراحة عندما قالوا أن تلك الضمانات الأربعة هى ما يعنى الاستراتيجية الأمريكية وليس ( الكلام المعسول عن الديموقراطية sweet talk about democracy ) ، وهو الاتجاه الغربى العام ، وقد عبر عنه أيضا Michael Bell السفير الكندى السابق الإشارة إليه فى قوله : ( إن نشر الديموقراطية هدف نبيل ما لم تتعارض مع المصالح الاستراتيجية الأساسية ) Democratization is a noble goal until it threatens basic strategic interests ، ويبقى الشئ الهام هنا وهو : متى تستفيق الحكومات والأنظمة العربية ، والإعلام العربى ، وكثير من الناس الذين يعيشون الوهم بعدالة الغرب ونزاهته وحرصه على مصالح الآخرين ؟!

6- حتمية التغيير سنة تاريخية لأنها سنة إلهية (... وتلك الأيام نداولها بين الناس ...) آل عمران 140 ، وهى حادثة لا محالة ، ولولاها لفسدت الأرض ، وسيطر عليها الأشرار والمجرمون (... ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين ) البقرة 251 ، أى أن سنة المداولة تلك من رحمة الله وفضله على الناس ، ولولا هذا الصراع الحادث بين الخير وأهله ، والشر وأهله ، منذ خلق الله تعالى الإنسان ، سواء كان صراعا فرديا أو جماعيا ، لفسدت الدنيا بغلبة الباطل وأتباعه ، والذى يحدث كل فترة أن أهل الحق والخير ينتابهم الفتور والدعة ، ويخلدون إلى الدنيا ومباهجها ، ويتكاسلون عن دورهم فى الإعداد والمدافعة ، فيغلبهم الشر وأهله ، حتى يستفيقوا لجولة قادمة ، فيتحقق لهم الوعد الإلهى بالغلبة والتمكن ( بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ... ) الأنبياء 18 ، ولذلك فإن ماحدث للمصريين والعرب والمسلمين عموما كان نتيجة حتمية لتخليهم عن مدافعة الشر ، ومنازلة الباطل ، وقبولهم بالظلم والاستبداد ، ولا يدفع عنهم ما حاق بهم من مظالهم إلا أنفسهم ، يغيرونها بالصلاح والإعداد للمدافعة (... إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ...) الرعد 11 ، أى أننا هنا أمام حتميتين : حتمية التغيير لأن سنة المدافعة سنة إلهية ، وحتمية انتصار الحق ، وزوال الباطل ، لأنها سنة إلهية أيضا ، ووعد ربانى للصالحين متى أعدوا العدة ، واتخذوا الأسباب (... وكان حقا علينا نصر المؤمنين ) الروم 47 ، ( وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم فى الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا ...) النور 55 ، (... ويمح الله الباطل ويحق الحق بكلماته ...) الشورى 24 ، (... إنه لا يفلح الظالمون ) القصص 37 ، (... إن الله لا يهدى القوم الظالمين ) القصص 50 ، (... ولا تبغ الفساد فى الأرض إن الله لا يحب المفسدين ) القصص 77
هل يتحقق لنا الإصلاح والتغيير ؟ هل نبدل واقعنا ، ونلتمس مستقبلا أكثر كرامة وعدلا ؟ هل نتحرر من الظلم الفساد والاستبداد ؟ هل نحن فعلا جادون ومخلصون ؟ هل نحن مستعدون للتضحية ؟ هل نحن قادرون على الصبر والمثابرة ؟ هل الظروف المحلية والدولية مواتية لعصر عربى جديد من النهضة والتقدم ؟

البعض لا يزال يائسا من إمكانية الإصلاح والتغيير ، والبعض يراه أملا بعيدا ، والبعض يرى أن الغرب لن يسمح لنا باستقلال إراداتنا، والسيطرة على ثرواتنا ، والبعض على يقين بأن قوى الفساد الداخلى المتعاونة مع الخارج لإنهاك تلك الأمة وإضعافها واستنزافها لن ترضى بغير بقاء الحال على ما هو عليه .. الكاتب البريطانى Robert Fisk فى مقاله السابق الإشارة إليه يعتقد أن عصر الديكتاتوريات العربية لا يوشك على الإنتهاء بعد ، وأن الغرب سيظل يتعاون مع هؤلاء ، ويمدهم بالأسلحة ، ويدفعهم للسلام مع إسرائيل ، وأن البحث عن ديكتاتور جديد لتونس ، يكون أكثر تسامحا ، ونزوعا إلى الخيرية مع شعبه ، يمضى الآن على قدم وساق
I don't think the age of the Arab dictators is over . We will maintain our good relations with the dictators . We will continue to arm their armies and tell them to seek peace with Israel . And they will do what we want . Ben Ali has fled . The search is now on for a more pliable dictator in Tunisia - a '' benevolent strongman '' as the news agencies like to call these ghastly men ، ولكن ليعتقد المحللون ما يشاءون ، فإننى أجزم بأن هذا القرن سيكون قرن العرب والمسلمين ، وذلك لدلالات كثيرة أهمها أن العالم قد أفلس حضاريا وأخلاقيا ، وخاصة المجتمعات الغربية ، علاوة على ديونها الهائلة ، والتى تهدد بأزمة اقتصادية مستقبلية طاحنة ، ستكون لها آثارها المدوية فى تفكيك المجتمعات ، وانتشار العنف ، إضافة إلى ذلك فإن الدول الصاعدة وخاصة الصين والهند تعانى أيضا من نفس الإفلاس الحضارى والأخلاقى ، وذلك بسبب تأثيرات الثقافة الغربية ، وانتشار الدعارة وال AIDS ، حيث أصبحتا أكبر مراكزهما الآن ، ولا يوجد من بديل غير العالم الإسلامى ، بمساحته الشاسعة ، وثرواته الطبيعية الهائلة ، وتعداده الذى يفوق ربع سكان البشرية ، وفوق ذلك أكبر قوة دافعة ومحركة حضاريا وأخلاقيا .. الإسلام بعدله وسماحته ، وقوة وسلامة منطقه ، ومقدرته الفذة على الإقناع والتغلل فى القلوب والعقول ، وضوابطه لحركة الحياة ، وكذلك الوعد الإلهى والنبوى لأتباعة بالسيادة والتمكين ، متى غيروا ما بأنفسهم ، وهو ما تلوح بشاراته فى الآفاق ، كما تلوح أيضا بشارات النهاية للظالمين والطغاة (... وسيعلم الذين ظلموا أى منقلب ينقلبون ) الشعراء 227

سعد رجب صادق
saad1953@msn.com
 


06/11/2014

مصرنا ©

 

 


 

 
 



مطبوعة تصدر
 عن المركز الأمريكى
 للنشر الالكترونى

 رئيس التحرير : غريب المنسى

مدير التحرير : مسعد غنيم

 

الأعمدة الثابته

 

 
      صفحة الحوادث    
  من الشرق والغرب 
مختارات المراقب العام

 

موضوعات مهمة  جدا


اعرف بلدك
الصراع الطائفى فى مصر
  نصوص معاهدة السلام  

 

منوعات


رؤساء مصر
من نحن
حقوق النشر
 هيئة التحرير
خريطة الموقع


الصفحة الرئيسية